وكان الإمضاء «ع. م. العقاد» على عادة التوقيع بأوائل الحروف في المجلات الأوروبية التي كنا نقرؤها.
وتشاء المعارك القلمية - والحرب سجال كما يقال - أن يقرأ الشيخ بعد ذلك هذا التوقيع تحت مقال عنه بعيد جدا من مقالات الثناء والتأييد؛ لأنني كنت أوقع به كتابتي في صحيفة «الدستور» لصاحبها الأستاذ محمد فريد وجدي، وفيها كتبت وصفا مجملا للمظاهرة «العدائية» التي لقيها الشيخ بدار الجريدة بعد سنة من تاريخ خطاب اللورد كرومر، ولها قصة نوجزها فيما يلي: «شرع المحتلون بعد عهد كرومر في تنفيذ سياستهم الجديدة التي سميت بسياسة الوفاق بينهم وبين الخديو عباس، فكف المؤيد عن انتقادهم ومحاسبتهم، وتجاوز المجاملة أحيانا إلى الرضا والتأييد، وسرت في الأمة يومئذ حركة قومية تطالب الأحزاب جميعا بتعيين موقفها من السياسة الجديدة، فأعلن الأستاذ الجليل - أحمد لطفي السيد - عن خطاب شامل يلقيه بدار «الجريدة» في شارع غيط العدة، بيانا لموقف حزب الأمة من السياسة المصرية على العموم (مايو سنة 1908)، واكتظت دار الجريدة بمئات من المستمعين بينهم كثير من الطلبة والشبان، ونجح الأستاذ الجليل في اجتذاب الأسماع إليه، ولكنني سمعت إلى جانبي همهمة متواصلة في أثناء إلقاء الخطاب، ورأيت خمسة أو ستة من الشبان يخرجون ويعودون ومعهم قراطيس ملأى بالطماطم والبيض، ومع اثنين منهم حمائم يخفيانها تحت سترتيهما، وهما متحفزان.» «وكان المقصود بهذه الحركة كلها إبراهيم الهلباوي بك، ولكنها تناولت الشيخ علي يوسف اتفاقا حين رآه الحاضرون في الاجتماع، ولم يكن منظورا أن يشهده؛ لما بين حزبه وحزب الأمة من الخلاف الشديد. فما هو إلا أن فرغ الأستاذ لطفي السيد من خطابه، حتى انطلقت في جو المكان تلك الحمائم، وانطلق معها هتاف كالرعد بسقوط جلاد دنشواي. ثم تلاه الهتاف بسقوط المؤيد وصاحبه أو سقوط سياسة النفاق، ونال الرجل من قذائف الحاضرين يومئذ أذى غير قليل. وقد وصفت الحفلة في صحيفة الدستور، فقلت إن مظاهرة غيط العدة نسخت مظاهرة قضية التلغرافات، وإن الشعب المصري إذا كان قد حيى صاحب المؤيد عند الحكم ببراءته في تلك القضية فقد سحب تحيته الأولى بهذه الثورة عليه». «ولقيت الشيخ علي يوسف مرة أخرى في تلك السنة بفندق شبرد على الأرجح، حيث أقيمت حفلة توديع لوفد من أعيان البلاد، اعتزموا السفر إلى لندن لإقناع وزارة الخارجية بتوسيع نصيب مصر من الحياة النيابية، وكان هذا الوفد مؤلفا من إسماعيل أباظة باشا ومحمد الشريعي باشا ومحمود سالم بك والسيد حسين القصبي وعبد اللطيف الصوفاني بك وناشد حنا بك والدكتور إبراهيم الشوربجي وبعض المترجمين والمحررين. وحضرت هذه الحفلة منتدبا من جريدة «الدستور»، ولم نكن راضين عن مخاطبة الإنجليز في مسألة الدستور. ولكن الصحيفة ندبتني لتسجيل ما أراه في تلك الحفلة أو الوليمة على الأصح؛ لأنها كانت مقصورة على من ذكرنا من الأعيان وبعض الصحفيين، ومنهم الشيخ علي يوسف عن المؤيد وفارس نمر باشا عن المقطم وآخرون.» «وفي تلك الوليمة بدا لي أن صاحب المؤيد لم ينس كلمتي عنه في التعليق على اجتماع دار الجريدة، فسألني: أنت ع. م. العقاد؟ قلت: نعم. قال: هل بينك وبين السيد حسن موسى العقاد قرابة؟ قلت: هي مشابهة أسماء. فضحك ضحكة غير خالصة وقال: بل لعلها مشابهة في غير الأسماء أيضا. وهو يعني - على ما اعتقدت - ثورة السيد حسن موسى وتمرده؛ لأنه كان في أكثر أحواله مغضوبا عليه من المؤيد وشيعته السياسية.»
