Heures entre les livres
ساعات بين الكتب
Genres
ولسنا نريد أن نطيل في سرد النظريات القديمة أو الطريفة التي أودعها المؤلف كتابه هذا، فإن قواعد هذه النظريات غنية عن الإجمال، وإنما نريد هنا أن نعرض لمسألتين اثنتين إحداهما تتعلق بأساس الموضوع الذي سمي الكتاب باسمه، والثانية تتعلق بشعور اللذة والألم الذي جعله المؤلف مصدر الحركة وقال: «إن اللذة والألم هما لسان الحياة المادية والمعنوية وعنوان الكدر والصفاء في الأعضاء، وبهما ترغم الطبيعة الحيوان على الإتيان بأعمال يستحيل الوجود بدونها.»
فأما المسألة الأولى فهي التفريق بين الآراء والمعتقدات، أو هو موضوع الكتاب نفسه وعنوان مباحثه، فالعقيدة والرأي معدنان مختلفان في نظر المؤلف من المبدأ إلى النهاية والعوامل التي تنشئ أحدهما غير العوامل التي تنشئ الآخر، كما هي الحقيقة من أكثر الوجوه، ولكن المؤلف يغلو في التفريق إلى حد بعيد، ويريد أن يفهمنا أن الاعتقاد ملكة في النفس غير ملكة الارتياء في الأساس، فهل هو على صواب؟ وهل الاعتقاد والارتياء جوهران متناقضان أو مختلفان!
الذي نقرره أن الرأي والعقيدة في أساسهما يرجعان إلى معدن واحد؛ لأن رأيك في شيء واعتقادك إياه كلاهما هو أثر ذلك الشيء الذي يلقيه في روعك من طريق واحدة بوسيلة واحدة هي وسيلة المعرفة الفذة المتاحة للإنسان، وإنما يبدأ الفرق بين الرأي والعقيدة عند «التمحيص والامتحان» إذ تكون وسائل «التمحيص والامتحان» ميسورة في الآراء فتتوقف عليها وغير ميسورة في العقائد فتقوى على مكافحة النقد وتستعصي على التجربة والبرهان. مثال ذلك أن ملاحظة الأشياء قد هدت بعض الناس إلى أن النار تنطفئ في الماء، وهدت الآخرين إلى أن الحياة الدنيا تتبعها حياة أخرى فيها الثواب للمؤمنين والعقاب للمنكرين، فما الفرق بين ما اهتدى إليه هؤلاء وما اهتدى إليه هؤلاء؟ الفرق بينهما أن وسائل التمحيص والامتحان في الدعوى الأولى محصورة يمكن التيقن منها بالحس والمشاهدة، وأن الدعوى الثانية وسائل تمحيصها وامتحانها غير محصورة ولا هي مما يخضع لحكم الحس واليقين، فإذا قيل: إن موضوع العقيدة يتصل بالشعور والرغبة، وأن موضوع الرأي يتصل بالحس والتجربة قلنا: إن كل شيء في هذه الدنيا يمكن أن يكون موضوع رأي وموضوع عقيدة في وقت واحد؛ فهذه التميمة التي يلبسها المؤمن بالتمائم هي موضوع يصلح للتجربة ويصلح للإيمان معا، وينظر إليها رجل فيخرج منها برأي وينظر إليها غيره فيخرج منها بعقيدة، ولا فرق في الحالتين غير الفرق في وسائل التمحيص والامتحان عند هذا وذاك، وليس منا إلا من كان يؤمن بشيء ثم عدل عنه إلى رأي يقبل النقد والمناقشة، وما تحول الشيء ولا تحولت ملكات المؤمن به، ولكنها هي وسائل النقد تيسره له بعد أن كانت متعذرة عليه، فعلى هذا يصح أن يقال: إن العقيدة أثر نفسي أو مجموعة آثار يصعب على صاحبها حصر المواد اللازمة لتحليل جميع عناصرها وحد جميع جوانبها، وأن الرأي عقيدة محدودة العناصر والجوانب يرجع فيها إلى مقياس مطرد متواضع عليه، ولزيادة التوضيح نسأل: هل يمكنك الإيمان بالشيء الذي ثبت بطلانه من طريق الرأي كل البطلان؟ نعم إن العقائد لا تثبت بالبرهان، ولكن هل هي تقوم على الشيء الذي أثبت البرهان بطلانه؟! لا ولا ريب، فهي إذن معدن لا ينفصل عن معدن المعرفة كل الانفصال، وكونها لا تقوم على البرهان لا يدل إلا على أمر واحد، وهو أن البرهان ليس بعنصرها الوحيد.
