Traité expliquant comment les religions se propagent
رسالة في بيان كيفية انتشار الأديان
Genres
ومن البديهي أن تلك الروابط المفتقر إليها جماعات الإنسان وهذه القوة المعنوية التي يرتاح إليها الجنان إنما هي الشرائع الإلهية التي تجمع الشعوب على كلمة الألفة والحب وتوثق بينهم عرى الإخاء والمساواة، وترشدهم إلى الطاعة التي هي أساس الشرائع الداعية إلى انتظام الأحوال وتبادل الأيدي على الأعمال، فالشرائع ضرورية للبشر بمقدار حاجتهم إلى الاجتماع.
ومن المقرر أن خضوع جماعات من الإنسان مختلفي العناصر والأجناس لسلطة واعية ونظام شامل أمر يصعب حصوله، ما لم يكن أولى بصالحهم الاجتماعي الأعم، ولما تحقق عند البشر مع التمادي والتدريج أن الشرائع الإلهية هي ذلك الوجه الكافل براحة الاجتماع العمومي، وأن خضوعهم لشرائعه تعالى، وانقيادهم لكلمتها الجامعة أمر لا بد منه في جانب مصلحة المجتمعات القائمة بالتعاون والاتحاد اللذين يترتب عليهما نمو الحياة الأدبية وبقاء النوع كان تمسكهم بمبدأ التآلف الاجتماعي تحت جامعة الأديان أمرا مستمرا لم تخل منه الشعوب في كل زمان.
ولا جرم أن دعامة الاجتماع هو الدين؛ إذ به يصان نظام الأمم من الخلل والتفريق، ويدفع خطر الفوضى والعصبيات الجنسية التي تهوي بالشعوب من الهلكة إلى مكان سحيق.
الفصل الثاني
ترقي الشرائع بترقي الإنسان
من المقرر الثابت في تاريخ الإنسان أخذه بالترقي في سلم المدنية منذ العصور القديمة إلى الآن، وقد مر عليك أن روابط الأديان هي القائمة بحفظ نظام الإنسان، فلهذا كانت الشرائع الإلهية - التي على إثرها تقوم ومنها تستنبط الشرائع الوضعية - تتوالى على الشعوب بواسطة الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، بما يوافق المناسبات الطبيعية والترقيات التدريجية الملازمة للحضارة والعمران مع توالي الأزمان، بدليل أن ما من رسول إلا ويبعث إلى قومه على فترة من الرسل فيوحى إليه بشريعة أرقى، تنسخ ما قبلها وتكون أجمع لضروب الأحكام التي تقتضيها سنة الترقي البشري والتقدم الاجتماعي، هذا من حيث الفروع لا من حيث الأصول؛ إذ الأصل في الشرائع الإلهية واحد وهو التوحيد، فالأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لم يكن من العبث إرسالهم هكذا في أزمنة متباعدة، نهاية كل منها بداية غيره، بل سنة الترقي وحكمة موحي الشرائع جل شأنه في هذا اقتضت ذلك؛ رعاية لمصالح العباد المنوط حفظها بالشرائع الكافلة بانتظام النظام الاجتماعي بالنسبة لما يصادفه كل نبي من الشئون والمناسبات الطبيعية، بالإضافة إلى كل أمة وزمان، والاعتراف بهذه الحقيقة لا يفتقر لغير اطراح التشيع المذهبي ولغير النظر إليها بعين التروي والإنصاف؛ إذ حكمة التشريع على نهج الترقي المذكور قضية ثابتة حتى في الوضعيات العقلية لا يتردد في قبولها الوجدان ولا يماحك فيها إنسان فكيف بها إذا كانت من وضع الحكيم العليم بمصالح عباده أجمعين.
فشريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لو كانت مع موافقتها بالوضع للمناسبات الزمانية مستوفية لشروط الدوام والاستمرار لما كان أوحي فيما بعد إلى موسى عليه السلام بشريعة أخرى تخالفها في كثير من الأحكام، كإباحة الجمع بين الأختين في الأولى وتحريمه في الثانية مثلا، لا جرم أن علم الخالق تعالى بحاجة الخلق التي تختلف باختلاف الأزمنة وتترقى بترقي الشعوب هو الذي اقتضى ذلك، وإلا لاختل نظام الوجود الاجتماعي المستمد روح القوة من نور الشرائع والأديان، لهذا نرى أيضا أن الشريعة المحمدية - الجديرة بالنظر والاعتبار لتأثيرها على النظام الاجتماعي تأثيرا سريعا وتلقي العقول لها بالقبول والناس بالرضا والاختيار - لما كانت خاتمة الشرائع الإلهية كان من الحكمة بلوغها درجة الكمال بالنسبة لما تقدمها من الشرائع التي لم تتجاوز حد الحاجة الاجتماعية، بالإضافة إلى أزمنة ظهورها وتبليغها بواسطة الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فالله سبحانه وتعالى لما اقتضى علمه الكريم وجود شريعة كاملة تأتلف بها القلوب ويتم بها نظام الاجتماع فتكون خاتمة شرائعه الإلهية أنزل هذه الشريعة المحمدية مهيئة لأن تجمع أمما مختلفة وشعوبا متباينة، وارتضاها لأن تكون شرعا قيما للناس كافة، بدليل قوله تعالى خطابا للمؤمنين أي لمن آمن بصاحب هذه الشريعة وبما جاء به وصار من أتباعه وأهل ملته من أهل الكتاب وغيرهم من الطوائف والملل الأخرى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، فمفهوم هذه الآية الشاملة في الخطاب للمسلمين ممن كان منهم من أهل الكتاب وغيرهم واضح لا يحتاج إلى زيادة تفسير وبيان.
ويؤيد هذا الدليل الحق ما جاءت به الشريعة الإسلامية من الأحكام المحيطة بالزهيدة والجليل من العبادات الدينية والمعاملات الدنيوية، وهي أحكام الحدود والعقوبة والقصاص، والسياسة والحقوق وفروعها، والترغيب والترهيب وفروعهما، وغير ذلك مما لم تستوفه شريعة من الشرائع السابقة، ومن نظر في كتب الأصول في الشريعة الإسلامية وما حوته من المسائل الشرعية واستوعبته من دقائق الأحكام العادلة الملائمة لكل زمن، بل ولكل حالة تقتضيها سنة الترقي والانتقال في الهيئة الاجتماعية لما توقف عن الاعتراف إن لم يكن باللسان فبالضمير والوجدان، بأنها الشريعة الكاملة السمحاء التي أتم الله بها نعمة الراحة الاجتماعية على من تلقاها من البشر؛ إذ أية شريعة غير الشريعة الإسلامية ترشد الإنسان إلى كل باعث من بواعث الراحة والطمأنينة في الحياة البشرية، فتعلمه آداب المعاشرة والمعاملة والتخاطب، والطهارة، والقيام والجلوس، حتى آداب الأكل واللبس، وبالإجمال فهي ترشده لكل طرق الخير، وتنهاه عن كل طرق الشر،
1
Page inconnue