ثمن الكتابة
إهداء
1 - أول رحلة خارج الوطن
2 - النصف الآخر من الأرض
3 - الأغوار وحافة النهر
4 - مؤتمر النساء في هلسنكي
5 - أول رحلة إلى العالم الأحمر
6 - إيران قبل الثورة
7 - رحلة الهند
8 - رحلة أفريقيا
9 - الإمبراطور هيلاسلاسي والثورة
10 - جزيرة العبيد على الساحل الغربي
ثمن الكتابة
إهداء
1 - أول رحلة خارج الوطن
2 - النصف الآخر من الأرض
3 - الأغوار وحافة النهر
4 - مؤتمر النساء في هلسنكي
5 - أول رحلة إلى العالم الأحمر
6 - إيران قبل الثورة
7 - رحلة الهند
8 - رحلة أفريقيا
9 - الإمبراطور هيلاسلاسي والثورة
10 - جزيرة العبيد على الساحل الغربي
رحلاتي في العالم
رحلاتي في العالم
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا ، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد ؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
إهداء
إلى كل من سافر وعرف الغربة بعيدا عن الوطن، وإلى كل من عاش الغربة في الوطن.
نوال السعداوي
القاهرة، 1984
الفصل الأول
أول رحلة خارج الوطن
منذ الطفولة كان الوطن في عيني هو الحب، صدر أمي الدافئ ورائحة اللبن، يد أبي في الليل البارد تغطيني، صوت جدتي في ليالي الصيف تحكي قصة الغولة وجنية البحر، رائحة الخبيز والجميز والتين الشوكي، والزلعة على رأس ابنة عمي فاطمة ممتلئة حتى الحافة بماء النيل، وأمواج البحر في الإسكندرية، وهدير الطلبة في الشارع يهتفون: يسقط الملك.
وفي شبابي أصبح الوطن هو الثورة، والثورة هي الحب، ولأن الحب كان محرما فقد أصبحت الثورة محرمة أيضا، تقودني إلى السجن لا إلى الحرية.
وكان حلم حياتي هو الطيران والفرار من السجن، وفي طفولتي كان هناك حلم يتكرر: أن أبي مات وأصبحت أخرج بدون إذن. وفي شبابي حلم آخر مشابه: أن زوجي مات وأصبحت كاملة الأهلية.
كان أبي أكبر حب في حياتي، ومع ذلك كنت أحسد الأطفال اليتامى بغير آباء، وأول ثورة في حياتي كانت ضد أبي، وأراد أن يزوجني رجلا لا أحبه، وكنت بخيال مراهقة أعيش أحلام اليقظة، وأحب في الخيال بطلا يمتطي السلاح ويضرب الأعداء ويحرر الوطن ... ثم يضمني بين ذراعيه ويقبلني وأفقد الوعي ... وأنسى أبي وأمي وإخوتي وجدتي وكل آلامي.
لكنه ضمني وقبلني فلم أفقد الوعي، ولم أنس شيئا، حتى حكايات جدتي عن الغولة والجان والعفاريت لم أنسها، واكتشفت أول حقيقة في حياتي: أن الحب الأول وهم، والبطولة خيال، والوطن لم يتحرر.
في منتصف الليل نهضت من السرير بحذر. كان صوت الشخير عاليا، والفم المفتوح، وفوق الشفة العليا شارب أسود كثيف، تسللت على أطراف أصابعي وفتحت الباب وخرجت. كنت أمشي بخطوات سريعة تشبه الجري، ولم يكن لي إلا هدف واحد؛ أن تلتف من حولي ذراعا أمي، لكني توقفت فجأة، تذكرت أن أمي ماتت، وأنها لم تعانقني في حياتي مرة واحدة، وأبي أيضا مات دون أن يعانقني أبدا. لا أنا ولا أي أحد من أخواتي وإخواني.
كنت أغيب عاما دراسيا كاملا في المدرسة الداخلية ثم أعود فلا يعانقني أحد أو يقبلني. لم تكن القبلات في بيتنا تعني الحب. كان الحب مجرد إحساس عميق مدفون في الأعماق. لا كلمات ولا عناق ولا قبلات. حب صامت فاقد النطق والحركة إلا في الخيال.
وكانت مأساة حياتي؛ فالحقيقة دائما أقل من الخيال، وأصبحت حياتي سعيا متصلا لتحقيق الخيال والحلم. ماذا كان حلم حياتي؟
كنت أراني فوق جواد أبيض يطير في الجو، وفي يدي سيف أضرب به الأعداء وأحرر الوطن. لقد ولدت في بلد يحكمه الأجانب. وتشهق جدتي حين أحكي لها الحلم: هذه ليست أحلام البنات. - وبماذا تحلم البنات يا جدتي؟ - يحلمن بالعريس وفستان الزفاف.
لكني لم أحلم أبدا بالعريس أو فستان الزفاف، رغم أن جدتي اشترت لي فستان الزفاف قبل مجيء العريس بعشرة أعوام، وفي كل عيد يشتري أبي لي فستانا جديدا، ويشتري لأخي مسدسا وطائرة صغيرة لها زمبلك يلفه عدة مرات فإذا بالطائرة تتحرك.
وفي الصندوق الأصفر من الكرتون رأيت هديتي؛ فستان حرير أبيض له كرانيش على الصدر ودانتيلا على الأكمام. وصحت بغضب: أريد طائرة ومسدسا مثل أخي.
وقالت أمي: ستكونين جميلة في الفستان الجديد.
وهتفت: لا أحب الفساتين.
وصاحت جدتي: هذه البنت كان لا بد أن تكون ذكرا.
رغم جدتي كنت أتطلع نحو السماء بعيني طفلة في العاشرة، هل سيأتي يوم أركب فيه طائرة؟ هل يمكن أن أطير في الجو كعصفور بعيدا عن هذا السجن الذي ولدت فيه؟
في الحلم كنت أطير بغير طائرة، يرتفع جسمي في الجو، وأحلق فوق أسطح البيوت وقمم الأشجار والبحار، ثم فجأة يهوي جسدي إلى الأرض ويغوص في جوف البحر.
وتقول جدتي: الطيران في الحلم نجاح وسوف تتزوجين من أمير أو ابن ملك.
وأصيح في وجهها: أنا أكره الملك وأكره الزواج.
وتشوح بيدها في غضب: مجنونة مثل أمك.
وكانت أمي تكره الملك فاروق، لكن جدتي لم تكره إلا الإنجليز وتغني مع الراديو:
ملك البلاد يا زين يا فاروق يا نور العين.
لا زلت أسمع صوت حذائي الأسود الجديد يدب على أرض المطار كأنه بالأمس. مر عشرون عاما منذ وقعت عيناي لأول مرة على طائرة فوق الأرض. رأيتها أضخم مما تصورت، وكنت أراها في الجو صغيرة بحجم طائرة أخي ذات الزمبلك.
وقفت في الصف ومن أمامي وخلفي أعداد من النساء والرجال الأجانب، في يديهم حقائب جلدية ثمينة، وعلى سواعدهم معاطف صوفية. رءوسهم مرفوعة، وظهورهم عضلاتها مشدودة، وقامتهم طويلة.