وقد يقال: إن العقائد ترمز وتورى وإن الآراء تتناول الأشياء مباشرة بغير رمز ولا تورية، وهذا إنما يكون صحيحا لو كنا نعرف شيئا واحدا في هذا الكون معرفة مباشرة بغير رموز ولا توريات، ولكن الحقيقة أن المعرفة المباشرة مستحيلة، وأن كل منظر نراه، أو نغمة نسمعها، أو خاطر نحس به إن هو إلا رمز ظاهر لحالة باطنة لا يستطاع استكناهها والنفاذ إلى حقيقتها، فما اللون وما الصوت وما الفكر بل ما المادة نفسها التي نعيش فيها ومنها وبها إلا رموز لحركات يخفى علينا كنهها، ويستحيل علينا كل الاستحالة أن نباشرها في ذواتها، ولك أن تقول: إن النظر إلى اللون الأحمر مثلا هو نوع من الإيمان الرمزي يريك الصورة ولا يريك الحقيقة، وأن العقيدة في آلهة الماء والبراكين عند قدماء الأمم هي نظر رمزي كذلك كان يعوزه سداد التحقيق، ودقة الرمز والتعبير. •••
أما المسألة الأخرى وهي مسألة اللذة والألم، فقد أصاب الدكتور لوبون حين سماها عنوانين للكدر والصفاء دليلين على معنوية باطنية؛ أي معلومات لعلل كما أن الأعراض نتيجة لمرض، إلا أنه هدم كل ما أراد أن يبنيه عليهما بهذا التعريف الذي جعل اللذة والألم نتيجة لحالة سابقة في الجسم قبل الشعور بهما، وقبل أن ينطبعا في صفحة الإحساس على صورة محبوبة أو مكروهة، فإننا متى علمنا أن اللذة والألم محكومان بعوامل أخرى نجهلها ولا نحس بها فالخطب إذن هو خطب تلك العوامل، والمهم لدينا أن نعرف ما تريده تلك العوامل وما تأباه وما تدفع الإنسان إليه، فيكون لذيذا لديه أو تدفعه إليه أيضا فيكون مؤلما في حسه، فالإنسان مدفوع على الحالتين قبل أن يذوق اللذة، أو يذوق الألم، واللذة والألم هما كما قال الدكتور عنوانان أو عرضان لتلك الحركات الخفية التي تختلج في الجسم ولا سلطان عليها للإرادة ولا للإحساس، وماذا أوضحنا وماذا فسرنا إذا قلنا: إن الإنسان يعمل ما يلذه، ويجتنب ما يؤلمه، إذا كان من الثابت المحقق أن الإنسان مكره على اللذة التي يطلبها كما هو مكره على الألم الذي يجتنبه! ثم ماذا أوضحنا وماذا فسرنا إذا قلنا: إن اللذة والألم هما أكبر عوامل الحركة، وها نحن أولاء نرى إنسانا يكرم؛ لأن الكرم لذيذ عنده ونرى إنسانا غيره يبخل؛ لأن الكرم يؤلمه ويكدره. فلا توضيح هنا ولا تفسير، بل هو تحصيل حاصل وحكم ظاهر من قبيل الحكم على تركيب الساعة بأرقامها وإشاراتها، ثم صرف النظر عن عددها، ولوالبها، وعن اليد التي تحرك تلك العدد واللوالب، والفكر الذي يحرك اليد، والعوامل التي تحرك الفكر، والقوانين التي تحرك الجميع.
