وماذا عسى أن يكون المعنى المقصود من قولنا بأن يجيء الحفيد استمرارا لأبيه وجده؟ إننا لا نريد أن يكون صورة كربونية لأحد، بل لا نريد لفرد كائنا ما كان موقعه من تيار الحياة الدافق أن يجيء صورة لفرد سواه، وإلا فقدت الفردية صميم معناها، لكن هناك بين أجيال الأمة الواحدة - أو يجب أن يكون هناك - أقول: إن هناك ضربا من العلاقة بين ما هو ثابت وما هو «متغير» في أي تسلسل يجري به نوع من الكائنات الطبيعية أو الكائنات المصنوعة، ولك أن تزور - مثلا - معرضا لتاريخ السيارات - كيف تطورت صناعتها على مر السنين، منذ اخترعت السيارة لأول مرة، وحتى يومنا هذا، وهنالك ترى بعينيك كم يكون الفارق بعيدا بين السيارة الأولى والسيارة الأخيرة في تلك الحلقات المتتابعة، كل حلقة منها تشبه سابقتها، مع شيء من اختلاف وتظل الاختلافات تتراكم جيلا من السيارات بعد جيل، حتى تبعد مسافة التباين بين الحلقة الأولى والحلقة الأخيرة، وهذا بعينه ما يحدث - أو ما ينبغي له أن يحدث - في تسلسل الأجيال في أمة واحدة، الذي بقي في سلسلة السيارات هو الجوهر الذي يجعل الشيء سيارة وليس قطارا أو سفينة، وكذلك في شعب مصر أو في الأمة العربية أو ما شئت من جماعات ذوات التاريخ المتصلة حلقاته، تظل الأجيال يختلف لاحقها عن سابقها في كثير أو قليل، تدول عليها دول وتأتي دول، وتزول عنها حضارات وتأتي حضارات، لكن شيئا جوهريا يبقى ليجعل المصري مصريا أو العربي عربيا أو من شئت، وقد تتداخل الدوائر بعضها في بعض، كما هي الحال بالنسبة إلى المصري حين نراه متميزا وحده بصفات ومشتركا مع سائر أبناء العروبة في صفات، ولست أعني الصفات العارضة التي نراها في كل إنسان من البشر أجمعين، بل أعني تلك الصفات الرئيسة التي تدخل في أساس الهوية الذاتية والقومية، وهي نفسها الصفات التي منها يتكون الإطار العام لرؤية متميزة للكون وللإنسان والنشأة والمصير.
وبقي لنا درس ثالث نتعلمه من الحبة والنواة، حين يبدوان وكأنهما ذهبت عنهما الحياة، وإذا بالطاقة الحيوية الكامنة فيهما تنطلق بإذن الله انطلاقة تأتي بالسنابل الغنية بحباتها، كما تأتي بالعراجين المثقلة بثمارها، ولئن كان الدرسان الأول والثاني قد أخذناهما من البذرة وهي - بعد - دفينة في أرحام الأرض، فهذا الدرس الثالث إنما نتلقاه بعد أن تنشق الأرض عن نبتة تنبثق منها لتعلو ما أراد لها نوعها أن تعلو ساقا أو جذعا، وما يخرج بعد ذلك من فروع وأزهار وثمار، فها هنا نتعلم كيف ينبغي للشجرة أن تعرض نفسها للهواء وللشمس ليكتب لها نماء وازدهار وإثمار، ها هنا نتعلم كيف يتحتم على الكائن الحي أن يأخذ ويعطي، وإلا فصور لنفسك - على سبيل التفكه - أن جماعة من فروع النخلة، اجتمعت هناك عند الرأس في أعلاها، لتحرض النخلة من جذرها إلى سعفها، أن تتصدى «لغزو» الهواء وأشعة الشمس، محتجة بأن تلك العوامل الدخيلة من شأنها أن تنحرف بالنخلة عن طبيعتها، فتصبح في دنيا الشجر مسخا من الأمساخ ... فماذا أنت قائل عندئذ لتلك الجماعة التي ذهب بها إخلاصها لطبيعتها النخلية إلى حد الانتحار؟ ألا تقول لها عندئذ: إن خطأها قد بدأ معها منذ أخطأت فهم نخلتها، ففاتها بعد ذلك أن تدرك كيف لا تنعم النخلة بمجرد الوجود إلا إذا خاضت مع محيطها عملية الأخذ والعطاء، تعطي من كيانها شيئا ينفع سائر الكائنات، وتأخذ من سائر الكائنات شيئا ينفعها.
