وإن سريرة الإنسان لتكشف له عن سرها في استحياء وخفاء، وهي تفعل ذلك في أحلام النوم وفي أحلام اليقظة على السواء، وإذا كانت أحلام النوم في حاجة إلى خبراء النفس ليؤولوها، فأحلام اليقظة أيسر منالا لغير الخبراء، فاليقظان الحالم حين يغترف ما يغترفه من خبرات ماضيه، كثيرا ما يرسم لنفسه بتلك الصور التي يسترجعها من مكامنها - وقد تكون تلك المكامن غائرة في الماضي حتى تصل إلى طفولته الباكرة - أقول: إنه كثيرا ما يرسم بتلك الصور مشاهد يؤلفها في لحظة حلمه تأليفا جديدا؛ لتجيء على هواه وليشبع بها حاجة طالما تمنى إشباعها في ساعتها، لكن الفرصة أفلتت منه في حينها، فجاء الآن في حلم يقظته ليشبعها بوهم أحلامه، على أن الأفراد يتفاوتون في قدراتهم على ذلك الإبداع الحالم، فمنهم من تقل قدرته في ذلك، حتى تراه لا يعدو خليطا من صور تتتابع في مخيلته وكأنها تجري بلا هدف، ولكن منهم كذلك من ترتفع قدرته حتى تبلغ به أن يقيم لنفسه تصورا مركبا متسق الأجزاء، وكأنه فنان يصور لوحة، أو أديب يحكي رواية محبوكة السرد موصولة الأطراف، وربما جاز لنا أن ندرج كتاب المؤلفات الطوباوية في هذا الفريق ولو إلى حد محدود، ثم يجيء العقل الواعي عندهم ليضع لمساته ليصبح البناء الفني أشد إحكاما وتناسقا.
ولقد أتيح لي أن أكتب عن حياتي ما يشبه القصة، تعقبت فيها جريان مشاعري من الباطن تجاه الحوادث أكثر جدا مما تعقبت الحوادث نفسها كما حدثت في الواقع الخارجي المرئي والملموس، فكان مما وقعت عليه في مخزونات الذاكرة منذ طفولة الأعوام الخمسة الأولى، فما بعدها بقليل أو كثير، صور من أحلام يقظتي رأيتني فيها محاولا أن أجد لنفسي مكانا قصيا ألوذ به فلا يراه أحد ولا يراني، وكنت في تلك المحاولات أبدل في أجزاء الصورة وطريقة تركيبها، فأقيمها على وضع معين حينا، ثم ألحظ فيها قصورا يجعلها ممكنة الانكشاف لمن أراد، فأبدل شيئا من أجزائها أو شيئا من طريقة تركيبها. وبالطبع لم أكن أخرج في ذلك كله عما قد وقع لي بالفعل في خبرتي، وهذا بديهي وواضح، إذ من أين يجيء الفنان أو الأديب المبدع إلا مما وقع له في خبرته، وكل ما في الأمر أنه يحلل ذلك الذي وقع له في الخبرة تحليلا يمكنه من نقل العناصر الجزئية من أماكنها إلى أماكن أخرى، فقد يصور إنسانا فيجعل له عينين من طراز كان رآه في وجه ما، مع أنف كان رآه في وجه آخر ... وعلى هذا النحو، كنت أقيم مخابئي في أحلام يقظتي منذ طفولتي فما بعدها، وكان بين الصور الكثيرة التي ابتدعتها لذلك، صورة جزيرة نائية في عرض المحيط، لا سيما بعد أن تلقيت الدروس الأولية في الجغرافيا، وعرفت منها ماذا يكون المحيط وماذا تكون الجزيرة.
ولم يكن المكان المختار للتخفي إلا بمثابة إعداد المسرح الذي تجري عليه الحياة بتفصيلاتها، كما يشاء لها خيال الحالم أن تكون، وهنا قد يسبق إلى الظن بأنني - أو أي حالم في يقظته - كنت أتخير بخيالي ما عساه يعود بالمتعة من مسكن وملبس وطعام وغيرها، وحقيقة الأمر غير ذلك، فقد يكون هذا وقد لا يكون، إذ ما أكثر ما كنت أتعمد بقوة خيالي أن أجعل ظروف حياتي في مخبئي معاكسة وقاسية، ألتمس فيها الطعام فلا أجد ما أطعمه، ومهما يكن من أمر في هذا الشأن، فحلم اليقظة إنما يقيمه الحالم على الصورة التي يهواها الحالم، ممتعة كانت أو مؤلمة، وربما اختار الحالم لنفسه، أن يكون وحيدا في مخبئه المختار، ولكنه كذلك ربما اختار أن يجيء بآخرين ليعيشوا على مقربة منه أو مبعدة، وهنا تراه لا يبقي أولئك الآخرين على حقائقهم التي عرفهم عليها، بل هو يشكلهم تشكيلا جديدا يرضي هواه، يرفع منهم من يرفع ويخفض من يخفض، يسعد منهم من يسعد، ويشقي منهم من يشقي، إنه هنا سيد نفسه وسيد الآخرين، لا بمعنى أنه يضع نفسه فوق رءوسهم، لا، ليس ذلك لأنه قد يختار لنفسه أن يكون خادما أو جائعا مشردا، فالمهم هو أنه يشكل نفسه ويشكل الآخرين كما تملي عليه الدوافع التي لا يعلم مصادرها إلا من خلقنا بشرا فسوانا.
وإننا لنجد في أحلام اليقظة «صورا» أكثر جدا مما نسمع «كلاما»، ومن هذه الناحية يجيء حلم اليقظة أشبه شيء بالسينما الصامتة، أو بالحكايات التي ترسم للأطفال في كتبهم صورا صامتة بغير كلمات، ومن أمثال هذه الصور ينشئ الحالم في يقظته القافية أي حياة يريد لنفسه وللآخرين.
