بصوتها الخائر في المستشفى كانت كارمن تقول: رستم كان يعيش أسيرا للماضي، مثلي، كنت حبيسة الخيال الذي يعجز الواقع عن بلوغه، أحاول عن طريق الكتابة أن أسد الهوة بين الخيال والحقيقة، من دون جدوى، ما إن أنتهي من كتابة رواية حتى أبدأ رواية أخرى، كأنما الكتابة محاولة لتحرير الجسد من قبضة الروح. - الروح؟! - أحاول البحث عن كلمة أخرى غير الروح، لأن الكلمات القديمة لم تعد صالحة، الماضي حقيقة ميتة، نحاول إحياءها بالخيال عن طريق الكتابة، وكان رستم يخلط دائما بين الأشياء، مثلي تماما، نحن نتوارى خلف الكتابة لنفعل ما نشاء، لنعيش الحرية بصرف النظر عن الأخلاق. - وما هي الأخلاق؟ - الوفاء بالوعد أو الإخلاص في الحب، لأن الحب لا يخلص إلا للحب، والصدق لا يخلص إلا للصدق حتى في الخيال.
تطرق الفتاة برأسها في صمت طويل، تفكر في هذه الكلمة: الصدق! لم تعرف في حياتها الصدق، لم تحب رستم ولا سميح، في خيالها رجل من مادة أخرى غير الجسد وغير الروح، تتفادى كلمة الصدق في روايتها، ربما لأنها ليست كاتبة مثل كارمن، ولا شاعرة مثل مريم، ولم تقرأ كلمة الله كما قرأتها جمالات، لا تستطيع أن تخلق من خيالها قصة حب لم تحدث، تبدو لها قصص الحب من وحي الخيال المصنوع بأوهام الطفولة.
كان سميح يبعث في نفسها الطمأنينة، تلجأ إليه حين يستبد بها الوهم، حين يشتد حنينها إلى رستم تسعى إلى سميح، يعرف أنها لا تقصده هو بالذات، ليس هو الوحيد في حياتها، وليست هي الوحيدة في حياته.
الشمس غربت في ليلة صيف رقيقة، والفتاة تمشي على الشاطئ في جاردن سيتي، لمحت الضوء في غرفة رستم المطلة على النيل، ترددت لحظة، هل تسير إلى بيته وتدق الجرس؟ تخيلته جالسا يكتب، أو شاردا يرشف النبيذ وحده، توقفت عند الباب، ارتفعت يدها نحو الجرس ثم هبطت، الأفضل أن تستدير وتعود من حيث أتت، كان سميح في معرض الكتاب في دمشق، وكارمن في المؤتمر الأدبي في نيويورك، يبدو الحي خاليا من سكانه، يهربون من الحر إلى الساحل الشمالي، أو شواطئ البحر جنوب أوروبا، جمالات كانت تقضي الصيف مع أختها في رأس البر، تصبح الشقة لها وحدها، تأخذ حماما بالماء الساخن وتتمدد في سريرها، تغمرها لذة الوحدة، تشعر برغبة في شيء غامض، تمتد يدها إلى القلم، ترسم فوق الورقة وجوها بلا ملامح، وأشكالا لا معنى لها.
وهي جالسة ممسكة بالقلم سمعت دقة الجرس، دخل رستم يرتدي قميصا أبيض ناصع البياض، جدران الشقة بدت داكنة سوداء، في يده وردة حمراء وكتاب غلافه أزرق، كان عائدا لتوه من شاطئ البحر، بشرته ملوحة بالشمس، صوته متحشرج قليلا كأنما أفرط في شرب النبيذ، وحرقته الشمس مع مياه البحر المالحة، كلماته تتلعثم على لسانه، ثم قال بصوت قاطع: عاوز أقولك كلمة أخيرة.
اخترقت كلمة أخيرة أذنها مثل شفرة الموسى، بدت الصالة ضيقة مكتومة الهواء، جدرانها كالحة مبقعة، المقاعد مهترئة، برزت أسلاكها من القماش الأصفر الباهت، قميص نومها مكرمش أكمامه ممزقة، تفضح فقرها، نامت فيه وبكت أكثر من ليلة، ربما تفوح منه رائحة عرق ودموع، لم يكن عندها وقت لترتدي شيئا آخر، فوق المنضدة ورقة بيضاء مرسوم عليها نغبشة وحروف مبتورة، تفضح عجزها عن الكتابة.
هرب الدم من وجهها وهي جالسة، تتلقى كلمته الأخيرة مثل مطرقة، تضرب رأسها ضربة واحدة، ويدب الصمت، لم تسمع إلا خرير ماء يتساقط من الصنبور البالي فوق بلاط الحمام، ومن شارع المبتديان جاء صوت ميكروفون حاد، ثم عاد الصمت ثقيلا، وهي جالسة وهو إلى جوارها جالس، داخل الجدران الأربعة، كأنما يضمهما سجن واحد.
الصالة والشقة كلها تنتمي إلى جمالات، تحلق روحها عليهما من السقف والجدران، باب غرفتها مفتوح، سريرها عريض يعلوه لحاف أحمر لامع، فوق نافذتها ستارة سميكة رمادية بلون حجابها، ثلاثة أحذية تحت السرير، كعوبها عالية رفيعة مدببة، حذاء منها مقلوب فوق وجهه، كعبه مكسور، التسريحة بجوارها النافذة، فوقها باروكة شعر ومكحلة وأصابع روج وعلب بودرة وقلم حواجب وزجاجات عطر، عود بخور منطفئ عند المنتصف، وفنجان قهوة رشفت نصفه قبل أن تخرج، وتركته فوق المنضدة، مرسوم على حافته آثار شفتيها الحمراوين.
غمرها الحنين إليها وهي جالسة صامتة، بدا رستم داخل المكان الأليف رجلا غريبا، لا ينتمي إليها ولا تنتمي إليه، من جنس آخر وزمان آخر أو ربما من كوكب آخر.
لأول مرة تشعر أن جمالات أقرب إليها من رستم، تلفهما عاطفة حقيقية، كالأم وابنتها، ورستم مجرد طيف، يظهر ويختفي، ولا يمنحها إلا الخيال.
Page inconnue