ومن حول «شتانوجا» ترقد السيارات الطويلة الفارهة، تتمدد على العشب بجوار أحواض الزهور، وداخل كل سيارة سائق يجلس وراء عجلة القيادة في وضع الاستعداد.
وعند مؤخرة السيارة كان الطفل النحيل واقفا في يده فوطة صفراء، يقترب من السيارة في وجل ليمسح الزجاج، ويمد السائق ذراعه من النافذة ويطرده بيده كما يطرد الذباب ، ويجلس الطفل على الأرض في الركن البعيد، وينضم إليه عدد من الأطفال، عيونهم واسعة جاحظة، وبياض العين أصفر، وفي يد كل طفل فوطة صفراء، واليد الأخرى مفتوحة ممدودة في الهواء، تنتظر سقوط قطعة نقود من السماء.
سرت في الطريق الهابط نحو المدينة، واجتزت شارع بهلوي، يسمونه خيايان بهلوي، طوابير الشباب أمام السينما تعرض فيلم راعي البقر، امرأة عارية في وضع الإغراء، ورجال فوق الجياد يحملون المسدسات، وملصقات أخرى فوق الجدران، صورة الشاه والإمبراطورة، إعلانات عن سجائر «كنت»، وويسكي «جوني ووكر»، زجاجة كوكولا ضخمة تحتل المساحة فوق الجدار ومن حولها لمبات حمراء وزرقاء وصفراء على شكل دوائر تضيء ثم تضيء، نافورة المياه في الميدان، بائع الفسدق واللبان جالس فوق الرصيف، الطفل الشاحب الحزين جالس القرفصاء وأمامه الميزان الصغير، الشحاذة العجوز متكورة حول نفسها بجوار الحائط ويدها الفارغة ممدودة إلى الأمام.
دخلت إلى المطعم الصغير، تفوح منه رائحة «الشيلو كباب»، الخبز الإيراني الكبير والبصل واللفت الأحمر، مجموعة من الشباب حول مائدة وبينهم فتاة شعرها أسود قصير وعيناها سوداوان لامعتان. - التقينا هنا من قبل؟ - نعم، منذ عامين. - اسمك «ماني». - نعم.
وسألتها من يكتب في إيران بعد جلال آل أحمد، وذكرت اسم عباس بهلوان، وقالت: إن جلال آل أحمد صنع جسرا بين الماركسية والإسلام، وعباس بهلوان يمشي فوق هذا الجسر. لكنه يرفض الدروشة والدراويش، وكتابه الأخير بعنوان «نادرويشي» ومعناها لا درويش.
ذهبت إليه في مكتبه، وكان يرأس تحرير مجلس «فردوسي»، شاب نحيل قصير، ملامحه هادئة، ولمعة في العينين تكشف عن أعماق غير هادئة، ثورة كامنة تحت السطح، ودار بيننا حوار غريب؛ فهو لا يعرف الإنجليزية، وأنا لا أعرف الفارسية، لكني فهمت ما يقول، أشار بأصبعه على بعض الصور في مجلة «فردوسي»، ورأيت صورة لبعض الفدائيين الفلسطينيين، ومن تحتها مقال باسمه يدافع عن القضية الفلسطينية، وصورة أخرى لمجموعة من شباب فيتنام يحاربون، وعلى غلاف أحد الأعداد رأيت صورة جمال عبد الناصر، ثم المقال الرئيسي بقلم عباس بهلوان يدافع عن القضية العربية ويهاجم إسرائيل.
وكان معنا في هذه الجلسة شاعر إيراني اسمه «علي نوري زاده» يتكلم العربية. وقد ترجم إلى الفارسية قصائد بعض الشعراء الفلسطينيين: محمود درويش، وسميح القاسم، وفدوى طوقان.
وبينما نحن جالسون دخل رجل إيراني طويل أشيب ما إن عرف أنني من مصر حتى بدأ يتكلم بالعربية الفصحى، اسمه علي أكبر قسمائي. كان في القاهرة في شتاء سنة 1948، وحين فشلت محاولة اغتيال شاه إيران في ذلك الوقت كتب مقالا في جريدة الأخبار عن هذه القضية. وقد ترجم علي أكبر قسمائي من العربية إلى الفارسية بعضا من كتابات المازني وطه حسين والعقاد والحكيم، ويقول عن نفسه إنه ربيب الأدب العربي.
وسألني علي أكبر قسمائي: هل قرأت الخبر في الصحف هذا الصباح؟
وقلت: أي خبر؟
Page inconnue