تل أبيب
بعد؟ ظللت أمام مكتبي طول اليوم، وغادرت الجريدة عند المغرب. وكانت بعض الأوتوبيسات تسير على مهل وقد أظلمت أنوارها، وغطت مصابيحها الأمامية بطلاء أزرق. لحظت أنها كانت خالية من النساء. وركبت سيارة بها كثير من المقاعد الخالية. وجدت أخي وزوجته في الصالة وقد أغلقا النوافذ بعد أن غطياها بالورق الأزرق، وكانت أمامهما شمعة صغيرة. سألاني عن الأخبار فقلت: لا جديد. دوت صفارة الإنذار وحدث هرج في الشارع وفي المنزل، وارتفعت صيحات تطالب بإطفاء الأنوار. أطفأت زوجة أخي الشمعة وجلسنا في الظلام. وبعد قليل دوت أصوات انفجارات بعيدة. تساءل أخي: أهي قنابل أم مدافع مضادة للطائرات؟ وطرق الباب. كان جارنا الذي ينتظر زوجة أخي كل صباح على السلم، وكانت معه زوجته وأولادهما. قال إن زوجته تشعر بالخوف، وطلب أن يبقوا معنا قليلا. قالت زوجته إنه هو الذي يخاف. أحضرت زوجة أخي مقعدين من الداخل. حاولت أن أتبين في الظلام مكان الرجل من زوجة أخي فلم أتمكن. بكت
نهاد ، وقال أخي إنه يحسن بنا أن ننزل إلى المخبأ. قلت: لن يكون هناك فرق. وقال جارنا إننا نسكن لسوء حظنا قرب المطار. قالت زوجة أخي إن الجميع يهبطون إلى المخبأ. وقلت لأخي إن أبي لم يكن يحب المخابئ. قال إنه لا يتذكر؛ فقد كان في الميدان في حرب
فلسطين
الأولى. قلت إن أبي كان يقول إن الطوابق العليا تسقط فوق المخابئ فتدمر من بها وينجو من بالأولى. قالت زوجة أخي إن القنابل يمكن أن تدخل من النوافذ وتنسف الطابق. وازداد بكاء الأولاد، وتتابع الدوي. قال أخي: لننزل. وغادرنا الشقة ونحن نتخبط في الظلام. هبطنا السلم في صعوبة. وكانت زوجة أخي تهبط بجواري. مدت يدها في الظلام، فأمسكت بيدي وقبضت عليها بقوة، ثم رفعتها إلى شفتيها. ووقفنا متجاورين في المخبأ، وكانت يدها الأخرى تمسك بيد
نهاد . ونادى أخي على
نهاد
فتبينت أنه بعيد عنا. أحطت زوجته بساعدي، وقربت وجهي من وجهها وقبلتها في فمها. كانت شفتاها ناعمتين دافئتين، ورائحة أنفها حلوة. وانطلقت صفارة الأمان فخرجنا إلى النور وعدنا إلى شقتنا. أضأنا نور الصالة فارتفعت صيحات تطالب بإطفائه. أطفأناه وأشعلنا شمعة صغيرة، واقتادت زوجة أخي
نهاد
إلى حجرتها لتنام، ووضعت الشمعة بجوارها. خرجت مع أخي إلى الشرفة، وكانت هناك أنوار في بعض المنازل، وصاح شخص في الشارع يطالب بإطفائها. وبدت السماء صافية تماما. قلت: يبدو أنهم لم يعودوا يستخدمون الكشافات التي كنا نراها في السماء تبحث عن طائرات العدو سنة 1948م. قال إنه لا يريد أن يتذكر تلك الأيام؛ فقد كانت المدافع تنفجر فينا قبل أن نتمكن من إطلاقها، وقال إنه يحسن بنا أن ننتقل إلى منزل أحد أقاربنا في وسط البلد. وجاءت زوجته فأفسحت لها مكانا بيننا. وكانت الشرفة ضيقة، فوقفنا متلاصقين، ومددت يدي في الظلام وتحسست ساقها فوق الفستان، ثم رفعت ذيله، وتحسست ساقها العارية، وكانت دافئة. وعندما ارتفعت يدي إلى أعلى أصبح ملمس أصابعي خشنا فجأة؛ اكتشفت أنها لا ترتدي شيئا من الملابس الداخلية. سحبت يدي فمالت في الظلام وهمست: ماذا حدث؟ لم أجب. وقال أخي شيئا وهو ينحني فوق سياج الشرفة، وردت عليه زوجته، ثم همست لي: لم تكن لدي ملابس نظيفة. قلت إني سأدخن سيجارة. عدت إلى الداخل فأشعلت سيجارة وجلست في الظلام، وما لبث أخي أن جاء تتبعه زوجته فأشعل شمعة، وقال إنه يرى أن تذهب مع
Page inconnue