كتاب الرياضة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن الترمذي ﵀ عليه.
الحمد لله رب العالمين، ولي الحمد وأهله. أما بعد، فإن الله تعالى خلق الآدميين لخدمته، وخلق ما سواهم سخرة لهم؛ فقال
تعالى في تنزيله: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا)، ثم قال: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه)، فجعل في كل مسخر ما يحتاج إليه هؤلاء الخدم، وما يرجع نفعه إليهم، وهم كلهم قانتون، يؤدون السخرة إلى هؤلاء الخدم؛ فأظهر خلقهم من القدرة بقوله (كن)، وأظهر خلق هؤلاء الخدم من المحبة بيده؛ فعجن طينته، وصوره بيده؛ ثم جعله ذا أجزاء، كل جزء منه يعمل عملًا غير عمل الآخر، ثم نفخ فيه من روحه. وهو روح الحياة، ونفست الطينة، فبدت النفس واستقرت. وتنفست في الجوف: فجعل في ظاهره
1 / 29
يدين ذواتي أصابع ومفاصل. يبسط ويقبض؛ ورجلين موشجتين في الوركين، ذواتي ساقين؛ وقدمين يختلف بهما في قطع المسافات؛ وعينين بهما يشتمل على الألوان لذة وجهدًا؛ وأذنين بهما يتناول الأصوات لذة وخبرا؛ ولسانا يديره في قبو حنكة إلى شفتيه، ليتلفظ بنغماته من صدره إلى شفتيه، مؤدية تلك النغمات معاني الأمور التي يعقل، وتتردد في صدره صور تلك الأمور، فتصير تلك الصور حروفًا مؤلفة، فيبرزها بصوت يسمع به آذان المستمعين له، حتى تصير تلك الأسماع قمعًا لهذا الصوت، فيتحول ما في صدر هذا من علم الأمور، إلى صدر المستمع، من طريق فم هذا إلى أذن الآخر، فيكون قد أفرغ ما في صدره من صور الأمور ومعانيها بالحروف والصوت، إلى صدر صاحبه. وجعل له منخرين للنفس والمشام، ومعدة صيرها دار رزقه؛ وباب هذه الدار متصل بالقبو، وبابين في أسفل جسده، أحدهما
مخرج للذرية، والآخر مخرج الفضول والأذى؛ وذلك أن العدو لما غره حتى أكل من حتى أكل الشجرة، وجد السبيل إلى معدته بتلك الأكلة التي أطاعه فيها، فجعله مستقره، فنتن ما في المعدة لرجاسة العدو؛ فمن هاهنا وجب علينا غسل الأطراف مما يظهر من المعدة من الغائط والبول وريحهما؛ ثم وضع في جوفه بضعة جوفاء سماها قلبًا وفؤادًا، فما بطن منها فهو القلب، وما ظهر منها فهو فؤاد؛ وإنما سمي قلبًا لأنه يتقلب بتقليب الله ﷿ إياه، لأنه بين إصبعين من أصابع الرحمن ﷿، يقلبه بمشيئاته فيه؛ وسمي فؤادًا لأنه غشاء لتلك
1 / 30
البضعة الباطنة، ومنه يقال: هذا خبز فئيد، وخبز ملة، لأنها خبزة قد ظاهرها أخرى؛ وجعل له على هذا الفؤاد عينين وأذنين، وبابًا في الصدر، وصير القلب بيتًا له عينان وأذنان، وبابًا في الصدر؛ وجعل الصدر ساحة هذا البيت؛ وجعل إلى جانبه بضعة أخرى سماها كبدا، وجعلها مجمع عروق هذا الجسد كله، ومنه ينقسم ما يخرج من المعدة من قوة الطعام الذي طحنته المعدة، حتى صار دما طريًا، فجرى في جميع العروق؛ وألصق بأسفله بضعة أخرى، فسماها طحالًا، وإلى جانب الأخرى سماها رئة، ومسكن النفس فيها، ومنها تتنفس النفس لحياتها التي فيها، فتخرج الأنفاس إلى الفم وبالمنخرين؛ ثم وضع بين القلب والرئة وعاء رقيقًا، فيه ريح هفافة، تجري في العروق مجرى الدم، وأصل تلك الريح من باب النار، مخلوقة من نار جهنم، لم يصل إليها سلطان الله وغضبه، فتسود كما اسودت جهنم، بل هي نار مضيئة حفت النار بها؛ موضوع في هذه النار الفرح والزينة، وسماها شهوة؛ وإنما سميت شهوة لاهتشاش النفس إليها، يقال، أهتشت واشتهت؛ الاهتشاش في الظاهر، والاشتهاء في الباطن، وكلاهما في الحروف عددها سواء، إلا أنه قدم الهاء هاهنا وأخر هناك، ليكون فرقًا بين النوعين. فالنفس إذا هبت تلك الريح من ذلك الوعاء لعارض ذكر شيء، أحست النفس بذلك، فالتهبت نار
الحرارة بتلك الريح، والنفس مسكنها في الرئة، ثم هي منفشة في جميع الجسد، والروح مسكنه في الرأس إلى أصل الأذنين، ومعقلها في الوتين، وهي منفشة في جميع الجسد، والروح فيه حياة، والنفس فيها حياة، فهما يعملان في جميع الجسد لحياتهما،
