تكونت وجبته الأولى في جزر البهجة من سمكتي رنجة مدخنتين برتقاليتين لامعتين مملحتين تمليحا غير كاف ومخضبتين بوفرة في أبردين، وخبز معد في جلاسكو، وكعك شوفان مخبوز في مصنع في إدنبرة ولم يحمص منذ ذلك الحين، ومربى مصنوعة في دندي، وزبد مصنوع في كندا. وكان المنتج المحلي الوحيد هو جبن كرودي مصفر على هيئة بيضة؛ وهو منتج ثانوي أبيض مفتت لا رائحة له ولا طعم.
كانت غرفة الجلوس في ضوء المصباح غير المظلل أقل فتحا للشهية مما كانت عليه في ضوء فترة ما بعد الظهيرة الرمادي، وهرب جرانت إلى حجرة نومه الصغيرة الشديدة البرودة. طلب زجاجتي مياه ساخنة واقترح على كاتي آن أن تأخذ الأغطية من جميع غرف النوم الأخرى في المكان وتضعها تحت تصرفه بما أنه هو النزيل الوحيد. وفعلت ذلك بكل استمتاع كلتي فطري بالأمور غير المعتادة، فكومت على سريره وسائل الترف المستعارة وهي تختنق من الضحك.
رقد تحت خمس قطع محشوة هزيلة، يعلوها معطفه الخاص ومعطف واق من المطر من ماركة بربري، وتظاهر بأن كل ذلك لحاف إنجليزي واحد جيد محشو بزغب الطيور. وبينما كان شعوره بالدفء يزداد، صار واعيا لجو الغرفة السيئ التهوية البارد. كانت هذه هي القشة الأخيرة، وفجأة راح يضحك. كان راقدا في مكانه ويضحك كما لم يضحك منذ قرابة سنة. ضحك حتى دمعت عيناه، وحتى أنهك تماما ولم يعد يقوى على المزيد من الضحك، ورقد منهوك القوى خالي البال سعيدا تحت مجموعة أغطية الفراش المتنوعة الرائعة.
فكر قائلا لنفسه إن ضحك المرء يصنع أشياء لا توصف بالغدد الصماء، فيشعره بفيضان من الصحة يغمره بمد باعث على الحياة . وربما بالأخص حين يكون ضحك المرء على نفسه. على سخافته وعبثيته الرائعة المجيدة فيما يتعلق بالعالم. كان الانطلاق نحو أعتاب «تير نان أوج» والوصول إلى فندق كلادا يتسم بعبثية شديدة. وإن لم تمنحه الجزر الغربية شيئا سوى ذلك فسيعتبر أنه قد تلقى مكافأة مجزية.
توقف عن الاهتمام بأن تهوية الغرفة سيئة وأن الأغطية غير مستقرة. تمدد ينظر إلى ورق الحائط المثقل بالورود، وتمنى لو كان يستطيع أن يريه للورا. تذكر أنه لم يكن قد نقل بعد إلى غرفة النوم المجددة حديثا في كلون، التي كانت دائما، وحتى الآن، غرفته. هل كانت لورا تنتظر زائرا آخر؟ أيحتمل أنها كانت ستستضيف أحدث اللواتي ترشحن له للزواج تحت سقف المنزل نفسه؟ حتى الآن كان سعيدا وهو بمنأى عن مجتمع الإناث؛ كانت الأمسيات في كلون أمسيات عائلية، هادئة وطويلة. فهل كانت لورا تساعده فحسب حتى يتمكن من ملاحظة أهمية مسألة الزواج؟ كانت متحسرة لدرجة تثير الشك بأنه كان سيفوت افتتاح القاعة الجديدة في مويمور. وهي مناسبة ما كانت لورا في حالتها العقلية الطبيعية ستتوقع منه أن يحضرها على الإطلاق. فهل كانت تنتظر ضيفا في الافتتاح؟ لا يمكن أن يكون الغرض من غرفة النوم هو تجهيزها لليدي كينتالين؛ لأنها ستأتي من أنجوس وستعود بعد ظهر اليوم نفسه. إذن من أجل من أعيد تجهيز هذه الحجرة وأبقيت فارغة؟
كان لا يزال يفكر في هذا السؤال البسيط حين غلبه النوم. ولم يخطر على باله إلا في الصباح أنه كان يكره النافذة المغلقة لأنها جعلت الغرفة سيئة التهوية وليس لأنها كانت مغلقة.
