L'Esprit des révolutions et la Révolution française
روح الثورات والثورة الفرنسية
Genres
ولا حد لسلطة المعدنين تحت ظل القانون الحاضر، فهل كان لنا عهد بمثل ذلك؟ وهل ظهر في بلادنا أمير إقطاعي أشد بغيا من هؤلاء؟ وهل وجدت نظير أولئك مواثقة أمريكية سخرت من المصلحة العامة مستعينة بما خولها القانون من الحقوق؟ إن ما في قوانيننا ونظامنا الاجتماعي وفي الصلات المتبادلة بين صناعاتنا ومهننا من الكمال يلقينا - أكثر من كل جيل سابق - في الخطر العظيم المحدق بالمجتمع في هذا الزمن، وها نحن أولاء نشاهد المظهر الأول لقوة العناصر التي سوف تغمر المجتمع إذا لم يحذر منها، ويدل الطور الذي تذعن الحكومات به لمطاليب المعدنين على انتصار أولئك الذين يقومون في وجه المجتمع. (3) لماذا تتحول بعض الحكومات الديموقراطية الحديثة بالتدريج إلى طوائف إدارية
إن ما ينشأ عن المبادئ الديموقراطية من الفوضى والمنازعات الاجتماعية يسوق بعض الحكومات إلى تحول مفاجئ قد ينتهي بجعل سلطتها اسمية فقط، ويقع هذا التحول - الذي نلخص نتائجه الآن - بتأثير بعض العوامل المهيمنة:
تتألف حكومة البلاد الديموقراطية من نواب تم اختيارهم على حسب طريقة الانتخاب العام، فيسنون القوانين ويعينون الوزراء ويسقطونهم، ولا يمضي وقت قصير على تسلم الوزراء زمام الأمور حتى يبدلوا، وبما أن من يحل محلهم من الوزراء ينتسبون إلى حزب آخر فإنهم يحكمون بمبادئ مخالفة لمبادئ سابقيهم.
والذي يظهر أول وهلة أن القرار والدوام لا يكونان في بلاد تتجاذبها مؤثرات متباينة كثيرة، ولكننا، مع هذا التذبذب، نرى أن أمر حكومة ديموقراطية مثل الحكومة الفرنسية مستقيم بعض الاستقامة، فكيف نفسر هذه الظاهرة؟ نفسرها بقولنا: إن الوزراء - وإن ظهر أنهم يحكمون - ليس بيدهم من الحكم سوى شيء يسير، وينحصر سلطانهم فيما يلقون من الخطب التي قل من يصغي إليها وفي بضعة تدابير فاسدة، وإن خلف سلطة الوزراء السطحية العاطلة من القوة والدوام، والتي هي ألعوبة بيد المشتغلين بالسياسة، سلطة خفية آخذة في النمو، أعني سلطة الإدارات، فلهذه السلطة ذات التقاليد والمراتب والمتصفة بالاستمرار قوة اعترف الوزراء بعجزهم عن مناهضتها،
1
وقد بلغ تجزؤ المسئولية في الإدارات مبلغا جعل الوزراء لا يرون أمامهم من هو ذو شخصية كبيرة، ويقوم أمام عزائمهم المؤقتة ما يعترض به عليهم من الأنظمة والعادات والأحكام، فيوجب عدم علمهم هذه الأمور قعودهم عن الإقدام على خرقها.
ولا بد من تناقص ما للحكومات الديموقراطية من السلطة، ومن نواميس التاريخ الثابتة يتضح أنه متى عظمت شوكة إحدى الطبقات، كطبقة الأشراف أو الإكليروس أو الجيش أو الشعب، لا تلبث أن تستعبد الأخرى، فعلى هذا الوجه صارت الجيوش الرومانية تعين الأباطرة وتسقطهم، وقد لقي الملوك مصاعب شديدة في مكافحة الإكليروس، وابتلع مجلس النواب السلطة أيام الثورة الفرنسية ثم حل محل الملك.
ونرى أن طائفة الموظفين ستكون دليلا جديدا على صحة هذا الناموس، وها هي ذي قد أخذت ترفع صوتها وتهدد وتعتصب بعد أن عظم أمرها، ومن ذلك اعتصاب موظفي البريد واعتصاب موظفي سكك الحكومة، وهكذا يتألف من السلطة الإدارية دولة صغيرة في وسط الدولة الكبيرة، ولا بد من استئثار السلطة الإدارية بالسلطة الحقيقية إذا استمرت على نشوئها الحاضر، فتكون نتيجة ما قمنا به من الثورات انتقال السلطة من الملوك إلى طائفة خفية مستبدة غير مسؤولة من الموظفين. •••
يستحيل اكتشاف عاقبة المعارك التي تنذرنا بالأفول، ويجب ألا نتفاءل أو نتطير، وإنما يجب أن نقول: إن الضرورة لا تلبث أن توازن الأمور، فالعالم يجد في سيره من غير أن يبالي بما نلقيه من الخطب، ولا شك في توصلنا إلى ملاءمة تقلبات البيئة المحيطة بنا عاجلا كان ذلك أو آجلا، وإنما الصعوبة كلها في الانتهاء إلى هذه الملاءمة من غير اصطدام، ثم في مقاومة أوهام الخياليين الذين خربوا العالم غير مرة حينما عجزوا عن تجديده.
ذهبت أثينة ورومة وفلورنسة وغيرها من المدن التي أضاءت التاريخ ضحية أولئك النظريين الخطرين الذين كانت أفعالهم واحدة: فوضى فحكم مطلق فانقراض.
Page inconnue