1 / 31
حتى تتحرك الجوارح في جميع الجسد في الظاهر والباطن بالحياتين اللتين وضعتا فيهما، والروح نور فيه روح الحياة، والنفس ريح كدرة جنسها أرضية روح الحياة. ووضع الرحمة في الكبد، الرأفة في الطحال، والمكر في الكليتين، وعلم الأشياء في الصدر، وجعل مستقر الذهن في الصدر، ثم هو متفش في البدن كله، والذهن يقبل العلم جملة، وقرينه الحفظ، وجعل في ناصيته الفهم، وجعل له طريقًا إلى عين الفؤاد، فالحفظ مستودع العلم، فإذا أحتاج الفؤاد إلى شيء لحظ إلى الحفظ، فأبرز له علم ذلك الشيء المستودع الذي قد تعلمه. وجعل ماء الذرية في صلبه، فمنه ماء أخذ عليه الميثاق يوم أخرجهم من الظهور، فعرضهم على آدم ﷺ، ومنه ماء لم يؤخذ عليه الميثاق، وجعل مجراه من صلبه إلى نفسه. ووضع الفرح في قلبه، وجعل مجراه إلى صلبه، لتتأدى حرارة ذلك الفرح إلى الصلب، فتذيب ماء الصلب، فبقوة هذا الفرح يخرج ذلك الماء، فيدفق به، وإنما صار دفقًا لقوة الفرح، وهبوب رياحها، وضيق المخرج، فإذا افتقد الإنسان الفرح عجز عن الدفق. فهذه لعامة الآدميين. ثم خص المؤمنين بنور العقل، فجعل مسكنه في الدماغ، وجعل له بابًا من دماغه إلى صدره، ليشرق شعاعه بين عيني الفؤاد، ليدبر الفؤاد بذلك النور الأمور، فيميز بين الأمور ما حسن منها وما قبح، ووضع نور التوحيد في باطن هذه البضعة، وهي القلب، وفيه نور الحياة فحيي القلب بالله ﵎، وفتح عيني الفؤاد، فأشرق نور التوحيد إلى الصدر من باب القلب، فأبصر عينا الفؤاد بنور الحياة التي فيهما نور التوحيد، فوحد الله ﷿، وعرفه، وميز العقل تلك العلوم التي
أعطى الذهن في صدره جملة، فيصيرها شعبًا شعبًا، فصارت معرفة حين انشعبت، فهذا عمل العقل في الصدر.
1 / 32
والهوي أصله من نفس النار، فإذا خرج ذلك النفس من النار، احتمل من ذلك الحفوف من الشهوات بباب النار فيها الزينة والأفراح، فأورد على النفس. فإذا نالت النفس ذلك الفرح والزينة، هاجت بما فيها من الفرح والزينة الموضوعة إلى جانبها في ذلك الوعاء، وهي ريح حارة، فدبت في العروق، فامتلأت العروق منها في أسرع من الطرفة، والعروق مشتملة على جميع الجسد، من القرن إلى القدم، فإذا دبت في العروق، ولذت النفس دبيبها وانفشاشها في الجسد، وامتلأت النفس لذة، وهشت إلى ذلك الشيء، فتلك شهوتها ولذتها، فإذا تمكنت النفس بتلك الشهوة واللذة من جميع الجسد، فصارت تلك الشهوة نهمة على القلب، والنهمة غلبة الشهوة وغليانها، فإذا غلت الشهوة غلبت على القلب، فيصير القلب منهومًا، وهو أن تقهر القلب حتى تمتهنه، فتستعمله بذلك، فيصير سلطان الهوى والشهوة مع النفس ومسكنها في البطن، وسلطان المعرفة والعقل والعلم والفهم والحفظ والذهن في الصدر، وجعل المعرفة في القلب، والفهم في الفؤاد، والعقل في الدماغ، والحفظ قرينة، وجعل للشهوة بابا من مستقره إلى الصدر، يفور دخان تلك الشهوات التي جاء بها الهوى، حتى يتأدي ذلك إلى الصدر، فيحفظ، فيحيط بفؤاده، وتبقى عينا الفؤاد في ذلك الدخان، وذلك الدخان اسمه الحمق، قد حال بين عيني الفؤاد وبين النظر إلى نور العقل ماذا يدبر له؛ وكذلك الغضب إذا فار، فهو كالغيم يقف بين عيني الفؤاد حتى يصير العقل منكمنا، لأن العقل مستقره في الدماغ، وشعاعه مشرق إلى الصدر، فإذا خرج ذلك الغيم (غيم الغضب) من الرئة إلى الصدر، امتلأ الصدر منه، وبقيت عينا الفؤاد في ذلك الغيم،
1 / 33
لأن شعاع العقل قد انقطع، وحال الغيم بينه وبين الفؤاد، فصار الفؤاد من الكافر في ظلمة الكفر، وهي
الغلفة التي ذكرها الله تعالى في التنزيل: (وقالوا قلوبنا غلف) وقال تعالى: (بل قلوبهم في غمرة من هذا). وصار الفؤاد من المؤمن في دخان الشهوات وغيوم الكبر، فذلك غفلة.
