Rousseau: Une très brève introduction
روسو: مقدمة قصيرة جدا
Genres
شكل 1-1: منظر لجنيف حوالي عام 1720 بريشة روبرت جارديل.
توفيت أم روسو بعد أن أنجبته مباشرة، فتعهده أبوه بالرعاية وتحمل مسئولية تربيته. وكان يعمل في إصلاح الساعات، وكان صاحب مزاج رومانسي متقلب وسريع الغضب. وقد ألهم روسو حب الطبيعة وعشق الكتب، ولا سيما الأعمال الكلاسيكية والتاريخ. لم يحصل روسو على تعليم رسمي قط، وبدا بين الفينة والأخرى أنه يعوض هذا القصور بتذييل كتاباته بحواش مطولة أقر فيها مصادر لم يجشم أقرانه المتعلمون تعليما جيدا أنفسهم عناء الاستشهاد بها. لكن أم روسو ورثت مكتبة كبيرة، وقد شجع انبهار روسو الصغير بالأدب أبوه المثقف بطريقة تثقيفية وصفها لاحقا روسو في مؤلفه «اعترافات» بأنها مميزة لحرفيي جنيف بالمقارنة بحرفيي غيرها من البلدان. وورث من أبيه أيضا جل إخلاصه الشديد لمحل ميلاده؛ حيث «كل الناس إخوة» و«مقر السعادة والفردوس»، كما قال لاحقا. ولقد خصص روسو على الأقل اثنين من مؤلفاته الرئيسية - «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» (1758) و«رسائل من الجبل» (1764) - في المقام الأول لتناول ثقافة بلده الأم أو نظامه السياسي، وألمح إلى أن عقده الاجتماعي المشار إليه في كتابه «العقد الاجتماعي» وضع بحيث يصور المبادئ النبيلة لهذا البلد. ولم يصور روسو في أي من مؤلفاته مفهومه للإخاء السياسي بقدر أكثر ثراء مما فعل في «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» حيث استرجع الاحتفالات البهيجة التي كانت تقام في الخلاء لكتيبة عسكرية جنيفية والتي ألهبت خياله وهو صبي (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ السياسة والفنون: رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح).
لكن تعلقه بأبيه وبمحل ميلاده لم يساعده على تجاوز فقدانه لأمه. فعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره، تعرف على بارونة سويسرية تسمى السيدة دي وارين، كانت تعيش في آنسي بدوقية سافوي التي توجد غرب جنيف تماما. ولقد اشتهرت هذه السيدة وهي لم تزل في التاسعة والعشرين من عمرها ببراعتها في إقناع اللاجئين البروتستانتيين باعتناق الكاثوليكية، وقد استقبلت روسو في بيتها وقربته منها بحفاوة ضيافتها التي التقت مع حماسه الشديد. وعلى مدار السنوات العشر التالية، أولا في آنسي ومن بعدها في شامبري وأخيرا في المختلى المثالي بوادي لي شارميت، أمسى روسو عشيقها وتلميذها. وبتوجيهها وببعض الدعم من تابعيها والمتحولين للكاثوليكية على يدها، أكمل روسو تعليمه، خاصة في الفلسفة والأدب الحديث اللذين لم يكن يعرف عنهما إلا القليل من قبل، وبدأ يفكر في امتهان مهنة الكتابة. وجزئيا أيضا بإلهام من الحماس الديني للسيدة دي وارين، ارتبط روسو بالرب ومعجزات خلقه، الأمر الذي ميز معتقداته الدينية عن معتقدات معظم معاصريه من المفكرين الذين كانوا إما ملاحدة وإما متشككين، ومرتابين في حماسه المفرط؛ حيث بدا لهم أشبه بالخرافات الصوفية للكنيسة الإكليريكية التي كان غايتهم هدمها. وطيلة فترة عشقهما، ولبقية حياته كان روسو ينادي السيدة دي وارين بلقب «أمي»، نسبة إلى خصال العذوبة والبهاء والجمال التي تاق، وهو طفل يتيم الأم، للعثور عليها في جميع النساء اللائي وقع أسيرا لسحرهن لاحقا.
