وفي الوقت الذي كانت تحكي للناس كيف وجدت دورها في الحياة؛ إذ أصبحت صبي نجار، وكيف جعلهما هذا يصبحان أكثر قربا أحدهما من الآخر عن ذي قبل، كان ريتش يقع في غرام نيتا. كانت تعمل في مكتب التسجيل في الجامعة حيث كان يدرس أدب القرون الوسطى. كانت أول مرة مارسا فيها الحب وسط نشارة الخشب، فيما أصبحت فيما بعد الغرفة الرئيسة بسقفها المقوس. تركت نيتا وراءها نظارتها الشمسية؛ ليس عن عمد، على الرغم من أن بيت، التي لا تترك وراءها أي شيء مطلقا، لم تستطع أن تصدق هذا. حدثت الضجة المعتادة التالية لهذا، مصطنعة ومؤلمة، وانتهت بأن رحلت بيت إلى كاليفورنيا ثم إلى أريزونا، وباستقالة نيتا بناء على توصية من محل عملها، وضيع ريتش فرصة الفوز بمنصب عميد كلية الآداب. تقاعد مبكرا وباع منزله في المدينة. لم ترث نيتا مئزر مساعد النجار الخاص ببيت، لكن قرأت كتبها ببهجة وسط الفوضى، وأعدت عشاء بسيطا فوق صفيحة ساخنة، وقامت بنزهات استكشافية طويلة، وعادت بباقات مهلهلة من الزنبق المخطط والجزر البري، الذي خزنته في علب دهان فارغة. فيما بعد، بعد أن استقرا هي وريتش، أصبحت تشعر بالحرج حين تفكر كيف لعبت بيسر دور المرأة الأصغر، مخربة البيوت السعيدة، الفتاة البسيطة الطيعة والضحوكة والرشيقة. كانت في الحقيقة جادة، غريبة جسديا، امرأة واعية لذاتها - بالكاد فتاة - يمكنها أن تسرد كل ملكات إنجلترا، ليس فقط الملوك بل الملكات أيضا، وتعرف خلفيات حرب الثلاثين عاما، لكنها كانت تخجل من الرقص أمام الناس، ولم تكن على استعداد أن تتعلم - كما فعلت بيت - صعود سلم نقال قط.
يقع على أحد جانبي منزلهما صف من أشجار الأرز، وحاجز سكة حديد على الجانب الآخر. لم يزدحم المرور عند السكة الحديد كثيرا، وفي الوقت الحالي يمكن أن يمر قطاران فقط شهريا. كانت الأعشاب الضارة مزدهرة بين قضبان الحديد. مرة، حين كانت على شفا سن اليأس تحدت نيتا ريتش ليمارسا الحب هناك؛ ليس على قضبان السكة الحديد طبعا، بل فوق الشريط العشبي الضيق على جانبيها، وقد هبطا بجموح سعيدين بنفسيهما.
فكرت بعناية، كل صباح حين تجلس فوق مقعدها، في الأماكن التي لم يكن بها ريتش. لم يكن في الحمام الأصغر، حيث لا تزال أدوات حلاقته وحبوب الدواء للأمراض المزعجة لكن غير الخطيرة التي رفض أن يتخلص منها. ولم يكن في غرفة النوم التي رتبتها توا قبل أن تغادرها. لم يكن في الحمام الأكبر الذي كان يدخله فقط للاستحمام في البانيو، أو في المطبخ الذي أصبح مستقره الدائم تقريبا في السنة الأخيرة. ولم يكن طبعا في الخارج فوق السطح المكشوط جزئيا، يحدق فيها مازحا عبر النافذة؛ حيث كانت هي تقف في الأيام الأولى تتظاهر بأنها ترقص رقصة تعر.
أو في غرفة المكتب. كان هذا المكان من بين كل الأماكن الذي يدلل على غيابه بصرامة. في البداية، وجدت أنه من الضروري أن تذهب إلى الباب وتفتحه وتقف هناك، وتمسح بعينيها أكوام الورق والكمبيوتر المحتضر والملفات المتناثرة، والكتب المفتوحة على وجهها أو ظهرها والمحتشدة على الرفوف كذلك. يمكنها الآن أن تتدبر أمرها بتخيل الأشياء فقط.
قد تضطر أن تدخل في يوم ما. رأته اقتحاما . سوف تضطر إلى أن تقتحم ذهن زوجها الميت. هذا أمر لم تفكر فيه قط. كان ريتش بالنسبة لها قامة من المهارة والكفاءة؛ وجودا مفعما بالحيوية وصارما، طالما آمنت - بدون أي سبب عقلاني - بأنه سوف ينقذها، ثم أصبح هذا الإيمان في السنة الأخيرة إيمانا معقولا للغاية، بل يقينا في عقل كل منهما، كما اعتقدت.
سوف تبدأ بالقبو. كان قبوا حقا، وليس طابقا تحت الأرض. ألواح خشبية شكلت ممرات على الأرض القذرة، واعتلى النوافذ الصغيرة أنسجة عنكبوت قذرة. لم يحتو على أي شيء احتاجته في يوم من الأيام. علب دهان ريتش نصف الممتلئة، وألواح ذات أطوال مختلفة يمكن استعمالها ذات يوم، وأدوات يمكن أن تكون مفيدة أو يمكن التخلص منها. كانت قد فتحت الباب ونزلت الدرجات مرة واحدة فقط؛ لتتأكد أنه ليس هناك مصباح مشتعل، ولتطمئن على وجود مفاتيح الكهرباء، بملصقات توضح الجزء المسئول عن إنارته. حين صعدت أغلقت الباب بالمزلاج من ناحية المطبخ. اعتاد ريتش أن يضحك على هذه العادة، ويسألها ما الذي تظنه يمكن أن يدخل، عبر الحوائط الحجرية النوافذ التي لا يتسع حجمها لمرور جني صغير ليهددهما.
مع ذلك، فمن الأسهل أن تبدأ بالقبو؛ أسهل مائة مرة من أن تبدأ بغرفة المكتب.
رتبت السرير ورتبت فوضاها الصغيرة في المطبخ والحمام، لكن كان أعلى من قدرتها عموما أي دافع للقيام بكنس شامل أو بتنظيف البيت. تستطيع بالكاد أن تتخلص من دبوس ورق منبعج أو لعبة مغناطيسية فقدت جاذبيتها من تلك التي تلصق على باب الثلاجة، ناهيك عن العملات الأيرلندية التي اشترتها هي وريتش أثناء رحلة قاما بها منذ خمسة عشر عاما. يبدو أن كل شيء اكتسب وزنه الخاص به وغرابته.
اتصلت كارول أو فيرجي يوميا، عادة قرب مواعيد تناول الوجبات، حين لا بد أنه يخطر على بالهما أن وحشتها أقل احتمالا. قالت إنها على ما يرام، وسوف تخرج من ملجئها قريبا، وأنها احتاجت هذا الوقت، كانت تفكر وتقرأ فقط، وتأكل وتنام على نحو معقول.
كان هذا صحيحا باستثناء ما يخص القراءة. جلست في مقعدها محاطة بالكتب دون أن تفتح واحدا منها. كانت دائما قارئة نهمة - هذا أحد الأسباب التي جعلت ريتش يقول إنها المرأة المناسبة له، تستطيع أن تجلس وتقرأ وتدعه وشأنه - والآن لا تستطيع أن تواظب على قراءة ولو نصف صفحة.
Page inconnue