كنا نسير في الشارع متعانقين، والعيون ترمقنا بكراهية، علامات الحب بين الناس مكروهة، ولا ينامون إلا في بحر من الشك، وفي ليلة مقمرة أوقفنا السيارة بجوار النيل، وجلسنا نرقب ضوء القمر وذراعه تحوطني، وفجأة رأينا الرجل البوليسي يقتحم السيارة، وقلنا له إننا زوجان، ولم يصدقنا، علامات الحب بين الزوجين غير معروفة، ولا بد أن يعيش الزوجان في بحر من الكراهية، ولم يطمئن الرجل البوليسي حتى رأى قسيمة الزواج بتوقيع المأذون والشهود. •••
كان صامتا، ثلاثة عشر عاما في السجن، بشرته ملوحة بشمس الواحات في الصحراء الغربية، وجهه نحيل وعيناه مرفوعتان بكبرياء طبيعي، سوداوان واسعتان، تتسعان لحزن العالم وإصرار التحدي وعدم اليأس، الرجال من حوله يثرثرون وهو صامت، يتناثر رذاذ لعابهم في الجو مع كلماتهم الثورية، يلوحون بقبضة اليد في الهواء ويضربون بها على المنصة وهو صامت، يرمقونه بطرف عين في وجل، صمته يؤلمهم كوخز الإبر، وجوده على ظهر الدنيا يضايقهم، يكشف عن زيفهم.
حاولوا إزالته من الوجود. لكنه نوع من البشر يظل موجودا رغم كل شيء، كالظواهر الطبيعية.
وأنا أحب الطبيعة وظواهرها، بيني وبين المصنوع عداء، نشأت بين الخضرة والزرع يكبر تحت الشمس، والماء يتدفق في النهر، وأتطلع نحو الطيور في السماء، وأتمنى أن ينمو لي جناحان طبيعيان. •••
الجناحان أمام عيني، مصنوعان من الفولاذ وليسا طبيعيين، وأنا أحلق في السماء، قلبي ثقيل. لم يعد للسفر البهجة القديمة، تركت في الوطن ابنتي وزوجي وأخذت معي ابني الذي لم يولد بعد.
من تحت حزام المقعد أحس حركته، يدق بيده الصغيرة جدار بطني، وألف الغطاء الصوفي من حولي لأدفئه.
من تحت الصحراء الشاسعة الصفراء يتوسطها نهر النيل، والشاطئان الرفيعان كالشريطين الأسودين بامتداد الفرعين، وبينهما الأرض على شكل مثلث أسود.
أسندت رأسي إلى ظهر المقعد وأغمضت عيني، الوجهان يطلان من وراء الزجاج، يلوحان لي من الشرفة البعيدة ثم يذوبان في الجو كأنما اختطفتهما يد خرافية غير مرئية، السحب ملبدة وأنا بين السماء والأرض داخل صندوق حديدي مغلق، ينطلق نحو عالم مجهول.
أطرافي باردة مثلجة، كمن ألقت بنفسها في مياه المحيط دون أن تعرف السباحة، مرت مضيفة الطائرة بالشاي والقهوة، نكهة الشاي أنعشت صدري، والسخونة بدأت تسري في أطرافي، وخيالي بدأ يصحو كالمارد النائم، وأمريكا الشمالية تبدو لي مغامرة جديدة، كالأرض البكر وكأنما لم يكتشفها إنسان من قبلي، ولا حتى كريستوفر كولومبس. •••
الساعة في يدي تشير إلى العاشرة صباحا، الشمس تلمع في الأفق ومن تحتها بساط أبيض متعرج من السحب، أشبه بالتلال الصغيرة من القطن المندوف الأبيض.
Page inconnue