رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت.
تأليف: أبي النصر عبيد الله بن سعيد ابن حاتم الوائلي السجزي.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومِن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ .
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ .
أما بعد: فإن من تمام حفظ الله ﵎ لهذا الدين أن هيأ له علماء عاملين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
ولقد كان في كل عصر منهم أفاضل لهم في الذّبِّ عن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، والرّدِّ على أهل البدع والانحراف جهود مشكورة، وآثار مشهورة. كان من أعلامهم في القرن الخامس الهجري إمام من أئمة
1 / 7
أوراقها، وعدد أسطرها وكلماتها. ونوع الخط ووصفه وذكرت نماذج منه، وأخيرا السماعات والتملكات التي على النسخة.
الفصل الثالث: منهجي في التحقيق والصعوبات التي واجهتها والاصطلاحات والرموز التي استعملتها.
القسم الثاني: الكتاب المحقق.
وقد ذكرت في منهجي في التحقيق كيفية العمل فيه.
ولقد حرصت على أن أخرج الكتاب على الصورة التي تركه عليها المؤلف وبذلت في ذلك قصارى جهدي فإن وفقت لذلك وأصبت فمن عند الله وله المنة. وإن زل قلمي، أو نبا فهمي أو قصر عن إدراك المراد علمي فكل ذلك مني، وعذري أني قد استنفدت في البحث طاقتي، ولم أبخل في ذلك بجهد ولا وقت. واستغفر الله لذنبي. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
1 / 8
السنة أبلى في الذود عن حياض السنة وعقيدة السلف، والرد على المخالفين بلاءً حسنًا، هو شيخ السنة في عصره الإمام أبو نصر عبيد الله ابن سعيد الوايلي السجزي (٤٤٤هـ) .
ولقد وقفت على مصنف جليل من مصنفات هذا الإِمام في الرد على من أنكر الحرف والصوت في كلام الله ﷿، فألفيته سار فيه على منهج السلف وقرر ما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، في هذه المسألة تقريرًا أجاد فيه وأفاد رحمه الله تعالى.
فرأيت أن في تحقيقه وإخراجه خدمة للسنة وأهلها.
فعقدت العزم على ذلك واخترته ليكون أطروحتي لنيل درجة الماجستير، وقد شجعني على اختياره أفاضل من أساتذتي ومشايخي الكرام، ممن عرفوا بالحرص على عقيدة السلف والذب عن السنة، أجزل الله مثوبتهم. وإن من أهم الأسباب التي حفزتني لاختيار هذا الكتاب دون غيره، ما يأتي:
أولا: أن مسألة الحرف والصوت من المسائل الدقيقة التي زلت فيها أقدام طوائف من المسلمين فالحاجة ماسة لبيان القول الحق فيها.
ثانيا: أن هذا الكتاب يعد من أهم الكتب وأقدم المصنفات التي أفردت هذه المسألة بالتأليف، وقد فصل فيه المؤلف القول فيها، واستدل لمذهب السلف وانتصر له، ورد على المخالفين وبين بطلان ما تعلقوا به من شبهات ظنوها أدلة تؤيد ما ذهبوا إليه.
1 / 11
ثالثا: أن في تحقيقه وإخراجه إحياءً لتراثنا الإِسلامي، وإبرازًا لجهود سلفنا الصالح، الذين أثروا المكتبة الإِسلامية بما صنفوا من كتب قيمة في شتى الفنون.
هذا وقد قسمت العمل في تحقيق الكتاب ودراسته إلى قسمين، الأول: في دراسة المؤلف والكتاب، والثاني: في تحقيق الكتاب. قدمت بين يدي ذلك: مدخلا. في نشأة الكلام في مسألة كلام الله ﷿ وفق الخطة التالية:
المدخل: ويشتمل على ثلاثة مباحث:
الأوّل: عرض تاريخي لظهور الكلام في هذه المسألة.
الثاني: افتراق الناس في المسألة وأهم وأشهر الأقوال التي انتهوا إليها فيها.
الثالث: في ذكر نماذج من المؤلفات التي ألفت فيها وعنيت ببيان منهج السلف.