اغتسل بجالوني الماء الفاتر اللذين أحضرتهما كاتي آن ونزل إلى الطابق السفلي مبتهجا. كان يشعر بأنه في غاية السعادة. تناول خبز جلاسكو الذي ازداد عمره يوما آخر هذا الصباح، وكعك شوفان إدنبرة، ومربى دندي، والزبد الكندي، إلى جانب بعض النقانق من وسط إنجلترا، واستمتع بتناول كل ذلك. وبعد أن تخلى عن توقعاته عن البهاء البدائي، كان مستعدا لتقبل الوجود البدائي.
سر عندما وجد أن آلام الروماتيزم قد اختفت تماما على الرغم من الريح الباردة والسرير الخشن المغطى بأغطية هزيلة؛ إذ لم يعد عقله الباطن بحاجة إليها لتمثل ذريعة. كانت الريح لا تزال تعوي في المدخنة، والمياه تتفجر متصاعدة من حاجز الأمواج، لكن المطر كان قد توقف. ارتدى معطف المطر وانعطف حول مقدمة الميناء إلى المتجر. كان يوجد مكانا عمل فقط في صف المنازل التي تحف بالميناء، وهما مكتب للبريد ومتجر لبيع المواد الغذائية. كان هذان المكانان معا يمدان الجزيرة بكل ما تحتاج إليه. إذ كان مكتب البريد يبيع الصحف أيضا، وكان متجر المواد الغذائية مزيجا من بائع خضر، وخردواتي، وصيدلاني، وبائع أقمشة، ومتجر أحذية، وبائع تبغ، وبائع خزف، وبائع لمستلزمات القوارب والسفن. كانت لفات القماش القطني الأبيض المزين بأنماط ملونة، المستخدم لصناعة الستائر أو الفساتين؛ موضوعة على الأرفف بجوار علب البسكويت، ولحم الخنزير المدخن يتدلى من السقف وسط صفوف من الثياب التحتية المصنوعة من نسيج متداخل. اليوم لاحظ جرانت أنه توجد أيضا طاولة خشبية كبيرة من الكعكعات الرخيصة المخبوزة في أوبان، إن كانت الورقة التي تلتف بها الكعكات الصغيرة صادقة. كانت تلك الكعكات رديئة ومبططة، وكأنها أخذت تتقلب هنا وهناك في إحدى الكراتين المصنوعة من الورق المقوى، التي كانت جزءا لا يتجزأ من الحياة على الجزيرة، وكان يفوح من الكعكات رائحة خافتة جدا للبارافين، لكن جرانت افترض أن تلك الكعكات كانت مختلفة عن خبز جلاسكو.
في المتجر كان هناك عدة رجال من قوارب الصيد في الميناء ورجل قصير بدين يرتدي معطفا أسود واقيا من المطر لا يمكن أن يكون سوى قس. كان هذا من حسن طالعه. إذ شعر أنه حتى الثلث التابع للكنيسة المشيخية لا يملك أن يأخذ عليه لقاء وليد الصدفة في متجر عام. اقترب جرانت من نيافته حتى صار بجواره وانتظر معه، بينما كان الصيادون يتلقون الخدمات التي أتوا من أجلها. بعد ذلك كانت الأمور في غاية السهولة. «تجاذب» القس معه أطراف الحديث ليتعارفا، وكان هناك خمسة شهود على ذلك. وعلاوة على ذلك، أدخل الأب هيسلوب بلباقة صاحب المتجر، المدعو دنكان تافيش، في المحادثة، ومن واقع أن الأب هيسلوب دعاه بالسيد تافيش وليس دنكان، استنتج جرانت أن صاحب المتجر لم يكن أحد رعيته. وهكذا رأى بسرور كبير أنه لم يحسب على أي من الطائفتين في الجزيرة، وما كانت ستدور حرب ضروس للاستحواذ عليه.
ثم خرج إلى الجو المشوب بريح شديدة مع الأب هيسلوب، وسارا معا حتى المنزل. أو بالأحرى صارعا الريح معا، فكانا يتقدمان بضع خطوات في كل مرة، ويتعالى صوت أحدهما بالتعليقات للآخر حتى يعلو صوته فوق ضوضاء ملابسهما التي ترفرف من فعل الرياح. وكان جرانت يحظى بميزة لم يحظ بها رفيقه، وهي أنه لم يكن يرتدي قبعة، لكن الأب هيسلوب لم يكن أقصر فحسب، وإنما كان يحظى بجسد يتسم بانسيابية مثالية للعيش وسط الريح العاتية. لم تكن توجد أي زوايا في جسده.
Page inconnue