ومن الكبر أصل الغضب والكبر في النفس لما أحست بما ولي الله تعالى من خلقها، فيبقى ذلك الكبر فيها. فهذه صفة ظاهر الآدمي وباطنه. فوقعت الجباية من الله تعالى والخبرة على هذا الموحد، من كل ألف واحد، وبقى تسع مئة وتسعة وتسعون، رفع البال عنهم، وجعل باله لواحد من كل ألف من الآدميين، فقسم الحظوظ يوم المقادير بالبال، ورفض من لم يبال به، فخابوا عن الحظوظ، فلما إستخرجهم ذرية من الأصلاب استنطقهم، فاعترف له أهل الحظوظ من باله، طوعًا لقوله ﷿ حين قال: (ألست بربكم). واعترف من خاب عن الحظوظ، ومن لم ينل من باله بقوله: (بلى) كرهًا؛ فذلك قوله ﷿: (وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا)، فيصيرهم فريقين: عن اليمين وعن الشمال، ثم قال تعالى: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، أي لا أبالي بمغفرتي أن تنالهم؛ وهؤلاء في النار ولا أبالي، أي ولا أبالي بهؤلاء إلى أين يصيرون؛ ثم ردهم إلى صلب آدم ﵇، فيخرجهم في أيام الدنيا للأعمال وإقامة الحجة، فكل من وقعت عليه جبايته واختياره له، وصبغ قلبه، أي غمس قلبه في ماء الرحمة حتى طهر به، وهو قوله ﷿ (صبغه الله ومن أحسن من الله صبغة) ثم أحياه بنور الحياة، وقد كان قبل ذلك بضعة من لحم جوفاء، فلما أحياه بنور الحياة وفتح عينيه اللتين على الفؤاد، ثم هداه بنوره، وهو
1 / 34
نور التوحيد ونور العقل؛ فلما أشرق في صدره، واستقر الفؤاد وهو القلب إلى ذلك النور، فعرف ربه ﷿ بذلك، فذلك قوله ﷿: (أو من كان ميتًا فأحييناه)، أي بنور الحياة، ثم قال تعالى: (وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس)، أي نور التوحيد يمشي من ذلك النور في الناس، ثم
أوله قلبه بذلك النور إليه، حتى اطمأنت النفس وسكنت إلى أنه وحده لا إله غيره، فعندها نطق اللسان عن طمأنينة النفس وموافقتها للقلب بلا إله إلا الله، وذلك قوله ﷿: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) وهو قوله ﷿: (يا أيتها النفس المطمئنة)، فلما اطمأنت النفس حين رأت تلك الزينة التي زين العقل بين عيني الفؤاد توحيد الرب ﷿، وجدت حلاوة الله تعالى، التي وردت على القلب مع نور التوحيد، فلما رأت تلك الزينة وجدت حلاوة الحب الذي في نور التوحيد، فعندها اطمأنت وسكنت إلى توحيده، فشهدت بلا إله إلا الله، وذلك قوله ﷿: (حبب إليكم الإيمان وزينة في قلوبكم). فلما نالت تلك النفس الزينة كرهت الكفر والفسوق والعصيان، فالمؤمن إذا أذنب فإنما يعصى بالشهوة والنهمة وهو كاره للفسوق والعصيان، ومع الكراهية يفسق ويعصي بغفلة، ولا يقصد الفسق والعصيان كما قصد إبليس، فتلك الكراهية موجودة فيه، والشهوة غالبة عليه، والكراهية من أجل التوحيد الذي فيه، إلا أن القلب مقهور بما فيه، والعقل منكمن، والصدر ممتلئ من دخان تلك الشهوة، والنفس بما أوردت قاهرة للقلب، لأن العقل قد غاب، والمعرفة قد انفردت، والذهن قد تبدد، والحفظ مع العقل منكمن في الدماغ، والنفس قد قامت على ذنبها، بما وجدت من القوة في تلك الشهوة، والعدو يزين ويرجى ويمني المغفرة، ويدل على التوبة، حتى يجرئه قلبًا ويشجعه.
