تقول الجيتا: إن هذا التفرغ الكامل هو سر العبقرية وسر قدرة الإنسان على الخلق، وسر النجاح في العمل والفن وأي شيء آخر.
لكن نسيان النفس أو إغراق النفس في اللحظة يحتاج إلى جهد وتركيز شديدين. إنها حالة إدراك نفسية عالية جدا وعظيمة القوة. هذه القوة التي لا توصف (تسميها الجيتا المايا) مثل قوة الكهرباء التي لا ترى.
هذه القوة لا ترى إلا فيما تحدثه من آثار الكهرباء، لا ترى إلا من خلال تحريكها للآلات الضخمة.
وهذه القوة النفسية العالية مثل الكهرباء. لا ترى ولكنها تجعل الإنسان قادرا على القيام بأعظم الأعمال وتحريك الصعب.
حين يصبح العقل نقيا من خلال الإغراق الكامل في اللحظة الحاضرة والتفاني في الشيء الذي يعمله فإنه يصبح قادرا على أن يخترق «حجاب الجهل» الذي يفصله عن عظمة نفسه الكلية. هذا الحجاب من الجهل تصفه «الجيتا» على أنه يشبه النسيج الرقيق الشفاف من الشك، وتردد الإنسان في فهم نفسه أو ممارسة قوتها، وهذا ما يسمى بالقوة الحاجبة أو المضللة.
ولكن قبل أن يصبح العقل نقيا تماما، وقبل أن يصبح قادرا على الرؤية من خلال ذلك الحجاب، وقبل أن يصل إلى تلك العظمة التي تشع حرارة وضوءا كالشمس، فإنه لا بد أن يعرف العالم الخارجي ولذائذه كنوع من التسخين الصناعي (يشبه مدفأة صغيرة كهربية أو من نار الفحم). ولكن حين يكتشف الشمس فسرعان ما يهجر تلك النار الصغيرة ويخرج إلى الخلاء والرحابة والشمس، ويحصل الإنسان على الحكمة والمعرفة، ويستطيع أن يفرق بين «النفس» و«اللا نفس» أو بين الحقيقي وغير الحقيقي، ويصبح كل شيء في العالم أمامه سواء؛ لا يفرح ولا يحزن ولا يغضب، ولا يأمل ولا يخاف ولا يقلق، يصل عقله إلى حالة الاستقرار الكاملة حيث لا يهزه شيء ولا يغيره شيء. هذا الإنسان تقول عنه «الجيتا» إنه قد حصل على الحكمة أو «الجيتا» أو قيمة الوعي.
مثل هذا الإنسان يصبح أهلا للزعامة أو النبوة أو لقيادة غيره من الناس للوصول إلى الحكمة والمعرفة. ولكنه قد يكون مكروها بسبب قوته العظيمة؛ فالناس يخشون الشخص الذي لا ينفعل مثلهم ولا يتأثر ولا يغضب ولا يفرح ولا يؤثر فيه شيء. إنهم قد يطاردونه وقد يقتلونه كما فعلوا مع بعض الزعماء والأنبياء وأصحاب الرسالات.
ذكرني هذا التحليل في «الجيتا» برواية «فولكنز» بعنوان «ضوء في أغسطس». كان بطل هذه الرواية (كريسماس) لا يغضب ولا يفرح، وكان الناس يندهشون له ولا يرونه إلا مستغرقا في عمله أو مستغرقا في تدخين سيجارة مثلا، وانتهى به الأمر إلى أن قتلوه لأسباب متعددة، أما صديقه الآخر «براون» فكان على عكسه؛ كان كتلة من الانفعالات، يضحك ويغضب في اللحظة الواحدة عدة مرات، وكان الناس يحبونه لكنهم في أعماقهم يحتقرونه. أما «كريسماس» فكان مكروها، لكنهم في أعماقهم كانوا يحترمونه ويعجبون بقوته ويتمنون أن تكون لهم مثل هذه القوة.
تقول «الجيتا» إنه بالوصول إلى الحكمة وهذه الدرجة العليا من الوعي فإن الإنسان يصل أيضا إلى السعادة. هذه السعادة لا يصل إليها الإنسان إلا بعد أن يجتاز ثلاث مراحل: (1)
معرفة لذائذ ورغبات جسمه وعقله عن طريق التجربة. (2)
Page inconnue