فلم يكد يسمع الشاب صوت الأيكوسي حتى اختلج فؤاده واضطرب، ووقف مصغيا إلى حديث الأيكوسي، وقد تبين له أنه سمع هذا الصوت في موقف شديد، فقال الأيكوسي: يخال لي أني سمعتك تحدث نفسك بأحاديث جليلة الفائدة. - ربما. - ألم تقل فيما كنت تحدث به نفسك، أنك لو كان لك مال لكنت ذلك الرجل؟ - نعم، يوجد مهمة عظيمة لا يستطيع أن يتولاها في هذه المدينة الرحبة إلا من كان كثير المال. - أنا لها، فإن أبي أصبح على أهبة الموت، وسيدع لي بعد موته دخلا سنويا يزيد على المليون. - أنت؟ - نعم أنا. - إذن انظر إلى هذه المدينة التي بلغت إلى أضعاف ما بلغته بابل من العظمة. انظر إليها تر الذنوب تحتك بالفضائل، وأصوات الضحك تقترن بأنات البكاء، وأغاني الحب تمتزج بدموع اليأس، والقاتل السفاك يمشي على الأرض التي يمشي عليها الورع الشهيد، ألا تظن أن الرجل الحاذق الموسر يقدر أن يفرق بين هذه الأضداد؟
فنظر إليه الأيكوسي وقال له بصوت الهازئ: لقد أصبت فيما تقول، فإن من كان مثريا في هذه المدينة يعمل بها ما لا تقوى على عمله الأبالسة، فإن بها كثيرا من النساء تغري، وكثيرا من البنات تباع وتشرى، ولا أسهل على صاحب الثروة من أن يغري الفتاة التي تشتغل الليل والنهار لكسب درهم تنفقه على طعامها إذا أراحها من عناء هذه الأشغال بما ينفق عليها من المال، ولا أقرب إليه من إفساد ذلك الشاب الذي يعيش من عرق الكد والعمل أن يشتريه بالذهب الوضاح، والمرء ميال إلى الراحة مفطور على الكسل. هذا الذي أفهمه من هذه المهمة، وهذا ما كنت أجريه بفضل أموالي، لو لم أكن في غنى عنه بما هو موفور لدي من أسبابه.
وكان هذا الرجل مرتديا بثوب يمثل دون جوان، وهو رجل شهير بالفساد، فأتم حديثه يقول: ولا جرم إذا كنت أصرف اهتمامي إلى مثل هذه الشئون، فأني أمثل دور صاحب هذا الثوب التي لا تجهل سيرته، فلا فضيلة عندي إلا ما تعتقدونه رذيلة، ولا خيانة إلا ما تتوهمونه شرفا وصدقا، فإن الملاذ خلقت لي فوجب علي أن أتمتع بها وأسعى وراءها، وما الشرف والمروءة والفضائل غير أحاديث أوهام. قال هذا وهو يضحك ضحك الساخر، ثم أزاح البرقع عن وجهه، فرجع ذلك الشاب منزعجا إلى الوراء وصاح قائلا: أندريا!
فقال الفيكونت، وكان هو أندريا بعينه: نعم، أنا هو فهل تعرفني؟ - ربما. - إذن، أزح البرقع عن وجهك، عسى أن أعرف من أنت كما عرفت من أنا. - لم يحن الوقت بعد، وستعرفني عند العشاء. - لماذا؟ - ستعلم ذلك فيما بعد.
ثم تركه ودخل إلى قاعة الرقص، فتبعه أندريا وهو يقول: عجبا! يخال لي أني سمعت هذا الصوت ولا أذكر أين!
وبعد ذلك بهنيهة جلس جميع الحضور على المائدة، ورفعوا البراقع عن وجوههم حسب العادة المألوفة عندهم، فلم يبق منهم واقفا ومستترا غير ذلك الرجل الذي كان يحادث أندريا على الشرفة.
فاستغرب الجميع وقوفه وتستره، وقالت إحدى النساء: نحن على المائدة الآن، فاجلس وأزح البرقع. - لم يحن الوقت يا سيدتي، فإني آليت على نفسي أن لا أعلمكم بنفسي قبل أن أقص عليكم حديثا محزنا مؤثرا. - أتقص أحاديث الحزن في مثل هذا المقام؟ - ولكنه حديث غرام. - إذا كان حديثك عن الحب فلا بأس، فإن حديث الغرام شائق كيف كان. - ولكنه محزن يا سيدتي، وإني أخشى أن لا يقع منكن موقع القبول، أو يكون له عليكن تأثير.
فصرخ الجميع قائلين: لا بأس، قل.
فاسترعاهم السمع وقال: أنا صاحب هذه السيرة التي سأقصها عليكم، وقد جرت تلك الحادثة لي منذ سنين عندما كنت في ربيع شبابي ونضارة عمري، ذلك أن من الشبان من يعشق كثيرا من النساء فيتصبى الواحدة حتى تحسبه أسير غرامها، ويهيم بالثانية حتى تخاله قتيل هواها، يحن إلى هذه فتظنه وقع في شرك حبها، ويتشوق إلى تلك فلا تشك أن الوجد قد ملك قياده وصيره لها عبدا، أما أنا فإني لم أحب إلا امرأة واحدة حبا طاهرا مقدسا، وكانت أول مرة دخل فيها الحب إلى قلبي لم أكن أحبها حبا، بل أعبدها عبادة.
وكانت معرفتي بها أني رأيتها في إحدى الليالي المظلمة راكعة على عتبة باب الكنيسة تبكي وتستغفر الله عما جنته باستسلامها إلى شاب عشقته فخانها، وهربت إذ تبين لها أنه مجرم لص سفاك.
Page inconnue