فأصبح السؤال الذي طرحه صاحبنا على نفسه، محاولا أن يجد لنفسه جوابا يقنعه، هو هذا: كيف نسلك العالم المتعدد في عناصره ومفرداته وأفراده، في وحدة توحده ليصبح وكأنه - رغم ذلك التعدد في مقوماته - كائن واحد؟ وبعد تفكير طال أمده، لجأ إلى فكرة «النظام»، لكن هذه الكلمة مضللة ببساطتها وكثرة دورانها على ألسن الناس، إذ هي في حقيقة أمرها بحاجة إلى تدبر طويل قبل تعريفها تعريفا دقيقا ومقنعا، فمتى نقول عن مجموعة من الأشياء إنها في «نظام»؟ افرض أنك نثرت على منضدة عددا من الحصى، فجاءت كما اتفق، فما الذي ينقصها لتصبح في نظام؟ أليس كل وضع لها هو أحد أوضاعها الممكنة؟ فماذا يكون الفرق بين وضع ووضع؟ الإجابة التي نقدمها هي أبسط من البساطة، وهي: كلما قلت الكلمات المطلوبة لوصف الوضع الذي أخذته أفراد المجموعة، كان فيها من النظام بقدر ما فيها من سهولة الوصف، فلو أنك أردت أن تصف بالكلمات، تلك الحصويات التي نثرتها فوق المنضدة كما اتفق، لاحتجت إلى جهد كبير، وإلى عبارة بالغة في طولها حدا بعيدا؛ لأنك مضطر أن تقيس المسافة بين حصاة وحصاة على نحو يبين حقيقة أوضاعها، لكن ضع هذه الحصويات نفسها في شكل دائرة أو مربع أو مثلث، فعندئذ يمكنك وصفها بكلمة واحدة، هي أنها دائرية، أو مربعة، أو مثلثة، وتستطيع أن تضرب لنفسك أي عدد شئت من الأمثلة، وستجد أن «النظام» في كل حالاته، هو أن الأفراد اتخذت وضعا يمكن وصفه في عبارة قصيرة، أو ربما في كلمة واحدة، فمثلا مجموعة الطلاب وهم مفرقون في فناء المدرسة، ثم حين يصطفون في صفوف، فهذه الحالة الثانية هي النظام؛ لأن وصفها يسهل ويقل عدد كلماته، فما عليك إلا أن تذكر عدد الصفوف، وعدد الطلبة في كل صف.
ونعود إلى الكثرة الهائلة التي هي قوام الكون، ما الذي جعلها توصف بالنظام، وهو وصف كفيل وحده بأن يقيم من تلك الكثرة وحدة موحدة؟ نقول: إن دليل النظام فيه، هو اندراج مجموعاته تحت قوانين العلم، فالقانون العلمي الذي يطوي تحت جناحيه أية مجموعة من الكائنات، إنما هو بمثابة وصف لسلوكها في صيغة قصيرة مركزة في عدد قليل من رموز الرياضة، أو عدد قليل من الكلمات، إذا كان ذلك القانون العلمي مسوقا في كلمات اللغة المألوفة، كما هي الحال في العلوم الإنسانية، فهذا النظام الشامل لأجزاء الكون على تعددها، والذي تدل عليه القوانين العلمية التي تضم ذلك التعدد مجموعات مجموعات، وكأنها حشود الجند قد اصطفت في صفوف، هو الذي أشبع في صاحبنا رغبته في أن يرى توحدا في خلق الله، تنعكس فيه واحدية الله وأحديته، جلت قدرته.
كان الفتى حين وضع منظاره أمام عينيه الضعيفتين لأول مرة، قد رأى الدنيا من حوله وكأنها ليست دنيا الناس والأشياء كما ألفها، إذ رأى من دقائق المرئي وتفصيلاته ما لم يكن قد رآه، فلو أنه عاش ومات وليس في صحبته إلا ذلك البصر المحدود، لذهب عن الدنيا واهما أنها كما رأتها عيناه، فإذا كان منظاره غير المتوازن في عدستيه، قد أثار سخرية الصغار، فذلك ثم قليل بالقياس إلى كسبه الضخم فيما عرفه عن دنياه، ولما دارت بالفتى أيامه وأعوامه، وخرج منه الرجل الناضج بعد أن اجتاز مرحلة الشباب، جاء ذلك الرجل بمنظار آخر أضيف إلى منظار البصر، هو منظار العقل، فهو لم يترك عقله لفطرته، بل اقتضاه أن يتكئ في كل خطوة يخطوها، على منطق الفكر الذي يؤدي به إلى نتائج صحيحة فيما يستدله من المعطيات التي بين يديه، إن العقل البشري هو الذي استخلص من عمليات التفكير مبادئ الاستدلال الصحيح وقواعده، استخلصها ليهدي بها من لا تسعفه فطرته، لكن ذلك العقل إذ يهدي إلى سواء السبيل، فهو في الوقت نفسه يهتدي بما هدى.