رفعت رأسي وشددت عضلات ظهري، قامتي طويلة مثل قامة الرجال منهم، ونساؤهم أقل مني قامة، بشرتهم بيضاء كالطباشير وعيونهم كالدوائر الصفراء والأفواه كالخطوط بلا شفاه، تتحرك بسرعة وهم يتكلمون كالأوتار المشدودة أو الكرابيج.
في مرآة دورة المياه رأيتني أرتدي بالطو مطر أسود اشتريته من «عمر أفندي» بعد أن حصلت على تأشيرة الخروج من مكتب الجوازات في ميدان التحرير. وفي يدي حقيبة جديدة سوداء لها يد طويلة أعلقها على كتفي، في جرابها الخارجي تطل أطراف جواز السفر الأخضر، والتذكرة الطويلة الحمراء، وبطاقة التطعيم الصفراء المربعة. ومن النافذة الزجاجية العريضة ألمح الطائرات راقدة على أرض المطار كالطيور القانصة الضخمة، حيوانات خرافية من الزواحف.
أزيز الإقلاع والهبوط يدوي في أذني ويسري في جسدي كالقشعريرة، مزيج من الرهبة والفرح والإقدام والخوف والحزن الغامض، يذكرني بليلة زفافي الأولى، وليلة موت أبي.
عيناي في المرآة تلمعان بضوء شديد السواد، وبشرتي سمراء متوردة بالحماس. لا زلت في ريعان الشباب، وباب الطائرة أمامي مفتوح على العالم الواسع، والشرطي القابع على بوابة المطار استوقفني وسألني عن أوراقي، ناولته الورقة الصفراء عليها ختم النسر، رمز الدولة. لماذا النسر؛ ذلك الطائر المفترس العنيف، والثورة كانت بيضاء بلا عنف كما قالوا! لكني أدركت بعد عشرين عاما من الرحلات في العالم أن أختام الدولة وشعارات الثورات تنسخ بالمقلوب، فإذا ما كانت الدولة دموية حفرت على خاتمها حمامة سلام، وإذا كان الزعيم قاتلا حصل على جائزة نوبل.
فحص الشرطي الورقة الصفراء بعينين بوليسيتين، تأكد أن خاتم النسر حقيقي وليس مزيفا، وأن الدولة توافق على انتقال جسمي خارج حدود الوطن.
ما دخل الدولة في حركة جسمي؟!
حرك الشرطي عينيه من الورقة الصفراء إلى وجهي، ينقل عينيه ببطء من وجهي إلى صورتي الملصقة بالصمغ على قطعة من الكرتون، وجهي لا يشبه الصورة، البريق في عيني لا يراه في الصورة؛ فهو بريق الكراهية المؤقت يشع من عيني الآن وأنا أنظر إليه.
لا يعرف أن بيني وبين رجال البوليس عداء ثلاثة آلاف عام، منذ سيطر الإله آمون وانهارت حضارة إيزيس وظهر إلى الوجود شيء اسمه العبودية.
حملق في وجهي بعينين ضيقتين وهز شاربه الكثيف فوق شفته العليا، ذكرني بصوت الشخير ينبعث من تحت الشارب الأسود الضخم، شوارب الرجال أيضا مثل أختام الدول تعلن عكس ما تبطن.
وسمعته يقول: هذه هي موافقة الدولة، ولكن أين موافقة الزوج؟
حملقت في وجهه بدهشة، ربما تقتضي الدكتاتورية أن تملك الدولة جسمي، لكن الزوج! هل هو أيضا يمتلك حركة جسمي؟!
وما هو الحد الفاصل فوق كياني بين ملكية الدولة وملكية الزوج؟
غامت عيني بسحابة، لكن تذكرت فجأة أنني غير متزوجة، وانقشعت الغمة، ولمعت عيناي بالبريق، وهتفت بصوت رن في صالة المطار كرنين الفضة: أنا كاملة الأهلية، ولا أحد يمتلكني، اللهم إلا الدولة .
وزمجر الشرطي بصوت غليظ كالشخير: أنا أسألك عن موافقة الزوج!
وقلت: وأنا أقول لك إنني حسب القانون يمكنني السفر بدون موافقة الزوج؛ لأنني امرأة حرة بغير زوج.
وصاح بغضب: وهل معك ما يثبت أنك غير متزوجة؟
وبحركة سريعة أخرجت من حقيبتي ورقة طويلة تشبه شهادة ميلادي، أو شهادة النجاح والتخرج النهائي، رفعت الورقة البيضاء فوق رأسي كالراية أو كطوق النجاة، وبحركة أخرى سريعة وضعتها في يده تحت عينيه.
قرب الورقة من عدسته البوليسية وفحصها بدقة، راجع أختامها وتوقيعات المأذون والشهود ثم زمجر: لماذا لم تقولي منذ البداية أنك مطلقة (نطقها بفتح اللام)؟
وقلت بغضب: أنا لست مطلقة (بفتح اللام) ولكن مطلقة (بكسر اللام)!
رغم مرور عشرين عاما على تلك الرحلة الأولى خارج الوطن. لا زال صوتي يرن في رأسي وأنا أضغط على الشدة تحت اللام المكسورة، والشرطي جالس أمامي من وراء القفص الحديدي يطل علي بعينين ضيقتين شبه مختنقتين كعيني حيوان محبوس، ولا زلت أذكر حركة يده حين رفعها إلى فوق وضرب بالختم الأسود كالمطرقة الحديدية على جواز سفري وتركني أمر.
لم أصدق أول الأمر أنه تركني أمر، وحركت قدمي ببطء إلى الأمام متصورة أنه سيمنعني. لكنه لم يمنعني، فخطوت الخطوة الثانية بحذر أقل ولم يمنعني، وغمرني الفرح كالدهشة فقفزت خارج حدود الوطن كأنما أولد من بطن أمي للمرة الثانية، وصفقت بيدي كالطفلة، وحركت قدمي فوق الأرض كأنما سأحلق في الجو، وجهي ناحية السماء وظهري تجاه الوطن، تأهبت للانطلاق والطيران، لكن شرطيا آخر استوقفني وفحص أوراقي، ثم تركني أمر مع المسافرين، وعلى سلم الطائرة استدرت خلفي، ظننت أن أحد رجال الشرطة يتبعني، وأنه في اللحظة الأخيرة سيمنعني، وتم إغلاق الأبواب وانسحاب السلم.
وتحركت الطائرة وأنا شاخصة إلى أبوابها كأنما ستفتح فجأة ليدخل شرطي يتجه نحوي.
لكن الأبواب ظلت مغلقة، ومن خلال النافذة الزجاجية المستديرة رأيت شرفة المودعين، والأيادي المرفوعة تلوح في الهواء، ليس من بينها يد واحدة تلوح لي، والوجوه كثيرة ليس من بينها وجه واحد أعرفه.
ودار رأسي مع الطائرة وهي تستدير بعيدا عن مبنى المطار، غامت عيناي تحت ضباب مفاجئ. من خلال الغمامة لاح لي وجه طفلتي، يدها الصغيرة تلوح لي وعيناها العسليتان فيهما دموع، اقتربت منها لأقبلها، والتفت أصابع يدها الخمس حول أصابعي بقوة.