هي دروس ثلاثة، نتعلمها من الحب والنوى: الدرس الأول: هو أن نوثق الصلة بين البذرة ومهدها، والدرس الثاني: هو أن تحرص البذرة على أن تنسل أشباهها، والدرس الثالث: هو ألا حياة لنباتها إلا إذا أخذ من دنياه وأعطى.
وبعد ذلك فلننتقل بدروسنا الثلاثة إلى التاريخ وعبرته لنرى في إيجاز شديد، كيف جاءت فترات القوة من تاريخنا بمثابة تجربة تطبيقية لتلك الدروس، وفترات، القوة بالنسبة إلى المصري تتشعب شعبتين: إحداهما فرعونية تضرب في عمق الزمن السحيق، والأخرى في السلف العربي الإسلامي وفي فتوته وقوته، أما الأولى: فقد وضعت لنفسها دستورها الحضاري في أقدم أثر فني دونه التاريخ المصري؛ وأعني أبا الهول، فمنذ تلك اللحظة السحيقة في القدم، قال المصري بلغة الإزميل في يد النحات: لقد اعتزم المصري أن يحيا حياة تربط أصولها بطبائع الأشياء ثم تسلم قيادها إلى حكمة العقل، فأبو الهول جسمه أسد ورأسه إنسان، أي أن الجسم هو طبيعة في أقوى صورة له والرأس تدبير في أحكم صورة له، وهكذا أعلن المصري بإزميله منذ فجر نشأته أنه سيظل موصولا بأرحام فطرته، ثم يجمع لتلك الفطرة معارف يدركها بعقله وخبرات يتمرس بها؛ لكي يضمن لنفسه سماء يستلهمها ويستوحيها، وأرضا يسعى في فجاجها ويعيش، ولو أننا لخصنا شريط التاريخ المصري خلال آلاف السنين التي حكم فيها الفراعنة، ولو لخصنا ذلك بنظرة طائرة، لقلنا إن المصري قد بدأ بالتمكين لنفسه في أرضه وبالصبر قرونا حتى رسخت له قواعد حضارته، ثم أخذ بعد ذلك يمد بصره إلى بعيد ليعطي وليأخذ، وما أكثر ما أعطى وما أقل ما أخذ؛ لأنه لو نطق بلسان الحال آنئذ لقال بملء فمه: أنا الحضارة والحضارة أنا.
وننظر إلى أصولنا الإسلامية العربية الأولى فنرى الحياة الحضارية والثقافية كيف تتابعت خطواتها، فإذا هي تنهج النهج نفسه؛ أي أنها انصرفت إلى جذورها حقبة من زمانها، وهي الحقبة التي دار فيها النشاط الفكري كله - أو معظمه - حول علوم اللغة، وأعقبتها مذاهب الفقه في استخراج أحكام الشريعة، حتى إذا ما أمن المسلم على قاعدة قوية في استيعاب عقيدته ولغته، انتقل إلى مرحلة الجذع والفروع من حياة الشجر، وهي مرحلة التعرض للهواء ولأشعة الشمس، وها هنا تطلعت إلى كل من كانوا حولها لتأخذ منهم وتعطيهم، وبهذا التفاعل تكونت العناصر التي نطلق عليها اليوم اسم «التراث».
إنه إذا كانت مصر مع سائر أجزاء الأمة العربية، بل وسائر أرجاء الأمة الإسلامية إذا أردت المجال الأشمل، أقول: إنها إذا كانت قد أخذتها غفوة طال أمدها بعض الشيء حتى ظن أن قد جمدت عروقها وتيبست أطرافها، فما ذلك كله - في يقين كاتب هذه السطور - إلا كذلك الذي تراه العين المجردة من حبة القمح ونواة النخل، فتحسبهما حصاتين من حصوات أرض مهملة، ثم يفجؤها أن تراهما وقد بدت فيهما حياة عارمة حين يأذن لها بذلك فالق الحب والنوى.