كانت تيريز لوفاسور التي عاش معها روسو منذ عام 1745 تقريبا وحتى وفاته، وانتهى الأمر به إلى الزواج منها، أقل جاذبية وفتنة بعض الشيء وأدنى تعليما بكثير من السيدة دي وارين. ورغم عذوبتها الفاتنة الغضة أصلا، لم تستطع أن تملك عواطفه كما فعلت السيدة دي وارين. ورغم أنه كان بحاجة إلى حنان الأم وكذا إلى الإشباع الجنسي من المرأتين الأبرز في حياته، لم يكن روسو يحتمل فكرة تكوين عائلة خاصة به حتى إنه هجر أبناءه الخمسة الذين أنجبتهم له تيريز، تاركا مصيرهم المجهول في أيدي إحدى دور الأيتام العامة. وزعم روسو لاحقا أنه كان مدقع الفقر لدرجة تحول دون إعالته أطفاله على النحو الملائم، لكن سلوكه نحوهم جعله يشعر بالأسى والخزي الشديدين. ولا شك أن ذلك جعل القراء يتساءلون كيف أمكنه أن يخط أطروحته الرائعة عن تربية الأطفال؛ «إميل»، التي يمكن أن يراها القراء في بعض جوانبها على أنها محاولة للتكفير عن أخطائه تجاه أطفاله؟! وحتى يومنا هذا، وصم هجر روسو لأطفاله الصورة العامة لشخصيته أكثر مما فعلت أي من خصاله الأخرى .
شكل 1-2: صورة ظلية لتيريز لوفاسور.
اتضح أيضا أنه كان أقل اكتراثا من المفترض باحتياجات السيدة دي وارين؛ إذ ألمت بها أزمة مالية طاحنة في خمسينيات القرن الثامن عشر حتى إنها اضطرت إلى تسجيل اسمها ضمن قوائم الفقراء الذين هم بحاجة لإعانة من الحكومة. ووافتها المنية دون أن تفر من مستنقع الفقر الذي سقطت فيه، ودون أي اتصال من روسو، في صيف عام 1762 بينما كان منشغلا بقلقه حيال تأمين نفسه إثر استنكار السلطات الدينية أو العلمانية لكتاباته في فرنسا وسويسرا. وفي أحد الشعانين، أو الثاني عشر من أبريل عام 1778، وقد دنا أجله ولم يفصله عنه سوى أسابيع قلائل، خط روسو واحدة من أفصح صفحاته على الإطلاق، ألا وهي الجولة العاشرة في كتابه «أحلام يقظة جوال منفرد»؛ حيث تأمل مرور 50 عاما على اليوم الذي التقى فيه السيدة دي وارين التي ارتبط مصيره بمصيرها، واستمتع بين ذراعيها بفترة قصيرة وعذبة من حياته كان فيها على سجيته تماما «دون قيود أو مشاعر مختلطة، واستطاع فيها الجزم حقا بأنه عاش أفضل أيام حياته» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد).
عندما شرع روسو في أواخر العشرينيات من عمره في الاستقلال بحياته، كان يحصل على أجر متواضع من اشتغاله بالتدريس الخاص في المقام الأول، وكذلك من تدوينه للموسيقى، وعزم على أن يغزو باريس بمسرحية كوميدية، بعنوان «نرسيسس»، وبشكل جديد للنوت الموسيقية. وبعد وصوله إلى باريس عام 1742 بفترة وجيزة، اتخذ روسو من ديدرو صديقا له. كان ديدرو في مثل عمر روسو، ويتمتع بنفس الخلفية والطموح. ودامت رفقتهما 16 عاما. لكن لم يكن لهما نفس المزاج في واقع الأمر؛ حيث كان ديدرو لبقا ولطيفا أكثر، بينما روسو أكثر حساسية ودأبا. لكنهما تقاسما اهتمامات مشتركة في المسرح والعلوم، ولا سيما الموسيقى. وعندما تعاون ديدرو ودالمبير معا وقاما بتحرير «الموسوعة»، كلف روسو بكتابة أغلب المقالات المتعلقة بالموضوعات الموسيقية، ومقالة عن الاقتصاد السياسي. وفي عام 1749، إثر نشر مقالته المعنونة ب «رسالة عن الأكفاء»، كابد ديدرو مأساة الاعتقال لفترة وجيزة في سجن فانسين، وكان يزوره روسو بصفة يومية تقريبا، وسعى لدى السلطات للإفراج عنه. وذات يوم وهو في طريقه إلى زيارة صديقه من مسكنه في باريس، صادف روسو إعلانا عن مسابقة لكتابة مقالة عن الفنون والعلوم وأثرهما الأخلاقي على البشرية. وكان من المقدر أن تغير هذه المسابقة مسار حياته. شارك ديدرو روسو في بداية الأمر حماسه بالأفكار المعارضة للحضارة التي تشكل «الخطاب» الأول، لكن حماسه كان مرجعه وحسب أنه أعجب بالفكرة المستفزة أن أحد المساهمين البارزين في موسوعته للفنون والعلوم ينبغي أيضا أن يتولى مهمة التشكيك فيها. وكان منه أن تبنى لاحقا بعض الأفكار الأخلاقية الراديكالية، ومنها ما كان قريب الشبه جدا بأفكار روسو نفسه، ولو أنه ظل دوما على قناعة بما أنكره روسو؛ ألا وهو أن تطور المعرفة والثقافة يفضي إلى الارتقاء بالسلوك البشري كلما نبع من الفضول الحقيقي الذي يتسق مع طبيعة الإنسان.