الألم عند نهاية الضلوع، تحت القلب مباشرة، عميق وثقيل كقطعة الرصاص، قطعة مني لا تزال هناك، في تلك الشقة الصغيرة، بشرتها من لون بشرتي، وأصابع يدها تشبه أصابعي، تحبو على يديها وقدميها وتتطلع بعينيها الواسعتين نحو غرفة نومي فلا تجدني. شددت جسمي كأنما سأنهض وأعود، أمومة مفاجئة على شكل حنين جارف يجهض فرحتي بالسفر، أحاول أن أنهض لكني مربوطة في مقعدي بحزام سميك، والوطن يلوح لي من بعيد على شكل وجه طفولي مستدير، وعيناه عسليتان مليئتان بالدموع، وأصابع خمس دقيقة ما إن تلامس أصبعي حتى تلتف حوله كالوتد تربطني بالوطن، كالجذر الممدود في الأرض، وأصبح كالشجرة الأم وأنا لم أعش طفولتي بعد، أمومتي وطفولتي تعيشان داخل كياني في تناقض متوازن، وحنيني لابنتي كحنين للوطن متناقض، رغبة في الفرار.
أول رحلة خارج الوطن منذ عشرين عاما تبدو لي وكأنما بالأمس، والرعشة على أطراف أصابعي وأنا أتحسس حزام المقعد، وهدير الطائرة في أذني وهي تهم بالإقلاع، ثم انفصالي المفاجئ عن الأرض، والارتفاع في الجو، وخفقات قلبي تتصاعد وتتصاعد، الطائرة تهتز كأنما ستسقط، والضربات تحت ضلوعي تتوقف، إلى جواري رجل يقرأ في جريدة أجنبية كأنه جالس في بيته، له أنف طويل مقوس وبشرة بيضاء محمرة، يرتدي ربطة عنق ضخمة متعددة الألوان، وأصابعه حول الجريدة طويلة بيضاء، أظافرها مشذبة بعناية فائقة.
الرمال الصفراء تتسع وتتسع من خلال النافذة الزجاجية المستديرة والبيوت تبتعد ويصغر حجمها، نهر النيل كالشريط الرفيع الأبيض، الشاطئان شريطان لونهما أسود، ثم الصحراء كبحر من الرمال الممتدة في الأفق.
لأول مرة أرى الوطن من مسافة بعيدة، أصبح الوطن صغيرا، مجرد خط ملتو كالثعبان الرفيع في مساحة صفراء، كل شيء في حياتي أصبح صغيرا؛ أفراحي وأحزاني، أمومتي وطفولتي، آمالي وأحلامي، كل شيء أصبح صغيرا. حتى عبد الناصر بصوته المدوي كل يوم، وصفوف رجال الدولة الراجفين أمامه، أصبحوا جميعا مجرد سطر صغير في ذيل الصفحة في الجريدة الأجنبية تحوطها أصابع الرجل الغريب.
كنت أظن أن وطني هو كل العالم بمثل ما كنت أظن وأنا طفلة أن شارعنا هو كل الوطن. وكلما كنت أكبر كان الشارع يصغر. وحين امتد كياني خارج الوطن انكمش حجم الأرض وملأني إحساس جديد بأنني أكبر مما كنت. •••
جناح الطائرة من خلال النافذة الزجاجية ثابت الحجم، ثابت الجسد. لا يتحرك، معلق في الفضاء فوق أمواج من السحب البيضاء الثابتة. لا شيء في الكون يتحرك: لا السحب ولا الطائرة ولا حتى «الشاي» في الفنجان الموضوع لي على منضدة بيضاء بلاستيك معلقة في ظهر المقعد أمامي.
حملقت في الثبات ساعة وراء ساعة، ثم اكتشفت أن السفر بالقطار كان أكثر متعة؛ فالحركة كنت أراها من نافذة القطار، أعمدة السواري والأشجار تجري إلى الوراء بسرعة لا تلاحقها العين، تملؤني بحركة الحياة وانطلاق نحو الهدف بأقصى سرعة، والدم يجري في عروقي بالسرعة نفسها، وإحساس طاغ بالسعادة. منذ طفولتي كان للسفر فرحة كالعيد، أرتدي له ملابس جديدة وحذاء جديدا، ولا أنام من الفرح، وأصحو قبل أذان الفجر أو صياح الديوك. السفر كان في سيارة أو قطار، وداخل حدود الوطن: من القاهرة إلى قريتنا كفر طحلة، أو إلى منوف، أو الإسكندرية، أو الجيزة، أو حيث تشاء وزارة المعارف أن تنقل أبي.
وأتسابق أنا وإخوتي للجلوس بجوار النافذة، أخي كان يكبرني بعام واحد، وكنت أسبقه إلى النافذة، لكن أخي الأصغر كان يبكي ويتشبث بالنافذة فأترك له المقعد، أخواتي البنات كن أصغر مني، تجلس أصغرهن على ركبتي أمي.
لم أكن أعرف عن الطائرة إلا الأزيز من بعيد أسمعه في السماء، وجسم صغير يلمع في الأفق بحجم اليمامة، له حركة بطيئة في الكون كحركة السحاب.
لم يكن خيالي قادرا على تصور حجمها الحقيقي أو سرعتها، ولم أتصور أنه يمكن للبشر بأحجامهم العادية أن يكونوا داخلها، يطلون علينا من فوق السحاب كالآلهة. ولم يكن لخيالي أن يمتد رأسيا، فأتصور أنني سأكون في السماء داخل طائرة أطل على الكون من ارتفاع شاهق.
كان خيالي يمتد بشكل أفقي مع حركة السيارة أو القطار فوق القضبان، وحركة قدمي، وامتداد النيل باستواء الأرض. وحينما أرفع رأسي عموديا نحو السماء تنزعج العيون من حولي، خاصة عيني جدتي، منذ ولدت وهي ترمق بقلق رأسي المرفوع فوق عنقي، أكان من المفروض أن أولد بغير رأس؟ وإذا حركت عنقي إلى أعلى ازداد قلقها وصاحت: لا ترفعي رأسك هكذا! ألا ترين كيف تسير البنات المؤدبات؟
وكانت البنت المؤدبة تسير ورأسها مطرق إلى الأرض، وظلت جدتي تقول: إنني غير مؤدبة حتى ماتت. لكنها كانت جدتي آمنة والدة أمي. أما جدتي مبروكة والدة أبي فكانت تضع الزلعة فوق رأسي وتقول: لا تحني عنقك هكذا، انظري كيف تسير بنات الكفر مرفوعات الرأس. لكنها كانت تظن أن رأس البنت لم يرتفع عموديا فوق العنق بهذا الشكل إلا لتحمل فوقه الزلعة.
ومع كل ذلك كنت أحب جدتي مبروكة أكثر من جدتي آمنة، وأفضل السفر إلى بيتها الترابي ذي الشرفة الخشبية، أشرب من الزير، وأستحم بماء الزلعة من النيل. لكن أمي كانت تفضل السفر إلى بيت أبيها في القاهرة، وأبي كان مثلي يحب قضاء إجازة الصيف في بيت أمه في الكفر، ويدور النقاش بينهما أول كل إجازة صيف. لم يكن نقاشا حادا أبدا، ولا ينتهي بفوز أحدهما على الآخر، نوع من التعادل بين القوتين الكبيرتين في البيت، وتحزم أمي الحقائب وتسافر إلى أهلها مرة، وإلى أهل أبي مرة، هكذا على التوالي.