1 / 35
فلما كان العبد بهذه الصفة، أمر بالمجاهدة، فقال ﷿: (وجاهدوا في الله حق جهاده). ثم لما علم المجاهدة تشتد وتصلب على العباد، أخبرهم عن منته وحسن صنيعه، وبره ولطفه بهم فقال ﷿: (وهو اجتباكم، وما جعل عليكم في الدين من حرج)، يعلمهم أنه لو لم يجتبهم، ولم يوقع اختياره عليهم، وما كانوا ينالون نور الرحمة ونور المعرفة، وكانوا أسارى في يد العدو، وحطبًا للنار، فأخبرهم أنه
اجتباهم، ثم قال ﷿: (ما جعل عليكم في الدين من حرج). يعلمهم أنى حين ألزمت جوارحكم أمري ونهي، لم أضيق عليكم حتى تحرجوا، بل أبحت لكم، ووسعت عليكم مالا يضيق عليكم، حتى تفزعوا إلى الحرام، ولم أحملكم فرائضي حملًا تعجزون عنه، ووسعت لكم في كل فريضة ما لم يضيق عليكم، وكل شهوة منعتكم عنها، أطلقت لكم من بعضها، فوضعت على كل جارحة من هذه السبع حدًا، ووكلتكم بخفظها. والجوارح السبع هي اللسان، والسمع، والبصر، واليدان، والرجلان، والبطن، والفرج، وجعلت مستقر هذه الشهوة في البطن، فإن اشتهى الكلام خرج سلطان تلك الشهوة إلى الصدور إلى القلب، والقلب أمير على هذه الجوارح، فإذا غلب سلطان الشهوة وحلاوتها ولذتها على القلب،
1 / 36
وانكمن سلطان المعرفة وحلاوتها ولذتها في القلب، وسلطان العقل وزينته وبهجته في الدماغ، تحير الذهن عن التدبير، وخمد نور العلم في الصدر، فظهرت المعصية على الجوارح؛ وإذا غلب سلطان المعرفة ولذتها وحلاوتها، وسلطان العقل وزينته وبهجته، احتد الذهن، واستنار العلم، وانتشر وأشرق، وقوى القلب، فقام منتصبًا متوجهًا بعين فؤاده إلى الله تعالى، وجاء المدد والعطاء، وظهرت العزيمة على ترك المعصية العارضة فإذا ظهرت العزيمة وجد القلب قوة على زجر النفس، ورفض ما عزمت عليه، فانقمعت النفس وذابت، وسكن غليان الشهوة، وماتت اللذة، وسكنت العروق، ودست صورة تلك المعصية عن الصدر، وتخلص العبد، فأمر بالمجاهدة إذا عرض ذكر شيء على الصدر، وقد حرم الله ﷿ ذلك الشيء عليه، وذلك أنه لما عرض الذكر اهتاجت النفس لما هاجها الهوى، وأورد العدو زينة التي وضعت بين يديه، وجعل له السبيل إلى صدره ليزين، وتلك الزينة هي الفرح الذي وصفنا أنه بباب النار، فأصله الفرح، وحشوه الزينة، وكلاهما من النار خلقا، سميت شهوة لإهتشاش النفس، وهو قول رسول الله صلى الله علية
وسلم: (حفت النار بالشهوات)، ولذلك قال عمر ﵁ في خطبته: (إن العدو مع الدنيا، وارصاده مع الهوى، ومكره في الشهوات). فإنما يصير العدو إلى العباد مع أفراح الدنيا وزينتها، ويرصد الهوى الذي يهيج من الآدمي، ويمكر به إذا اشتهت النفس؛
1 / 37
وإنما صار مكرًا لأن الشهوات بعضها مطلق، وبعضها محظور عليه، فيمكر به في المطلق له، ليجره إلى المحظور عليه، لأن النفس بلهاء، فإذا مرت في الحلال، فتمكنت منه، سلست في الحرام، إذا لم يكن في القلب ما يقيد النفس عن الحرام، ويقويها حتى لا تسلس، وقوة القلب من النور، فإذا جاهد العبد، فمن جهاده أن يروض نفسه فيؤدبها.
