Heures entre les livres
ساعات بين الكتب
Genres
إذا استل منهم سيد غرب سيفه
تفزعت الأفلاك والتفت الدهر
وهذا مما يرجح أن البارودي عدل عن المصراع الذي تكررت فيه القافية إلى مصراع غيره، ثم أقول: إلى هذا الحد تختلف الآراء في بيت واحد بين المشتركين في القراءة الإفرنجية، ولم أكن لأعرض لهذا الخلاف، لولا أنني أردت أن أتخذ منه مثالا للأسباب التي نفضل من أجلها بيتا على بيت وأسلوبا على أسلوب، والأمثال كما قلنا في فصل تقدم خير معين على توضيح الآراء ووضع المقاييس.
فنحن نرجح أولا أن البيت الذي نشره المرصفي هو البيت كما صاغه البارودي للمرة الأولى؛ لأنه أشبه بالضجيج الذي كان مغرما به في صباه، وأقرب إلى أن يروع القارئ بتهويله لا بمدلوله، ثم عدل عنه إلى الصيغة التي نشرت في الديوان، وهي أشبه برصانة السن وتجارب الشيخوخة التي طال بها عهد التأمل في غير الأيام وتقلبات الصروف، ولولا ذلك لما رجع طابع الديوان إلى الصيغة الأولى التي مضت عليها عشرات السنين، وترك الصيغة التي استقر عليها رأي البارودي الأخير.
ونرى بعد أن البارودي يكون مخطئا لو أنه قال أولا: «ملول من الأيام شيمته الغدر» ثم عدل عنها إلى قوله: «أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر» لأن الصيغة الأولى أصدق في وصف الأيام وأدل على سآمة الناظم وضجره من الحوادث، وأقرب إلى التشخيص والتصوير من الصيغة الثانية.
فإن قوله: «أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر» يصور لنا الحوادث التي تبدد الشمل كأنها لا تكون أبدا إلا كحوادث السكك الحديدية، ونكبات الزلازل، وانقضاض الصواعق، وهي ليست كذلك فيما نعلم ويعلم الناس، فإن التغير من حال إلى حال طبيعة الدنيا التي تبدد الشمل وتبلي النعمة وتفني الحياة، ولو لم تقع المفاجآت الدواهم، ولم تنقض الرزايا الخواطف على غير موعد، ونحن نفهم أن شيخا مثقلا بأعباء السنين يقول «ملول من الأيام» بعد أن قال في الشباب «أخو فتكات» ولكننا لا نفهم أن يعكس الأمر، فيذكر الفتك في الشيخوخة، ولا يروقه أن يصف الأيام بالملالة في سن الضجر والسآمة، والحقيقة أن الشيخوخة التي طالت بها مشاهدة الغير وتعقب الناس والزمان هي أولى بأن تتمثل الأيام في صورة الملول الذي يتقلب ويتبدل ويغدر عن شيمة وديدن لا عن سورة عارمة وهياج فاتك، وقد يعطيك البيت على هذه الصيغة صورة القدر في أبديته الطويلة يلعب بالخلائق لعب السائح الضجر في غير اكتراث ولا تعمد، ولكنك لا تلمح من الصيغة الأخرى للقدر إلا صورة عنترية تصول وتجول وتنادي المبارزين والمناجزين، وليست هذه بالصورة الصادقة، وإن كان فيها من الضجة ما يباغت الأسماع ويشده الحواس؟
وفي قول البارودي «ملول من الأيام» لمحة من الشعور الإنساني؛ لأنها تشعرك مرارة نفس القائل وطول تأمله في مصائب الأعزاء وتقلبات الحدود، وليس في قوله «أخو فتكات» لمحة من ذلك الشعور؛ لأنها أشبه بالآليات منها بالحسيات، فلا يخطر لك حين تسمعها إلا أنها صدمة أصابت جدارا أو ضربة وقعت على حجر، ولا يمنعك أن تظنها من نظم آلة صماء إلا أن الآلات الصماوات لا تنظم الأشعار، وفضلا عن هذا ألا يفتك الدهر باللئام كما يفتك بالكرام؟ ألا يتقلب القدر بمن تبغض كما يتقلب بمن تحب؟ فقوله: «أخو فتكات بالكرام» ناقص في هذا المعنى فوق ما فيه من خطأ الوصف وقعقعة التهويل المكذوب، وأنت إذا سمعته بدهك بما يشغلك عن لطف الكناية فلا تعود تبالي أكان اسم صاحب هذه الفتكات الدهر أم غير الدهر، ولكنك إذا سمعت «ملول من الأيام» انسرحت أمامك ساحة الحوادث فرأيت أطوارها طورا بعد طور ولمحت صورة الزمن القديم يشرف على كل هذا إشراف اللاعب الملول، ويجيء ذلك بعد قوله «أقاموا زمانا ثم بدد شملهم» فيكون أنسب للتراخي في التقلب، وأقرب إلى ما جرت به العادة من غير الصروف.
لا يخطر لك هذا كله حين تفضل أحد البيتين على الآخر، ولكن الناس يستحسنون أو يستهجنون ثم يرجعون إلى التعليل والتفسير، وفي هذا دليل آخر على أن التذوق هو تعليل موجز سريع، وأنه قد يغني عن المنطق، ولكن المنطق لا يغني عنه بحال. •••
وكان بعض الأدباء يقرأ أبياتا لحافظ إبراهيم من قصيدته في زلزال مسينا حيث يقول:
رب طفل قد ساخ في باطن الأر
Page inconnue