ولا أذكر أنني قابلت الشيخ في مجلس من المجالس الخاصة غير هذه المقابلات أكثر من مرتين، يحضرني في إحداهما حديث عن الرتب والنياشين بمكتب أحمد زكي باشا السكرتير العام لمجلس النظار.
وكنا مع زملائنا الصحفيين في طوفتنا اليومية بين «نظارة» الداخلية ومجلس النظار؛ لتسلم نشرات الأخبار الرسمية التي تطبع في الدواوين وتوزع على مندوبي الصحف في مواعيدها اليومية، وقد نشر في ذلك اليوم خبر الإنعام على أحمد زكي باشا برتبة من رتب التشريف، أظنها الباشوية، فخطر لنا - نحن زمرة الصحفيين - أن نمر به مهنئين باعتباره زميلا كبيرا في صناعة القلم، فوجدنا عنده الشيخ علي يوسف يهنئه ويحدثه في مسألة من مسائل المجلس، وكان معنا الأستاذ جورج طنوس مندوب «الوطن» لصاحبه جندي إبراهيم، وكان جورج مشهورا بين زملائه وعارفيه باللجاجة وقلقلة الحديث، فتطوع للنيابة عنا وافتتح التهنئة مخاطبا السكرتير العام على النغمة التي كانت مألوفة في ذلك المقام، فجعل يقول له بصوته الجهوري كلاما في هذا المعنى: «إن الرتبة تزدان بك ولا تزينك، وإن الباشوية لقب يفخر به صاحب العزبة وصاحب الثروة من المال والعقار. وأما صاحب القلم فهو يذكر باسمه - أحمد زكي - وكفى، وبهذا نناديك أيها الكاتب الكبير ولا نزيد.»
وقاطعه الشيخ علي متململا، وتوقعنا أن يقول شيئا يرد به على تهنئة الزميل اللجوج لأكثر من سبب، فإن رجلا يعلم الناس أنه لسان حال القصر يأبى له «دوره» السياسي، إن لم نقل شعوره النفساني، أن يوصف أمامه إنعام الأمير بأنه تحصيل حاصل ونافلة من النوافل التي لا يحفل بها أصحاب الأقلام، وإذا سكت علي يوسف - لسان حال الأمير - عن هذا الاستخفاف بألقابه ونعمه فمن العسير أن يسكت عنه علي يوسف «موزع» الرتب والنياشين، إذ كان للرتب والنياشين موزعون معروفون يبيعونها بأسعارها من رتبة الميرمران الرفيعة بألف جنيه إلى رتبة البيكوية من الدرجة الثانية بثلاثمائة أو أربعمائة جنيه؛ لأن بخل عباس الثاني كان يأبى عليه أن يسخو بالإعانة من ماله على كبار الأعوان، أو يسخو بها على إدارة الصحف الكبرى كلما احتاجت إلى المال الكثير، وكانت لصغار الصحفيين إعاناتهم من «ميزانية المعية السنية» ومن هبات ديوان الأوقاف.