قبل السفر بأيام أخرج كل ملابسي من الدولاب وأرصها في الحقيبة الكبيرة، وتأتي أمي وتفرغ الحقيبة في الدولاب وهي تصيح: لن تأخذي معك كل ملابسك، ثم إن موعد السفر لم يأت بعد.
وتقف على الكرسي الخشبي العالي، وتشب على أطراف أصابعها لتضع الحقيبة فوق الدولاب، ومن موقعي فوق الأرض وعيناي إلى أعلى أرى ساقيها السمينتين البيضاوين بغير شعر يمتدان تحت ثوبها الحريري إلى فخذين أشد سمنة وأشد بياضا، ثم يلتصقان في النهاية في خط واحد عميق داكن اللون.
ويراودني خاطر غريب، هو أنني هبطت إلى العالم من هذا الخط الداكن، ثم يتبع ذلك على الفور خاطر آخر أكثر غرابة، هو أن أبي له علاقة ما بهذا الخط الداكن. وإلى هنا تتوقف خواطري تماما كأنما وصلت نهاية العالم، وأعود أدراجي إلى مكاني فوق الأرض، ثم أصعد على الكرسي الخشبي العالي وأمد ذراعي فوق الدولاب، لكن يدي لا تصل أبدا إلى الحقيبة.
كل ليلة ومنذ أن تبدأ الإجازة الصيفية وأنا أحلم بأن يدي امتدت وطالت وأمسكت بالحقيبة، وأن ملابسي كلها انتقلت من الدولاب إلى الحقيبة، وأن أمي توقظني في الفجر لأرتدي الملابس الجديدة، وأبي يحكم إغلاق النوافذ والأبواب، والسيارة الأجرة تنتظر أمام الباب، صوت الموتور يرن في أذني عجيبا، ورائحة البنزين تسري في أنفي نفاذة منعشة. وعند محطة القطار يبدو كل شيء مدهشا، رصيف المحطة العالي، والقضبان الممتدة إلى ما لا نهاية في الخندق العميق، وأصوات الأجراس وصفارات القطار والدخان الكثيف يندفع من الفوهة السوداء، والناس تجري وفي أيديهم الحقائب، وبائع السميط ينادي بصوت حاد مرتفع، وسلم القطار العالي. أمسك المقبض الحديدي وأضع قدمي على السلم ويخيل إلي أن القطار سيتحرك وقدمي الثانية لا تزال على الأرض، لكن القطار لا يتحرك، وأجري إلى مقعدي وأنظر من النافذة، وتظل المحطة ثابتة والبيوت ثابتة، وأظن أن القطار لن يتحرك أبدا. وفجأة أحس برأسي يهتز بعنف إلى الوراء ثم إلى الأمام، وتبدأ البيوت في الحركة إلى الوراء، ومن بعدها أعمدة السواري التي تبدأ في الجري إلى الخلف واحدة وراء الأخرى.
وأطل برأسي من النافذة وأنا أشهق بالفرح، الهواء القوي يطير شعري في الفضاء، وفمي مفتوح عن آخره أبتلع الهواء والدخان، ولا أحس إلا بيد أبي تشدني إلى الخلف وصوته يدوي في أذني مختلطا بصوت عجلات القطار: أدخلي رأسك!
تراجعت برأسي بعيدا عن النافذة، لكني داخل الطائرة ولست داخل قطار، والنافذة صغيرة مستديرة مغلقة بزجاج مزدوج، والسماء زرقاء ثابتة، والسحب بيضاء ثابتة. لا أشجار ولا أعمدة سواري تتحرك، ولا أستطيع أن أطل برأسي من النافذة، وجسدي عاجز عن إدراك الحركة، كأنني داخل علبة حديدية معلقة في الكون إلى الأبد، وحزام المقعد يلتف حول جسدي وينتهي إلى قفل معدني، ملمسه فوق صدري كالسماعة الطبية تتدلى من الخرطوم المطاطي حول عنقي، ورائحة اليود والدم في معطفي الأبيض، ولهاث المرضى في أذني كالطنين، طابور طويل يمتد حتى الزقاق المترب أمام باب المستشفى تعلوه لافتة نحاسية صدئة نقشت عليها حروف سوداء: «مستشفى الأمراض الصدرية بالجيزة»، وإلى جواري المنضدة الخشبية كالحة، والفانوس الكهربي لرؤية صور الأشعة، ثم نافذة صغيرة مفتوحة على بركة صغيرة تقذف الهواء محملا بالغبار ورائحة عفونة كالمجاري.
حملقت في الكون الواسع من خلال الزجاج المزدوج، ونظرت ناحية الأرض، أبحث بعيني عن موقع مستشفى الدرن من الأرض أو موقع الأرض من المستشفى.
من بين السحب البيضاء كزيت القطن رأيت سردابا طويلا يهبط إلى الأرض. الأرض سوداء تماما، لكن عيني التقطتا نقطة فوق الأرض أكثر سوادا، وقلت لنفسي: لا بد أنه المستشفى، والأرض أيضا ليست أرضا وإنما هو شيء له حركة ماء ولا بد أنه البحر.
من خلفي رجل عجوز يسعل، سعاله من النوع الجاف بسبب الدخان وليس الدرن، أذناي تدربتا على تشخيص المرض من نوع السعال.
كل يوم من الساعة التاسعة صباحا حتى الثانية بعد الظهر أسمع سعال الطابور الطويل، أضع السماعة المعدنية بين الضلوع البارزة وأسمع صفارة الهواء ثم خشخشة الدم والصديد، أسلط على الصدر الأشعة وأنا أقول للمريض: اكتم نفسك. وبدلا من أن يكتم نفسه، يسعل في وجهي ويملؤني بالرذاذ، أتراجع إلى الوراء بسرعة وأدس في اليد المعروقة زجاج الدواء قائلة: قرص واحد بعد كل وجبة طعام ثلاث مرات في اليوم.
يردد الصوت الخافت مع اللهاث: بعد كل وجبة طعام؟
وأقول: نعم، بعد كل وجبة طعام، ثلاثة أقراص في اليوم الواحد بعد الوجبات الثلاث!
ويأتي السؤال على شكل شهقات: الوجبات الثلاث!
وأردد: نعم، وجبات الطعام الثلاث!
ذلك اليوم كانت آخر الطابور امرأة في يدها طفل وعلى كتفها طفل، استدارت وهي تزمجر: وهل كنت أمرض بالسل إذا كانت هناك وجبات ثلاث؟!
كل يوم وأنا أحملق من النافذة على البركة الآسنة أرفع عيني إلى المساحة الصغيرة من السماء بين الجدران وأخاطب الله: من هو المسئول عن هذه التعاسة فوق الأرض؟ أنت أم رئيس الدولة؟
وتسري في جسدي قشعريرة الخوف. وقد ألقيت المسئولية على رئيس الدولة وليس على الله، وكنت لا أزال أومن بالعدالة الإلهية.
ذلك اليوم دق جرس التليفون فجأة، وانتفضت في مقعدي، تصورت أن مكتب الأمن بالوزارة التقط بجهاز ما شكوكي العميقة في عدالة الدولة.
