مرة واحدة عادت كارمن من دون إنذار سابق، رأته طريح الأرض فوق السجادة، ومن فوقه المرأة، نهض من تحتها متلعثما، متأسفا معلنا في النهاية أنها ليست خيانة زوجية بحسب العرف، ولا عقاب لها في القانون إلا إذا وقعت داخل الفراش في غرفة النوم، وليس في المكتبة على سجادة عجمية فوق الأرض، وكان يزعق بصوت عال، كأنما هو الزوج المغلوب على أمره، لأن زوجته عادت فجأة دون علمه. •••
ينحني رستم أمامها: وجهه بين يديه، يبكي بصوت مكتوم يشبه النشيج. تحوطه بذراعها وتتذكر جمالات، أصبحت جمالات تنشج بهذا الصوت المكتوم في الليل، لم تعد تصرخ ولا تضرب المنضدة بقبضة يدها القوية، تسربت منها القوة ومعها اليقين، لم تعد تؤمن بشيء خارج جسدها نصف الميت، منذ احتراق ابنتها غير الشرعية لم تسترد جمالات صحتها، تربت الفتاة على رأسها وتفكر، كيف يعيش نصف جسدها ويموت النصف من الجسد؟ كانت راقدة فوق سريرها مثل تمثال نصفه حجر والنصف الآخر من اللحم، نصف وجهها ميت بلون الجرانيت بعين واحدة نصف مغلقة، والنصف الآخر له عين واسعة مفتوحة، ونصف أنف منتبه، ونصف فم معووج. الغرفة مظلمة إلا من ضوء مصباح قديم في الزقاق المسدود، يعلوه إعلان جديد ينطفئ ويضيء، وميكروفون جديد مثبت فوق العمود، الساعة الثالثة صباحا، قبل أن تنفجر الأصوات بأذان الفجر، قبل أن تطرقع الأبواب والقباقيب والشبابيك، قبل أن يصحو الشحاذون والشحاذات على باب السيدة، قبل أن تفرقع عجلات السيارات في شارع المبتديان، وتزعق الأبواق والصفارات وصراخ الأطفال وعويل النسوة، والتراتيل والتواشيح ودقات الطبول.
ترمقها جمالات بعينها الواحدة، تشد عضلات فمها المرتخي وتقول، حمد لله ع السلامة يا بنتي، وأصبحت تناديها بكلمة بنتي، تسألها عن ابنتها، تقول في برشلونة مع جدتها يولاندا، تشهق جمالات رافعة يدها غير الميتة إلى نصف رأسها غير الميت: يولاندا اسم نصراني؟ - اسم كاتالوني يا جمالات. - كاتالونيا دي فين يا بنتي؟ - في إسبانيا. - آه، وأبوها مين؟ - يمكن سميح، تسعين في المية. - تسعين في المية؟ - ما فيش حاجة مية المية غير ربنا. - أيوه يا بنتي.
تتنهد جمالات، يرتفع نصف صدرها غير الميت بالنهد الواحد المفلطح تحت كشاكيش القميص، أنفاسها تلهث قليلا وهي راقدة فوق السرير، النافذة مغلقة بالزجاج والشيش، الهواء مكتوم معبأ بالرائحة المألوفة، رائحة جمالات، مزيج من النبيذ والقرنفل والجنزبيل، والدموع الجافة والعرق القديم، مع المسك والعطور الأنثوية، والبودرة والكحل واللبان الذكر والنتاية، ودخان الشيشة والسجائر والنشيج المكتوم. - قربي يا بنتي عشان أبوسك.
تقترب من وجهها أكثر، تراه في الضوء المتسلل من شقوق الشيش، لونه رمادي بلون الحجاب الملفوف حول شعرها، ممسوح الملامح بلا حاجبين ولا رموش مثل صفحة خالية في رواية غير مكتوبة. - كنت خايفة أموت قبل ما شوفك. - ... ... - كنت عاوزة أقولك حاجة ...
تصمت جمالات لتأخذ نفسا عميقا، تمد يدها غير الميتة وتمسك يد الفتاة. - سامحيني يا بنتي عشان أموت مرتاحة ... ماليش غيرك بعد المرحومة بنتي، آه يا بنتي، قلبي انحرق عليها، أوعي يا بنتي تسيبي بنتك، روحيلها هناك أو هاتيها هنا، أوعي تسيبيها زي أنا ما سبت بنتي ... شايفة الظرف اللي فوق التسريحة؟ - الظرف أنهوه؟ - الأبيض المركون ع المراية. - أيوه شايفاه. - خديه وافتحيه، فيه رسالة كتبتها لك بإيدي الشمال، كنت خايفة أموت من غير ما أشوفك ... بركة يا بنتي اللي جيتي.