القسم الأول: ويشتمل على بابين:
الباب الأوّل: في التعريف بالمؤلف. وفيه فصول ثلاثة:
الفصل الأوّل: في عصر المؤلف، ودرست فيه الحالة السياسية في عصره وأوضحت أنه عصر انحسار نفوذ الخلفاء ونشوء الدويلات داخل دولة الخلافة.
كما بينت الحالة الاجتماعية: وأنها سيئة جدًا غلب عليها تفشي الغلاء واضطراب نظام الأمن في البلاد.
1 / 12
ثم تعرضت للحالة العلمية: وبينت: أنها كانت مزدهرة في عصره، جنى فيها علماء العصر ما غرسه الأسلاف في ذلك.
وأخيرا: ختمت بالحالة الدينية، وكيف أنها كانت متأثرة بالحالة السياسية إلى حد كبير.
الفصل الثاني: في ترجمته: ذكرت فيها: اسمه، ونسبته، وكنيته ومولده، وموطنه ونشأته، ثم وفاته.
الفصل الثالث: في حياته العلمية وثقافته وتحدثت فيه عن بيئته العلمية، رحلته في طلب العلم، أشهر شيوخه، وأشهر تلاميذه، وثقافته، مؤلفاته وآثاره، مكانته العلمية وثناء الناس عليه، ومذهبه الفقهي، وعقيدته.
الباب الثاني: في التعريف بالكتاب، ووصف المخطوطة ومنهج التحقيق، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في التعريف بالكتاب وبينت فيه:
اسمه، وتوثيق نسبته للمؤلف، وموضوعه، وسبب التأليف، وتاريخه، ومكانه، ومنهج المؤلف وأسلوبه فيه، وموارده، ومصادره فيه، وأخيرًا قيمته العلمية، ثم نقده والمآخذ عليه.
الفصل الثاني: التعريف بالمخطوطة ووصفها. وبينت الأمور التالية: الاسم المثبت على غلافها، ناسخها، وتاريخ نسخها، وسندها، وعدد
1 / 13
تمهيد
تدور أبحاث هذا الكتاب حول مسألة من أهم المسائل في باب العقيدة، وهي مسألة كلام الله ﷿.
تلك المسألة التي شدَّت إليها أنظار العالم الإسلامي ردحا من الزمن لكثرة ما دار حولها من الجدل والخلاف الذي وصل إلى حد استعمال القوة والسلطان فحصل بذلك من الفتنة والمحنة ما هو معلوم ومدون في مظانه.
واستكمالا للفائدة أحببت أن أقدم بين يدي الكتاب ودراسته، مدخلا أبين فيه الأمور الآتية:
أولًا: عرضا تاريخيا لظهور الكلام في هذه المسألة.
ثانيًا: افتراق الناس فيها وأهم وأشهر الأقوال التي انتهوا إليها.
ثالثًا: ذكر نماذج من المؤلفات التي ألفت فيها وعنيت ببيان منهج السلف.
1 / 15
المبحث الأوّل: عرض تاريخي لظهور الكلام في هذه المسألة:
لم يؤثر عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم الكلام في هذه المسألة ولم تعرف في زمنهم، بل كان الناس يؤمنون بجميع ما جاء في كتاب الله ﷿، بما في ذلك إخباره سبحانه عن نفسه بأنه ينادي ويتكلم ويبصر ويسمع إلى غير ذلك في دائرة قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ .
ثم سار التابعون بعدهم على ذلك المنهج الراشد من الإيمان بكل ما جاء في كتاب الله ﷿ أوفي سنة رسوله ﷺ.
فمتى حدث القول في هذه المسألة؟ ومن أول من أحدث ذلك؟.
أول من أظهر القول بإنكار كلام الله:
تشير المصادر التي بين أيدينا إلى أن: أول من عرف١ عنه إظهار القول بإنكار تكلم الله ﷿ هو (الجعد بن درهم ت ١٢٤هـ) وذلك في أواخر أيام دولة بني أمية، إذ كان الجعد مؤدبًا لمروان الجعدي أو مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية.