وجاءني صوت يقول بلهجة متعالية: صدر قرار وزاري بسفرك ضمن وفد الأطباء إلى الجزائر. •••
وفي كل رحلة خارج الوطن كنت أظن أنني لن أعود، لكني في كل مرة كنت أعود؛ حنين لابنتي يشدني إلى الوطن، وحنين إلى الأرض، رائحة الأرض والتراب والهواء، الوجوه والملامح المألوفة، اللغة واللهجة تشتاق إليها أذني، والشوق له ألم حاد في الأذن، وفي القلب تحت الضلوع، وفي حركة الدم في العروق، كاشتياق المدمن لوجع السم. •••
أحملق من خلال الزجاج على أرض الوطن. لا أرى إلا السماء والسحاب وفي القاع البعيد الساحل الداكن كالخط الأسود يفصل البحر عن الأرض، هل نحلق فوق الإسكندرية؟ أحملق في القاع البعيد. لا شيء يتغير تحت عيني. لا زال وجه موظف الأمن أمامي، رأسه أصلع أملس كرأس السلحفاة، عيناه بيضاوان بغير جفون ولا رموش، يرمقني من قمة رأسي إلى أطراف قدمي، كياني ينقلب إلى برغوث مثبت بالصمغ تحت عدسة الميكروسكوب، جهاز يشبه الأشعة يكشف عن أعماقي، أخفيت الكراهية في طيات أمعائي ورسمت على وجهي ملامح قديسة تفيض بالحب والخوف، فلا شيء يهدد الأمن إلا الكراهية أو الحب بغير خوف.
لأول مرة أقف للفحص أمام موظف الأمن لاستخراج ذلك الدفتر الصغير المستطيل المسمى «جواز السفر». لأول مرة في حياتي أستخرج جواز سفر، وحين استقر «الباسبور» في حقيبة يدي سرت في الشارع مرفوعة الرأس في زهو، كأنني بهذا الدفتر صعدت من طبقة إلى طبقة، لكن سرعان ما تبدد الزهو حين ابتلعني المبنى الضخم المسمى «مجمع التحرير»، وسقط جسمي في خندق مزدحم بالأجسام تلهث، وتنز بالعرق، وأخذت ألهث أنا الأخرى، وأجري من مكتب إلى مكتب، وفي يدي أوراق ألصقت عليها دمغات صفراء وخضراء، وتوقيعات بالحبر الأحمر والأسود والأزرق. واستقر بي الأمر في النهاية داخل مكتب الأمن، وموظف يشبه الموظف الآخر، رأس أصلع وصوت ناعم، رمقني من رأسي إلى قدمي، وحملق في صورة وجهي ثم سألني: لماذا تسافرين إلى الجزائر؟
قلت: لحضور المؤتمر الطبي العربي.
وتساءل كأنما بدهشة: أنت طبيبة؟
وقلت: نعم.
حملق في وجهي وقال: ما رأيك في الثورة؟
وتساءلت: أي ثورة؟
ولكني تداركت السؤال وقلت: نعم.
قال: نعم؟
وبدأت أفكر.
وزمجر الرجل بغضب: فيم تفكرين؟
قلت: في الإجابة.
وقال بدهشة: وهل السؤال يحتاج إلى تفكير؟
وبدا لي التفكير لحظتها كالعورة، وانتهت المقابلة بسرعة، وانقضى شهر وأنا أنتظر حصولي على تأشيرة الخروج.
لكن التأشيرة لم ترد.
وجاء يوم الثلاثاء وكان موعد السفر الأربعاء، أي بعد يوم واحد، وذهبت إلى موظف الأمن وسألت: لماذا تأخرت التأشيرة؟
ورد: إنها تتأخر دائما.
وقلت: ألا سبيل إلى استعجالها؛ فالمفروض أنني سأسافر غدا؟
قال: لا سبيل إلى استعجال أي شيء.
وعدت إلى بيتي، جدران الشقة تطبق على صدري، مددت يدي نحو قرص التليفون، رنين الجرس يدوي في أذني. لا أحد في العالم، وأنا وحدي تماما، سرت إلى النافذة لأطل على الناس في الشارع، رائحة كطفح المجاري تملأ الجو، الهواء محمل بغبار وصهد، الناس تتحرك في الطريق كأشباح ميتة في عالم آخر، عربة بوليس تجري ومن خلفها سيارة تطلق صفارة حادة، إحساس جارف بالغربة يسري في جسدي.
وفجأة توقف أتوبيس أحمر، وهبطت منه ابنتي، ترتدي مريلة زرقاء لها كولة بيضاء، وفي يدها حقيبة المدرسة، رفعت رأسها نحو النافذة ورأتني، ابتسمت ولمعت عيناها العسليتان بالفرح، جريت إلى الباب، وانتظرت حتى خرجت من باب المصعد فحملتها بين ذراعي، دفنت رأسها في صدري، رائحة الطفولة في شعرها توقظ أمومتي وتبدد الغربة.
أعددت لها الطعام وجلست أرقبها وهي تأكل بشهية، تقلص وجودي في الحياة إلى ذلك الصحن تمتد إليه يدها الصغيرة ثم ترتفع إلى فمها، وحركة فكيها الصغيرتين وهي تمضغ الطعام بلذة.
وفي الليل نمت وذراعي حولها، كأنما أحتضن العالم كله، ولا شيء في العالم يمنحني هذه النشوة. لا رجل ولا عمل ولا سفر. وترددت لحظة: هل ركوب الطائرة أكثر متعة؟ وكيف يبدو العالم تحت عيني وأنا فوق السحاب؟ والأرض هل سأراها كروية؟ وهل سأطل على القارات الخمس في آن واحد؟ والتضاريس والجبال والأنهار والبحار هل سأراها بشكلها على الخريطة؟
خيالي تلك الليلة ظل راكدا، وصورة قائمة واحدة سيطرت على عقلي: أن الطائرة سقطت في البحر وأنا داخلها، وتحولت خيبة الأمل في السفر إلى فرحة النجاة من الموت، ونمت نوما عميقا.
وفي الصباح فتحت عيني وقد تبددت تماما كل رغبتي في السفر، وذهبت إلى المستشفى كأي يوم، لكن جرس التليفون رن إلى جواري وجاءني الصوت المتعالي ويقول: لقد وصلت تأشيرة الأمن.
ووضعت السماعة إلى مكانها، وأدركت أن تصاريح الأمن لا تحل بالإنسان حين يرغبها، فإذا ما كف تماما عن رغبتها حلت به فجأة من حيث لا يدري كالقضاء والقدر.
أفقت على صوت ينبعث من سقف الطائرة يقول: إننا نحلق فوق ليبيا. جسدي يسترخي في المقعد وخدر لذيذ يسري في كياني، أصبحت خارج حدود الوطن، تحت ضلوعي خفقات تتصاعد بسرعة، والدماء الدافئة تمشي في عروقي، شحنة من الحماس، وحواس جديدة تستيقظ وتتفتح للحياة والحب، أسندت رأسي إلى مسند المقعد وأغمضت عيني ثم فتحتهما، لحن موسيقي في أذني، وعينان زرقاوان تتطلعان نحوي وتبتسمان. كانت تجلس في المقعد المجاور لي وتحضن بين ذراعيها دمية كبيرة من البلاستيك، تهدهدها كأنها طفل حي.
سألتني: عندك أطفال؟
قلت: نعم.
قالت بأسى: حرمت من الأطفال.
