Chemin de la vie
سبيل الحياة
Genres
وقد يكون العصر الماضي جميلا ولعل كل ما فيه كان حميدا ولكنه زال وجاء غيره بمظاهر حياة وأساليب تفكير وآمال ومخاوف وآداب وعادات مختلفة، فكيف لا يظهر هذا في لغة الكتابة والكلام؟.. وكيف يعقل أن تظل القوالب لا تتجدد ولا تتغير ولا تطرأ عليها زيادة من العصر الحاضر المؤثر بوجوده؟؟ أيكون ذلك من الكسل؟ أم هو من ضعف التأثر بهذا العصر؟ أم ترى الأحياء فيه جثث محنطة لها وجود ولكن ليس فيها حياة؟
ورأيتني وأنا أفكر في هذا أسأل نفسي سؤالا لا يخلو من غرابة «أتراني أشبه أبي؟» وضحكت لما قلت ذلك، وقلت بالطبع أشبه أبي! ما هذه السخافة؟ وكيف أستطيع ألا أشبهه؟ على أني لم أكن أعني المشابه العادية التي تكون بين الآباء والبنين فإن معمل الطبيعة لا يدعي ما تدعيه مصانع السيارات من إخراج طراز جديد في كل عام لا شبه له ولا صلة بطراز العام السابق، وإنما أعني هل أنا أحور شيئا فشيئا حتى أصبح صورة طبق الأصل من هذا الأب الفاضل؟؟ وناديت زوجتي وسألتها: «أين صورة الوالد المحترم؟» فقالت: «إيه؟.. الوالد المحترم؟.. أي والد؟»
فقلت وأنا أضحك: «وهل لي غير والد واحد؟ إن كنت تعرفين لي غيره فقولي، ولك الأمان، ورحم الله الوالد والوالدة جميعا» فقالت: «لا تمزح هذا المزح ... عيب ... وإنك لتعرف أني أسألك عمن تعني - والدك أم والدي؟» فقلت: «كلا. لا حاجة لي بأبيك.. ولا بأبي أيضا في الحقيقة، ولكني أريد أن أراجع صورته أو على الأصح أن تراجعيها أنت» فجاءت بالصورة وهي غير فاهمة، فقلت: «تأمليها وتأمليني. إنهما منظران ليس فيهما سرور لأحد، ولكن تجلدي.. فهل ترينني مثله؟: هل لو لبست مثل هذه السترة الاستامبولية؛ وهذا الطربوش الطري، وتركت شاربي ينبتان، ويطولان، ويتهدلان، ودخلت عليك في ضوء خافت، تظنيني أبي، نفض عنه كفنه وخرج من قبره ، أو تحسبينني على الأقل عفريته؟»
فقالت: «لا أدري لماذا هذه المقارنة ولكني أقول إن فيك منه مشابهة ... كثيرة ولكنك مختلف.. حتى النظرة مختلفة.. نظرته نظرة رجل حليم كريم وديع أما أنت..» فصحت بها: «احترسي!. ليست هذه فرصة لبسط لسانك الطويل في..» فقالت: «لا.. ولكن الحقيقة أن نظرتك مختلفة.. فيها شيء آخر.. الشبه موجود ولاشك، والذي يراكما يعرف، وإن كان لا يعرفكما، أنه لابد أن يكون أخا أكبر، أو أبا أو جدا، على التحقيق ... ولكن هناك اختلافا لا أدري كيف أصفه» قلت: «لا تتعبي نفسك ... يكفي أني مختلف ... ولو كان حيا لاستطعت أن أتبين في أي شيء من الحقائق المطوية نختلف، ولكنه تسرع.. عل كل حال أحمد الله.. لقد كنت أخاف.. كيف أقول؟ أخاف أن أظل أرتد وأرتد، حتى أصير مثله تماما بلا فرق» فسألتني: «ولماذا تخاف هذا؟» قلت: «لو حدث هذا لأصبحت صورة مكررة.. نسخة معادة.. طبعة ثانية لا تختلف عن الأولى إلا في زمن الصدور.. أي زيادة لا داعي لها ولا مزية ... ولكان وجودي تكلفا لا مسوغ له، وإسرافا غير جائز، وعناء باطلا لا جدوى منه.. وسبحان ربي عن ذلك وكنت أخاف شيئا آخر. أن يضطرني ما يحوجني إلى العجلة إلى ترك أسلوبي الكتابي يفسد وينحط بأن يفقد صلته بالحياة، وبأن يصبح عبارة عن قوالب قديمة مرصوصة فأكون كالمقاول الجاهل الذي لا يعرف غير طراز واحد من هندسة البناء.. أتعرفين أن عندنا في مصر «مقاولين» أخصائيين في بناء المقابر؟ لو تركت أسلوبي يفسد بالإهمال والكسل لأصبحت كهذا الذي لا يبني إلا القبور وما إليها.. ولكني تنبهت والحمد لله فسأكون من هذا بعد اليوم على حذر.. ولو اتسع وقتي لراجعت ما كتبت؛ أو كتبته من جديد، ولكن ما فات مات، والعبرة بما هو آت، وعليك يا امرأة أن تجدديني، أو على الأقل أن تحثيني على التجدد، كلما رأيتني أهم بأن أجمد وأركد، وهذا خير ما تستطيعين شيئا».
