وماذا تكون القوانين الممسكة بأجزاء الكون في كيان موحد واحد، إذا لم تكن عقلا؟ إن أهم وظيفة يؤديها العقل أينما كان أنه يرتب الأجزاء ترتيبا يوحدها ويجعل لها معنى، كما يجعل من الممكن أن تستدل النتائج من ذلك الكل المرتب، وأسوق لك مثلا صغيرا للتوضيح: افرض أنك رأيت هذه الكلمات مكتوبة: أخي كانت قابلت الساعة حين الثامنة، فماذا تفهم منها، وماذا تستدله؟ لا شيء، لكن رتبها لتكون: كانت الساعة الثامنة حين قابلت أخي، فهنا يكون الفهم ويكون الاستدلال إذا أردناه، لماذا؟ لأن مجموعة المفردات أصبحت تحمل فكرة عقلية بفضل ترتيبها على هذا النحو الجديد، وبعد ذلك فانظر - هكذا كتب عالم المركبة في مذكراته - فانظر إلى أي جزء من أجزاء الكون الكبير أو من أجزاء الكون الصغير، وسوف ترى عناصر اجتمع بعضها إلى بعض على صورة تجعلها عقلا فيفهم ويستدل منه، ولولا ذلك الترابط الذي يجعل للظواهر معناها، كما يجعل للكون في مجموعه الموحد معناه، لما استطعنا أن نستخرج قانونا علميا واحدا نسلك الظواهر على أساسه، ونعود إلى جاجارين لنسأله لو كان لا يزال حيا يسمع: ألم تر العقل مجسدا أمامك في أجزاء الكون كما ترابطت؟ فإذا كنت قد رأيته فلماذا لم تجب السائل بقولك: رأيت عقلا عظيما؟ ولو قلتها لكنت قريبا ممن يقول إنه رأى دليلا عقليا على وجود الله.
لقد كانت لمحة عبقرية من الإمام أبي حامد الغزالي، في كتابه «مشكاة الأنوار» الذي خصصه لتفسير آية النور:
الله نور السموات والأرض ...
حين فهم النور بمعنى الإدراك، والإدراك عقل، ثم أخذ يوضح كيف أن الإدراك المثبوت في أرجاء الكون يكون على صور مختلفة صورة المصباح في المشكاة، وصورة المصباح في زجاجة، وصورة الكوكب الدري، فالمصباح في المشكاة يقابل الجانب الإدراكي الذي يتمثل في إدراك السمع والبصر وسائر الحواس لما حولها، والمصباح حين تحيط به زجاجة فيجعل شعلة الضوء أكثر تحديدا وأقوى سطوعا، وأما الكوكب الدري الذي يضيء بذاته لا بمدركات تأتيه من سواه فهو ذلك الإدراك الذي يرى الحق برؤية مباشرة، وأحسب أن لو كان إمامنا الغزالي مع جاجارين في رحلة الفضاء، لفتح له عينيه لتريا وعيا إدراكيا عقليا ساريا في الكون سريان الأريج في الوردة، فإذا كان من حقه أن يسأل والوردة أمامه: أين الأريج؟ إني لا أراه، جاز له أن يقول - ودلائل العقل منشورة أمامه - أين الله؟ إني لا أراه.
الله هو الحي القيوم، أما أنه قيوم؛ فذلك لأنه سبحانه يقيم ذاته بذاته ولا يعتمد على كائن آخر خارج ذاته ليقيمه، وأما الكون المخلوق له، فهو مع كل ما يسري في أجزائه وأوصاله من نور العقل، فهو مستند في قيامه إلى إرادة الله - عز وجل - والله حي، وعن معنى الحياة حين تكون صفة من صفات الله يقول الإمام الغزالي في كتابه المقصد الأسنى: إن المقصود هو قدرة الإدراك وقدرة الإرادة، وليس يتبع صفة الحياة بالنسبة للخالق، ما يتبع تلك الصفة في مخلوقاته، من حيث ضرورة الغذاء والنمو والتكاثر، بل هي مقصورة على أنه عليم ومريد، والعلم عقل والإرادة فعل، وهاتان الصفتان قد انعكستا على كل ما هو موجود في الكون العظيم الذي أنا سابح الآن في أقطاره - هكذا كتب عالم المركبة الفضائية في مذكراته، فكل جزء بل كل جزيء بل كل جزء من جزيء في جنبات الكون، مرتب على صورة تجعله كالجملة المفيدة ذات المعنى - كما أسلفنا القول في مذكرتي هذه - وترتيبها هو نفسه جانب العقل منها، هل تذكر ما قاله عبد القاهر الجرجاني في إعجاز القرآن حين أخذ يحلل البلاغة ليقع على أسرارها؟ وإذا سر أسرارها - كما رآه الجرجاني - هو طريقة ترتيب المفردات في الجمل، فلو حاولت أن تغير في هذا الترتيب، بأن تزحزح لفظة من موضعها تقديما وتأخيرا، لفقدت الجملة البليغة شيئا من بلاغتها، لماذا؟ لأنه على دقة الترتيب تتوقف مطابقة الجملة لما يقتضيه منطق العقل، فللعقل أحكامه: ماذا يجب أن يسبق ماذا في ترتيب الكلام المعقول؟ وإذن فنحن لا نجاوز الحق في شيء، إذا نحن زعمنا ما زعمناه من سريان العقل في الكون سريان العطر في الوردة الفواحة بالشذى، وهل تذكر كذلك ما انتهى إليه فيلسوف هذا العصر في مجال العلم وفلسفته وهو برتراند رسل؟ إنه هو الآخر وقف وقفة طويلة عند المعنى في الجملة، من أي شيء ينبثق؟ وهنا نراه يعيد شيئا كالذي سبقه إليه عبد القاهر الجرجاني، ألا وهو الطريقة التي رتبت بها الكلمات، لولا أن الجرجاني كتب ما كتبه بلغة الأديب الذي تجيء ألفاظه موحية بالكيف لا بالكم، وأما برتراند رسل فقد أجرى تحليلاته على منهج العالم الرياضي الذي يستخدم رموزه على صورة توحي بالكم أكثر جدا مما تشير إلى مضمونات الألفاظ وكيفها، لكن هذا الاختلاف بين الرجلين لا يمنع أن يكونا قد اتفقا معا على سر المعنى وسر البلاغة حين يجيء ذلك المعنى في عبارة بليغة، وإني الآن - وهذا قول العالم في مركبته الفضائية - لأراني أمام كتاب عظيم تفتح لي صفحاته واحدة بعد أخرى لأقرأ، وإني لأقرأ فأجد المعاني الضخمة تنساق إلى ذهني معنى في أثر معنى، وإنها لمعان سيقت في بلاغة هي ذروة البلاغة لهذا الترتيب المحكم بين أجزاء الكون العظيم.