وقلت: الحياة فيها أشياء أخرى غير الأطفال.
تساءلت: مثل ماذا؟
قلت: العمل، السفر، الحب ...
تساءلت: هل أحببت؟
وفاجأني السؤال: لم يسألني أحد من قبل هذا السؤال، لكن سؤالها يبدو لي عاديا، وبي رغبة لأفتح قلبي لهذه المرأة؛ فهي لا تعرفني، وسوف نفترق ولن نلتقي بعد اليوم.
وقلت: أتريدين الصدق؟
قالت: نعم.
قلت: توهمت الحب لكنني لم أحب بعد.
وضحكت وألقت بشعرها الأصفر الغزير إلى الوراء، رأيت بين أسنان فكها العلوي سنة ذهبية. أظافرها طويلة مدببة مطلية باللون الأحمر. أمسكت خصلة من شعرها بين أصابعها ولعقت بطرف لسانها شفتها العليا وقالت: لا يوجد شيء اسمه الحب.
سألتها: من أي بلد؟
قالت: أنا إيطالية، وأشتغل في بني غازي.
وقلت: وماذا تشتغلين؟
قالت وهي تشعل سيجارة: راقصة، ثم أردفت بصوت خافت: ومومس أيضا.
انتفض جسدي مبتعدا عنها بحركة شبه غريزية، لأول مرة في حياتي أرى امرأة مومسا، قرأت عنهن في الروايات وشهدتهن في أفلام السينما، رمقتها بطرف عين أدرس ملامحها وذراعيها وساقيها، كل شيء فيها عادي لا يثير الانتباه. كنت أظن أن المرأة المومس لا بد وأن تثير الانتباه بشيء غير عادي. تأملت أصابع يدها الخمس بدهشة، كأنما كنت أتوقع أن يكون لها ست أصابع أو سبع، أفقت على هزة عنيفة كأنما تسقط الطائرة في البحر، ومعدتي تسقط معها إلى تحت، أمسكت المقعد بكلتا يدي وهتفت: ماذا يحدث؟
وقالت المرأة الإيطالية: نهبط في بني غازي.
أضاءت رقعة مستطيلة من الضوء فوق رأسي عليها حروف بالإنجليزية: اربطوا حزام المقعد، أطفئوا السجائر. صوت أنثوي يعلن في الميكرفون أن الطائرة تهبط، ولم أسمع بقية الكلمات، الميكرفون يأكل نصف الحروف، والأزيز العالي يبتلع النصف الآخر، وجدران أذني تنطبق وتنغلق تحت ضغط مفاجئ، ولم أعد أسمع إلا صفيرا حادا، ثم انفتحت أذني فجأة بصوت أشبه بالفرقعة الخفيفة وزال الضغط تماما، وسمعت صوتا كهدير الشلال، ثم ارتج جسمي مع ارتطام عجلات الطائرة بالأرض.
ولا بد أن وجهي كان شاحبا؛ لأن قلبي كان يدق بسرعة، وحلقي جف تماما.
على أرض مطار بني غازي رأيتها من خلال الزجاج تسير بين الصفوف، تحمل على ذراعها الأبيض النحيل دميتها البلاستيك كأم تحمل ابنتها الوحيدة، وبيدها الأخرى أمسكت حقيبة جلدية صفراء.
عاصفة من الرمال هبت وطيرت شعرها الأصفر، ورأيتها تغطي ركبتيها البيضاوين بطرف ردائها، وهواء بني غازي يعاندها ويرفع عنها الرداء، ووجوه سمراء تتفرسها، وعيون جائعة تلتهمها.
ورأيتها تتوقف ثم تستدير نحو نافذتي، ولوحت لي من بعيد بمنديلها الأبيض الصغير، فلوحت لها وخوف غامض يسري في كياني. •••
حين هبطنا في الجزائر كانت الشمس لا تزال في السماء، شمس الأصيل الدافئة تلمع فوق الشجر والجبل العالي الأخضر. لأول مرة في حياتي أرى جبلا عاليا أخضر صاعدا نحو قرص الشمس. في مصر لم أعرف إلا الأرض المستوية، وجبل المقطم لم يكن جبلا، والخضرة في مصر لم يكن لها اللون الأخضر القوي الداكن.
سمعت من خلفي صوتا يقول: حمد الله على السلامة، استدرت بسرعة، رأيت الوجه الطويل الأسمر والشارب الدقيق المنمق فوق الشفة العليا، اسمه الدكتور «جميل ياسر» وكان أستاذا لي بالكلية.
تساءل: أنت وحدك؟
قلت: نعم.
قال: تعالي معنا، سنأخذ تاكسيا إلى الفندق. كانت معه زوجته، امرأة ضخمة سمينة تتأرجح على كعبين رفيعين. السائق الجزائري يتكلم بالفرنسية. الساعة حول معصمي تشير إلى الثامنة والنصف، ولا تزال الشمس في السماء. وقال الدكتور جميل ياسر: ألم تغيري ساعتك؟ الساعة الآن الخامسة والنصف.
مددت رحلاتي المتعددة في بلاد العالم خلال العشرين عاما الماضية، ورغم أنني حركت عقارب الساعة إلى الوراء أو إلى الأمام حسب موقع البلد الذي أسافر إليه، إلا أنني لا زلت أذكر هذه المرة الأولى التي غيرت فيها الزمن بيدي.
أحسست رعشة خفيفة فوق أصابعي وأنا أحرك مسمار الساعة، وعيناي تتابعان العقربين وهما يتقهقران إلى الوراء ثلاث ساعات كاملة.
كنت أظن أن حركة عقربي الساعة مقدسة لا يمكن ليد أن تلمسها أو تغيرها. هذان العقربان كانا يحكمان يقظتي ومنامي، مواعيد عملي ولهوي، يحكمان أيام عمري، يحكمان علي «بالشباب أو بالشيخوخة». هذان العقربان لم أكن أستطيع أن أقدمهما أو أؤخرهما دقيقة واحدة، ولا يستطيع أحد غيري حتى الصائغ الذي صاغهما ودقهما بمطرقته وصنع منهما عقربين. هذان العقربان المقدسان استطعت الآن أن أحركهما إلى الوراء ثلاث دورات كاملة.
وتحولت الدهشة إلى فرحة، كأنما اختلست من الآلهة ثلاث ساعات وأضفتها إلى عمري، أو كأنما درت حول الكرة الأرضية ثلاث دورات وأنا في مكاني.
وحين سرت على أرض الجزائر والشمس لا تزال في السماء قلت لنفسي: الناس في مصر غربت عنهم الشمس وأنا لا تزال الشمس في عيني! أهي الشمس نفسها أم شمس أخرى؟
ملمس الشمس فوق وجهي في أول زيارة لا يزال في ذاكرتي، واللهجة الجزائرية بدت لي كاللغة الجديدة، والملامح الجزائرية حادة قوية شامخة كالجبل، والسلام الجمهوري حين سمعته يعزف لأول مرة أدركت أنني فوق أرض الجزائر، أرض المليون شهيد، حرب التحرير والفدائيين، سجون التعذيب وجميلة بوحريد، الجنود الفرنسيون وفظائع الاستعمار، «فرانزفانون» وكتابه «المعذبون فوق الأرض»، «بن بيلا» بوجهه المستدير وقامته الطويلة تقارب قامة عبد الناصر.