ولما أظهر مقالته طلبه بنو أمية فهرب إلى الكوفة ثم قتله بها خالد بن عبد الله القسري- عامل بني أمية فيها- في يوم عيد الأضحى حيث
_________
١ انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة ٢/ ٣٨٢، والبداية والنهاية ٩/ ٣٥، وفتاوى ابن تيمية ٢ ١/ ٢٦، والوسائل في معرفة الأوائل للسيوطي ١٢١.
1 / 16
خطب الناس وقال في خطبته: "أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه في أصل المنبر" ١.
لكن قبل أن يقتل هذا الضال كان قد أوحى ببدعته إلى (الجهم بن صفوان الترمذي ت ١٢٨ هـ) ٢ حيث لقيه بالكوفة وأخذ عنه، ثم نُفِيَ إلى ترمذ وبقي إلى أن قتله بأصبهان وقيل بمرو سلم بن أحوز.
ثم تلقف هذه المقالة عن أتباع جهم، بشر المريسي (ت ٢١٨) ٣ الذي كان عين الجهمية وعالمهم في عصره٤.
_________
١ انظر البداية والنهاية ٩/ ٣٥٠، وسرح العيون لابن نباته ٢٩٣، وميزان الاعتدال للذهبي ١/ ٣٩٩.
٢ جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي، الضال المبتدع، رأس الجهمية، قال الذهبي: هلك في زمان التابعين وما علمته روى شيئا، لكنه زرع شرًا عظيمًا. ميزان الاعتدال ١/٤٢٦ قتل سنة ١٢٨ ٠ انظر: البداية والنهاية ١٠/٢٧.
٣ وهو: بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي، كان من أصحاب الرأي، اشتغل بعلم الكلام وجرد القول بخلق القرآن، وحكي عنه أقوال شنيعة، ومذاهب مستنكرة كفره أهل العلم بسببها وإليه تنسب الطائفة المريسية، توفي سنة ٢١٨. انظر ترجمته لدى: الخطيب البغدادي تاريخ بغداد ٧/٥٦، وابن خلكان وفيات الأعيان ١/٢٧٧، وابن كثير البداية والنهاية ١٠ / ٢٨١، والذهبي ميزان الاعتدال: ١/ ٣٢٢.
٤ انظر: سير أعلام النبلاء١٠/ ٢٠٠.
1 / 17
ثم أخذ عن بشر أحمدُ بن أبي دؤاد١ الرجل الذي أغرى المأمون العباسي بالمحنة وإجبار الناس على القول بخلق القرآن فافتتن خلق كثير وثبت إمام السنة – أحمد بن حنبل ﵀ على الحق وصبر على الضرب والأذى.
الجذور التاريخية لهذه المسألة:
لقد عرفنا فيما سبق أن أول من تفوه بنفي كلام الله ﷿ من أهل القبلة- هو الجعد بن درهم، كما عرفنا خلفاءه الذين ورثوا عنه هذا القول وأضلوا به خلقًا وأناسي كثيرًا.
لكن هل بوسعنا أن نعرف من أين للجعد هذه المقالة الخبيثة؟.
بين أيدينا نص ذكره ابن عساكر وغيره مفاده: (أن الجعد بن درهم أخذ هذا القول عن بيان بن سمعان ٢، وبيان أخذه عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وطالوت أخذه عن خاله لبيد- ذلك اليهودي الذي سحر رسول الله والذي كان يقول بخلق التوراة ٣.
_________
١ وهو: أحمد بن فرج بن حريز الإيادي الجهمي، كان داعية إلى خلق القرآن، توفي سنة ٢٤٠ هـ المصدر السابق ١١/١٦٩.
٢ هو بيان بن سمعان النهدي من بني تميم، ظهر بالعراق بعد المائة، وقال بإلهية علي، وأن فيه جزءًا إلهيًا متحدًا بناسوته، ثم من بعده في ابنه محمد بن الحنفية، ثم في أبي هاشم ولد ابن الحنفية، ثم من بعده في بيان هذا قال ابن نمير: قتله خالد بن عبد الله القسري وأحرقه بالنار. ميزان الاعتدال: ١/٣٥٧.