صورة ريفية وأعماقها
وضعت رأسي على الوسادة، لكنني لم أنم، فضربت بالمغرفة في دست الذاكرة لتخرج لي بصورتي، فتى في الثالثة عشرة من عمره وقد ذهب في إجازة الصيف إلى حقل أقربائه في الريف، زائرا ومتفرجا، فأشار له لداته إلى جذع شجرة كان راقدا على الأرض بين الساقية وحافة الطريق، ليجلس منتظرا حتى يفرغوا من عملهم في حوض الذرة القريب، وكان ذلك الحوض في مرأى البصر من موضع الفتى، وكان الفتى يرتدي جلبابا نظيفا أبيض ناصع البياض، وفوق الجلباب سترة وعلى الرأس طربوش، فتردد في الجلوس خوفا من التراب يلوث له ثيابه، فالتراب هناك لم يكن من الجفاف بحيث ينفض عن الثوب فيزول، بل كان كأنه مزج بشيء من الصمغ فيلتصق حيثما وقع، لكن الفتى - مع ذلك كله - لم يجد بدا من الجلوس، فأخرج منديله وفرش به مكان جلوسه من جذع الشجرة العتيق، وشخص ببصره إلى حيث دخل لداته بين أعواد الذرة، فماذا هم صانعون هناك يا ترى؟ وهل أصاب الفهم عنهم حين سمعهم يقولون له من بعيد إنهم سيقومون بشيء من تنقية الأرض من أعلاق العشب؟ فأي عشب وأي أعلاق؟ هكذا أخذ الفتى يتخيل ويتساءل، وهو شاخص ببصره إلى حيث اختفى لداته بين أعواد الذرة، وعندئذ تمنى لو لم تكن ثيابه في نظافتها تلك وفي بياضها ذاك، وود من عمق نفسه لو أنه ارتدى ثوبا كثيابهم، ليستطيع أن يشاركهم فيما هم فاعلوه ...
وذهبت عني تلك الصورة الريفية ذات العهد البعيد، ولم أجد بي حاجة إلى أن أدس المغرفة في دست الذاكرة مرة أخرى لتخرج لي بما اتفق لها من ذكريات؛ لأن تلك الصورة جرت وراءها - من تلقاء نفسها - صورة ثانية، والثانية جرت ثالثة، وكأنها كانت بكرة خيط لم يكد يفك عنها طرف الخيط، حتى أخذت تكر مناسبة بشريط من الصور، في سرعة كدت لا ألاحقها، بعضها حديث عهد وبعضها قديم ... ومن الحقائق العلمية المعروفة عن الصورة الذهنية التي تجري بها خواطر الإنسان إذا ما ترك لها عنانها حرا من ضوابط العقل، أنها إنما تجري على أسس، إذا ما حللناها وجدنا العلاقة الخفية التي تربطها جميعا في تسلسل واحد، فاشتدت بي الرغبة تلك الليلة، في ألا أسمح للنعاس بأن يتسلل إلى رأسي، حتى أفرغ من عملية تحليلية أفحص بها تلك الصور التي جاءتني متلاحقة، بادئة من جلستي تلك على جذع الشجرة، يدور بي الخيال في لداتي من الصبية وهم يؤدون ما لست أعرف ماذا بين أعواد الذرة.
لقد كانت الصور التي أخضعتها للمقارنة والتحليل، لعلي أجد ما يربط بينها، أقول إن تلك الصور كانت في ظاهرها شديدة التباين فيما بينها، فكيف يرجى أن يجدها أعضاء أسرة واحدة؟ لكنني مع ذلك لم أيأس - وذكرت نفسي بأن اختلاف الظواهر اختلافا بعيدا لا يمنع من انخراطها جميعا تحت قانون علمي واحد، وإلا فمن ذا كان يحلم بأن سقوط تفاحة من فرعها فوق الشجرة إلى الأرض، يندرج تحت قانون واحد - هو قانون الجاذبية - مع دوران الأرض حول الشمس، ودوران القمر حول الأرض، ومد البحر وجزره ... لا، لم أيأس من أن أقع على نقطة واحدة تلتقي عندها تلك الصور، برغم ما بينها من اختلاف، فأين صورة الطلاب يتزاحمون في قاعة الدرس في انتظار أستاذ لن يجيء، من صورة عشرات الألوف من أصحاب الملايين في شعب يقال إنه فقير؟ أين صورة المخدرات يتسع مجالها حتى تصل إلى صغار الشباب من صورة مجموعات أخرى من شباب لبسوا الجلاليب وأرسلوا اللحى؟! أيكون المسلم للمسلم، والعربي للعربي أخا أم يكون عدوا لدودا؟ هل نحن في نهضة فكرية، أو الصواب هو أننا نعيش في ثقافة الندوات التلفزيونية؟ أين قصور القادرين من أكواخ العاجزين؟ أين ما يعلنه أصحاب الأقلام في الكتب والصحف مما يهمسون به بعضهم في آذان بعض؟ ... كانت هذه الأضداد وأمثالها هي الصور التي أخذت تجري بها الخواطر المنسابة، فكيف نبع هذا الخليط من أصل واحد، هو الصورة الريفية البعيدة التي اغترفتها عرضا من مخزون الذكريات؟
Page inconnue