Traité expliquant comment les religions se propagent
رسالة في بيان كيفية انتشار الأديان
Genres
لهذا فمشروعية الجهاد في الشرائع الإلهية لا تخلو عن حكمة بالغة، وليس فيها ما يمس بجوهر الشرائع ما دام أن الشارع لم يقصد إلا الخير العام، ومعارضة الشعوب - ابتداء - للأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام ليس إلا لمحض العناد والجهل بمزايا الشرائع، وقد يكون لأسباب أخرى سياسية مصدرها أولو السلطة وأرباب الرياسة في الهيئة الاجتماعية، لما يرونه فيها من القيود التي تغل أيدي جورهم وتمنعهم عن فجورهم، فيشعرون بثقل يد الشريعة العادلة ويخشون من أن تثل عروش عتوهم في الأرض، فيقومون لذلك في وجه صاحب الشريعة مثبطين معارضين، فيميل معهم مؤازرا من يميل إما رهبة منهم أو رغبة فيهم وطاعة لهم، فهؤلاء لما لم يقف بهم العتو عند حد الضرر للنفس بصدها عن سبيل الحق، بل أجرموا بمنع غيرهم أيضا عن قبول الخير المحض، والعقل يجوز قتل المجرم الآثم، فقد وجب قتالهم وقتلهم أنى وجدوا بحكم العقل والعدل؛ لأنهم الصادون عن سبيل الله المانعون للخير العام، فمشروعية الجهاد بمثلهم في الشرائع الإلهية عادلة لا سبيل لإنكارها بوجه من الوجوه.
فإذا تمهد هذا فاعلم أن من ينكر على الديانة المحمدية مشروعية الجهاد فيها فقد أخطأ خطأ ناشئا عن عدم البحث والاستقراء لأمور؛ أولها: أن الشرائع بمعناها المضاف إلى الغرض الظاهر من وضعها للبشر قوة تقف بالإنسان عند حد الواجب - كما رأيت في الفصل الثالث - فلا تستغرب فيها مشروعية الجهاد، وثانيها: أن الجهاد شرع في كثير من الشرائع السابقة كشريعة إبراهيم وموسى وداود وعيسى عليهم الصلاة والسلام قبل أن يشرع في الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية، فهي لم تختص به وحدها، وثالثها: أن الجهاد لإعلاء كلمة الحق ودفع شر المؤذين لا ينكر على الشرائع الإلهية كما رأيت فيما مر في هذا الفصل، ورابعها: أن الجهاد في الشريعة الإسلامية شرع على وجه أخف مما كان عليه في شريعتي موسى وداود عليهما السلام وإليك البيان.
مطلب مشروعية الجهاد في شريعة إبراهيم عليه السلام
فأما أن الجهاد مشروعا في تلك الشرائع السابقة فثابت بنص «الكتاب»، فقد جاء في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حارب ملوك المشرق عندما كسروا ملوك السدوميين، وافتك من أسرهم ابن أخيه لوطا، واسترد أملاك السدوميين وأسلابهم، ولم يرض بأن يأخذ لنفسه نصيبا من هذه الغنيمة ما عدا الرجال الذين كانوا معه - ولعلهم القواد - وهم: عانر وأشكول وممرا، فإنه سمح لهم بأخذ نصيبهم منها، فقيام إبراهيم عليه السلام بنفسه لقتال هؤلاء الأعداء يدل على أنه مأذون بذلك من لدن الخالق تعالى، وأن قتال الأعداء والجهاد فيهم كان مشروعا في شريعته الطاهرة حتى فعل ما فعل، وإلا ما كان ليقدم على ذلك بالنظر لمقام النبوة إذا لم يكن مأمورا به، وهذا مما لا ريب فيه.
