وقالت طائفة أخرى: قد يجوز أن يكون الأمر على ما ذكر هؤلاء، ويجوز أن يكون على غيره. لأنه ﷺ قال: " استعينوا على كل صناعة بأهلها. " وفي الجائز أن يكون سلب منه العلم بهذا النوع بما بعث، فكان ذلك له مثل الآية. وإنما معنى قوله تعالى: " وما علمناه الشعر " أنه جواب لقول من قال من الكفار: " الذي جاء به محمد شعر " لا أنه بهذه الآية نفى عنه المعرفة بهذا الضرب. وكان النبي ﷺ، إذا ذكر بيتًا صاباه، أي لم يجيء به على جهته، حتى عرف ذلك منه. مثل قوله بين " الأقرع وعيينة "، " ويأتيك من لم تزود بالأخبار ".
ومما يتصل بهذا، حديث ذكره " ابن خرداذبة " في " كتاب طبقات المغنين " عن " أبي سعيد المكي. المغني " - واسمه إبراهيم، وهو مولى لقائد، وقائد مولى عمرو بن عثمان - وكان أبو سعيد هذا مغنيًا، وكان مع ذلك مقبول الشهادة معدلًا. وكان يقول الشعر ويلحنه، فكان مما قال وغنى به هذا البيت:
لقد طُفْتُ سَبْعًا قلتُ لَمَّا قَضَيتُها ... أَلا ليت حَجِّي لا عَليَّ ولا لِيَا
وبعث إليه " محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب " - وهو الملك الذي كانت تعرفه بنو العباس بالمهدي، والد هارون - وكان " أبو سعيد " تنسك، ولم يكن يضرب بالعود.
فلما قدم على " محمد " قربه وأدنى مجلسه. وقال له محمد: غنني:
لقد طفتُ سبعًا قلتُ لما قضيتُها ... أَلا ليت حَجِّي لا عليَّ ولا ليا
- لأبي سعيد - قال: أو أغنيك أحسن منه يا أمير المؤمنين؟ قال: أنت وذاك. فغناه:
إِن هذا الطويلَ من آلِ حَفْصٍ ... أَنشرَ المجدَ بعد ما كان ماتا
وبناهُ على أَساسٍ وثيقٍ ... وعِمادٍ قد أُثبتَتْ إِثباتَا
فأحسنه. وقال " محمد ": أحسنت يا أبا سعيد، غنني:
لقد طُفتُ سبعًا
قال: أو أغنيك أحسن منه؟ قال: ذلك إليك. فغناه:
قَدِمَ الطويلُ فأَشرقتْ واستبشرتْ ... أَرضُ الحجازِ وبانَ في الأَشجارِ
فأحسنه وأجاد.
فقال " محمد " مثل قوله الأول، واقترح عليه: " لقد طفت سبعًا ".
قال: أو أغنيك أحسن منه؟ قال: قل ما أحببت. فغناه:
إِن الطويلَ من آل حفص فاعلموا ... ساد الحضورَ وساد في الأَسفار
فقال له " محمد ": صر إلى ما دعوناك إليه.
فقال: يا أمير المؤمنين، ما إلى ذلك سبيل. لأني رأيت رسول الله ﷺ في منامي، وكأن في يده شيئًا لا أعلم ما هو. وقد رفع يده ليضربني وهو يقول: " لقد طفت سبعًا، لقد سبعًا طفت؟ ماذا صنعت بأمتي بهذا الصوت؟ " فقلت: بأبي وأمي، اعف عني. فوباعثك بالحق ومصطفيك للرسالة والنبوة، لا غنيت بهذا الصوت أبدًا.
فرد يده ﷺ، وقال عفا الله عنك إذًا.
وانتبهت. وما كنت لأعطي رسول الله ﷺ شيئًا في منامي، فأرجع عنه في يقظتي.
فبكى " محمد " وقال: أحسنت يا أبا سعيد، أحسن الله إليك، لا تعد في غنائه.
وحباه وكساه، ورده إلى الحجار.
ألا ترى إلى قوله: لقد سبعًا طفت، كيف حل عقد النظام عن جهته؟ وقال بعض الناس: لم يكن ﷺ يعرف الشعر ولا غيره من الصنائع، وإنما كانت الفضيلة بالرسالة.
فإن قلت أيها السامع: إن قول العرب: رجز وشعر، دليل على أنهما مختلفان في الجنسية.
فإن ذلك ليس بدليل على ما قلت، لأنهم يقولون: فعلت بنو هاشم وحمزة عبد المطلب. وفي " الكتاب العزيز ": " قل من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل ... ".
وقد علمنا أن " جبريل، وميكائيل " من الملائكة. والشيء يخص بالذكر ليرفع من شأنه أو ليوضع بذلك من أمره. ولا ريب أن الرجز أضعف من القصيد، ف " رؤبة والعجاج " أضعف في النظام من " جرير، والفرزدق ". ومن أقوى ما روى في تضعيف الرجز أن " الفرزدق " قال: إني لأرى طرقة الرجز فأدعه رغبة عنه.
وقالة الرجز ثلاثة: فرجل لم يرو عنه غيره، ك " رؤبة، وهميان بن قحافة " وغيرهما. ورجل غلب عليه الرجز وربما جاء بالقصيد، ك " أبي النجم، والأغلب العجليين ". ورجل كان القصيد أغلب عليه وربما جاء بالرجز، ك " جرير، وذي الرمة ". وربما لم يرو عن الشاعر رجز ألبتة مثل " زهير، وطفيل الغنوي، وقيس بن الخطيم ".
1 / 23