وما المنطق الذي نشير إليه في سياق حديثنا هذا عن الهداية والاهتداء؟ إنه في اختصار شديد تفريغ ما فكر فيه أولو السداد، تفريغه من مضموناته، لتبقى منه هياكله العظمية التي ليس فيها إلا الصور الخالية وركائزها وقوائمها، كأنها سقالات البناء بغير بناء، وعندئذ نرى في وضوح ماذا يجوز استدلاله وماذا لا يجوز؛ لأن مضمونات المعاني إذا وجدت، فهي قد تضلل الناس بسبب مشاعرهم الخاصة إزاء تلك المعاني، فمنهم من يحب هذا ومنهم من يكره ذاك، فضلا عما قد يكتنف تلك المعاني من سحاب الغموض وضبابه، ولقد شاءت المقادير لصاحبنا الذي بدأ بالمنطق التزاما منه بسلامة التفكير، ثم انتهى به أن يكون موضوع دراسته وتدريسه، يحاضر فيه ويؤلف الكتب.
ولقد رأيناه عندما اصطدم بأول قضية فكرية، وهي الفرق بين حالتين: موقف دارس الرياضة من موضوعه، وموقف قارئ الشعر وناقده، فكأنما جاءت تلك القضية في مجرى حياته بمثابة العتبة التي خطا فوقها ليصل إلى ما قد أصبح رؤية عامة لحياته الفكرية كلها؛ وذلك لأنه بعد دراسات ومقارنات بين وجهات النظر المختلفة، انتهى آخر الأمر إلى اتجاه اختاره مطمئنا بأنه اتجاه يخدم ثقافة قومه الموروثة والمجلوبة معا، فهي تصون واحدية الله - سبحانه وتعالى - وأحديته، وتقر وجود الروح ووجود المادة جوهرين مختلفين، وهي تضمن استقلالية أفراد البشر، ليكون كل فرد قائما برأسه، مسئولا عما يفعل، وأخيرا ليترك عناصر الطبيعة وظواهرها ومفرداتها وجزئياتها لتترك كل هذا في تعدده الذي هو عليه حتى يتناوله البحث العلمي بمناهجه التحليلية منتهيا إلى مجموعات القوانين التي تحكمها.
ولماذا قلنا إن التفرقة بين موقف الرياضي وهو يقيم البرهان على نظرية هندسية، تختلف عن قارئ: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، أقول: لماذا قلنا إن تلك التفرقة كانت لصاحبنا بمثابة العتبة التي أدخلته إلى حيث أصبحت له رؤية خاصة يطمئن لها؟ كان ذلك لأنها فرقت له تفرقة واضحة بين نظرتين: نظرة العالم ، ونظرة الواجد قلبه، في الحالة الأولى منطق يطرح كل عاطفة من حسابه، وفي الحالة الثانية عطف وتعاطف يطرحان منطق العقل من قائمة الحساب، في الحالة الأولى تلتقي البشرية العاقلة جميعا، الحاضرون منها والسابقون واللاحقون، على التفرقة بين ما هو صواب وما هو خطأ، وفي الحالة الثانية قد ينفرد فرد واحد دون سائر الناس بعاطفة معينة نحو شيء معين، لا يشاركه في ذلك أحد سواه، ومع ذلك فلا يحق لأحد أن يقول له: لقد أخطأت، في أحكام العقل يكون الصواب والخطأ أمرين واردين، بل إن قابلية الجملة لأن تكون صحيحة أو خاطئة هو العلامة الأولى على أنها جملة تملك جواز المرور إلى رحاب العلم، وأما في حالة الوجد، والعطف، والشعور، والانفعال، وسائر صنوف البضاعة التي يحيا بها الإنسان من داخل، فهذه كلها لا خطأ فيها، ما دام صاحبها قد كان صادقا مع نفسه، فإذا قال - صادقا - إنه مؤمن، إنه خائف، إنه عاشق، إنه كاره ... لم يعد في وسع أحد أن يكذبه.