وأدب النفس أن يمنعها الحلال، حتى لا تطمع في الحرام، وذلك أن النفس قد اعتادت لذة التكلم بالكلام، فإذا لم يلزمها الصمت فيما لابد منه، حتى تعتاد السكوت عن الكلام فيما لابد منه، فقد ماتت شهوة الكلام، فاستراح وقوى على الصدق، فلا يتكلم إلا بحق، فصار سكوته عبادة، وكلامه عبادة، لأنه إن نطق نطق بحق، وأن سكت سكت بحق، لأنه سكت مخافة الوبال. وكذلك شهوة النظر، فاعتاد النفس لذة رمي البصر حيثما وقع، من غير مبالاة، فإذا لم يلزمها الخفض عما لابد منه، وهو أن يكون خاشع الطرف، خافض النظر، اعتادت نفسه رمي البصر، لتدرك الأشياء، فإذا أرى الحرام لم يملك بصره، لأن شهوة النظر قد أخذت بعينه فملكته، فإذا ألزم عينه الغض عن النظر، ورمى بها إلى الأرض إذا مشى وقام وقعد، ماتت شهوة النظر إلى الأشياء، واعتادت غض البصر وحفظه، فإذا نظر نظر بحق، وإذا غض غض بحق، وصار نظره عبادة، وغضه عبادة. وكذلك شهوة السمع واليدين والرجلين والبطن والفرج. فالمجاهدة هاهنا إذا عزم العبد على مجاهدة النفس، ألزم كل جارحة من هذه الجوارح السبع الفطام عن عملها حلالًا كان أو حرامًا، حتى تموت تلك الشهوة، لأن تلك الشهوة هي شهوة
واحدة، أحل له بعضها، وحرم عليه بعضها، بلوى من الله تعالى لعباده، وتدبيرا لهم، فما علم أنه يصلح لهم ويصلحون عليه أطلقه لهم؛ وما علم أنه يفسدهم وأنهم يفسدون عليه حظره عليهم، فالمطلق حلال، والمحظور حرام، وذلك مثل الكلام، فهي شهوة واحدة، بعضها حلال، وبعضها حرام، فلاستماع إلى الأصوات بعضه حلال، وبعضه حرام؛ والنظر إلى الأشياء بعضه حلال، وبعضه حرام؛ والأخذ والإعطاء بعضه حلال، وبعضه حرام؛ وكذلك المشي، والبطن والفرج كذلك، وإنما هي شهوة واحدة لكل جارحة،
1 / 38
أحل للعبد إمضاء تلك الشهوة، وقضاء تلك النهمة، بصفة وهيئة؛ وحرم عليه بصفة أخرى وهيئة، كالمرأة يطؤها بالنكاح فتحل، ويطؤها بغير نكاح فتحرم عليه؛ وكذلك كل شيء خرج من هذه الجوارح من الحركات، وقد أخذ عليه يوم الميثاق ألا يعمل جارحة إلا بما أطلق له في التنزيل، وعلى ألسنة الرسل، وقبل العبد ذلك يومئذ، فأوثقه بما ضمن، فاقتضاه الوفاء، ولذلك سمي بالعجمية (بنده) لأنه أوثق بما قيل من الطاعة في الأمر والنهي، فإذا وفى له بتلك البندكية، وفى له بالعهد، وهي الجنة، فقام العبد بمجاهدة النفس عندما يعرض ذكر شهوة محرمة عليه، فعلى العبد أن يجاهدها بقلبه، بما فيه من المعرفة، وتعلقه بالمواعظ التي وعظه الله ﷿، من الوعد والوعيد، وذكر الموت والحساب والقبر والقيامة، حتى يزجر النفس والعدو، فإذا كان العبد لم يرض نفسه قبل ذلك ولم يؤدبها، ولم يعودها رفض ما ذكرنا بدءًا، من رفض هذه الشهوة المطلقة له حتى تذل وتسكن، ويلزمها خوف الله ﷿ وخشيته، لم يملك نفسه عند ذكر ما يعرض لها، ولم يقدر على تسكينها، بل هي تغلب القلب بما فيها من سلطان الفرح والزينة والشهوة، فيصير القلب أسيرًا للنفس، بعد أن كان أميرًا على النفس، لأن إمارة القلب بالمعرفة، وبما أعطى من هذه الأنوار التي وصفنا، من نور العقل، ونور الحفظ، ونور الفهم، ونور العلم، ونور السكينة،
فأجمل للعبد في الأمر، فقيل له جاهد في الله ﷿ حق جهاده، فمن لم يرض نفسه قبل ذلك، فإذا جاهد فربما غلب وربما غلب، فلذلك يوجد العبد مرة طائعًا ومرة عاصيًا في شهوة واحدة،
1 / 39
فأما الأكياس فراضوا أنفسهم، فأدبوها، فامتنعوا من الحلال المطلق لهم، حتى هدأت جوارحهم، وإنما هدأت وسكنت لسكون غليان شهوة النفس، فإذا استعملوها كان القلب أميرًا قاهرًا، فاستعمل تلك الشهوة بما يريه العقل، ويزين له، ويحد له، فيؤدبه بأدب الله ﷿ الذي أدبه، فهناك يملك نفسه أن تقف على الحلال فلا تجاوزه، فهو ينطق، فإذا بلغ في منطقة مكانًا يصير ذلك الكلام عليه غيبة أو كذبًا، ملك نفسه، فامتنع وتورع، لأن شهوة الكلام قد ماتت منه، فهو يتكلم لله غز وجل وابتغاء مرضاته، وكذلك النظر؛ إذا كان قد راض نفسه حتى ماتت منه شهوة النظر، ملك نفسه عند الحرام؛ وملك السمع، وسائر الجوارح السبع. روي أن سهل بن علي المروزي رحمه الله تعالى، كان إذا مشى في السوق حشا أذنيه بالقطن، ورمى ببصره إلى الأرض، وكان يقول لامرأة أخيه وهي في الدار معه: استتري مني، وكان ذلك دأبه زمانا، ثم ترك ذلك ورمى بالقطن، ورفع بصره إلى الناس، وقال لامرأة أخيه: كوني كيف شئت، فذلك منه حيث وجد شهوته ميتة. وروي عن عامر بن عبد قيس رحمه الله تعالى أنه قال: ما أبالي امرأة لقيت أو حائطًا.
