فتشاور رفيقاه بالنظر، ثم همس القائد بأذن الجندي وقال: إذا تركناه ينام، فلا نعود نقوى على إيقاظه.
فمال الجندي على أذنه وقال: لا بأس من رقاده ساعة، فإني أحمله نائما على كتفي.
فأصغى القائد قليلا ثم قال: إن الروسيين على مسافة ثلاثة فراسخ منا، فلينم إذا شاء ونحن نسهر بقربه.
وقد سمع الأميرالاي هذه العبارة فمد يده إلى فيليبون، وقال له: إنني أسديك أيها الصديق الحميم جميل الشكر لما تظهره نحوي من الرأفة والبر بي، وإني أهنئك لثباتك أمام البرد الهائل، فلو لم تكن أشجع مني وأصبر لكنت على ما تراني عليه الآن من الوهن وضعف العزيمة.
فأجابه القائد قائلا: إني أقاسي من البرد نفس ما تقاسيه، غير أنك مثخن بالجراح، وأنا لم ينزف مني قطرة دم، وهذا هو السبب فيما اتهمت به نفسك من الوهن وضعف العزيمة.
فشكره الأميرالاي وقال له: إصغ إلي فإني أشعر بدنو الأجل، وأحب أن أحدثك بأمر أرجو ألا يثقل عليك سماعه؛ إن لي من العمر خمسة وثلاثين عاما، وقد دخلت في سلك الجندية في السادسة عشرة من عمري، وارتقيت إلى رتبة أميرالاي ولي من العمر ثلاثون عاما، أريد بذلك أنه كان لي شيء من الشجاعة والصبر تدرجت بهما في سلم المعالي، وكدت أبلغ بهما منتهى آمالي، وهما صفتان ما نزلتا بنفس امرئ إلا رفعتاها من دركات الخمول إلى أقصى درجات التقدم، وكأني بهما الآن وقد سالتا مع دمائي النازفة من جراحي، وحل مكانهما هذا البرد القارص الذي لا يحتمل، وطالما خضت المعامع، واستهدفت لسهام الخطوب، وعرضت نفسا رخصت في حب الوطن إلى الأخطار، فإني أذكر معركة دفنت بها يوما كاملا تحت جثث القتلى، ويوما اقتحمت صفوف الأعداء في حصار ساراكوس في إسبانيا وفي صدري رصاصتان، وأخرى في واركرام ثبت على ظهر الجواد إلى نهاية القتال، وقد جرحت فخذي إحدى الحراب، وتراني الآن أشبه بالأموات جسما بغير روح، جبانا يهرب من مطاردة القوزاق، كل ذلك مما أقاسي من البرد لا مما نزف من الدماء.
فقال له القائد بلهجة المعزي: صبرا أيها الصديق، فسنغادر هذه البلاد المصقعة إلى بلاد تسطع بها أشعة الشمس، فيخرج الأسد من عرينه.
فتنهد الأميرالاي وقال: وا شدة شوقي إلى الأوطان! ووا أسفاه فإني سأموت قبل أن أرى بلادي! ثم تبسم ابتسام القانط وقال وهو يدفع جواذب النعاس القاتل: لا، لا يجب أن أنام، فإن علي أن أفتكر بامرأتي وولدي قبل ذلك، فأصغيا إلي، إنكما يا صاحبي ستعيشان بعدي، وسيطبع تذكار ودادي أثرا في قلبيكما، فأعيراني السمع فهذا آخر ما أحدثكما به. ثم مد يده إلى فيليبون، وقال: إنني تركت أيها الصديق في فرنسا وطني المحبوب امرأة في مقتبل الشباب وطفلا صغيرا، وعن قريب ستصبح تلك المرأة أرملة وذلك الطفل يتيما ... لا تقطع علي حديثي أيها الصديق، فإنني أتمنى لنفسي ما تتمناه لي من العيش لأشاهد امرأتي وولدي، ولكن قلبي يحدثني بقرب الوفاة، وأن تلك الأرملة وذلك اليتيم يحتاجان إلى نصير أمين.
فركع بستيان على ركبتيه، واستشهد السماء بيديه وهو يقول: إني سأبذل حياتي ودمي قطرة فقطرة في خدمة امرأتك وولدك إذا أصابك الدهر بمكروه.
فشكره الأميرالاي، وكان اسمه أرمان دي كركاز، ثم حول نظره إلى القائد فقال: وأنت ... أنت أيها الأخ الشفيق والصديق الصدوق ...
Page inconnue