وأخيرا جاءت المذكرة الرابعة لعالم مركبة الفضاء، يقول فيها ما خلاصته: إنه لا بد أن يكون مصابا بالعمى والصمم مطموس القلب مفقود الذكاء، من لا يرى الربوبية في هذا الكون وفيما وراء هذا الكون، لقد كثر الكلام واختلف رجال الفكر على تعاقب العصور، في الصفة الجوهرية التي تميز الإنسان وحده دون سائر كائنات الأرض، فجعلها مفكرو اليونان القديمة، عقلا مضافا إلى سائر الصفات التي تصف الحيوان، ففي الإنسان كل ما في الحيوان ثم تميز بالنطق الذي هو إذا ما انتظمه منطق في ترتيبه واستدلالاته كان هو العقل، ثم جاء بعد ذلك من احتفظ للإنسان بالعقل، ولكنه وجد أولوية في طبيعة الإنسان لصفة أخرى هي الوجدان أنا وهي الإرادة أنا ثانيا وهي اللاعقل - أو اللاشعور - أنا ثالثا وهكذا، ولست بقدري الضعيف منافسا لأحد من هؤلاء، ولكنني في حيرة أتساءل كيف فاتتهم صفة القدرة على إدراك ما في الكون من ربوبية لتكون هي الصفة الأعمق جذورا والأدق تمييزا للإنسان؟ فها نحن أولاء نرى في عصرنا هذا تحليلا جديدا للعمليات العقلية كلها، فإذا هي تنحل إلى جزئيات في وسع آلة أن تؤديها، أو أن تؤدي كثيرا منها (كما نرى في الآلة الحاسبة)، وكذلك قد نجد ما يشبه دفعات الوجدان، وما يقترب من عزمات الإرادة في الحيوان، ودع عنك جانب اللاعقل فهو إلى صفات الحيوان أقرب، أما الذي نراه مميزا للإنسان حقا، مما يستحيل استحالة قاطعة على أن يكون للحيوان نصيب منه، فهو إدراك الربوبية في الكون ووراءه، ومن هنا كان الإنسان وحده دون سائر مخلوقات الله فوق الأرض، الذي يعبد الله، فالعبادة صفة لا يشارك الإنسان فيها كائن آخر من كائنات الدنيا، اللهم إلا الجن، إذ تقول الآية الكريمة:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وأستغفر الله أن أكون قد ضللت سواء السبيل حين خطرت لي خاطرة في هذا الصدد، وهي أنني تأملت هذه الآية الكريمة فقلت إن اسم الجن مشتق من الأصل اللغوي الذي معناه الخفاء، فنقول الجنن، ونقول جن الليل بمعنى أنه اظلم، وهكذا، فماذا يربط الجن والإنس برباط العبادة؟ قلت: ألا يكون هو الرابطة بين ما استتر، وما انكشف؟ ففي كتاب الكون العظيم قوى خافية، وامتياز الإنسان هو أنه كاشفها بعلمه شيئا فشيئا بتوفيق من الله، وعبادة الله واجبة على من حمل السر بأمر ربه، وعلى من كشف السر - ما استطاع - بأمر ربه أيضا.
وختم عالم المركبة مذكراته بعبارة شاع في كلماتها الأسف والأسى، إذ وردت على ذهنه المقارنة بين ما يستطيع به المؤمن العابد أن يعلو وأن يسمو بمقدار ما أراد الله له وللكون علوا وسموا، وبين ذلك الصغار الذي يلجأ إليه الدعاة بين أهل الأرض، حين لا يجدون ما يقولونه إلا أن الإنسان أصغر من أن ينافس ربه، كأن الخالق ومخلوقه في تنافس وسباق.
القسم الثاني
من عوامل القوة
Page inconnue