1 / 40
وروي عن بعض التابعين أنه قال: ألزمت نفسي الصمت بحصاة جعلتها في فمي، وكان إذا أكل أخرجها، وإذا فرغ وضعها في فيه، وكذلك إذا صلى، فبقى في ذلك أربعين سنة، حتى لزمت نفسه الصمت، فرمى بها، وروى لنا عن رسول الله ﷺ أنه مر برجل يعبث في صلاته بلحيته، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه؛ وإنما يخشع القلب بما يتجلى له من عظمة الله ﷿ وجلاله، ويهيج من النفس الخوف والخشية والحياء منه، فيوجل القلب، فإذا خافت النفس وخشيت، فوجل القلب واستحيا،
سكنت الجوارح، وملك القلب جوارحه، ووقف بها على الحدود. فإذا ترك الرياضة أحاطت بالقلب فورات الشهوات، وحلاوتها وزينتها كالدخان والغيم، فلم يستبن إشراق الأنوار، وانكمنت الأنوار بما فيها من السرور والبهجة والزينة والحلاوة واللذة، فلم يتجل في الصدر نور العظمة والسلطان، وافتقد صاحبه الخوف والخشية والحياء أن يعملوا على القلب والنفس، فأصابت النفس نهمتها بنما زين لها العدو، ومناها الغرور والأماني الكاذبة، يعدها سعة المغفرة، ووفارة الرحمة، وفيض العفو والتجاوز، ويحدث نفسه بالتوبة، ليتجرأ على الذنب
1 / 41
والأكياس بحثوا عن أصل هذه الأمور، ووجدوه على ما ذكرنا، فخلصوا إلى الرياضة، فقالوا: أنا لما وجدنا النفس تأشر وتبطر، وتستمر على الفرح، حتى تصير بحال من امتلائها بالفرح بالأشياء، كالسكران الذي لا يفيق من سكره، فكل شيء نالت من الدنيا من حال أو عرض أو حال، مطلق لها أو غير مطلق فرحت، فذلك الفرح سم يجري في العروق حتى يشتمل على الجسد، يمتلئ القلب من حلاوة ذلك الفرح، ويصير أشرًا بطرًا، لا يذكر موتًا ولا قيامة ولا حسابًا، ولا شيئًا من أهوال القيامة، فذلك فرح يميت القلب، وتستمر النفس عليه وتطيب، وتقوى الشهوة وتحتد، فهذا فرح مذموم، ذمه الله ﷿ في تنزيله، فقال: (وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع). وقال تعالى: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين). ودل على الفرح المحمود، وندب إليه فقال ﷿: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون). فإذا فرح العبد بما فضله الله ﷿ على سائر العبيد، فمن عليه بالمعرفة والعقل، فاستنار قلبه، وطابت نفسه، فتعاونا على الشكر والحمد، فاستوجب المزيد، فقال ﷿: (لئن شكرتم لأزيدنكم)، ففرحه بذلك يجلب عليه المزيد، فهذا الفرح ترياق، وذلك الفرح سم، فمن شرب الترياق لم يضره السم، وإنما صار سمًا لأنه
زينة وفرح من جنس النار وباب النار، وهو حظ
1 / 42
إبليس، فجاء به الهوى مع العدو إلى هذا الآدمي بهذه الأشياء الدنياوية ليبتليه، ليفرح بهذا أو يستعمله معرضًا لاهيًا، أو يقبل على ربه ﷿ وداره التي مهدت له، فقد قال ﷿ في تنزيله: (زين للناس حب الشهوات)، ثم ذكر النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث؛ ثم قال تعالى: (ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب). فإذا فرح العبد بهذا المزين، الذي قد خلص حب تلك الزينة وشهوتها إلى قلبه، وسماه الفرح، فاته حسن المآب، فقد وصف الله ﷿ حسن المآب، فقال: (قل أؤنبؤكم بخير من ذلكم)، ثم بين لمن هي، فقال: (للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار). فوصفها بما فيها، ثم بين المتقين من هم، فقال ﷿: (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار). وقال ﷿: (لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله). فمن شغله الفرح بهذه الزينة، وملك قلبه حب هذه الشهوات، فقد ألهاه عن ذكر لله ﷿، وفاته التقوى والصبر والصدق والقنوت، وحجزه عن الإنفاق، ونومه عن الاستغفار بالأسحار. فالرائضون راضوا أنفسهم وأدبوها، بمنعها الشهوات التي أطلقت لهم، فلم يمكنوها من تلك الشهوات إلا مالا بد منه، كهيئة المضطر، حتى ذبلت النفس، وطفئت حرارة تلك الشهوات، ثم زادوها منعًا حتى ذبلت واسترخت، فكلما منعوها شهوة آتاهم الله على منعها نورًا في القلب، فقوى القلب، وضعفت النفس، وحيى القلب بالله جل ثناؤه، وماتت النفس عن الشهوات، حتى امتلأ القلب من الأنوار، ودخلت النفس من الشهوات، فأشرق الصدر بتلك الأنوار، فجلب على النفس خوفًا وخشية وحياء، واستولى على النفس وقهرها، فالولايات على النفوس من القلوب بالإمرة التي أعطيت القلوب، بما فيها من المعرفة؛ فعلى حسب تأديب القلب النفس ينال القلب ولاية وسلطانًا، فإذا
