2 + 2 س ص + ص
2 ، فها هنا تستطيع أن تستبدل بالرمزين س، ص أي عددين أردت، فتتحول الصيغة الجبرية المفرغة لتصبح صيغة حسابية محددة كأن تختار - مثلا - العددين 2، 3 بدل الرمزي س، ص الصيغة التي أمامك (2 + 3)
2 = 4 + 12 + 9 = 25، فالعلاقة بين الإطار الصوري في الجبر، ومضموناته العددية التي يمكننا أن نملأ بها ذلك الإطار والتي لا حصر لها، هي كالعلاقة بين إطار قومي وأفراده، فالإطار واحد، والأفراد الداخلون به متمايزون، وبهذا يحقق كل فرد فرديته الكاملة دون أن يخرج على الروح القومية الواحدة، التي تجمع في ظلها جميع الأفراد، وبهذه الفردية المنتمية إلى أمتها، يتحقق للإنسان المسلم ما كان متضمنا في قوله: «أشهد أن لا إله إلا الله» ...
هذا الصغير وصغائره
كانت جلستي هذه المرة مع نفسي، آخذ منها وأعطيها، ولقد بدأ الحديث بيننا حين دفعت الأحداث بين أيدينا بصورة ذلك الرجل الصغير الكبير، فهو صغير بأوهامه وأحلامه، وهو كبير بعمره ومناصبه، وهو صغير بتفاهاته التي يعيش بها وعليها، وهو كبير في أعين قوم قلبت أمام أعينهم درجات القيم، وربما كان للرجل عذره في صغاره؛ لأنه يريد الوصول إلى أعلى البناء، فماذا هو صانع بنفسه، إذا كانت أيامنا قد حكمت بألا يكون الأعلى للحق قبل الادعاء؟ ماذا هو صانع بنفسه، إذا كانت حياتنا قد أسلمت أسواقها للعملة الزائفة قبل العملة الصحيحة؟ أئذا ركب صاحبنا الصغير الكبير ظهور الموج مع اتجاه الريح، كان أحق باللوم، أم كان أحق بالثناء؟
وسمعت نفسي سيل هذه الهواجس مني، فانتفضت لتعترض قائلة في همس المختنق: كفى، كفى يا صاحبي، إن صغيرك الكبير هذا، حقيق بأن يلقي العقاب على صغاره، وعقابه يكون بإهماله فلا يذكره الذاكرون، حتى يتعلم الشعب أن يكون الفرق بين صغير وعظيم، لقد اختلطت على الناس أمورهم واضطربت الموازين، فمتى يعود إلينا يوم لا يعلو فيه جهل على علم، ولا مهارة الحواة على كدح العاملين؟ لقد راقبت صغيرك الكبير على تعاقب السنين، فإذا هو يقيم بناءه من قش هش هزيل، لكنه يطليه بزخارف الألوان، فيخطف به أبصار البلهاء، الذين لا يكادون يركلون البناء بأقدامهم حتى يتهاوى قبل أن يعودوا بأقدامهم إلى حيث كانت، إنني لفي عجب منك يا أخي ومن أقرانك، الذين يظنونه خلقا كريما أن تخفت أصواتهم أمام زيف خادع، وأرى الناس في بساطتهم يسألون في الصحف كل يوم: لقد دب في حياتنا ضعف، فأين يا خبراء مواطن الضعف؟ وأول موطن من مواطن الضعف بين أصابعهم ولا يحسونه، وهو أن القوس لم تعد تعطى لباريها، فبات فينا عالما، من علمه قد انحصر في «أبجد هوز» أو ما يشبهها، وأصبح فينا أديبا من أدبه قد اكتفى بركاكة اللفظ واختفاء المعنى، وأضحت شجاعة الرأي هي التهجم الغشوم الأجوف، وأمست حكمة الحكماء هي في مخادعة المنافق الجبان ... رحمك الله يا أبا الطيب، لقد أنشدتها كلمة حق، حين قلت: إن من كان به صغار، عظمت في عينه الصغائر، وأما العظيم حقا، فهو ذلك الذي تصغر في عينه العظائم؛ لأن له وراء أي هدف عظيم، هدفا أعظم منه، وهكذا تعلو همته علوا يشده صعدا إلى عظيمة فوق عظيمة، فلعلك يا رفيقي لم تنس بعد بيت المتنبي الذي أشير إليه، والذي يقول:
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم - قلت لنفسي: بارك الله فيك يا نفسي ... ولقد ذكرتني بأبي الطيب المتنبي، فتعالي يا نفس نعش في ظل شموخه بضع دقائق، فإن دقيقة واحدة يعيشها إنسان مع ذلك الطامح، الأبي، الجبار، لكفيلة بأن تنقذه من صغائر الصغار، ومن قناعة الضعفاء بما هم فيه من غث رخيص، ولنجعل مأوانا من ديوان المتنبي، تلك القصيدة التي كان البيت الذي أشرت إليه يا نفس، هو ثاني أبياتها ...
كان بنو كلاب قد عاثوا في ناحية من البلاد تدميرا وتخريبا، فسار إليهم سيف الدولة، وفي صحبته أبو الطيب المتنبي، وأدركهم وحصرهم في مأزق بين جبل وماء، وأوقع بهم ليلا، فقتل من قتل وغنم ما غنم، ثم اتجه نحو ثغر كانوا قد خربوه، وقصد إلى بنائه من جديد، فخط له الأساس وحفر أوله بيده؛ ابتغاء مرضاة الله، لكن أهل المدينة كانوا قد أسلموها إلى من يدعي «بالدمستق»، فجمع له هذا الدمستق جيشا جرارا من خمسين ألفا من الفرسان، كانوا خليطا من جموع الروم، والأرمن، والروس، والبلغاريين، والصقالية، وغيرهم، ولم يكن مع سيف الدولة إلا خمسمائة مقاتل، فهجم بهم وهو على رأسهم، وكتب له الله نصرا مبينا، قتل فيه من جيش عدوه ثلاثة آلاف، وأسر عددا من خيرة فرسانه، ثم انصرف بعد نصره إلى بناء المدينة بعد دمارها، ويقال: إنه لبث حتى وضع بيده ما يكون خاتمة العمل عند اكتماله.
وكان أبو الطيب المتنبي يصاحبه في ذلك كله، فلما كتب للمهمة ما حققته من نصر وتعمير، كانت تلك هي المناسبة التي أنشد فيها قصيدته، التي أعتقد أن مطلعها وبعض أبياتها مألوف لكثيرين؛ لأنها كثيرا ما تورد بين المحفوظات في المدارس، ومع ذلك فإني أفضل أن أعرض مضمونها نثرا، لسببين: أولهما أنهم قليلون أولئك الذين يصبرون على قراءة الشعر وهو في صورته المنظومة، وثانيهما: أنني سأحل لنفسي أن أسوق المعنى المنثور، مشروحا بإضافات وتعليقات؛ لأن هدفي هو أن أشرك القارئ في تلك الجلسة التي انصرفت فيها أنا ونفسي إلى قراءة تلك القصيدة للمتنبي، لنظفر منها بشيء من عظمة الروح، يخفف عنا ما يحيط بنا من صغائر الصغار، فهاك نفحة مما عشته مع نفسي في ظلال المتنبي وقصيدته التي أشرنا إلى مناسبتها:
Page inconnue