وقد أشرت عليهم بترك تنجزهم الصفح عن ذلك، وقلت: الصبر على القناعة أقبل من سوء الصناعة، والكريم يجب أن يستحيا منه، والجمرة إلى الجمرة نار ينتفع بها المقرور، والنغبة مع أختها ري الظمآن.
فأبوا إلا غير ذلك وقالوا: إنا لا نحمل أوقًا كان موضوعًا فيما سلف. وهذه الأيام المشرقة لو رأتها " دوس " لما قال القائل منهم: ذهب الخير مع عمرو بن حممة.
فجشموني كلامًا في ذلك، فقبح الله معزى خيرها خطة، وشجرًا أطوله التربة، ومؤرثات للضيفان أكثرها ضرامًا ما يوقده أبو الحباحب.
فما برحوا، والكاذب خائب، يرمون بالسروة ويفتلون في الذروة، ويقردون العود النافر، ويزجون ثقالًا قيد فما أيد، ويحدون بأم الربيق على أريق. حتى همت النعامة بكروع، وعزم الضب على الشروع. وأني للوليدة بأزمان القردة؟ ومن الفند أن يسأل نعمان في بريرة، ويلتمس من رياض الحزن إنبات الزهرة. وإذا عذلتهم في ذلك، فلهم أن يقولوا: لأفقر منا يهدي غمام أرضنا، وسائمتنا أحق بما نبت في عرضنا.
وقد وصلوا بهذه الرسالة رقعة يرجون بها من اليد العالية توقيعًا مؤبدًا لا يكون بعده القول مرددًا، بل يحسم بإيجاب طمع كل ناظر وجاب.
فإن جاءت بالنجح فلله الحمد ثم للسيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء ". إذا كرم الزندان لم تتعب في القدح اليدان؛ ومن وقف على العناقة أروى الناقة، ومن نزل " تبالة " نفض البالة.
وإن خابت، فهي حقيقة بالخيبة. المطية رجاحة، والأذن فيها جاحة؛ وإن ثعالة لا تبنى العالة. ولو أصغى المسمع إلى ما يأمر به حسن الأدب، لم أحفل بحظيات لقمان، ممن صدق أو مان، ولا احتملت أسهم القارة خيفة من الحقارة. لأن المسألة في التافه أنبأت عن اللب النافه.
وإنما جعلت هذا المقدار تافهًا، لشرف مقدار المسئول. فأما أنا فمذهبي أن الدرهم يقع عليه اسم المال الكثير. ولو كان في الوجذ فراشة وفي المحل الممحول غذيمة، لكفيت الغافلة من رماها، والجازئة من اسّماها.
ولهؤلاء القوم أريضة ليست بالأريضة، هي من قلة العمل كالمريضة. غراسها ليس بعميم، وثمرها بين الثمر كبنى يربوع في بنى تميم؛ إلا أن أولئك حمدوا في الغارة، وذم هذا حين يغير. وحين يختبز لا يطيب منه الخبز. وما سقى منها بالأبق والأديم، فهو العناء المنصب في الحادث وفي القديم؛ يشتكيه المالك ومن يعمل فيه، ويجعل حليمًا مثل سفيه.
كأن ماءه المنتزع كافر محتقر، غفر له بعد ما مسته سقر، فقد عولي به من أسفل سافلين إلى أعلى عليين. وربما غار ونكز، فلم يفل الملطس في إخراجه حتى يرجع إلى قرواه. تود بهيمة أصعدته، لو كانت في سواد ذي القرنين، تحمل أوتاد خيام أو غيرها من أثقال اللئام، وتسافر من المشرق إلى المغرب، وتراح من هذا البؤس الدرب. إذ كان سفرها لا ينفد وعذابها يجدد. ولا يقنع لها القدر بالأين حتى يأمر بتخمير العين. فالخطوة من العبء قصيرة، والعين عمياء بصيرة. وهي في أوقات النجر يكف بصرها عند الفجر فتنظر إلى القمر دون الشمس، ويومها في الشقوة نظير الأمس. وربما تكون ليست بالزعلة فيستأجر لها غلام عارم لا كريم هو ولا مكارم. فيسوقها بالعجراء سياقة عنيف ويمزق جلدها تمزيق الخنيف. فهي تروى الناضر ولا تلقاه، وتسمع قسيب الأزرق ولا تسقاه. وتمر عليها الدجالة من الرفاق، فإذا سمعت صوت الحافر هاج ذلك عليها طربًا وحزنًا، وذمت إلى الله القادر معاشًا لزنًا.
وترد جباها الواردة، فإذا حمل أمرها على ما ظهر من اللفظ العربي في الكتاب الكريم من قوله عزت كلمته: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ".
وعلى ما جاء في الحكاية عن النملة: " يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ".
وعن الهدهد في قوله " تعالى ": " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ".
فجائز أن تضمر هذه البهيمة أو تقول باللسان ما لا يفهمه كل إنسان، من كلام معناه: رب صلف تحت الراعد، وساع دأب لقاعد.
تقرى البائسة وترد الرائسة.
ردِي رِدِي وِرْدَ قَطاةٍ صَما
كُدْرية أَعجبها بردُ الما
1 / 2