Mes voyages dans le monde

Nawal Saadawi d. 1442 AH
156

Mes voyages dans le monde

رحلاتي في العالم

Genres

لكن عيوننا ووجوهنا كانت دائما تتجه نحو البحر الأبيض وأوروبا وأمريكا، وظهورنا ناحية أفريقيا، ناحية أنفسنا. حينما يدير الإنسان ظهره ناحية نفسه، حينما يخجل الإنسان من بشرته السمراء أو السوداء ويحاول أن يخفيها بمسحوق أبيض، كيف يعرف نفسه؟! كم أساء الاستعمار الأوروبي للإنسان الأفريقي حين استنزف موارده وثرواته، لكن الإساءة الكبرى كانت ذلك السهم الذي صوبه الرجل الأبيض إلى شخصية الإنسان الأفريقي، فأصبحت أفريقية وصمة عار وبشرته السوداء صك عبودية. وقد استغرقت رحلتي لأفريقيا ثلاثة شهور في صيف عام 1977، وهي مدة قصيرة للدخول في قلب الإنسان الأفريقي. لكنها كانت كافية على الأقل لأن أدخل في قلبي، وأتعرف على نفسي وعلى كوني أفريقية.

إن أول مظاهر أفريقيتي هو لون بشرتي السمراء التي تتحول سريعا إلى السواد بعد بضعة أيام تحت الشمس، فإذا بي أسير في شوارع الحبشة أو أوغندة فلا يكاد يلحظ أحد أنني غريبة. وأعترف بأن ذلك لم يكن يبهجني دائما؛ ففي أعماقي منذ الطفولة حنين لأن أكون بيضاء مثل القشطة، ما زلت أذكر مرور السنين أنني منذ ولدت أدركت حقيقتين اثنتين لا شك فيهما: أولهما أنني بنت ولست ولدا مثل أخي، وثانيهما أن بشرتي سمراء وليست بيضاء مثل أمي، ومع هاتين الحقيقتين أدركت شيئا آخر أكثر أهمية، ذلك أن هاتين الصفتين وحدهما وبدون أي عيوب أخرى كافيتان للحكم على مستقبلي بالفشل. كان المؤهل الوحيد الذي يرشح البنت (في ذلك الوقت) لمستقبل مضمون هو أن تكون جميلة، أو على الأقل بيضاء البشرة مثل الأتراك، جدتي لأمي ذات الأصل التركي كانت حين تدللني تناديني «جارية ورور ...»، ومنذ تلك اللحظة رسخ في ذهني أن الجواري والعبيد لهم بشرة من لون بشرتي، وأصبحت أخفيها بمسحوق أبيض، وأتصور أن إخفاء بشرتي إنما هو حركة نحو شيء أفضل، لكني ومع ذلك كنت أدرك بجزء آخر عميق من عقلي أن لون بشرتي هو حقيقتي، مثل كوني بنتا، وأنني أحب حقيقتي، بل إن الحب الحقيقي الوحيد في حياتي هو حبي لنفسي الحقيقية، ورغم ذلك لم أتخلص من مساحيق وجهي تخلصا كاملا بعد أن أدركت قيمة عقلي، فإذا بي أملك الشجاعة لمواجهة العالم بوجه مغسول نظيف.

كنت أجلس وسط النساء والرجال الأفريقيين في «دار السلام» بشرتهم السوداء كالبن المحروق أو الكاكاو، قامتهم طويلة ممشوقة، حركتهم في السير الطبيعي تشبه الرقص، عيونهم وهم يتحدثون تشبه الغناء، وغناؤهم للحب كغنائهم للثورة، وكلمة الحرية بلغة شرق أفريقيا «السواهيلي» تشبه كلمتنا العربية «الحرية»، مع اختلاف بسيط في النطق «أهرية»، أعجبني نطقهم وغنيت معهم «أهرية»، وقالوا لي: أنت أفريقية مثلنا، لكنهم مزقوا أفريقيا، وفصلوا بين الشمال والجنوب؛ فهذه أفريقيا السوداء، وهذا حوض البحر الأبيض أو الشرق الأوسط، كأنما شمال أفريقيا ليس من أفريقيا، وكأنما هناك أفريقيا سوداء وأفريقيا بيضاء.

شعرت بالراحة معهم والتآلف مع نفسي ومع بشرتي السمراء. إن أجزاء نفسي الحقيقية تظهر وتملؤني بالثقة والفخر؛ فالرحلة إلى أفريقيا أشبه ما تكون برحلة إلى النفس، إلى أعماق النفس بقدر ما هي رحلة إلى جذورنا ومنابع النيل.

إحساس لم أدركه في رحلاتي إلى أوروبا وأمريكا أو آسيا، إحساس بعد أن عرفته ندمت؛ لأن رحلتي إلى أفريقيا جاءت متأخرة، لكني كنت كالآخرين أحلم بالسفر إلى أوروبا أو أمريكا، ولا أذكر أنني حلمت مرة واحدة بالسفر إلى أفريقيا، تماما مثل القناع الذي كنت أرتديه فوق وجهي على شكل مسحوق أبيض.

