والحسرة، والغيظ، والكمد، والومد، وكأني بغيرك إذا قرأها تقبضت نفسه عنه، وأمرس نقده عليها، وأنكر علي التطويل والتهويل بها. وإنما أشرت بهذا إلى غيرك لأنك تبسط من العذر ما لا يجود به سواك، وذاك لعلمك بحالي، وأطلاعك على دخلتي، واستمراري على هذا الأنقاض والعوز اللذين قد نقضا قوتي، ونكثا مرتي، وأفسدا حياتي، وقرناني بالأسى، وحجباني عن الأسى، لأني فقدت كل مؤنس، وصاحب، ومرفق، ومشفق، والله! لربما صليت في الجامع فلا أرى إلى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال، أو عصار، أو نداف، أو قصاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، وأسكرني بنتنه، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسًا بالوحشة، قانعًا بالوحدة، معتادًا للصمت، مجتنفًا على الحيرة، محتملًا الأذى، يائسًا من جميع من ترى، متوقعًا لما لابد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص.
وفي تمجيد الصمت مر بي كلام لبعض الحكماء القدماء أنا أرويه لك ههنا لا لأجدد به عليك ما ليس عندك، ولكن لأذكرك، فإن الإذكار بالخبر بعث على الاهتمام به، والبعث عليه سلوك لطريقه.
قال هذا الحكيم: لو لم يكن للصامت في صمته إلا الكفاية لأن يتكلم، فحكي عنه محرفًا، فيضطر إلى أن يقول: ليس هكذا قلت، وإنما قلت كذا وكذا، فيكون إنكاره إقرارًا، ويكون اعترافه بأصل ما حكي عنه شاهدًا
1 / 34