وجود الهنود فيها سلام وهدوء، وشيء من الذلة والانكسار، تشبه وجوه بعض الناس في مصر، ترك المغول والإنجليز بصماتهم على وجوه الناس في البلاد التي استعمروها. كانت بصماتهم هنا في الهند أشد، ستة قرون وهم يمتصون ثروات هذا البلد، أهم ما خلفوه من آثار هو الفقر.
الذي يسمع عن الفقر في الهند ليس كالذي يراه، الفقر هو أن يعيش الموت ملاصقا للحياة، وتمتلئ المدن والشوارع بالأشباح المشوهة، الأمهات كالهياكل العظمية يحملن أطفالا ليسوا إلا عيونا وعظاما، أجساد راقدة على الرصيف مغطاة بملايين الذباب كأنما كتل من القمامة، الأذرع المعروقة ممدودة، واليد متكورة منتظرة أحدا يلقي في كفها شيئا تأكله. لوحة ثابتة تمثل صراع الإنسان الأخير من أجل البقاء، دائما الشحاذون في كل مكان، حتى في المطارات، الأطفال الجوعى، الشباب العميان، المصابون بالدرن الرئوي، معظم الوجوه مليئة بالحفر بسبب الجدري القديم، أعدادهم كثيرة إلى حد أنك تعتبرهم جزءا لا يتجزأ من الحياة، ولا بد أن تعترف بهم كعالم ضخم يتهدد عالما آخر من الناس يركبون السيارات ويتخمهم الأكل.
الجوع يكسح الحياة هنا كالفيضان. إنه لا يأتي. إنه دائما موجود كأحد الظواهر الثابتة في الحياة، والناس تحولوا إلى عيون سوداء جاحظة. لا يعيشون ولا يموتون لكن قلوبهم تستمر وحدها في الدق بطريقة مجهولة لا يعرفها الأطباء. •••
قراءة أساطير الأديان في الهند تكشف أمام العقل كثيرا من الأركان المظلمة، إحدى الأساطير تقول: إن الملك برتيفي ولد من الفخذ الأيمن لأبيه فاني. لكن بعض الهنود قالوا لي: إن طفلا من لحم ودم لا يمكن أن يولد من فخذ رجل، وإنما لا بد أن يولد من رحم امرأة عاشرها رجل. وحقيقة القصة هي أن الإلهة أو الملكة بافتي حملت بغير زواج وولدت فاني، وكان الإله أو الملك برتيفي يحبها ويرغب في إرضائها لتقبله زوجا فخرج إلى الناس وأعلن لهم أن فاني قد ولد من فخذه الأيمن. ولأن الناس يخشون تكذيب الآلهة أو الملوك فقد صدقه الكثيرون، وانتقلت هذه الأسطورة جيلا بعد جيل وأصبحت إحدى قصص الهنود الدينية. قالوا لي إنها تشبه إلى حد كبير قصة آدم وحواء مع اختلاف في الولادة؛ فقد حدثت هذه المرة من ضلع الرجل وليس من فخذه، وقصة مريم وولادة عيسى أو «المسيح» من جسد العذراء التي لم يلمسها رجل وإنما هي «روح» الإله. هذه المرأة التي صنعت في رحمها جنينا من لحم ودم.
أسطورة هندية أخرى من براهما فاقرات بيورانا تقول: إن الإله فيشنو أراد أن يضاجع تولس زوجة كورالسانكي، فتنكر في ملابس زوجها ودخل إلى حجرة نومها وضاجعها، لكن تولسي عرفت بخدعته فلعنته آمرة بتحويله إلى حجر، واستطاع الإله فيشنو أن يرد لها اللعنة آمرا بأن يتحول شعرها إلى نبات تولس ويتحول جسدها إلى نهر جانداك.
