Chemin de la vie
سبيل الحياة
Genres
وأنهض وأمضي بها إلى الباب وأنا أقول: اصنعي ما تشائين. كل ما بدا لك اصنعيه، ولكن لا تعطليني.. أنا محتاج لعقلي كله الآن.. ألا تفهمين؟ هذه نسخة مخطوطة، منسوخة.. من ديوان ابن الرومي.. نسخها حمار كلها غلط وتحريف وتصحيف.. ليس فيها بيت واحد له معنى. فكيف يمكن أن.أصلح غلطة واحدة إذا كنت تطيرين لي عقلي بالفساتين والخياطة والركامة..؟؟»
فتبتسم، فقد بلغت سؤلها، وتعدني أن تحرس هذا الباب فلا تترك أحدا يدخل منه أو يقربه.
ومن العناء الذي تكلفته أني اشتريت الأغاني الذي طبعه «الساسي» - اشتريته ورقا على عادتي، فكنت أراجع الأبيات التي ترد فيه، في دواوين الشعراء أو كتب الأدب الأخرى، فأصلحها أو أتمم القصيدة - أنسخ ذلك في ورقة وألصقها في الكتاب، وكلما فرغت من جزء جلدته، وقد أصبح ضعف ما كان وهذا هو الكتاب الوحيد الذي بعته بأضعاف ثمنه، فقد اشتريته بمائة قرش وخمسة قروش، فلما بعت مكتبتي في سنة 1917 أو 1918 - لا أذكر - ابتاعه مني وراق بخمسين وسبعمائة قرش، وقد ندمت علي بيعه، فما أستطيع أن أصنع الآن ما صنعته قديما، ولكن العناء الذي تكبدته نفعني، فقد أحوجني إلى مراجعات لا آخر لها، وأطلعني على ما كنت خليقا أن أخطئه فيفوتني العلم به.
وأنا مع ذلك أقل الثلاثة - العقاد وشكري - إطلاعا وصبرا على التحصيل. وأدع للقارئ أن يتصور مبلغ شرههما العقلي، ولا خوف من المبالغة هنا، فإن كل ظني دون الحقيقة التي أعرفها عنهما. وأنا أجتر كالخروف، ولكنهما يقضمان قضم الأسود، ويهضمان كالنعامة، فليتني مثلهما.
الفصل الثاني عشر
هل كانت أسعد لحظة «ذكرى لا يخلو السرور بها من عرق من الأسى والأسف..!»
من الصعب أن يقول المرء إن هذا اليوم، أو هذا الحادث، كان أسعد يوم أو حادث في حياته، لأن الشعور بالرضى، والسكينة، والاغتباط - وذلك غاية ما يحق للمرء أن يطمع فيه - ليس رهنا بما يتفق أن يقع للإنسان، ليس إلا، بل كذلك بنوع تلقينا له، وبحالة العقل، والنفس، والإرادة، فالمسألة في الحقيقة نفيسة. وما من شيء بمجرده يعد خيرا أو شرا في ذاته، وإنما يكون كذلك بأن يدخل في نسيج حياتنا العقلية، وبأن يأخذ لون مزاجنا ونزعتنا، وبأن تطبعه الإرادة بطابعها.
وكثيرا ما تكون ذكرى الشيء أبعث منه على الرضى أو السخط، لأنك حين تلقى ما تلقى، تشغل به، ولكنك بعد ذلك تكون في فسحة من أمرك، فتستطيع أن تحضر إلى نفسك، ما كان على مهل، وأن توحي إليها أيضا، أو تعمق هذا الشعور، إذ ذاك. مثال ذلك أن يشتد بك الظمأ، والوجد بالماء، حتى إذا وجدت الماء كرعت منه كرعة روية، ولا هم لك إلا إطفاء الحرقة، ثم تتذكر بعد ذلك بقليل أو كثير كيف جف لسانك، وعصب ريقك، وكيف كانت لهفتك على قطرات، وكيف كان الشراب البارد في فمك، وكيف تشهدت، ورضيت، وحمدت الله!
وأنا ذاكر في هذه الكلمة حادثا لا يزال مائلا حاضرا، بعد أن مضى أكثر من أربعين عاما، وكنت يومئذ طفلا في العاشرة أو الحادية عشرة، وكانت عادتنا أن نقضي إجازة المدرسة - في الصيف - في بيت جدي لأمي في حي الإمام الليث بن سعد، وعلى مقربة من «عين الصيرة».. وكان جارنا له بنا صلة قرابة، وكان أنيقا رقيق الحاشية، وفي سعة من الرزق، وكانت امرأته كريمة، وكان لها «فنوغراف» من الطراز القديم - وكان جديدا يومئذ - فكنت أذهب إلى بيتها، وأجلس أمام البوق كما يجلس في الصورة «الكلب» يسمع صوت سيدة! فأسمع غناء عبد الحامولي، وعثمان، والشيخ يوسف المنيلاوي وغيرهم.
ودعانى جارنا هذا يوما إليه، وقال إنه سيأخذنى معه إلى رحلة قصيرة إلى بلدته، وأمرنى أن أستأذن أمى، فأذنت، ولفت لى «جلابية» فى ورقة.
Page inconnue