هكذا كانت حالتي مع أحلام يقظتي، فلما تقدمت بي الأيام، تعلمت وطالعت ما طالعت مما كتبه الكاتبون، شغفت ذات مرحلة من مراحل العمر بالكتب التي يصور فيها أصحابها ما يظنونه صورة المجتمع الأمثل، ولقد أصبحنا نطلق على مثل هذا التصوير اسم «المدينة الفاضلة» (جريا على سنة أبي نصر الفارابي في ذلك) لكن ذلك المجتمع الأمثل لم يكن دائما على صورة «مدينة» - كما أسلفت القول، بل كان التصور بالمدينة هو المرحلة الأولى في تاريخ هذا النوع من التصوير الأدبي أو الفكري، إذ تدرج بعد ذلك ليكون جزيرة ثم ليكون في عصرنا الحالي كوكب الأرض مأخوذا بجملته، فإذا كنت قبل تلك القراءات قد ابتدعت لنفسي مخبأ الجزيرة لأعتزل فيه بخيالي، فلم يبق أمامي، بعد تلك القراءات لكتب الطوباويات إلا أن أعمر جزيرتي بمجتمع أرضى عنه ويرضى عني، لكنني لم أركز الانتباه مرة، لأرى إن كنت أستطيع أن أكمل صورة المجتمع الأمثل - كما أراه - أو لا أستطيع، ولعلي لم أعن بتركيز انتباهي في ذلك؛ لأني أحس في طوية نفسي أنني لا أملك القدرة على مثل ذلك الإبداع.
ولو كنت استطعت، لجعلت محور المجتمع الأمثل في جزيرتي - كما قلت فيما أسلفته - العلم الذي يطارد الخرافة حتى يمحوها محوا، والذي يسعى سعيا دءوبا نحو التفكر فيما خلق الله، ولكن لا ليكون ذلك «التفكر» شبيها بتهويم العاجز في قعوده الكسيح، بل ليكون جهدا مبذولا على النهج الذي عرفته عصور العلم الكاشف المنتج، حتى إذا ما فاض ذلك العلم من علمائه نورا على جمهور الناس، وجد هذا الجمهور نفسه وقد كسب «نظرة علمية» ينظر بها إلى ما يعترض طريقه من مشكلات الحياة اليومية الجارية، وأما المحور الثاني للمجتمع الأمثل في جزيرتي فهو مطاردة «الخوف» الكامن في صدورنا تملؤها أشباح تثير فينا الرعب والفزع، والخوف فينا هو الوجه السالب من موقفنا من دنيانا موقفا تقل فيه الثقة في أنفسنا حتى تنعدم.
الجهل والخوف هما العلتان اللتان حصنت منهما جزيرتي، وإن معنى «الجهل» ليتسع ليشمل كل موقف يغيب فيه «الحق» عن ضمائر الناس، وعقولهم وقلوبهم فيما يعرض لهم من مواقف ومسائل، وإذا كان «الحق» بمعناه المطلق غير المحدود هو من صفات الله - عز وجل - فإن الحق في صوره الجزئية المحدودة هو ما يجب على الإنسان أن يسعى نحو إدراكه والعمل بمقتضاه، وحينما انكشف للإنسان جانب من جوانب الحق، غابت أباطيل الجهالة وطارت خفافيش الوهم والخرافة، وكذلك يتسع معنى «الخوف» ليشمل كل حالات الحذر الذي يزيد على حده المعقول، بحيث يغري صاحب السلطان بالبطش خوفا على سلطانه، ويغري صاحب المنصب بأن يختلس ويرتشي خشية أن تفلت الفرصة السانحة من يديه، فيخرج من منصبه فقيرا كما دخله فقيرا، ويغري الإنسان العادي من جمهور الناس أن ينافق مواطنيه فلا يبوح لغيره بما يراه، اللهم إلا إلى خاصته المقربين، فتصبح أمورنا العامة نهبا لكل من أراد كما أراد.
وأعيد هنا ما ذكرته في مناسبة سابقة، وهو أني وقفت يوما عند قول الله تعالى في كتابه الكريم: ... فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف
فرأيت فيه أن العبادة وجبت على عباد الله، لهاتين النعمتين اللتين أنعم بهما الله على الناس، وهما أن أطعمهم من جوع، وأنه آمنهم من خوف، لكنني وسعت من معنى الجوع ليشمل كل حاجة للإنسان، من شأنها إذا ما سدت أن تبقي عليه حيا أولا، وأن يرتقي بتلك الحياة ثانيا، وكيف يرتقي الإنسان بحياته إذا هو لم يكن على علم كاف بأهدافه وبالوسائل الموصلة إلى تلك الأهداف؟ وكذلك وسعت الأمان من الخوف، ليشمل كل ضروب الخوف وكل طريق الأمان من حدوثها، فرأيت في هذين الشطرين معا وهما: إشباع الحاجات من جهة، وأمان الحياة من عوامل الخوف من جهة أخرى، أقول: إني وجدت فيهما الدعامتين اللتين لا بد منهما لأي حضارة تقام لتزدهر، وعلى الدعامة الأولى يقوم الجانب المادي من الحضارة، وعلى الجانب الثاني - جانب الأمان - ينهض الجانب الروحي الذي هو في صميم ما نطلق عليه اسم «الثقافة».
وعلى هاتين الدعامتين أقيم الحياة المثلى في جزيرتي، لو كنت ذا قدرة تعرف كيف تكمل الصورة بكل تفصيلاتها.
Page inconnue