٣ راجع: البداية والنهاية٩/٣٥٠، والوسائل في معرفة الأوائل للسيوطي١٣١-١٣٢.
1 / 18
فاليهود إذًا وراء هذه الفتنة، وليس ذلك بغريب عليهم فما زالوا منذ أن بعث الله رسوله محمدًا ﷺ يكيدون للإسلام ولرسول الإسلام ليلًا ونهارًا سرًّا وجهارًا، فسحروا رسول الله ﷺ، وسَمُّوه، وحاولوا قتله بإلقاء الحجارة عليه، وبعد وفاته حاولوا تفريق المسلمين وفتنتهم، كما فعل ابن سبأ الخبيث. وذلك معروف مذكور في كتب التاريخ والعقائد.
1 / 19
المبحث الثاني: افتراق الناس في مسألة كلام الله ﷿، وأهم الأقوال التي انتهوا إليها.
بعد أن بذر أولئك النفر الأخباث بذور الفتنة والخلاف في هذه المسألة. اشتغل الناس بها اشتغالًا عظيمًا، وكثر فيها الكلام والجدال؛ ولذا قيل في سبب تسمية علم الكلام: إنه سمي بعلم الكلام؛ لأن مسألة الكلام أشهر أجزائه ١، حيث كثر فيها التناحر ودار حولها من الجدل ما لم يدر حول مسألة غيرها.
فقد تنازع الناس في كلام الله ﷿ نزاعًا كثيرًا، وتعددت أقوالهم في ذلك فبلغت تسعة أقوال كما ذكر ابن أبي العز ٢، وقال ابن تيمية مرة ستة أقوال، ومرة قال سبعة أو تزيد٣ بينما عدها ابن القيم ثمانية أقوال ٤.
ولن أطيل على القارئ الكريم بتعداد هذه الأقوال فهي مذكورة في مظانها التي أشرت إليها وإنما اكتفي هنا بذكر ثلاثة من أهمها وأشهرها والتي يمكن اعتبارها الأقوال الرئيسة في الباب لكثرة القائلين بكل منها.
_________
١ انظر: المواقف للإيجي ص ٩.
٢ شرح الطحاوية: ١١٩.
٣ الفتاوى ١٢/٤٩، ١٦٢.
٤ مختصر الصواعق المرسلة ٢/٢٨٦.
1 / 20
القول الأوّل: قول السلف من أهل الحديث والسنة. وهو أنَّ كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأنه سبحانه يتكلم إذا شاء بما شاء، وأن كلامه يسمع ويتلى وأنه بحرف وصوت.
القول الثاني: قول الجهمية والمعتزلة وهو: أن كلام الله مخلوق خلقه في غيره، وليس هو بمتكلم عند الجهمية، بينما يطلق المعتزلة أنه متكلم١ تقية- لئلا يشنع عليهم. إذ معنى أنه متكلم عندهم: أنه فعل الكلام وخلقه في غيره وهذا بعينه قول الجهمية ٢.
وهؤلاء يقولون: إن كلامه حرف وصوت، سور وآيات له أجزاء وأبعاض.
القول الثالث: قول الكلابية والأشاعرة: وهو: أن كلام الله تعالى معنى قائم بالنفس لازم لذاته تعالى لزوم الحياة والعلم، وأن الله لا يتكلم بمشيئته وإرادته، ولا يتكلم بحرف وصوت. وأن الحروف والأصوات حكاية عن كلامه عند (الكلابية)، وعبارة عنه (عند الأشاعرة) وأن كلامه معنى واحد لا يتجزأ ولا يتبعض هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرانية، كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلًا.
_________
١ انظر: المغني للقاضي عبد الجبار ٧/٣.
٢ راجع الفتاوى ١٢/٣١١.
1 / 21
وأول من عرف عنه هذا القول (عبد الله بن سعيد بن كلاب ثم وافقه عليه الأشعري والقلانسي وغيرهما) ١.
والرد على هذا القول هو موضوع كتاب (الرد على من أنكر الحرف والصوت) الذي أقدم هذه الدراسة بين يديه.
