وحينما نطق القاضي بالحكم كان ينظر إلى وجه خديجة، وعيناه غارقتان في الدموع ... فما انتهى القاضي حتى هرعت خديجة إليه باكية، أما هو فقد أدار وجهه، وكأنه أداره عن الحياة، وأدار وجهه عن الحياة فعلا منذ تلك اللحظة.
ولم يعد إلى الحياة إلا اليوم، حين سار في الركب يحدوه رنين السلاسل ... عاد ليبدأها في طريق جديد لن يرى فيه وجه خديجة ... ولن يسمع فيه صوت عم محمود ... ذلك الرجل المعتوه الذي يبتسم للحياة، ويعب منها الراحة كما يعب من نارجيلته أنفاس الدخان.
وعلا صوت الجند بالعودة إلى العمل، وقرقعت السلاسل، وارتفعت المعاول، وهوت الضربات على الصخر، ورن في أذنه صوت الحارس، وهو يزمجر: أنت يا مستجد! أنت نائم؟! هل آتي لأوقظك؟
ودفع معوله في سرعة وخوف ... وأخذ يحطم الصخر ... إلى الشرق.
عنوان الفقيد
لم يكن مجنونا، وإنما كان قد سئم منطق العقلاء، وتصرفات العقلاء. ***
حينما تسير في طريق الصحراء في منتصف الليل، وفي ليلة من ليالي الشتاء فأنت أحد ثلاثة؛ إما عاشق يحمل عشيقته في جوف السيارة، ويبحث عن مكان لا تصل إليه أقدام رجل البوليس، وإما مسافر إلى الإسكندرية يريد أن يدرك عملا في الصباح، وإما مجنون يضرب في الأرض بغير هدف ...
وليس المجانين هم الذين يعملون أعمالا تشذ عن عرف الناس، وإنما هم أيضا هؤلاء الذين يتمتعون بحريتهم كما لا يتمتع الناس.
إنه هو - بلا شك - واحد من هؤلاء، لقد خرج من بيته في الساعة الحادية عشرة بعد نصف ساعة من خروج سعدية ... نصف ساعة قضاها ممسكا بسماعة التليفون يعتذر لأخته عن إخلافه موعده معها، وكانت قد دعته للغداء ظهر ذلك اليوم ... وكان في منزله في الساعة الواحدة ظهرا مرتديا ملابسه يتهيأ للذهاب إلى الموعد حيث ملأت خياشيمه رائحة صنف لذيذ يحبه من الطعام، فجرى نحو المطبخ فوجد الطباخ مشغولا بتذوق هذا الصنف، فسأله لم يعد هذا الصنف، ولمن يعده؟ فأجابه بأنه هو الذي طلبه ... وإذا به يتجه إلى غرفته ويخلع ملابسه ويغمض عينيه لحظة كعادته كلما أراد أن يعدل عن تنفيذ أمر من الأمور، ثم يتجه إلى غرفة المائدة، ويتناول الغداء ... يأكل حتى يشبع فينهض من المائدة لكي يشرب سيجارته على الفراش، وينام حتى السابعة موعده مع سعدية ... كل ذلك دون أن يفكر في أن يعتذر لأخته عن موعد الغداء معتمدا على أنها تعرفه جيدا ... وهي تعرفه بلا شك، إلى الحد الذي يجعلها لا تغضب وتظل تترقب عودة التليفون إلى الحياة لكي تعاتبه، كما عاتبته مئات المرات، وكما سوف تعاتبه دائما.
مجنون ... حتى هي أخته تختم حديثها معه دائما بهذا الوصف الذي يحمل في طياته كل اعتذار عن سخافاته، وما أكثر هذه السخافات!
Page inconnue