افتتح «بن بيلا» المؤتمر الطبي. قاعة ابن خلدون مليئة بالأطباء العرب، والحديث بينهم يدور حول الثورة الجزائرية والعمل الفدائي والتحرر من الاستعمار، لكن سرعان ما انقسموا إلى لجان متخصصة وبدءوا الحديث عن أمراض القلب والمعدة والطحال.
وفي المساء كانت حفلات الموسيقى والغناء والرقص الجزائري، أنغام البيانو والكمان تمتزج بدقات الدف والعود، كلمات فرنسية تمتزج بكلمات عربية، عيون فيها ثورة وغضب، وعيون فيها استكانة وشبع، نساء رشيقات نصف عاريات، ونساء محجبات تحت خمار سميك وعباءة واسعة بيضاء.
في حي القصبة العربي طغت دقات الدف والعود على أنغام البيانو والكمان، وطغت الكلمات العربية على الفرنسية، وبدأت الأزقة الرطبة والبيوت القديمة المتآكلة وعيون النساء من تحت الحجاب الأبيض ووجوه الأطفال الذابلة.
تقدمت نحوي امرأة تخفي وجهها وجسمها تحت عباءة بيضاء واسعة، على ذراعها طفل، وذراعها الثانية ممدودة نحوي، باسطة كفها تشحذ: أعطني قرشا. قالتها بالفرنسية. لأول مرة في حياتي أسمع شخصا يشحذ بلغة أجنبية. كنت أظن أن الشحاذين لا يعرفون إلا العربية.
قبل منتصف الليل عدت إلى غرفتي بالفندق، ورأيت الورقة الصغيرة، وكلمات بخط دقيق منمق يشبه الشارب الدقيق المنمق، الحرف بجوار الحرف كالشعرة بجوار الشعرة في دقة شديدة أشبه بالحذر: «أدعوك إلى العشاء معي.»
أكاد لا أعرف الاسم، أيكون هو الدكتور جميل ياسر؟ حضرت بعض محاضراته في مدرج علي إبراهيم في كلية قصر العيني، وألقى بحثا في المؤتمر بالأمس عن طريقة جديدة لاستئصال ورم المخ، متوسط القامة يميل إلى الامتلاء خاصة عند البطن والفخذين، له نظرة حادة حين ينصت باهتمام، شعره أسود بلون الصبغة الفاحمة السوداء، تجاعيد العمر واضحة حول العينين والفم، أسنانه صغيرة صفراء من كثرة التدخين، وحين يمشي يتكئ بجسمه على ساقه اليمنى كأن بقدمه اليسرى عرجا خفيفا. لم يكلمني وأنا طالبة ولم أكلمه، وقابلته بعد التخرج مرات قليلة في اجتماعات عابرة، ولم نتكلم أيضا. لم أكن أظن أنه يعرفني، وفي قاعات المؤتمر كنت أراه يمشي وإلى جواره زوجته يسبقها بخطوة، في الصباح دق جرس التليفون في غرفتي وقال: أنا جميل. - جميل من؟ - الدكتور جميل ياسر. - ولكنك في الورقة كتبت جميل علي. - اسمي الثلاثي جميل علي ياسر. - ولماذا لم تكتب جميل ياسر؟ - خشيت أن تقع الورقة في يد أحد غيرك. - أتعني أن جميل علي هو اسمك التنكري؟ - تقريبا. - ولماذا تتنكر؟ - التقاليد تطاردنا أينما سافرنا. - وهل أنت ضد التقاليد؟ - حين أسافر نعم. - هل ستأتي معك زوجتك؟
وصمت لحظة ثم قال: لا، إنها تفضل البقاء بالفندق.
وأردف: هل أمر عليك في السادسة والنصف؟
قلت: لا. - أترفضين دعوتي؟ - لا، ولكني أرفض دعوة «جميل علي». - لماذا؟ - لأني لا أعرفه.
وتساءل: ودعوة جميل ياسر؟ هل تقبلينها؟ - لا. - لماذا؟ - لأني أعرفه. •••
سافرت إلى الجزائر مرات أخرى بعد هذه الرحلة الأولى عام 1963، لكن صورة الجزائر ظلت في ذاكرتي كما رأيتها أول مرة، كوجه إنسان يشدنا لأول وهلة، وتظل الصورة الأولى محفورة في الذاكرة رغم تغير الملامح.
الجبل الأخضر يحتضن البحر الأزرق، الارتفاع الشاهق ينحدر بحدة وبلا تدرج، والصخور حمراء، وعينا الفدائي الجزائري «شهيب» نفاذتان ثاقبتان كعيني الفهد، لونهما أزرق كالسماء. لكنه إذا نظر ناحية الجبل تحولت الزرقة في عينيه إلى خضرة داكنة كالغابة، فإذا ما حرك رأسه ناحية البحر أصبحت الخضرة في المقلتين زرقاء عميقة الأغوار كمياه البحر.
شعرت بالقرب منه وهو صامت. أحب في الرجل صمته؛ فالصمت أصدق ، وملمس يده في يدي مألوف، لكن إذا ما نطق وسمعت تلك اللهجة الجزائرية الفرنسية نصف العربية رأيته رجلا غريبا.
وضحك فاردا ذراعيه عن آخرهما محتضنا البحر والجبل والسماء والشمس، وحاول أن يحتضنني فابتعدت؛ صوت أمي لا زال في أذني منذ الطفولة: لا تثقي في أي رجل غريب.
الغرباء لم نرهم إلا مسلحين بالبنادق وبنادقهم ناحية صدورنا، وعقلي منذ الطفولة ربط بين البنادق والرجال الغرباء وكوني أنثى، كرهت الكلمة منذ الطفولة، وأصبحت أنوثتي عقلانية.
لا زلت أحدق في عيني «شهيب» رغم مرور عشرين عاما، رائحة البحر في أنفي والسيارات المحروقة في سفح الجبل، والتراب أحمر بلون الدم، وهو صامت ينظر بعينيه النفاذتين إلى قمة الجبل، وتذكرت الحوار: في عينيك شيء لم أجده في عيون الرجال! - ماذا؟ - هذا البريق النفاذ الحاد يشق الجبل والبحر. - الثورة؟ - ربما، ولكنها ثورة مختلفة، عندنا أيضا ثورة. - ثورتكم بيضاء وثورتنا حمراء، سال دم مليون شهيد قبل أن نحصل على الاستقلال. - عندنا شهداء ماتوا في حرب القنال ضد الإنجليز.
تذكرت «المنيسي» زميلي في كلية الطب. كان يجلس إلى جواري عام 1951 في أول سنة بالمشرحة، اختفى ذات يوم ولم أره أبدا، ولم يبق منه إلا حروف اسمه محفورة على لوحه من الرخام في مدخل الكلية ضمن أسماء الشهداء، وحروف اسمي على ورقة بخط يده في درج مكتبي. - إذا كانت ثورتنا بيضاء فأين يذهب دم المنيسي؟ - من هو المنيسي؟ - حبي الأول. كان ثائرا وكان جذابا. - الثورة تجعل الملامح جذابة. - كل من أحببت في حياتي كان ثائرا، وكل امرأة جذبتني كانت ثائرة، وكل طفلة أو طفل جذبني رأيت الثورة في العينين واضحة. وأنا أحب نفسي حين أثور، وأكره نفسي حين أستسلم. - وأنا أحب المرأة الثائرة حين تستسلم. - وأنا أحب الرجل المستسلم حين يثور. •••
هل تؤثر طبيعة الأرض على الملامح؟ في مصر الوادي السهل المنبسط يجعل الملامح هادئة والعيون وادعة شبه مستسلمة؟ وهنا في الجزائر الجبل الصعب الشاهق يجعل الملامح حادة عنيفة شبه صخرية.