إحساس مريح بالتآلف مع نفسي ولون بشرتي السمراء، تآلف لم أعرفه من قبل بهذا الوضوح، لا أنسى في أول رحلة لي لأمريكا سنة 1965 أنني توقفت أمام المرآة (في مدينة «رالي» بنورث كارولينا) قبل أن أدخل دورة المياه، فقد قرأت على الباب لافتة كتب عليها: «خاص بذوي البشرة البيضاء»، وعلى الباب الآخر كانت هناك لافتة أخرى كتب عليها: «خاص بذوي البشرة السوداء». ذلك اليوم وقفت أمام المرآة متحيرة، أي باب أدخل؟ فلم يكن لون بشرتي أبيض أو أسود وإنما لون متوسط بين البياض والسواد، ولم أعرف إلى أي عالم أنا أنتمي؛ إلى عالم البيض أم عالم السود؟

وضحكت صديقتي التنزانية واسمها «باريز» وهي أستاذة اقتصاد بجامعة «دار السلام»، ولها أربعة أطفال؛ اثنان منهما حصلا على اسم الأب، والاثنان الآخران حصلا على اسم الأم؛ فالمرأة تعمل مثل الرجل وتنسب أطفالها إليها، وقالت لي «باريز»: «درست في إنجلترا سنة 1959 وكانوا يشعرونني بالنقص؛ لأنني سوداء، ولأنني امرأة، إلى حد أنني أصبحت أخجل من نفسي، ولكني تغيرت كثيرا بعد أن درست الاقتصاد وعرفت كيف استعمرونا وخربوا اقتصادنا وخربوا نفوسنا. إني أعيش وأرى الاشتراكية تتحقق تدريجيا في بلدي تنزانيا، وأدرك بمرور السنين الارتباط الوثيق بين العدالة الاقتصادية وبين حرية الرجال والنساء، في تراثنا الأفريقي الأصيل نحن لا نفرق بين الرجل والمرأة، هل تعرفين أن وزيرة العدل عندنا اسمها «مانينج»؟ هل هناك وزيرة للعدل في أي بلد من تلك البلاد التي تسمي نفسها بالبلاد المتقدمة؟»

وأعطتني رقم تليفون وزيرة العدل في بيتها ومكتبها، وقلت الأفضل أن أكلمها في المكتب لا البيت، فقالت في دهشة: وما الفرق؟ وأدركت أن الناس في أفريقيا يتعاملون مع الوزراء والحكام كما يتعاملون مع الناس العاديين، فلا أبواب ولا حجاب ولا تشنجات. وتحدثت مع وزيرة العدل في بيتها وسألتها: «هل أنت وزيرة العدل حقا؟ وضحكت مس «مانينج» وهي تقول: عندنا النساء في كل مجال وعندنا وزيرات غيري.» قلت لها: نحن عندنا وزيرة واحدة للشئون الاجتماعية. أما العدل فهذا لا زال في بلدنا حكرا على الرجل وحده. تذكرت وأنا أحادث وزيرة العدل الأفريقية مقالا كنت قرأته في إحدى الصحف المصرية العام الماضي يقول فيه كاتبه: إن هناك شروطا يجب أن تتوافر في الشخص الذي يتولى منصب القاضي، وأول هذه الشروط هو «الذكورة».

كنت أتلفت حولي وأنا أتجول على شواطئ المحيط الهندي على ساحل شرق أفريقيا في كينيا وتنزانيا وزنجبار وجزر القمر الكبرى ومدغشقر، وأدهش لهذا السحر الذي لم أره من قبل، جبال كينيا وقمة كلمنجارو الشاهقة في تنزانيا لا تقل روعة عن جبال الهيمالايا التي رأيتها في نيبال، وجبال الحبشة الكثيفة الخضراء، وأوغندة تشبه الجنة الخضراء حول بحيرة فيكتوريا، هذا الجمال الذي رأيته في شرق أفريقيا لم أره في سويسرا، كثيرا ما سمعتهم يشيدون بجمالها، ويتفاخرون بالسفر للمصيف في ربوع وشطآن أوروبا، مع أن شواطئ وجبال أفريقيا أكثر جمالا وخضرة، امتزاج الجبل بالماء بالخضرة الاستوائية الداكنة، وأشجار المانجو وجوز الهند، ورائحة الزهور الاستوائية القوية، وتلك البرودة المنعشة في الجو، أكثر إنعاشا من برودة صيف أوروبا.

كنت أظن أنني سأصطلي نارا في أغسطس وأنا أتجول في أفريقيا تحت خط الاستواء، لكني وجدت أن الارتفاع عن سطح البحر آلاف الأقدام يحمي معظم هذه البلاد من الحرارة، ويصبح الجو معتدلا أشبه ما يكون بجو الربيع في بلادنا مع بعض البرودة الخفيفة أحيانا إذا اشتد الارتفاع كما هو الحال في أديس أبابا أو نيروبي.

Page inconnue