ولسنا ننكر أن الإنسان يحب ما يلذه ويكره ما يؤلمه، وأنه يود ألا يفعل فعلا إلا أصابته منه لذة ولم يصبه ألم. إلا أن الإنسان يألم مع هذا ولا يجد اللذة حيث يطلبها، ولا يفلت من الألم حيث يهرب منه، فهو يعمل العمل قبل أن يتذوق لذته وألمه، ثم تأتي بعد ذلك كيفية شعوره بذلك العمل، وهو ابن طبيعة الحياة، لا لأنها لذيذة أو مؤلمة، بل لأنها هي طبيعة الحياة التي لا يد له في خلقها ولا في خلق ظرف واحد من ظروفها، وإلا فلماذا تختلف الطبائع حتى يلذ هذا الإنسان ما يؤلم سواه ويؤلمه ما يلذه! ولماذا تكون اللذة في هذا الجسد عنوانا لحالة، وتكون في جسد غيره عنوانا لحالة تختلف عنها أو تناقضها! إنما ينبغي أن نبحث هنا عن الإرادة الخفية التي تهيمن على عوامل الجسد، وتكيف الحس نفسه حتى يعود قابلا للشعور باللذائذ والآلام، أما الوقوف عند العناوين فقد يرضينا بالأسماء والأصداء، ولكنه لا يرضينا بحقائق الأشياء. •••
وصفوة القول: إن الرأي والعقيدة لا يختلفان في الأساس، وإنما يظهر اختلافهما عند العرض على وسائل التمحيص والامتحان، وأن الحياة لا تبحث عن اللذة أكثر مما تبحث عن الألم، وإنما تفعل فعلها ثم يجيء كل من اللذة والألم غير مطلوب ولا مدفوع، وعبرة هذا الرأي أن للإنسان غاية في الحياة فوق لذاته وآلامه، وأنه ربما كان طالبو اللذة القانعون بها هم أقل الناس نصيبا من دوافع الحياة.
الغيرة
عطيل والزنبقة الحمراء! ما أعجب المصادفة التي جمعت بين هذين الأخوين المتباعدين في رف واحد! وما أجدرنا أن نؤمن بأرواح الكتب لحظة لنصدق أن هذين الكتابين إنما تصافيا وتوافيا لاتفاق بينهما في الروح، وتشابه في الهوى والمزاج، ومحنة واحدة ألفت بين عطيل المغربي وجاك الفرنسي ، وبين شكسبير في الأقدمين وأناتول فرانس في المحدثين، فسعى كلا الكتابين إلى الآخر بين الرفوف، وغنما ثمة هنيهة يتناجيان فيها على غرة من الكتب المتطلعة وغفلة من اللجاجة والفضول!
ولكن حسب الدنيا ما فيها من المراء والنزاع على أرواح الناس فلا نزيد عليها أرواح الكتب، ولا تدخل الخصومة والصداقة بين الرفوف والأدراج فيعز عليها القرار ويعود حفظ الكتاب عملا أشق على أصحابه من عمل المروض الذي انقطعت عنده السلاسل وتكسرت القضبان! فلا مصافاة هناك ولا موافاة بين عطيل والزنبقة الحمراء، ولا بين روح شكسبير وروح أناتول، وإنما هي كتب ضاق بها المكان على الرفوف المرتبة فلقيت مكانها على الرف المعزول في انتظار الترتيب والتجليد، وهذا هو السر كله في تلك الصداقة التي جمعت عطيلا الأسود والزنبقة الحمراء، وألقت بهما معا في ذلك الجوار السعيد! ولعله ليس أضعف من السر الذي يؤلف جميع الصداقات بين الناس ويلقي بهم في كل جوار.
Page inconnue