تخللت فترة إقامة روسو في باريس انتقاله لفترة وجيزة للبندقية وتعيينه في 1743-1744 سكرتيرا للسفير الفرنسي هناك. في شبابه، قام روسو بزيارة مدينة تورينو، وتعلم الإيطالية هناك حيث استمتع بالموسيقى الإيطالية التي سمعها كثيرا بحماس متقد لما تتسم به من انسيابية ووضوح لا يشوشهما أي زيادات في التنقيح كتلك التي تتسم بها الأنماط الموسيقية الفرنسية. في تورينو، وجد روسو الأداء الأوركسترالي الممتع المصاحب للطقوس الدينية أكثر جاذبية من الترانيم الجامدة التي عدت، تجاوزا، ضربا من الموسيقى في كنائس جنيف. وفي البندقية، تحمس روسو أيضا للموسيقى العلمانية والدارجة التي غمرت حواسه بالأنغام الشعبية المستخلصة من الشوارع والحانات بالقدر الذي غمرتها الموسيقى المسرحية. ولاحقا، بعد عودته إلى باريس، قارن بين الأوبرا الإيطالية والفرنسية، مرجحا الأولى على الأخيرة، على أساس أن اللغة الفرنسية أقل انصياعا وطواعية للتعبير الموسيقي، والأسلوب الفرنسي للموسيقى الغنائية يفتقر أصلا إلى التتابع النغمي الواضح، وتثقل كاهله بشدة الجماليات الموسيقية والإضافات المتآلفة السطحية.
شكل 1-3: صفحة العنوان المنقوشة لأوبرا «عراف القرية» (باريس، 1753).
أدى الخلاف الذي نشب في منتصف القرن الثامن عشر بين روسو ورامو، أبرز المؤلفين الموسيقيين بفرنسا والمنظر الموسيقي الأشهر في عصره، إلى الهجوم بعنف على أفكار روسو هذه الخاصة بالموسيقى. وكانت مقالة روسو المعنونة ب «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» عام 1753 - التي شنق العامة على إثرها تمثالا لروسو تعبيرا عن كراهيتهم له؛ وذلك لأن التأملات الواردة فيها عن الموسيقى الفرنسية عدت مثيرة للفتن - أحد أكثر مؤلفات روسو إشعالا للشقاق، والمؤلف الوحيد، بحسب زعم روسو نفسه في كتابه «اعترافات» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات)، الذي عرقل اندلاع ثورة سياسية في فرنسا. كان طرد الملك لقضاة برلمان باريس في نوفمبر من ذلك العام في أزمة وطنية اندلعت إثر الصراع بين الينسينيين واليسوعيين؛ قد أحدث اضطرابات عنيفة، لكنها لم ترق، بحسب زعم روسو، إلى الاضطرابات التي أشعلها مؤلفه عن الموسيقى الذي صرف انتباه العامة عن القيام بثورة ضد الدولة وتحولت إلى ثورة ضد شخص روسو. ومن المفارقة أن الأيام أثبتت أن «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» هو المؤلف الوحيد لروسو الذي حظي بالتأييد الكامل تقريبا للمفكرين الذين انشغلوا بقضية الموسيقى الإيطالية بحماس لا يقل عن حماس روسو نفسه. في عام 1752، ألف روسو أوبرا بعنوان «عراف القرية» أنتجها بأسلوب إيطالي، ولاقت إعجابا شديدا من الناس حتى إن كلا من جلوك وموتسارت قلداها وتفوقا على روسو في جودة عملهما. وعندما نشر روسو «قاموس الموسيقى» عام 1767 الذي استقاه إلى حد كبير من مقالاته المخصصة ل «الموسوعة»، كان عليه أن يستعرض أفكاره المبكرة حول الموسيقى والأوبرا بتفصيل أكبر مما سبق، بينما في عمله «مقالة عن أصل اللغات»، الذي يرجع إلى أوائل ستينيات القرن الثامن عشر، استطاع أن يربط بين تلك الأفكار وفلسفته التاريخية، ناسبا حيوية موسيقية أكبر للغة اللاتينية القديمة مقارنة بالفرنسية المعاصرة، وعازيا فضائل وحرية أكثر لمواطني الجمهوريات القديمة الذين عبروا، بحسب رأي روسو، عن مشاعر الإخاء في جمل موسيقية فضفاضة من النوع الذي لم يعد شائعا بين رعايا الحكم الملكي المعاصرين.
Page inconnue