تقول الفتاة لنفسها في الليل وهي غارقة في النوم، سأكتب الرواية حين أصحو، في الصباح تطبق شفتيها لا تستطيع أن تنطق الكلمة: «رواية»، كأنما هي سر دفين لا تبوح به لأحد حتى نفسها، إلا في غيبوبة الحلم، كأنما هي عورة تستوجب الإخفاء، مثل الثقب الصغير في بطن حذائها القديم.
في دار رستم أثناء الندوة، تجلس الفتاة بين رستم وسميح، يبدو رستم أكثر تألقا، أقل شحوبا من سميح، يقترب سميح منها أكبر مما كان، يمسك يدها في يده، أصابعه نحيلة رقيقة، يغمرها الحنين إلى ذارعيه والحنان، حين تراه جالسا وراء مكتبه الضخم، يمتلئ قلبها بالشفقة عليه، كالسجين بين الجدران، يراجع الحسابات والأرقام، يبدو رستم تحت الأضواء بعيدا عنها، مثل بطل قصة قرأتها في كتاب منذ زمن بعيد.
في الليل تتأمل وجه سميح الشاحب، تعلوه نظرة حزينة وهو نائم، تقبله فوق خده فيفتح عينيه، يحكي لها عن طفولته وحلم حياته، كان يمكن أن يكون كاتبا كبيرا مثل رستم، لو امتلك الوقت، لكنه مرهق في دار النشر، يكره التجارة وحسابات المكسب والخسارة، يود أن يغلقها إلى الأبد، دون أن يملك الشجاعة، مثل زوج يعيش مع زوجة يود فراقها دون أن يملك الإرادة، كالمدمن يتجرع السم كل يوم يحاول التخلص منه دون جدوى، ويهمس في أذنها وهو يعانقها في الفراش: أنت تستحقين رجلا أفضل مني! - من هو؟ - مش عارف. - يمكن مش موجود! - يمكن.
وتشرد عيناه الحزينتان بعيدا عنها، ترقد إلى جواره غارقة في الصمت، غارقة في العرق في ليالي الصيف، تشعل سيجارة بعود كبريت، مكتوب على العلبة اسم كيلوباترة، سرقتها من خزين السجائر في غرفة جمالات، أصبحت تعشق الدخان، تنفثه من أنفها وفمها إلى السقف، لم يكن سميح يحب رائحة السجائر، خاصة من نوع كليوباترة، تذكره بجمالات، يشد السيجارة من بين شفتيها، يحملها معه إلى الحمام، يغسل لها ظهرها بالليفة والصابون، يرشها بالماء ويضحكان كالأطفال يلعبون على شاطئ البحر في إجازة الصيف. - إيه رأيك نعيش سوا في شقتي؟ - تحت سقف واحد؟ - أيوه. - إلى الأبد! - أيوه. - مستحيل. - ليه؟ - مش عارفة.
بعد أن يمضي سميح تستلقي الفتاة، من حولها البشكير الأبيض، تدفن وجهها في الوسادة التي نام عليها، تستعيد رائحة شعره وأنفاسه، ينتابها الحنين إلى جسده من جديد، تشتاق إليه في غيابه أكثر من حضوره، تبدو اللحظات الماضية خارج عمرها، خارج قدرتها على الإمساك بها، تنزلق من بين أصابعها كالسمكة في الماء، تذوب في أعماق الذاكرة مثل فص الملح في البحر.
ويعود إليها صوت كارمن: لا يمكن للمرأة أن تعيش مع الرجل تحت سقف واحد فما بال الكتابة؟ يدور السؤال في رأسها، وما الفرق بين المرأة والكاتبة؟ وهل تغير الكتابة من فصيلة الإنسان؟
لم تكن موارد الفتاة تسمح لها أن تعيش وحدها، كانت حياتها تحت سقف واحد مع جمالات أمرا مزعجا، لا تكف جمالات عن إطلاق الأصوات، من غرفتها، ومن الصالة ومن المرحاض، ربما هي جمالات السبب في عجزها عن الكتابة، ما إن ترى وجهها في الصباح بلا حاجبين حتى ينتابها الفزع، لكن الانتقال إلى شقة سميح تفزعها أكثر، وأكثر ما يفزعها أن تعيش مع زوج إلى الأبد، لم تعرف في حياتها زوجين سعيدين، كان رستم يقول الزواج مؤسسة التعاسة، وتقول كارمن لا يستمر الزواج السعيد إلا بسبب العادة أو الكسل، يتنافس الاثنان رستم وكارمن على قلب الفتاة، تنجذب إليهما الفتاة بدرجة متساوية، يكشف كل منهما عن عيوب الآخر، تنصت إليهما كأنما ابنة تنصت إلى شكوى أبيها من أمها، وشكوى أمها عن أبيها، تحفظ السر لا تبوح به لأي منهما، تدرك عن يقين أنهما بعد كل خصام يتصالحان، وتصبح هي الضحية وحدها.
يضع رستم رأسه فوق صدرها، يكبرها بثلاثين عاما، من عمر ابنه محمد إدريس، لم تعرف شيئا عن هذا الابن، كان ينساه بإرادته وبغير إرادته، تسمع صوت أنينه وهو راقد إلى جوارها، ينفض عن ذاكرته الماضي، يدفن وجهه بين نهديها، يصب في جسدها أحزانه القديمة، يهمس في أذنها بصوته المبحوح: الماضي ميت والمستقبل غير موجود، هذه اللحظة الحاضرة هي عمرنا الوحيد، هي كل ما نملك، علينا الاستمتاع بها حتى نفقد الوعي.
وينسى اسمها لحظة فقدانه الوعي، يناديها باسم كارمن، وأحيانا يقول لها يا كريمة، بطلة روايته الأولى، كان شابا في مقتبل العمر، يرى في الحلم فتاة أحلامه، ابنة خاله الباشا، سوف يتزوجها بعد عامين اثنين، حين يتخرج في الجامعة ويحصل على الشهادة، عامين كاملين ينتظرها على حرارة الجمر، يعانق في الليل جسدها، لا يرى وجهها في الظلمة، لا يريد أن يرى وجهها، يتعانقان خلسة من وراء الوعي، بعيدا عن العيون بما فيها عينيه، لا يملك شجاعة النظر في عينيها، فهي واحدة من الخادمات في البيت، فتاة فقيرة من الريف، لا تعرف القراءة ولا الكتابة، تناديه وهي راقدة تحته سيدي رستم، عيناها مغمضتان لا تملك الشجاعة لتفتحهما وتنظر في عينيه، أنفاسه الساخنة تلفح وجهها، وصوته يسري في أذنها متحشرجا كأنين حيوان مريض، يسترد عافيته بعد أن ينفث فيها السم، ويصب في جسدها الأنين، ينهض من فوقها بحركة سريعة، مستعيدا قوته ومكانته الأولى.
لم تكن الضحية واحدة، بل اثنتين أو ثلاثة أو أكثر حتى حصوله على الشهادة العليا، وكانت خالته تطرد الخادمات، الواحدة بعد الأخرى، تختفي كل منهن في غياهب الدنيا والآخرة، لا أحد يعرف مصيرها، قد تصبح راقصة بطن في أحد الملاهي، أو خادمة سرير لأحد العجائز أو واحدة من بنات الهوى، أو تعود إلى أهلها ليغسلوا العار بدمها، أو تركب البحر مع الطيور المهاجرة إلى الشاطئ الآخر.
Page inconnue