مطلب مشروعية الجهاد في شريعة موسى عليه السلام
وكذلك موسى عليه الصلاة والسلام فقد شرع الجهاد في شريعته على وجه بلغ من الشدة ما بلغ، فقد جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الخروج أن الله سبحانه وتعالى أمره أن يبيد عن وجه الأرض كثيرا من الشعوب، وأن يكسر أصنامهم، وهؤلاء الشعوب هم: الأموريون والحثيون والفرزيون والكنعانيون والحريون واليبوسيون، وأنه سبحانه يزعج له جميع الشعوب الذين يأتي عليهم ويعطيه أرضهم، وكان كذلك، فقد جاء في الإصحاح الحادي والعشرين والثاني والعشرين من سفر العدد أنه - أي موسى عليه السلام - قاتل الأموريين وملكهم سيحون، وقتله وأخذ بلاده بحد السيف من نهر أرنون إلى نهر نبوق، وقاتل بني عمرن وملكهم عوج وأخذ أرضهم بحد السيف، وحارب الموآبيين والمريانيين، وأرسل بعض أسباط إسرائيل لمحاربة الكنعانيين وغيرهم. وبالإجمال فقد كانت أيامه كلها حروب وجهادات منذ خروجه من مصر ودخوله في سورية حتى وفاته عليه السلام، وقبل وفاته أقام يشوع قائدا على جماعة بني إسرائيل، وما زال بنو إسرائيل متبعين حكم الجهاد إلى انقراض دولتهم بعوامل الحروب المتوالية في الأرض.
مطلب مشروعية الجهاد في شريعة داود عليه الصلاة والسلام
وكذلك داود عليه السلام فقد شرع الجهاد في شريعته على وجه شديد أيضا، كما ورد في صموئيل الأول والثاني فإنه حارب العمالقة واسترد منهم ما سلبوه من مدينته صقلع التي أعطاه إياه أخيش، وحارب أشبوشب وقهره، وبقيت الحرب بينهما سنتين، وحارب اليبوسيين وافتتح منهم أورشليم، وحارب الفلسطينيين وقهرهم حتى لم يعودوا يضايقوه، وهاجم الأمم المجاورة فغلب الفلسطينيين مرة ثانية وحارب الموآبيين وضرب الخراج على الآراميين، وذلل عماليق والأروميين واستاق منهم غنائم وافرة، والتحمت الحرب بينه وبين ملك بني عمون الذي استصرخ الآرميين فأجابوه وأعانوه، وحدثت ثلاثة حروب شديدة بين الفريقين واشتد القتال حتى خرج داود عليه السلام بنفسه وقاد جنوده وضربهم ضربة عظيمة حتى أخضع بني عمون والآراميين، فامتد تخومه إلى الفرات. وبالإجمال فقد كانت أيامه كلها حروب وجهادات حتى إنه قصد أن يبني هيكلا للرب، إلا أنه امتنع لأمر الله؛ لأنه كان رجل حرب (7ص) تقدم عنده فريضة الجهاد في سبيل الله على إقامة مساجد الله.
مطلب مشروعية الجهاد في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام
وكذلك شرع الجهاد في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، بدليل قوله في إنجيل متى (عدد 34) «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا»، فمفهوم هذه الآية صريح في مشروعية الجهاد صراحة تبلغ الغاية في الدلالة على الشدة، وعلى حكمها أعلنت الحرب الدينية في عهد الإمبراطور يوقيانوس وغيره في الممالك الغربية، وامتد أيضا صوت دعاة الجهاد في أطراف الممالك الأوربية في العصور المتوسطة الهجرية، فالتحمت حروب الصليب في المشرق التحاما متواصلا مدة تزيد عن جيلين، وكثيرا ما نودي أيضا في نفس أوربا بالحروب الدينية مع الكنائس المنشقة، مما ذهب فيه من الأموال والأنفس ما لا يعد ولا يحد، وفي أعمال جمعية الأنكبزيسيون في إسبانيا التي استمرت من عهد الملك فرديناند وزوجته إيزابيلا إلى عهد الملك فيلبوس الثاني
Page inconnue