وأغمضت جمالات عينها اليسرى، وبقيت العين الأخرى المتحجرة نصف مغلقة كما كانت. •••
وغابت جمالات عن الوجود، لم يبق منها إلا الرسالة المكتوبة بخط يدها اليسرى، فوق ورقة مسطرة منزوعة من كراسة المدرسة، خطها متعرج حروفها تصعد فوق السطر وتهبط، مثل تلاميذ السنة الأولى الابتدائية، تعودت جمالات أن تكتب بيدها اليمين، التي ماتت وهي على قيد الحياة، كانت تؤمن أن اليد اليمنى خير من اليد اليسرى، لأن إبليس يقف دائما على اليسار، بعد أن أصابها الشلل النصفي اليميني أصبحت تؤمن أن إبليس يقف على اليمين. وتقول مريم الشاعرة: جمالات صديقة عمري، قلبها من ذهب وعقلها من صفيح، كان يمكن أن تكون كاتبة مثل كارمن، ومي زيادة، وأكبر، لو لم يصبها المرض. - المرض الأخير؟ - لا لا، المرض الأول في بداية العمر، يصيب الأطفال منذ الولادة، أو قبل الولادة، عن طريق الوراثة والأسلاف.
في غرفتها أضاءت الفتاة اللمبة بجوار السرير، كانت جالسة ... فوق ركبتها الرسالة ومن خلف ظهرها الوسادة، تركت جمالات حروفها المتعرجة فوق الورقة، وشيء من رائحتها المميزة في الهواء. المزيج الغريب الأليف من كل شيء ولا شيء، يسبح مع ذرات الهواء مثل الروح الخفية، يحوم حول رأسها وهي جالسة تقرأ الرسالة، وفي أذنيها يسري صوت جمالات كأنما يأتي من بطن الأرض.
ابنتي الحبيبة، دعيني أناديك ابنتي، فهي كلمة جميلة يفرح بها قلبي الحزين، رغم غيابك كنت حاضرة في خيالي طول الوقت، لم يكن لي أحد في الدنيا إلا صديقتي مريم، كانت لي الأم والأب والأخ والأخت والصديقة والصديق، هي الوحيدة التي كانت بجانبي وقت الشدة، أردت أن أكتب لها الشقة قبل أن أموت، اعترضت وقالت، عندي شقتي ولا أريد المزيد، لم تكن تحب المزيد من أي شيء إلا الشعر، شاعرة مجنونة يا ابنتي، أحببتها بجنونها يا ابنتي، قلبها من ذهب وعقلها مفقود، وقالت مريم اكتبي الشقة باسم ابنتك، كانت تعرف أن ابنتي الوحيدة ماتت محروقة، قالت عندك ابنة أخرى في برشلونة، ستكون في حاجة إلى الشقة حين تعود، قلت لمريم، آه يا مريم يا رتها تعود، كنت أحس أنها ابنتي، شيء غريب. وقالت مريم، ليه غريب؟ ليس من الضروري أن نحبل ونلد ليكون لنا بنات وأولاد، وليس من الضروري أن يكون الأولاد والبنات من اللحم والعظم، قد تعيش قصيدة الشعر أكثر من اللحم والعظم، كنت أسمعها وأنا راقدة في السرير، نصف جسمي ميت، والنصف الآخر في طريقه إلى الموت، وأقول لنفسي، ربما ما تقوله مريم هو الحقيقة، ربما لا يبقى بعد موتي إلا رسالتي إليك بخطي المتعرج بيدي اليسرى، تعودت أن أكتب بيدي اليمنى منذ أمسكت القلم في المدرسة، كانت لي زميلة اسمها أنجيل، تكتب بيدها اليسرى، تضربها المعلمة بالمسطرة لتكتب بيدها اليمنى، وتضحك على أنجيل حين تبكي، بعد أن تخرج المعلمة تعود أنجيل وتكتب بيدها اليسرى، وتعود المعلمة لتضربها بالمسطرة على أصابع هذه اليد اليسرى، وتقول لها المعلمة: لازم تكتبي بإيدك اليمنى زي كل المسلمين، كانت المعلمة مسلمة تقول إن أنجيل نصرانية، وإن النصارى يكتبون باليد اليسرى لأن إبليس يقف على اليسار دائما، كان عمري سبع سنين، وأنجيل صديقتي ولا أعرف يعني إيه نصرانية ومين هو إبليس، وكتبت مريم قصيدة شعر على المعلمة في المدرسة، وكان جزاؤها الطرد من الفصل ثلاثة أيام مع إخطار ولي الأمر، المهم يا بنتي إني كتبت الشقة باسمك، وفي درج الكوميدينو جنب سريري فيه ألف جنيه، القرض الواجب السداد لسميح، آه يا بنتي، لا تتصوري الألم لأني أجبرتك على طلب الفلوس من سميح أو رستم سامحيني يا بنتي، كنت زي العميان مش شايفة حاجة، وماشية في الصف مع صفوف القطيع، العبيد، خدي الألف جنيه ورجعيها لسميح، خدي بنتك في حضنك، وأوعي تضحي بيها لأي سبب، زي ما أنا ضحيت بأهم شيء في الوجود من أجل شيء غير موجود. •••
Page inconnue