هذه الأسطورة يصدقها كثيرون من الهند، وحتى اليوم فإن أية زهرة في حوض نهر جانداك تمثل شاليجرام (عضو الذكر) وهي صورة الإله فيشنو. ويعبد الهنود حتى اليوم نبات تولس في الليلة المظلمة بغير قمر في شهر أغسطس من كل عام، ويحتفلون بازدهار نبات تولس بواسطة الشاليجرام (عضو الذكر) ويتباركون به، وهكذا تحولت اللعنة القديمة إلى بركة. وهذه هي حياة البشر، تعيش فيها اللعنات والبركات معا، مثل الشمس وظلها يحدثان في اللحظة نفسها والمكان نفسه. •••
وجدت الهند كالحياة مليئة بالتناقضات، في الوقت الذي يموت فيه آلاف الهنود من الجوع تضيع كميات هائلة من الطعام على شكل وهبات للمعابد الدينية، يعالج الإنسان هذه التناقضات بأن يفصلها الواحدة عن الأخرى ويتظاهر بأنه لا علاقة بين الواحدة والأخرى. بمعنى آخر: إن الاعتقاد بفكرة دينية يمكن أن يعيش جنبا إلى جنب مع التجربة العلمية؛ الاعتقاد بالفلك والتنجيم يعيش إلى جانب علم الفلك، الاستغراق في المتع الدنيوية والشرب واللذة الجنسية إلى جانب فلسفة روحية زاهدة في الأكل والشرب والجنس. يعالج الإنسان هذا التناقض بأن يفصل بين الدين والعلم، ويجعل الرأس مفصولا عن القلب، والروح مفصولة عن الجسد، والفكر مفصولا عن الواقع الحي.
يعيش الأديب الهندي هذا التناقض ويعبر عن أزمته وتمزقه بلغة غير لغته الأصلية. وهذه أيضا مشكلة أخرى، مشكلة اللغات المتعددة في الهند تعدد الأديان. أحد الأدباء الهنود وصف لي هذه المشكلة قائلا: إن الهندي يولد له لغة، ويتعلم بلغة، ويفكر بلغة، ويحلم بلغة، ويكتب بلغة. ولم أفهم حقيقة هذه المشكلة إلا حينما قابلت إحدى الشاعرات الهنديات واسمها «أكيلا» وسألتها عن مشكلة اللغة فقالت لي: حين ولدت سمعت أمي تتكلم لغة البنجاب، حين دخلت المدرسة تعلمت اللغة الإنجليزية، حين كبرت قرأت الكتب الهندية. أكتب الشعر باللغة الإنجليزية؛ لأني لا أذكر لغتي الأصلية البنجابية كما أنني لا أتقن الهندية، لكن شعري باللغة الإنجليزية لا يعبر تماما عني؛ لأنني أحلم وأبكي بلغتي البنجابية وهي لغتي وأنا طفلة. لست راضية عن شعري لأنه بلغة أخرى غير لغتي. وهذه مشكلة عامة في الأدب الهندي، وأعتقد أنها من أهم الأسباب التي تحول دون ظهور أدب عظيم في الهند.
وقلت للشاعرة («أكيلا» هي كلمة «عقيلة» بالهندية): قد يكون كلامك صحيحا، ولكن اللغة في رأيي ليست إلا الإناء الخارجي الذي يوضع فيه الشيء . كما أننا حين نحلم وحين نبكي لا نفعل ذلك بلغة معينة، أحلامنا وبكاؤنا له لغة واحدة هي عقل الإنسان، لكن هذا لا يعني أنك يمكن أن تكتبي شعرا أو أدبا جيدا بلغة لا تتقنينها. إتقان اللغة ضروري لأي فنان كاتب، وحينما يتقن الإنسان لغة من اللغات فإنه قد يعبر بها عن نفسه من لغة أبيه أو أمه.
وتساءلت «أكيلا»: لماذا إذن لا يوجد في الأدب الهندي شيء عظيم؟ وقلت لها: لقد قرأت شيئا من الأدب الهندي وأعترف أن فيه ما هو عظيم من بلاد كثيرة. قد تكون اللغة الإنجليزية أقل إتقانا، ولكن المعاني تكون أحيانا معاني عظيمة وتحملها الكلمات البسيطة بل الركيكة. لم أكن أجامل «أكيلا» كشاعرة هندية، لكني كنت قد قضيت عدة ليال ممتعة مع بعض كتابات الأديبات والشاعرات الهنديات، بعضها كتب مباشرة بالإنجليزية وبعضها ترجم إلى الإنجليزية، ولم أكن في حقيقة الأمر أجد فارقا بين الاثنين. إن الأفكار الجيدة تظل جيدة بأية لغة وبأي شكل، والأفكار الركيكة تظل ركيكة بأية لغة وبأي شكل.
Page inconnue