الفصل السابع عشر
الكتابة وحالات النفس
كتب إلي بعضهم يسألني: هل صحيح ما روته إحدى المجلات من أني لا أكتب حديثا للإذاعة اللاسلكية إلا قبيل موعده بوقت قصير، وإني إذا كتبته قبل ذلك بزمن طويل فالأغلب والأرجح أن أمزقه وأكتبه مرة أخرى؟ وما سبب ذلك أو داعيه؟
فأما أني أمزق شيئا مما أكتب - حديثا كان أو مقالا أو قصة - فغير صحيح، ولست أعرف أني راجعت كلاما أكتبه أو عنيت به بعد أن أفرغ منه. فقد غدوت كالثور المشدود إلى الساقية وعيناه معصوبتان، حتى لا يدور رأسه من كثرة الدوران واللف، وكلما وقف يستريح صاح به صاحبه: «عا» ولمسه بالعصا أو السوط، فيتحرك الثور ويستأنف الدوران، لأنه أخف مؤونة وأسلم عاقبة من الوقوف. وكذلك أراني، في حياتي، وإذا كان الثور يدري لماذا يجشم عناء هذا اللف كله فإني ادري لماذا تكلفني الحياة هذا الجهد. وليست على عيني عصابة وإني لأنظر بهما وأرى، ولكني لا أدرك ما وراء ذلك، وليس ثم سوط يلهب ظهري، ولا عصا هناك تقع عليه، ولكن الحياة تدفعني من حيث أشعر ولا أشعر، ولحياة زخز وحفز وإغراء محسوس وغير محسوس، ولعل الذي لا نفطن إليه أفعل وأقوى من الذي ندركه من وسائلها. وكثيرا ما أشعر أني مدفوع إلى الكتابة وأني لا أملك التحول عنها أو إرجاءها، وأني سأشقى وأسقم إذا لم أذعن لهذا الدافع الغامض، فأجلس إلى المكتب وليس في رأسي شيء سوى الإحساس العام الثقيل بالحركة وبأنها توشك أن تتمخض عن خاطر معين أو خالجة بينة، ويكون القلم في يدي في تلك اللحظة فأخطط به على الورقة وأنا حائر، ذاهل،لا أحس ما حولي، بل لا قدرة لي على الإحساس بشيء مما يحيط بي إلا إذا حملت نفسي على ذلك حملا، وخرجت بها من ضباب الحيرة والذهول والسهو بجهد واضح، ثم تخطر لي عبارة فأخطها، وأنا لا أدري إلى أين تفضي بي، ويغلب أن يطول ترددي في البداية ثم يمضي القلم بعد ذلك بلا توقف ويستغرقني الموضوع وتستولي روحه علي؛ فلا يبقى لي بال إلى شيء، حتى إذا انتهى الأمر ونضب المعين ألقيت القلم والورقات ورحت أتثاءب وأتمطى كأنما كنت نائما، ويكون هذا آخر عهدي بما كتبت في يومي.
وقد استعملت لفظ «التمخض» وأنا أعنيه، فليس ثم أدنى فرق فيما أعلم وأحس بين التمخض بالجنين، وبين حركة التوليد في النفس؛ وكما تفتر المرأة بعد أن تضع طفلها، ولا ينازعها في ذلك الوقت شوق إليه أو تحس فرحا به، وإنما يكون إحساسها بالفرج بعد الضيق الذي كانت فيه والكرب الذي كانت تعانيه، والراحة بعد الجهد والمشقة والعذاب. والتفتير الذي يورثها إياه ما تجشمت، كذلك يكون الأديب بعد أن يستريح من أزمة النفس أو الفكر.
ويخطر لي أحيانا أني كالمسافر الذي لا يذهب إلى المحطة إلا والقطار يوشك أن يتحرك، فما أراني أكتب إلا في اللحظة الأخيرة؛ وقد ألفت أن أرجئ الكتابة مادام في الوقت فسحة، وأحسب أنه لو وسعني أن أكف عن الكتابة لفعلت، فإني أوثر الراحة على هذا العناء الباطل، وبي مثل بلادة التلميذ الذي لا يذهب إلى المدرسة إلا محمولا على ذراع الخادم، فليت من يدري أهذه عادة اعتدتها أم هي طباع وفطرة واستعداد؟ على أني أعرفني من المرجئين في كل شيء: الدين أفر من أدائه ما وسعني الفرار، والنوم أكره أن أستيقظ منه، والفراش يشق علي أن أترك نعيمه، واليقظة أستثقل أن أنزل عنها - كل حالة أكون فيها أشتهي أن تطول وتدوم، إلا التنغيص والألم كما لا أحتاج أن أقول.
Page inconnue