أشرقت الأنوار من القلب في الصدر، وخلا الصدر من دخان الشهوات،
1 / 43
أبرز القلب سلطانه، فانقادت النفس وسلست، وألقت بيدها سلمًا، وانكمن العدو واختشى. فمن يرض نفسه على ما وصفنا، وأعطاها مناها من الحلال، وانكمش في أعمال البر مستظهرًا به، عجل له ثواب أعمال البر في العاجل نورًا، ففي الصدر ذلك النور، وليس له من القوة ما يمنع النفس من قضاء النهمة، فيمضي في الشهوات الحلال بلا نية، فيتعطل، ويبقى بلا حسنة ولا أجر، ومعه فساد الباطن، من حب الدنيا والرغبة والرهبة من المخلوقين، وخوف فوت الرزق، وخوف المخلوقين، والحسد والحقد، وطلب العلو والجاه، وحب الرياسة، وحب الثناء والمدحة، والكبر والفخر، والصلف والغضب، والحمية وسوء الظن، والبخل والمن والأذى، والعجب والاتكال على العمل، ودواه كبيرة، فكم من فعل سيئ يظهر على أركان هذا مع هذه الدواهي، ففساد القلب وخراب الصدر من الفرح بالدنيا، وأحوال النفس كلما ازدادت النفس فرحًا بهذه الأشياء قويت واحتدت، واشتد سلطانها، حتى تصير شرهة أشرة، بطرة مستبدة، فإذا هويت شيئًا من الشهوات لم يملك القلب من أمرها شيئًا، ولم يتورع عن الحرام، وإن تورع عن الحرام لم يتنزه عن الفضول، وإن ننزه عن الفضول، يتناول ما احتاج إليه على غفلة، وفقد النية والحسبة، فإن تناول بنية وحسبه تناول على فقد ذكر المنة، وإن تناول على ذكر المنة، تناول على فقد رؤية المنة واللطف والبر، فهو أبدا في نقصان، في أي درجة كان، لأنه محجوب عن الله ﷿، وإنما حجبه عن الله ﷿ الفرح بغير الله ﷿.
1 / 44
فالفرح المحمود على ضربين: فرح بالله ﷿، وفرح بفضل الله ورحمته، فالفرح بفضل الله ورحمته ذكر النفس معه، والفرح بالله قد غاب ذكر النفس معه، والفرح بالله قد غاب ذكر النفس في ذكر مولاه، فقال ﷿ في تنزيله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)، وقال تعالى فيما روي: (قل
للصديقين بي فافرحوا، وبذكرى فتنعموا). وإنما يفرح بذكر الله ﷿ وحين يرى منته عليه، وإنما يفرح بالله ﷿ من وصل إلى الله ﷿، ومن كان مرعاه بين يديه في ملك من ملكه، والواصلون إلى قرب الله ﷿ مرعاهم تحت العرش في محل القربة.
فالأكياس صاروا إلى الله ﷿ في هذا الطريق، وتوقوا كل فرح، فما فرحوا بشيء من الدنيا، أو بشيء من أعمال البر، وقالوا: إنما فساد قلوبنا من فرح النفس، لأن النفس إذا فرحت بشيء استولت على القلب، فلم ينفذ له شيء، فليس بنا التمييز بين الأعمال، لأنا لا نسير إلى الله تعالى بالأعمال، إنما نسير إليه القلوب نزاهة وطهارة، فإنما يدنس القلب بأفراح النفس؛ وصار القلب محجوبًا عن الله ﷿، فكانوا يصونون قلوبهم عن الفرح بكل شيء دق أو جل، للضرر الذي يحدث عنه، ومن جهل هذا الباب توقى الحرام والشبهة، وانكمش في أعمال البر، فهو في الظاهر عامر، وفي الباطن خراب، لأن النفس شاركت القلب في تدبير العمل، فإذا شاركت أخذت نصيبها، والهوى مقرون بالنفس، فلا يتخلص العمل لصاحبه أبدًا، وإنما صار هذا هكذا،
1 / 45
لأن الله ﷿ أوله قلوب العباد إلى ألوهيته، فمن صان قلبه عما تورد النفس عليه، بقى قلبه مع الله ﷿ في جميع الأحوال، فهو أبدا واله بالله ﷿، والوله تعلق القلب به، ومن لم يصن قلبه حتى أوردت النفس عليه أفراحها التي أورد عليها الهوى من باب النار، فقد صار وله قلبه إلى الهوى. فالصائن أوله قلبه الله بأفراحه وحبه. والتارك للصيانة أوله قلبه الهوى بأفراحه إلى باب النار، ولجت تلك الزينة. فالكيس لما أبصر هذا التدبير من الله تعالى أنه خلق الآدمي هكذا، وجعل فيه قلبًا ونفسًا، ثم جعل للقلوب محلًا في عظمته، حتى تسير القلوب إلى ذلك المحل، فيكون مقامها هناك حتى إذا صار القلب إلى أن يستعمل جوارحه استعملها بذكره، معظمها لشأنه، حافظًا
