في المستشفى النفسي كانت كارمن غاضبة من الأطباء، تقول بصوت خائر: هؤلاء الأغبياء يفرضون علي ابتلاع حبوب السعادة، يمنعوني من منبع سعادتي، سعادتي الوحيدة تنبع من الكتابة، يشرب الناس النبيذ بحثا عن السعادة وأنا أرشفه ليغمرني الحزن، لا شيء ينقصني بعد أن عاد رستم إلي، لكن جروح القلب لا تلتئم مثل جروح الجسد، إنها غائرة تحت الدماغ، فيما وراء العقل، ربما هي جروح الروح.
ترن كلمة «الروح» في رأس الفتاة مثل حجر يلقى في بحيرة، يحدث الدوائر بلا عدد، الكبيرة داخلها دوائر صغيرة، وهذه داخلها دوائر أصغر، والكبيرة من حولها دوائر أكبر، لا نهائية، تدور الدوائر حول بؤرة عميقة في الوسط مثل دوامة البحر، ويدق السؤال في رأسها الدائر بسكرة النبيذ الأحمر، وما هي الروح يا كارمن؟ السؤال المزمن منذ الأزل. •••
سميح كانت تجري في عروقه دماء مختلطة، أبوه كان مؤمنا بالله والرسول، أمه كانت تؤمن بالثالوث - الأب والابن والروح القدس - يحق للرجال المسلم أن يتزوج أي امرأة بشرط أن تكون من أهل الكتاب.
يمشي سميح بخطوة هادئة ثابتة، يعرف بالضبط أين يضع قدمه، ملامح وجهه عاقلة موزونة، يؤمن بالعلم والبرهان، والتجربة والاستنتاج، والخطأ والصواب، عيناه خضراوان بلون الزرع في حقول دلتا النيل، فيهما سكون أو حركة خفيفة مع نسمة الهواء، تلمع تحت الضوء حين تسطع الشمس.
جمالات كانت تقول ملامحه علمية ... عقلانية خالية من العواطف، تسميه «البروفيسور»، تؤكد للفتاة أنه انجذب إليها بالعقل وحده، ترمقها من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، تمط بوزها الأحمر، عيناها المكحلتان تضيقان تبحثان في كيانها عن شيء مما تسميه الأنوثة تضرب كفا بكف ... لله في خلقه شئون. مقاييس جمالها لا تنطبق على الفتاة، تراها نحيفة جلدة على عضمة، سمراء زرقاء مثل الأقباط ... تقول عنهم كفرة، عضمة زرقاء. صوتها مبحوح فيه شرخة ذكورية، ليس لها ثديان بارزان، ولا ردفان مثل ردفيها المكورين يرتجان بالأنوثة في كل خطوة.
أول مرة زارها سميح رمقته جمالات من باب غرفتها الموارب، بعد أن خرج سألته: مسلم ولا قبطي؟ - لا كدة ولا كدة. - يا خبر أسود! يهودي؟ - لأ. - بوذي ولا هندوكي؟ - لا كدة ولا كدة. - يا مصيبتي ... يا خرابي؟
لم تتصور جمالات أن واحدا من البشر يمكن أن يعيش من دون هوية دينية، فما بال أن يكون من سكان القاهرة، مدينة الألف مئذنة، التي توالدت لتصبح مليونا وأكثر.
ثلاثون عاما تغيرت فيها المدينة والناس، لم تكن جمالات ترتدي الحجاب في الستينيات، كانت تصفف شعرها عند الكوافير، ترفع صوتها بكلمات الاشتراكية وتذويب الفوارق بين الطبقات، تردد عبارات الاتحاد الاشتراكي، تخرج طرف لسانها وتقول يعني واللا ... وما إلى ذلك، ثم انقلبت في يوم وليلة مع المنقلبين في عصر الرئيس المؤمن، أصبحت من الداعين إلى الإسلام والانفتاح، والتعددية والعلم والإيمان، تسافر في موسم الحج لتزور قبر الرسول والسوق الحرة، تعود محملة بالبضائع المستوردة والأحجبة والمسابح والمباخر، وملابس أنثوية داخلية من القماش الشفاف المشغول بالدانتيلا، وأشرطة فيديو من الممنوعات ... وفي موسم الانتخابات تحمل المنشورات عن تاريخها المجيد، وأخيها الشهيد، توزعها على الناخبين والناخبات، مع إمساكية شهر رمضان. وبعد حادث المنصة والاغتيال تبرأت من الطاغوت القديم، انزلقت مثل الصابونة الناعمة إلى الحزب الجديد، يحمل اسم القومي الوطني العروبي الإسلامي المعتدل، يؤمن أعضاؤه بالواقعية والشراكة في كل شيء إلا الشرك بالله، حزب حكومي ونصف حكومي، ومعارض شرعي ... يقولون في الانتخابات «نعم»، وفي أجهزة الإعلام والصحف يقولون «لا»، يعارضون الجميع إلا الله والرئيس، أغدق الله عليهم النعم، لا أحد يحاسب أحدا، فالمال مال الله، والله يعطي من يشاء بغير حساب!
لم تكن جمالات من المقربين إلى الله، رغم صلاتها كل يوم وحجابها السميك. لم تنل جمالات من متاع الدنيا إلا الباب الأسبوعي في الجريدة، وراتبا شهريا من المجلس، ومكافأة رمزية من اللجنة الدائمة. تمط شفتيها الحمراوين وهي تتمتم، ولا داوم إلا الله سبحانه وتعالى.
سميح كان يملك دار النشر في مصر الجديدة، ورثها مع البيت في جاردن سيتي، شغلته أعماله الطباعة والنشر والتوزيع عن حلم حياته، كان يرى نفسه في الحلم روائيا مثل تولوستوي أو دوستوفيسكي، يؤرقه الحلم في الليل، في النهار يؤلمه العمل، ورثه عن أبيه وجده، كالسلسلة الحديدية تربطه بالماضي، يلقي بنفسه في خضم «البيزنس» وتجارة الكتب، يكره الحسابات والأرقام ومقادير الربح والخسارة، يخسر أكثر مما يكسب، يزداد وجهه نحولا وشحوبا، كأنما ينزف الدم من القلب وهو جالس في مكتبه.
Page inconnue