فأما ما به يكون هذا الإدراك فهما الأسطقسان الخادمان للحاستين المتقدمتين، أعني الماء والهواء، فان الحيتان قد يظهر من أمرها أنها تشم، وذلك أيضًا بين مما تقدم. وأما على أي جهة تخدمان هذه الحاسة فذلك يظهر إذا تبين ما هي الرائحة.
فنقول أن الرائحة إنما توجد لذي الطعم من جهة ما هو ذو طعم، وهو موضوعها الأول الذي هو بمنزلة السطح للون. ولذلك يستدل كثيرًا من الرائحة على الطعم وذلك طاهر بالاستقراء.
وقد قيل في كتاب الحس والمحسوس أن الطعم هو اختلاط الجوهر اليابس بالجوهر الرطب بضرب من النضج يعتد به. فإذا كان ذلك كذلك فالرائحة إنما توجد للأجسام من جهة ما هي ممتزجة وليس لكل الممتزجة بل لممتزجات ما، وليس كذلك اللون والصوت. فإن لكل واحد منهما وجودًا في هيولاه ووجودًا في المتوسط.
وأما الرائحة فإنه يلزم أن يكون وجودها في المتوسط هو بعينه وجودها في موضوعها، إذ كانت تابعة ضرورة لذي الطعم والطعم بما هو طعم تابع للممتزج وما هذا شأنه فليس يقبل الماء والهواء قبولًا أولًا أعني بذاته، ولو كان ذلك كذلك لكانت. البسائط ذوات طعوم وذلك محال.
وإذا تقرر هذا فلم يبق وجه يخدم به هذا الإدراك المتوسط إلا بأن يحمل ما يتحلل من المشمومات من الجوهر الهوائي المناسب له حتى توصله حاسة الشم، كما يظهر ذلك بالحس من أمر كثير من ذوات الروائح، أعني إني مما إنما تشم عندما تفرك باليد أو تلقى في النار، وبالجملة عندما يتولد فيها مثل هذا البخار الذي شأنه أن يشم، ولذلك ما يحتاج ذوات الطعوم التي شأنها أن تشم في أن تكون مشمومة بالفعل إلى الحرارة التي من خارج كالمسك وغيره، وبعضها ليس يكتفي بذلك حتى يلقى في النار كالعود الهندي، وبعضها ليس يشم ذلك فيه بحرارة النهار للطافة جوهره بل بحرارة الليل، كالحال في الخيري، وتفصيل هذه في كتاب الحس والمحسوس.
ومن الدليل على أن المشموم من جنس البخار أن المتنفس من الحيوان إنما يشم باستنشاق الهواء وإدخاله، وقد يشهد لذلك أن الرياح تسوق الروائح التي تكون من ناحية جهتها وتعوق التي تأتي مقابلتها. فقد لملنا ما هي هذه القوة وما يدركها وبأي جهة يكون إدراكها.
القول في الذوق
وهذه القوة هي تدرك بها معاني الطعوم وقد تلخص قبل ما هي الطعوم، وهذه القوة كأنها لمس ما إذ كانت إنما تدرك محسوسها بوضعه على آلة الحاسة. ولذلك ما يرى الاسكندر أن هذه القوة ليست تحتاج إلى متوسط على ما سيظهر من أمر اللمس، إلا أنا نجد هذه القوة التي آلتها اللسان إنما تدرك الطعوم بتوسط الرطوبة التي في الفم وبخاصة الأشياء اليابسة، وذلك انه يعرض لمن عدم هذه الرطوبة ألا يدرك الطعوم، وأن أدركها فبعسر. وكذلك يعرض لمن فسدت هذه الرطوبة في فمه بانحرافها نحو مزاج ما أن يجد الطعوم كلها على غير كنهها.
وبالجملة فيظهر أن أحد ما يتقوم به إدراك هذه الحاسة هو هذه الرطوبة، ولذلك جعلت النغانغ دائمًا لتوليد هذه الرطوبة وجعل لها فيها مسلكان مفضيان إلى اصل اللسان، فمن هذه الأشياء كلها قد نظن أيضًا أن هذه الحاسة إنما تدرك محسوساتها بمتوسط وهي هذه الرطوبة، وقد صرح بذلك أبو بكر بن الصائغ في كتابه في النفس وثامسطيوس.
وينبغي أن ننظر في ذلك فنقول أن الحاجة إلى المتوسط قد تبين فيما سلف أنها أحد أمرين: إما أن يكون المتوسط هو الذي يؤدي تحريك المحسوس لآلة الحاسة لكون المحسوس غير مماس لها، كالحال في المحسوسات الثلاث التي ير الألوان والأصوات والروائح. وإما أن تكون الضرورة الداعية إلى المتوسط لا في هذه فقط بل في أن يكون وجود الصور المحسوسة فيه بضرب من التوسط بين وجودها الهيولاني المحض وبين وجودها في النفس، كالحال في الألوان.
وإذا كان هذان هما جهتا ضرورة الحاجة إلى المتوسط فبين أن الذوق ليس يحتاج إلى المتوسط بالمعنى الأول، وهو أشهر المعاني الداعية إلى التوسط، إذ كان المحسوس منها بتحرك آلة الحس بمماسة لها.
وأما الجهة الثانية من جهتي الحاجة إلى المتوسط ففي إيجابها لهذه الحاسة موضع نظر، فإنه قد نظن أنه إنما يمكن تصور هذا النحو من المتوسط في لوجود للمحسوسات التي يقبلها المركب والبسيط كالألوان التي يقبلها الهواء بضرب من التوسط بين وجودها الهيولاني وبين وجودها في النفس.
1 / 11