لحدوده في جميع حركات جوارحه، مؤتمرًا بأمره، متناهيًا عن نهيه وإن دق، مراعيا لتدبيره، راضيا بحكمه، وذلك كله لقوة ما يلاحظه من عظمته وجلاله بين يديه، فيخشاه ويتقيه، ويخافه ويرجوه، ويستحي منه ويهابه ويعظمه، وخلق بباب النار هذه الأفراح والزينة من النار، وحفت النار بها، ثم خلق الهوى وأصله من الشيطان، فمر بهذه الأفراح إلى نفس هذا الآدمي، حتى تستعمل هذه الأشياء الملائمة لها، اللينة في ذاتها، الناعمة لجسدها، بذلك الفرح، فابتلى عباده بهذين الفرحين، فرح هناك بين يدي عظمته ومحله القلوب، وفرح هاهنا يورده الهوى، فيزيله الهوى عن ذلك الوله الذي في ذلك المحل، فيرده من هناك إلى ما هاهنا، فمن التفت عن ذلك الوله إلى هذا الوله، حجب عن الله ﷿، ونفى عن الوله، ورجع قلبه لما رجعت النفس إلى هذا الوله الذي أولهه الهوى، فخاب وخسر،
1 / 46
وكذلك حذر الله ﷿ عباده فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله)، ثم قال: (ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون). فلم يعب المال والولد، وإنما عاب الوله بالمال والولد، لأن الفرح والوله بالمال والولد يلهيه عن ذكر الله ﷿، إذا لم يكن فيه فرح بفضل الله ورمته، ودعاه الهوى إلى أن يفرح بالمال، لزينة الدنيا وبهجتها ولذتها، وبالفرح بالولد، ليلعب به ويلهو، ويتزين به، ويستظهر به ويعتضد، فصار المال والولد فتنة لحبه إياهم، فلم يحب المال من أجل أنه عون له على طاعة الله ﷿، ولم يحب الولد من أجل أنه غصن من شجرته، خرج ليعبد مولاه، فيكون له جاها عند الله ﷿ بما يعبده ولده، ولكنه أحبهما للتكاثر والتفاخر والتعاضد، تزينا بهما عند أهل الدنيا، كما قال الله ﷿ في تنزيله: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا). ثم قال ﷿: (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا). فمن أحبهما للزينة وفرح بهما، كان فرحه للدنيا، وكان وله قلبه إلى الهوى لا إلى الله ﷿، ولذلك قال رسول الله
صلى عليه وسلم: (ما تحت أديم السماء إله يعبد من دون الله ﷿، أبغض إلى الله ﷿ من الهوى). وقال ﷿: (أفرأيت من أتخذ إلهه هواه). فلما اتبعوا الشهوات. ولم يروضوا نفوسهم، انقطعت القلوب عن محل الألوهية إلى الهوى، ففرحت بما أورد الهوى عليها من دنياه، فضاعت الحدود، وذهبت العبودية، وخانوا الأمانة، فماتت قلوبهم عن الحياة بالحي القيوم. وروى عن مالك بن دينار رحمة الله قال: مكتوب في بعض الكتب: (إن
1 / 47
سرك أن تحيا وتبلغ علم اليقين، فاحتل في كل حين أن تغلب شهوات الدنيا، فإنه من يغلب شهوات الدنيا يفرق الشيطان من ظلمه). فهذه شهوات الدنيا إذا كانت مع الهوى.
فإما إذا تناولها وكان وله قلبه بين يدي الله تعالى في ملك العظمة، كان على سبيل نبي الله تعالى سليمان ﵇، ملك الدنيا شرقها وغربها وقلبه أخشع القلوب لله ﷿، فلم يضره، فقال تعالى: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب). ثم قال تعالى: (وإن له عندنا لزلفى وحسن المآب) فإنما ارتفع الحساب عنه، لأنه تناولها وكان وله قلبه إلى الله ﷿، فقد كشفنا عن هذا الأمر بأن قلنا: إن قلب العبد موقوف بين يدي الوله إلى محل العظمة، وبين الوله إلى الهوى إلى محل باب النار؛ ففي العظمة أفراح وزينة، وباب النار أفراح وزينة. فتلك الأفراح بالقلب، وهذه الأفراح التي بباب النار في النفس، هو الهوى، وهو ريح من نفس النار، والذي يورد هذه الأفراح على القلب، هو نور المعرفة ونور العقل، حتى يشخصا ببصر قلبك إلى نور العظمة، فيرجع عليك مع الأفراح، فالعباد موقوفون بين هاتين الحالتين،
1 / 48