وابتسم الدكتور تود قائلا: أعدك بذلك، لكن هذا يتوقف عليك أيضا وقدرتك على الإفاقة السريعة من المخدر.
وملأت أنفي وفمي رائحة الأتير، وسرت في جسدي برودة غريبة انتقلت بسرعة من رأسي إلى صدري ثم إلى ساقي وقدمي، وأحسست كأنما أسقط في بئر مظلم عميق بلا هواء، وأفتح فمي لأستغيث دون جدوى. لقد تحولت إلى جسد ميت لا يتحرك، وثقل غريب كثقل الكرة الأرضية فوق جفني.
ورأيت أمي أمامي فجأة. كانت ترتدي الثوب الأصفر الحريري والإيشارب الشفاف الأبيض حول عنقها، عيناها العسليتان في عيني وأنا ممدودة فوق السرير، وبركة الدم من تحتي، وقلت بدهشة: كيف عرفت؟ وكيف جئت من البلد البعيد؟
كنت أخفي عنها كل آلامي، حتى آلام الولادة، وكل شيء مؤلم كنت أفعله وحدي بدون أمي وبدون أبي. أما الفرح فلم أكن أحسه وحدي، ولا بد أن تكون معي أمي أو أبي، وكنت أفاجائهما دائما بأفراحي، كل آلامي كانت تحسها أمي قبلي، ومهما ابتعدت وأخفيت تعرف مكاني وتأتي، وكنت وحدي بالبيت تلك الليلة في ربيع عام 1956 حين فاجأتني الآلام. لم أعرف أنها الولادة، ونزفت دما غزيرا. كان رأس ابنتي كبيرا لا يريد أن يهبط، وعضلاتي صلبة لا تلين، وكان يمكن أن أنزف الدم حتى أموت، ثم دق جرس الباب فجأة ورأيت أمي. لم أعرف كيف عرفت وكيف جاءت ومن فتح لها الباب، وكل ما أذكره أنني كنت وحدي بالبيت، وأمي في بيت آخر بعيد، ولا أحد غيري يعرف أنني أنزف، بل أنا نفسي لم أكن أعرف.
وتلاشى الثقل من فوق جفني، وفتحت عيني بذهول، ورأيت وجه أمي غريبا، ولأول مرة أراها ترتدي نظارة بيضاء، وعيناها زرقاوان وليستا عسليتين، وقلت لنفسي: ربما تغير وجهها لأنها ماتت منذ سنين، لكن سمعت صوت رجل يرن في أذني بلغة ليست عربية: انظري. إنه صبي جميل.
وانقشع الضباب ورأيت الضوء قويا أبيض، والجدران بيضاء ومعطف الدكتور أبيض ناصع البياض، وعيناه زرقاوان شديدتا الزرقة تلمعان من تحت النظارة البيضاء بابتسامة واسعة، أسنانه لامعة وصوته يرن في أذني كرنين الفضة المجلوة: انظري. إنه صبي جميل!
حملقت في الوجه الصغير بدهشة، بشرته حمراء بلون دمي، والشعر الأسود الغزير، والأنف الدقيق، والعينان مغلقتان، والفم مفتوح يلهث، ثم ما لبث أن أغلق فمه وفتح عينيه، وثبتت عيناي على المقلتين السوداوين اللامعتين، وانحفرت الصورة في ذهني، أصبحت جزءا مني، وسمعت صوت الدكتور «تود» يقول ضاحكا: هل حفظت ملامحه؟
وحملته الممرضة بين ذراعيها وهو يبكي ويرفس بذراعيه وساقيه، ثم وضعته على منضدة بيضاء، ولفت حول معصمه الصغير إسورة من النايلون تحمل رقم 9578، وممرضة أخرى أمسكت يدي، ولفت حول معصمي إسورة من النايلون الأبيض تحمل الرقم نفسه.
وأغمضت عيني ونمت وليس في ذاكرتي إلا المقلتين السوداوين، ورقم 9578 فوق المعصم. •••
فتحت عيني في الصباح، ورأيت صينية إلى جواري عليها إبريق الشاي وبيضة مسلوقة وزبدة وخبز «توست»، أكلت بشهية ثم هبطت من السرير، وسرت في الممر الطويل حتى وصلت إلى الغرفة الزجاجية، وألصقت وجهي بالزجاج وعيناي تبحثان عن المقلتين السوداوين بين المواليد المتشابهة، والتقطتهما من بين العيون، دقات قلبي تتصاعد، ويدي ترتفع لألوح له من وراء الزجاج. لكنه كان راقدا في سريره الصغير الأبيض، شاخصا إلى السقف وأصبعه في فمه.
Page inconnue