هذه أهم الأقوال التي قيلت في الموضوع لخصتها للقارئ بإيجاز والقصد إعطاؤه فكرة موجزة وإلمامة مقتضبة عما قيل في هذه المسألة، إذ ليس المراد إحاطته علما بدقائق ما قيل وتفاصيل ما أوجزت، فإن ذلك مما يضيق عنه هذا المبحث وهو مدون في مظانه ومصادره التي أشرت إلى طائفة منها.
ثم بعد ذلك نشأ الخلاف في عدة مسائل، كمسائل اللفظ والملفوظ والتلاوة والمتلو، وهل يقال لفظي بالقرآن مخلوق ٢، أو غير مخلوق فمنع التلفظ بالعبارتين إمام أهل السنة ﵀ أحمد بن حنبل- وجهّم من قال: لفظي بالقران مخلوق، فقال: «من زعم أن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي» ٣.
_________
١ سيأتي التعريف بهم.
٢ وكان أول من أظهر هذه المسألة حسين بن علي الكرابيسي، في زمن الإمام أحمد. انظر: سير أعلام النبلاء ١١/٢٨٩.
٣ انظر: السنة له ص ٤٩ ضمن شذرات البلاتين.
1 / 22
المبحث الثالث: في ذكر نماذج من المؤلفات التي عنيت ببيان مذهب السلف في المسألة.
لما اشتد افتتان الناس بهذه المسألة، وعمت البلوى بها وعميت الحقيقة على عامة الأمة بادر علماء السلف لإيضاح الحقيقة ورد الحكم في هذه المسألة وغيرها إلى كتاب الله ﷿ وسنة رسوله ﷺ فألفوا في ذلك المؤلفات التي تبين منهج الكتاب والسنة وسلف الأمة الصالح في هذا الباب، وردوا على أهل الباطل باطلهم، وبينوا للناس ضلالهم وكشفوا عوارهم وبينوا أنهم دعاة فتنة وإلحاد في أسماء الله وصفاته.
فمن تلك المؤلفات ما هو عام في بيان السنة في كثير من مسائل العقيدة، ومنها ما هو خاص بمسألة القرآن.
فمن النوع الأوّل:
١- كتاب الرد على الجهمية والزنادقة للإِمام أحمد بن حنبل (ت٢٤١ هـ) .
٢- كتاب السنة للإِمام أحمد أيضًا.
٣- كتاب السنة لعبد الله بن الإِمام أحمد (ت ٢٩٠ هـ) .
٤- كتاب الرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي (ت٢٨٠هـ) .
٥- كتاب الرد على بشر المريسي للدارمي أيضًا.
٦- كتاب الرد على الجهمية لابن منده (ت ٣٩٥ هـ) .
1 / 23
٧- شرح أصول اعتقاد أهل السنة للإِمام اللالكائي (ت٤١٨هـ) .
٨- الإبانة لأبي الحسن الأشعري (ت ٣٢٤ هـ) .
٩- الإِبانة لابن بطه (ت ٣٨٧ هـ) .
ومن النوع الثاني:
١- كتاب الحيدة في الرد على المريسي للمكي عبد العزيز بن يحيى الكناني (ت ٢٤٠ هـ) .
٢- كتاب خلق أفعال العباد للإِمام البخاري (ت ٢٥٦ هـ) .
٣- كتاب الاختلاف في اللفظ للإِمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت ٢٧٦ هـ) .
٤- الإِبانة في مسألة القرآن لأبي نصر السجزي (المؤلف) (ت ٤٤٤هـ) .
فهذه نماذج من الكتب المؤلفة في الباب وهناك الكثير غيرها.
1 / 24
الباب الأول: التعريف بالمؤلف
الفصل الأول: عصر المؤلف
...
الفصل الأول: عصر المؤلف (٠٠٠ - ٤٤٤هـ)
تمهيد:
قبل الشروع في دراسة حياة المؤلّف والتعريف به، رأيت أن أقدم بين يدي ذلك عرضًا موجزًا للبيئة التي عاش فيها، والظروف التي سادت في عصره، وأحاطت بحياته، إذ أن المرء ابن بيئته، يتأثر بالظروف والمؤثرات المحيطة به.
