واستمرت الميوليتا.
الفصل الثالث عشر
عشر دقائق أخرى استمرتها بحيث لم يعد هواة الإحصاء يحسبون أو يعجبون، وبحيث كان الجمهور نفسه هو الذي أصابه التعب والإجهاد حتى كاد يلهث وهو يتفرج، بحيث شبع الناس من آيات البطولة ومآزق الخطر كجائع مضى يلتهم الطعام حتى أصيب بالتخمة وبدأت نفسه تعاف الطعام، ولم يعد يهمه إلا أن تنتهي هذه المرحلة ويحين الوقت كي يغرس المصارع سيفه بين ضلوع الثور ويخلص عليه ويخلصهم منه.
عشر دقائق طويلة كالأبد والثور العنيد أمام المصارع العنيد وكلاهما لا يرحم الآخر، وكلاهما لا يمل أو يكل وكأنما يخجله أن يضعف في حضرة خصمه. والساحة قطعاها من المحيط إلى المحيط ولم يعد فيها مكان إلا وشهد مأزقا أو خطرا أو حركة بالغة البراعة والبطولة، ومنهما معا.
لم يعد يربط الناس في الحقيقة إلى مقاعدهم وإلى المعركة اللانهائية الدائرة أمامهم إلا تلك الخيوط الخفية، آلافها المؤلفة التي تربط كلا منهم وكأنما بطريقة شخصية محضة بصاحبنا المصارع، والتي بمضي الثواني والدقائق كانت تقوى وتشتد حتى لقد ملوا المصارعة ولكنهم لم يملوا المصارع ولم تتخل عنهم لومضة متابعتهم له، أو غادرهم لثانية قلقهم الهائل عليه وعلى مصيره، حتى لقد انعكس ذلك الارتباط والاهتمام على نظرتهم للثور. قد يكرهونه أو يحقدون عليه فقد كان يحارب ببطولة هو الآخر وحذق، ولكنهم أيضا لم يحبوه أو يشفقوا عليه. الحقيقة كانت عواطفهم تجاهه تنبت فجأة وتتغير فجأة وتختفي فجأة! فاذا حاصر المصارع وبدا أنه سينقض، ارتفع لديهم حقد مفاجئ عليه يبلغ الذروة، وينخفض حالا إلى الصفر حين ينجح صاحبنا المصارع في التغلب على المأزق. وحين كانوا يرون الثور يبذل جهده المضني القاتل ويلهث لهثة المؤرق وهو يكافح ليستدير وليعود يهاجم، كانت تنبت له في أنفسهم شفقة ولكنها إلى حين. وأخيرا وكميل شمس يوم صيام طويل حار تشرخت له من الظمأ حلوق الصائمين، كميل شمس يوم كهذا للمغيب، بدا في النهاية أن التعب قد نال من الثور تماما حتى أصبح يتوقف عن الحركة مرغما.
وكاد الناس يتنفسون الصعداء لولا أنهم أدركوا أن المصارع هو الآخر كان قد هده التعب هدا. بدا هذا واضحا من الجهد العظيم الذي كان يبذله لكي يولي الثور ظهره مبتعدا عنه، حين يكف عن الهجوم ليتلقى تحية الجمهور.
وكأنما بمعاهدة غير مكتوبة كثرت النوبات التي يتوقف فيها الثور بلا حراك، والتي يتركه فيها المصارع ويستدير محييا الجمهور في بطء.
وكذلك مضى الثور يستغرق مددا أطول لكي يستعد ويعاود الهجوم فترات ونوبات أتاحت للغريمين العنيدين أن يختلسا بضع لحظات يلتقطان فيها أنفاسهما استعدادا للمرحلة الحاسمة المقبلة.
وهكذا دون أن يدوي نفير، أو يدل شيء على الحدث الخطير التالي، ترك المصارع الثور واقفا وسط الدائرة الرملية لا يتحرك، واقترب من السور حيث استبدل بالقطعة المعدنية سيفا من الصلب اللامع، وكذلك غير «الكابا» الحمراء بأخرى في لون الدم القاني.
ودارت محاورات أخرى، الخلاف الوحيد بينها وبين ما سبقها أن المصارع كان يستعمل السيف في سند العباءة وفردها بدل القطعة المعدنية. المحاورات التي يأمل المصارع منها أن يصل الإنهاك بالثور حد التوقف عن الحركة، وأن يضمن توقفه هكذا لبعض الوقت بحيث حين يبتعد عنه وينشن بالسيف على المكان المناسب للطعنة، ثم يندفع تجاهه، لا يتحرك الثور إلا قليلا، وبهذا يأخذ الطعنة إلى النهاية، إلى مقبض السيف.
Page inconnue