وكل من رأى هاتين الصبيتين يعلم للحال أنهما أختان؛ لكثرة ما بينهما من المشابهة، ولم يكن الفرق بينهما سوى أن سريز في السادسة عشرة من عمرها، عفيفة فاضلة ترتزق من شغل يدها وتقنع باليسير من العيش، وأن باكارا في الثانية والعشرين من العمر، وقد هربت منذ ست سنوات من منزل أبيها مع عاشق لها كان وافر الثروة، فعاشت عيشة بذخ وإسراف، ثم تخلف لها عاشقها عن ثروة عظيمة فاستبدلته بسواه، ونهجت سبل بنات الهوى. أما أبوها، فإنه مات من الحزن لما لبسه من عار ابنته، فاكتفت برضى أمها عنها التي ذهبت إليها وعاشت معها في قصرها الشاهق، تاركة ابنتها الثانية التي سرى إلى عروقها دم أبيها الفاضل، فلم تتبع أمها وأختها في سبيل الغواية، وعاشت بعيدة منفردة عنهما عيشة طاهرة تقية، ترتزق من شغلها وتقنع بالقليل.
وكانت لا تزور أمها ولا أختها على الإطلاق، ولا تدع لهما مجالا لزيارتهما لها؛ ولذلك استغربت عندما رأت أختها داخلة عليها لما رأته من ترددها في زيارتها منذ خمسة عشر يوما، وعلمت أن في ذلك سرا شاقها استطلاعه.
فجلست باكارا بالقرب من النافذة، ودار بينهما الحديث، فقالت باكارا: ألا تزالين يا سريز تحبين ليون؟ - وما يمنعني عن حبه، وهو رجل طاهر القلب حسن الأخلاق. - لا أنكر ذلك، ولكنه عامل بسيط، فإذا تزوج بك تعيشان عيشة فقيرة طول العمر، وتكونان تعيسان. - وأنا لا أرى رأيك في ذلك؛ فعندي أن الزوجين إذا توافقا وكانا متحابين لا يكونان تعيسين، وفوق ذلك فإن صاحب المعمل سيعين ليون رئيسا عليه، وهو سيبيع أرضا له في وطنه، فمتى تم ذلك فهو ينشئ لي محلا لبيع الزهور فنصبح من أسعد الناس، ولا يقتضي هذا المشروع من النفقات أكثر من أربعة آلاف فرنك، وهذا المال ميسور لديه.
فتبسمت باكارا ابتسام احتقار، وقالت: أنت تعلمين لو سألتني أضعاف هذه القيمة لما تأخرت دقيقة عن مددك. - أشكر فضلك، وأعتذر عن عدم قبولي هبتك؛ فإن الابنة الشريفة لا تأخذ المال إلا من أبيها أو زوجها. - ولكني أختك. - لو كان لك زوج، أو لو كنت على غير ما أنت عليه لقبلت.
فعضت باكارا شفتيها من الغيظ، وقالت: وما يضرك لو أخذت مني هذا المال على أن ترديه إلي متى تيسر لك؟ - اعذريني، فإني لا أحب أن أستدين.
ثم عادت إلى شغلها، فكانت تشتغل وتحادث أختها التي جلست بالقرب من النافذة، وقد أسندت رأسها بيدها متظاهرة بعدم الاهتمام، ولكنها بالحقيقة لم تجلس إلى النافذة إلا لتتمكن من النظر إلى نافذة المنزل المجاور التي رأتها مقفلة، فقالت بتمرمر: إنه ليس في البيت.
أما سريز فإنها كانت تراقبها خفية، وقد سمعت ما قالته، فقالت لها: ألا تصدقينني يا أختي في القول، فإنك منذ زمن قريب جعلت تأتين إلي في كل يوم بعد أن كنت منقطعة تمام الانقطاع، فما السبب في ذلك؟
فارتعشت باكارا، وأجابت أختها بصوت متكلف، فقالت: إني أزورك كل يوم لأني أحبك ، وفراغي يسمح لي بزيارتك. - ألم يكن لك ذلك الفراغ سابقا، أم لم يكن لي حب في قلبك من قبل؟
فأفحمت باكارا عن الجواب، ولم تجد بدا من الإباحة فقالت: إني مصابة بداء عضال يقال له الحب، أقول ذلك لأن جميع الباريسيين يعلمون أن باكارا هي بغير قلب تهزأ من الحب والمحبين في كل حين. نعم، أحب وقد سرت إلي هذه العلة من هذه النافذة؛ ذلك أني كنت عندك منذ شهر فنظرت عيناي شابا برز كالقمر من نافذة هذا المنزل المجاور، فنفذت سهام عينه إلى فؤادي، وسمعت بأذني رنين السهم في قلبي الذي لم يعرف الغرام من قبل، فصادف ذلك الحب قلبا خاليا فتمكن.
فضحكت سريز وقالت: إني أعلم من تعنين بحبك، فهو جارنا فرديناند روسي.
Page inconnue