لذا كان لزاما علينا ونحن ندرس حياة عَلم من أعلام الإسلام، كالإِمام أبي نصر السجزي، أن نلم بالأحوال التالية في عصره:
الحالة السياسية.
الحالة الاجتماعية.
الحالة العلمية.
الحالة الدينية
الحالة السياسية:
لم تذكر لنا مصادر ترجمة الإِمام أبي نصر السجزي متى كانت ولادته، وإنما اكتفت بذكر تاريخ وفاته وأنه بعد الأربعين وأربعمائة، ثم أشير فيها إلى أنه كان يعيش قبل الأربعمائة، حيث بدأ رحلته في طلب العلم كما سيأتي معنا.
إذًا علينا أن نعرض للحالة السياسية في الربع الأخير من القرن الرابع والنصف الأول ومن القرن الخامس الهجريين وهي الحقبة التي عاشها الإِمام أبو نصر على وجه التقريب.
1 / 28
وعلى هذا فقد عاصر أبو نصر دولة بني العباس في عصر انحسار نفوذ الخلفاء وتقلص سلطان الدولة الفعلي، حيث استقل كل أمير بإمارته وكل أهل ناحية، بما يليهم، فقامت دويلات متناحرة، ولم يبق للخليفة العباسي سوى بغداد، ولم تكن سلطته عليها سائدة على كل حال.
فأدرك أبو نصر الخليفة العباسي القادر بالله أبا العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله (٣٨١-٤٢٢ هـ)، ثم الخليفة القائم بأمر الله أبا جعفر عبد الله بن القادر بالله (٤٢٢-٤٦٧ هـ) ١.
وكان الضعف قد دب في كيان هذه الدولة في نهاية الربع الأول من القرن الرابع الهجري، حيث أصيب العالم الإسلامي في نحو سنة ٣٢٤ هـ بانقسام كبير حتى كأنه عقد قد انفرط أو صخرة قد تفتت - كما يقول أحمد أمين ٢ - وإن كانت قد انفصلت بعض أجزاء الدولة قبل ذلك التاريخ، إلا أنه لم يحصل مثل هذا التمزق إلا في نحو هذا العام.
يقول ابن كثير: في هذه السنة: "وهَيَ أمر الخلافة جدًا، واستقل نواب الأطراف بالتصرف فيها ولم يبق للخليقة حكم في غير بغداد ومعاملاتها، ومع هذا فليس له فيها نفوذ ولا كلمة تطاع" ٣.
ثم لازم هذا الوضع المتردي الدولة العباسية إلى أن أفل نجمها، وانثل عرشها على أيدي التتار سنة ست وخمسين وستمائة حين قضى هولاكو
_________
١ انظر: البداية والنهاية١١/٣٠٨، ١٢/٣١، ١١٠.
٢ انظر: ظهر الإسلام ٢/١.
٣ انظر: البداية والنهاية ١١/١٨٤.
1 / 29
على آخر خلفائها، المستعصم بالله ١.
فنرى القادر بالله والقائم بأمر الله الخليفتين اللذين عاصرهما الإمام السجزي، وليس لهما من الخلافة إلا الاسم والرسم، حيث استبد البويهون ٢ بأمور الدولة في العراق وفي بغداد نفسها، فضلًا عن سائر الأقاليم التي أصبحت دولًا لها ملوكها الذين لا يخضعون للدولة العباسية إلا اسمًا.
إذ لم تزل بقية من هيبة الخلافة وجلالها تكمن في أذهان أولئك السلاطين والأمراء.
فكان ملوك وسلاطين الأقاليم المنفصلة عن دولة الخلافة يعترفون بالسيادة الاسمية لدولة الخلافة، ويدعون للخليفة العباسي في المساجد وعلى المنابر، ويبعثون إليه من الهدايا ما يشترون به الألقاب، ويحرصون على الظفر بموافقته لاكتساب الصبغة الشرعية أمام العامة ٣.
_________
١ انظر: المرجع السابق ١٣/٢٠٠.