ومنذ عرف صاحبنا كيف يفرق بين عقله، مستندا إلى منطق الفكر في استدلاله الأحكام من الشواهد والمقدمات، من جهة، ونبض القلب بالإيمان وبالحب وبنشوة الفن، من جهة أخرى، أقول: إن صاحبنا منذ عرف ذلك، بات يأخذه العجب الذي لا ينقضي، ممن يخلطون - عامدين متعمدين - بين ما هو علم، وما هو دين.
الأشياء والكلمات
شاء لي الله فطرة، وجاءت مع تلك الفطرة مصادفات الدراسة والتثقيف والتخصص العلمي، فاجتمعت هذه العوامل كلها على أن تميل بي نحو طريقة في فهم اللغة مقروءة أو مسموعة، فهما يبحث عن «المعنى» فيما يكتب وما يقال ... وكثيرا جدا ما يوقعني ذلك الإمعان في البحث عن «المعنى»، يوقعني في حرج مع الناس؛ لأن الكثرة الغالبة من هؤلاء الناس، لا ينتهجون هذا النهج في فهم المسموع والمقروء، فتتسع الفجوة بيني وبينهم كلما كان الأمر يهمني ويهمهم، ولست الآن بصدد لوم يوجه إليهم في نهجهم أو أوجهه إلى نفسي في نهجي، وإنما هو أمر واقع في حياتي الفكرية، أقرره قبل أن أمضي في الحديث، ولأضرب لذلك مثلا عابرا ورد في حديثي مع أحد معارفي، أخذ يقص علي نبأ زيارة مع طفله لحديقة الحيوان، ليذكر لي ملاحظات طريفة أبداها طفله كلما وقفا ينظران إلى حيوان في محبسه، فلما وقفا أمام النمر، سأل الطفل أباه: لماذا أحاطوا النمر بقضبان الحديد؟ فأجابه أبوه بقوله: لأنه مفترس وشرير. فأسرعت أنا بالتعليق على هذه الإجابة، قائلا: لقد أسأت هنا إلى ولدك؛ لأنك أجبت عن سؤاله بجملة ليس لها «معنى» ... فعجب الوالد لما قلته، وطلب شيئا من الإيضاح، فقلت له: الشر والخير صفتان لا يكتسبان معناهما إلا أن يكون هناك حياة خلقية محددة المعالم، فمن سلكها كان خيرا، ومن انحرف عنها كان شرا، والنمر حيوان خلقه خالقه ذا طبع مغروز في جبلته: كيف يهاجم وكيف يدافع، وماذا يأكل وما وسيلته للحصول على ما يصلح له طعاما، فهو لا يكون شريرا إذا سلك على طبعه؛ لأن الحيوان ليس ملزما بحياة خلقية معينة تشتمل على ضوابط وقيود يفرضها على نفسه ليحكم بها غرائزه: فلماذا تعلم طفلك ما ليس له معنى، وما يبث فيه الخوف والكراهية للحياة في إحدى صورها؟
سكت الرجل، لكنني كنت أدرك ما يدور في خلده، ولست ألومه، فربما كنت أنا أحق باللوم؛ لأنني قلت كلاما في غير موضعه، ولقد ذكرت هذا المثل العابر لأوضح به كيف أتعرض للحرج أحيانا، مدفوعا بفطرة فطرت عليها، وجاءت فيها عوامل لتقويها وتنميها، فلئن كان العالم اللغوي القديم الذي أخذ يتقصى كلمة «حتى» في مختلف معانيها، وبذل في ذلك البحث ما بذل من جهد حتى أوشك في فراش مرضه أن يلفظ آخر أنفاسه، فقال لمن كان يجلس إلى جواره عبارة أصبحت معروفة ومحفوظة، إذ قال: «أموت وفي نفسي شيء من حتى.» أي أنه لم يكن قد شفى من نفسه غليلها في دقة التقصي وشموله، أقول: لئن كان ذلك هو ما تمناه العالم اللغوي القديم عن قضية شغلته، فأحسب أني لو قلت شيئا عن نفسي، بالنسبة إلى قضية شغلت بها خلال الشطر الأعظم من حياتي العلمية، ولا أظنني قد وفيت من حقها في البحث عشر ما كانت تستحقه، لقلت: أموت وفي نفسي أشياء وأشياء عن العلاقة بين الأشياء والكلمات.
Page inconnue