والأمور التي نأخذها، مقدمات في بيان هذه الأشياء هي أحد أمرين إما نتائج أقيسه قد تبينت فيما سلف من هذا العلم، وإما أمور يقينية بأنفسها هاهنا وإما أن تكون الأقاويل المستعملة في ذلك مؤلفة من هذين الصنفين من المقدمات وسنرشد إلى صنف صنف منها عندما نستعمله.
فنقول إنه من البين مما قيل في مواضع كثيرة أن المعاني المدركة صنفان: إما كلي، وإما شخصي. وأن هذين المعنيينِ في غاية التباين، وذلك أن الكلي هو إدراك المعنى العام مجردًا من الهيولى وإدراك الشخص هو إدراك المعنى في الهيولى. وإذا كان ذلك كذلك فالقوة التي تدرك هذين المعنيين هي ضرورة متباينة، وقد تبين فيما تقدم أن الحس والتخيل إنما يدركان المعاني في الهيولى، وأن لم يقبلاها قبولًا هيولانيًا على ما تقدم،،ولذلك لسنا نقدر أن نتخيل اللون مجردًا عن العظم والشكل فضلًا عن أن نحسه، وبالجملة لسنا نقدر أن نتخيل المحسوسات مجردة من الهيولى، وإنما ندركها في هيولى وهي الجهة التي بها تشخصت، وإدراك المعنى الكلي والماهية بخلاف ذلك. فإنا نجرده بالهيولى تجريدًا وأكثر ما تبين ذلك في الأمور البعيدة من الهيولى كالخط والنقطة، فهذه القوة إذن التي من شأنها أن تدرك المعنى مجردًا عن الهيولى هي ضرورة قوة أخرى غير القوة التي تقدمت وبين أن فعل هذه القوة ليس هو أن تدرك المعنى مجردًا من الهيولى فقط، بل وأن تركب بعضها إلى بعض وتحكم لبعض على بعض. والفعل الأول من أفعال هذه القوة يسمى تصورًا والثاني تصديقًا. وهو من الظاهر هاهنا أن بالواجب أن قسمت ترى النفس هذا الانقسام لانقسام المعاني المدركة، وأنه ليس يمكن أن توجد هاهنا قوة أخرى للحيوان نافعة في وجوده غير هذه القوى. وذلك أنه لما كانت سلامته إنما هي أن يتحرك عن المحسوسات أو إلى المحسوسات. والمحسوسات إما حاضرة وأما غائبة، فبالواجب ما جعلت له قوة الحس وقوة التخيل فقط. إذ كان ليس هاهنا جهة ما في المحسوس يحتاج الحيوان إلى إدراكه غير هذين المعنيين، ولذلك لم تكن هاهنا قوة أخرى تدرك المعنى المحسوس غير هاتين القوتين أو ما يحدث منهما.
ولما كان أيضًا بعض الحيوان وهو الإنسان ليس يمكن وجوده بهاتين القوتين فقط، بل بأن تكون له قوة يدرك بها المعاني مجردة من الهيولى ويركب بعضها إلى بعض ويستنبط بعضها عن بعض حتى تلتئم عن ذلك صنائع كثيرة هي نافعة في وجوده. وذلك إما من جهة اضطرار فيه وإما من جهة الأفضل بالواجب ما جعل في الإنسان هذه القوة، أعني قوة النطق. ولم تقتصر الطبيعة على هذا فقط، أعني أن تعطيه مبادئ الفكرة المعينة في العمل، بل ويظهر أنها أعطته مبادئ آخر ليست معدة نحو العمل أصلًا، ولا هي نافعة في وجوده المحسوس لا نفعًا ضروريًا ولا من جهة الأفضل، وهي مبادئ العلوم النظرية.
وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجدت هذه القوه من جهة الوجود الأفضل مطلقًا لا الأفضل في وجوده المحسوس، ومن هنا يظهر أن هذه القوة تنقسم أولًا إلى قسمين: أحدهما يسمى العقل العملي والآخر النظري. وكان هذا الانقسام لها عارضًا بالواجب لانقسام مدركاتها، ولذلك أن إحداهما إنما فعلها واستكمالها بمعان صناعية ممكنة. والثانية بمعان ضرورية ليس وجودها إلى اختيارنا.
وإذ قد تبين أن وجود هذه القوة مغايرة لسائر القوى التي عددناها، وتبين أيضًا مع هذا أنها تنقسم قسمين فقد ينبغي أن ننظر بعد ذلك في الأمور المطلوبة التي عددناها في كل واحد منها، وأن كانت أكثرها مشتركة لها. ونبتدئ أولًا بالقول في القوة العملية. فإن الأمر في ذلك أسهل وليس فيه كثير نزاع، وأيضًا فهذه القوة هي القوة المشتركة لجميع الأناسي التي لا يخلو إنسان منها، وإنما يتفاوتون فيها بالأقل والأكثر.
وأما القوة الثانية فيظهر من أمرها أنها إلهية جدًا، وأنها إنما توجد في بعض الناس وهم المقصودون بالعناية أولًا في هذا النوع. فنقول: أما أن هذه المعقولات العملية، سواء كانت معقولات قوى أو مهن حادثة وموجودة فينا أولًا بالقوة وثانيًا بالفعل، فذلك من أمرها بين، فإنه يظهر عند التأمل أن جل المعقولات. الحاصلة منها إنما تحصل بالتجربة والتجربة إنما تكون بالإحساس أولًا والتخيل ثانيًا. وإذا كان ذلك كذلك فهذه المعقولات إذن مضطرة في وجودها إلى الحس والتخيل فهي ضرورة حادثة بحدوثها وفاسدة بفساد التخيل.
1 / 20