٢ نسبة إلى جدهم أبي شجاع بويه. وقد استبدوا بالسلطة في عهد الدولة العباسية في الفترة من (٣٢٠ـ٤٤٧) - وكانوا شديدي التعصب للشيعة. ومن أهم زعمائهم في عصر الخليفة العباسي القادر بالله وابنه القائم بأمر الله، بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة حكما من ٤٠٣ـ٤١١ هـ ومشرف الدولة ٤١١ـ٤١٦هـ، وجلال الدولة ٤١٦ـ٤٣٥هـ وأبو كاليجار ٤٣٥ـ٤٤٠. انظر: تاريخ الإسلام السياسي ٣/٣٧ـ٦٣.
٣ انظر: تاريخ الإسلام السياسي ٣/٢٤٩.
1 / 30
وكانت حينئذ الأندلس بيد الأمويين، ومصر وإفريقية والشام بيد الباطنيين، وغزنه ونواحيها بيد السبكتكينيين وخرسان وناحيتها يسيطر عليها السلاجقة ١.
هكذا كانت الحالة السياسية في عصر الإِمام أبي نصر السجزي، عصر الدويلات المتناحرة على السلطة، عصر السطو على سلطان الخليفة العباسي وتجريده من مسئولياته، مع الحفاظ على بقائه على عرش الخلافة اسما والدعاء له بذلك على المنابر، ما دام قانعًا راضيًا، بذلك فإن طمع في أكثر منه، قضي عليه بصورة أو بأخرى وجيء بمن هو أكثر منه قناعة، وأسلس قيادًا.
الحالة الاجتماعية:
لقد لاحظنا فيما سبق الفوضى السياسية التي عمت البلاد، وكيف سُلب الخليفة سلطانه الفعلي، وفقد سيطرته على أجزاء مملكته فاستقل الأمراء والسلاطين بالسلطة، واشتغلوا بالاقتتال عليها والتناحر من أجلها.
في ظل هذا الواقع السياسي غير المستقر، لا يمكن أن تكون الحياة الاجتماعية مستقرة وادعة.
فاشتغال السلاطين والأمراء بالوصول إلى السلطة، شغلهم عن تأمين حياة اجتماعية، كريمة آمنة للأمة.
والإِنفاق المفرط على الحروب التي نشبت بينهم، أرهق اقتصاد
_________
١ انظر: محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ٢/٤٠٠ بتصرف.
1 / 31
البلاد، فنضبت أكثر الموارد وتفشى بين الناس أمران خطيران: غلاء المعيشة، واضطراب نظام الأمن في البلاد.
فأما الغلاء فقد بلغ حدًا لا يتحمله عامة الناس، ففي سنة ٣٨٢ غلت الأسعار ببغداد وهي حاضرة الخلافة، حتى بيع رطل الخبز بأربعين درهمًا والجزر بدرهم ١.
وزاد الحال سوءًا في سنة ٣٩٣ هـ فغلت الأسعار ببغداد جدًا وعدمت الحنطة وبيع الكر٢ بمائة وعشرين دينارًا كما يقول ابن كثير٣.
وفي سنة ٤١١ هـ بلغ الغلاء ذروته، والجوع غايته، فحل بالعراق غلاء مفرط حتى أكل الناس الكلاب والحمر٤.
وإذا كان هذا الحال في العراق وبغداد، عاصمة الدولة وحاضرتها فما بالك بما سواها من القرى والأمصار. لقد ضاق بأهلها الحال وجاع العيال. ومع هذأ فقد كان هناك إلى جانب هذه الفاقة والجوع وهذا الغلاء الذي حل بالبلاد، وعم أكثر العباد، كان هناك ترف وسرف في
_________
١ انظر: البداية والنهاية ١١/٣١١.
٢ الكر: مكيال لأهل العراق. والكر: ستة أوقار حمار وهو عند أهل العراق ستون قفيزًا، قال أبو منصور. الكر: ستون قفيزًا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف. قال الأزهري: والكر من هذا الحساب اثنا عشر وسقًا، وكل وسق ستون صاعًا. انظر: اللسان ٥/١٣٧.
٣ البداية والنهاية ١١/٣٣٢.
٤ انظر: العبر ٣/١٠٤.
1 / 32