أما «المشروعات الصحفية الواسعة» فقد كان المعول في سداد نفقاتها على أثمان الرتب والنياشين، وكان لها موسمها في كل عام في مناسبات الأعياد والمهرجانات الخديوية، فكانت الحصة الأولى من هذا المحصول السنوي للشيخ علي يوسف وأعوانه في الإسكندرية وعواصم الأقاليم، وكان سكوت الشيخ عن تهوين شأن هذه «السلعة» على مسمع منه غير معقول ولا منتظر، ولعل صاحبنا جورج طنوس لم يقل كلمته تلك إلا وهو يتعمد إثارة الشيخ واستفزازه للرد عليه، ولم يمهله الشيخ - فعلا - أن يتم كلامه إلى نهاية ثرثراته التي لم تكن لها نهاية، فاستوقفه متبرما وقال وهو يخاطبه خطاب من يعرفه ولا يجهل عاداته بين زملائه: «مهلا مهلا يا معلم، إن الرتبة تقدير من ولي الأمر وتقرير لفضل صاحبها بين من يعرفونه ومن يجهلونه، وهل ترفضها يا معلم جورج؟»
ثم التفت إلى السكرتير العام فأعاد عليه التهنئة وهو يقول: «سيهنئك أصحابنا هؤلاء بمزيد من الرتب إلى أعلاها وأرفعها إن شاء الله!» •••
أما مقابلات الطريق فقد كانت مركبة الشيخ تصادفنا أحيانا في طريقنا مع أصحابنا من العباسية حيث أسكن إلى الحي الحسيني حيث نلتقي بأكثر إخواننا الأدباء، أو إلى مقهى عابدين إلى جوار مدرسة الحقوق القديمة حيث كنا نلتقي بطائفة من الطلاب الحقوقيين وغير الحقوقيين، وليست هذه المقابلات العرضية وسيلة من وسائل التعريف تفيدنا كثيرا في كلام نكتبه عن الشيخ كما عرفناه، ولكن إحدى هذه المقابلات ربما عرفتنا بالشيخ في خليقة من خلائقه التي أثرت عنه طوال حياته؛ وهي خليقة «المحافظة» على السمت القديم كما نشأ عليه، وربما عرفتنا مقابلة أخرى بهوى من أهواء نفسه أو أهواء قلبه التي كادت تشغله كما شغلته المحافظة على شارة السمت والوقار.
رأيناه مرة في طريقه إلى قصر عابدين في يوم من أيام التشريفات، فرأينا عجبا من أزياء الرتب المدنية؛ لأنه حافظ على العمامة مع كسوة التشريفة التي تؤهله لها رتبته الرفيعة، ولم يشأ أن يغير عمامته كما غيرها الكثيرون ممن يلبسون كسوة الباشوية، وكان يبدو وهو جالس كأنه يلبس العمامة على «بدلة الأفندية» من لابسي السترة والبنطلون؛ وهو زي كان يتزيا به في القاهرة أبناء طائفة واحدة هي طائفة عمال شركة النور الذين كانوا يخرجون إلى الشوارع في المساء بسترتهم الملونة وسراويلهم الأفرنجية لإشعال مصابيح النور. وقد سخر إخواننا الشبان بهذه المفارقة وتنادروا بها غير قليل، ولكنني في الواقع أعجبت بالرجل لهذه المحافظة وهو يتحدى العرف والسخرية، وأحسست فيها عصامية تأبى أن تفصل مظاهر الألقاب بينها وبين ماضيها.
ومرة أخرى رأيت الشيخ مع السيد توفيق البكري قادمين في مركبة واحدة من قصر السيد بالخرنفش إلى ناحية باب الحديد، فإذا هما في زي واحد من ملابس النزهة الفضفاضة على غاية من الأناقة التي يقصدها القاصد من لابسي هذا الزي التقليدي في القاهرة الفاطمية! وزاد المشابهة في لون الكساء وتفصيله وهندامه أن الشيخ والسيد كانا نمطا واحدا في البنية والقامة وصورة الوجه الدقيق والرأس الصغير، فكأنما كان الشيخان في تلك «الطلعة » الأنيقة فتيين من فتيان الحسينية الظرفاء، يتبادلان المجاملة بهذه المباراة «الودية» في معرض من معارض الصبوة، ولكنها صبوة في حدود «التقاليد» على سنة «المشيخة» من أئمة الطريق، وكلا الرجلين كان من أبناء «الطريق» في مقام الرئيس أو مقام المرشح للرئاسة!
Page inconnue