في زيارتي الأولى للجزائر جذبتني الملامح الجبلية، خفق قلبي وأنا أصعد الجبل لأول مرة، ورأيت في العينين النفاذتين حريق المعارك المتفحمة في بطن الجبل، ورأيت البحر في عنفوانه، والجبل في شموخه، وأصبحت الثورة هي الحب. لكني كنت لا أزال أسيرة الوهم أن الثورة تمنح والمرأة تؤخذ.
ووقفت مترددة كالمشدودة بين قوتين متعادلتين، تجاوزت حدود الوطن لكني لا زلت حبيسة بغير جدران، وسلاسل تحوطني غير مرئية.
كان «بن بيلا» لا زال في الحكم، وعبد الناصر أيضا قبل هزيمة 1967، وكنت أمد رأسي بين الصفوف لأسمع صوت «بن بيلا» وهو يلقي خطابه في أول أيام المؤتمر، كلماته العربية تختلط بالفرنسية. يقول بدل مدرسة: «إكول»، وبدل موعد: «راندفو»، خليط عجيب من الكلمات الفرنسية المعربة ترن في أذني كلغة مستحدثة غريبة ومنفرة.
وأشار «شهيب» إلى السيارة المحترقة في سفح الجبل: هذه بقايا معركة التحرير. وقد طردنا فرنسا إلى الأبد. - ونحن أيضا طردنا الإنجليز من قبلكم! - هل نتعشى معا الليلة؟ - لا. - هل أنت متزوجة؟ - لا. - لماذا تعترضين إذن؟ - هل الزواج هو الذي يمكن أن يمنعني؟ - بالعكس الزواج يحرر المرأة. - والاستعمار يحرر بلادنا؟ - هل الزواج كالاستعمار؟ - كلاهما وجهان لعملة واحدة.
وفي الزيارة التالية للجزائر رأيت «شهيب» سائرا في الطريق، استدار ورآني، ملامحه لم تعد جذابة، هل فقد ثورته؟ صافحته وسرت في طريقي مسرعة، الشمس تقترب من المغيب.
شوارع الجزائر بعد الغروب تخلو من النساء، وتصبح غابة من الرجال، يسيرون جماعات على شاطئ البحر، أنوفهم حادة وعيونهم نفاذة ثاقبة، وأنفاسهم كزفير البحر أول الليل يصعد ويهبط.
وقلت لصديقتي الجزائرية فتيحة: لماذا لا تتمشى النساء الجزائريات على البحر؟
وقالت فتيحة: لا زلنا مجتمعا رجوليا. - ولكن النساء اشتركن في حرب التحرير. - نعم، لكن بعد تحرير الوطن لم نحرر أنفسنا. - أيهما يسبق؟ تحرير النفس أم تحرير الوطن؟ - النفس طبعا؛ فاقد الشيء لا يعطيه.
فتيحة إحدى عضوات الاتحاد النسائي الجزائري. لم تتزوج بعد. كانت مشغولة بالثورة ولم تجد الوقت للزواج، وإذا وجدت الوقت لم تجد الزوج، وقالت لي: «الرجل الجزائري إذا تحرر تزوج فرنسية، وإذا تزوج جزائرية لم يعد متحررا ، وهو يشتهي المرأة الحرة لكنه لا يتزوج إلا الجارية.» •••
من الجزائر ركبت الطائرة إلى باريس. لم يعد لركوب الطائرة السحر الأول، أحملق من خلال الزجاج المزدوج لأرى مضيق جبل طارق، شريط البحر بين قارة أفريقيا وقارة أوروبا.
كلمة «أوروبا» تملأ رأسي بالخيالات، وأول مرة سمعت الكلمة من أبي. كنت لا أزال طفلة، وسمعته يقول: إن الطالب المتفوق يسافر في بعثة لأوروبا، وتصورت أن أبي تفوق على جميع الرجال في العالم ولا أحد يفوقه في شيء، ثم اكتشفت بعد أن كبرت قليلا أن الملك فاروق أكثر شهرة من أبي، وسألت جدتي: لماذا لم يصبح أبي ملكا؟ ثم كبرت أكثر، وكلما كنت أكبر كان حجم أبي يتناقص، حتى علمت أن هناك رجالا سافروا في بعثات إلى أوروبا وهو لم يسافر، ثم عاش أبي ومات في الواحد والستين من عمره دون أن يرى أوروبا ودون أن يركب الطائرة.
أصبحنا نحلق فوق إسبانيا، أحملق من خلال الزجاج كأنما سأرى الأندلس والسندس الأخضر وحلبة مصارعة الثيران.
أدقق النظر إلى الأرض في القاع السحيق تحت جناح الطائرة، الأرض تبدو حمراء تحت وهج الشمس، البيوت دقيقة بحجم رءوس الدبابيس.
إلى جواري رجل يقرأ في جريدة، التقطت كلمة الصباح بالفرنسية.
تعلمت اللغة الفرنسية في المدرسة الابتدائية والثانوية. لم أتكلم الفرنسية منذ أكثر من عشر سنوات.
ابتسم الرجل وسألني بالفرنسية عن بلدي، وقلت: «إيجبت»، ورن صوتي في أذني غريبا، وكلمة «إيجيبت» بدت وكأنها ليست «مصر».
وردد الرجل بدهشة: إيجبت! وكأنما «إيجبت» هذه في آخر الدنيا، وبدت ملامح الرجل غريبة، وبشرته حمراء وله أنف طويل مدبب وشفتان رفيعتان مشدودتان، ويداه كبيرتان فوقهما نقط سوداء، واجتاحني إحساس جارف بالغربة، وسمعت الرجل يقول: أول مرة تذهبين إلى باريس؟
وقلت وأنا أبتلع لعابي الجاف: نعم.
وتمنيت لحظتها لو عادت بي الطائرة إلى بيتي، ولاحت لي عينا ابنتي فيهما دموع. فوق النافذة نقط ماء كالمطر، السحاب تغير لونه، أصبح كثيفا له لون داكن مخيف، من بين شقوق السحب تبدو الأرض أشد بعدا، صوت الطائرة يهدر في أذني، الرجل إلى جواري ترك الجريدة وأغمض عينيه، مضيفة الطائرة تضحك مع أحد الركاب، امرأة جالسة في مقعدها تقرأ في مجلة، إلى جوارها طفل يلعب بمكعبات صغيرة ملونة، كل شيء داخل الطائرة يبعث على الطمأنينة.
مرت المضيفات بأباريق الشاي والقهوة، نكهة القهوة في أنفي قوية، حواسي الطبيعية تعود، ويعود معها الإدراك المفاجئ بأنني في الطريق إلى باريس.
باريس! الكلمة ترن في أذني ساحرة، من كل الرجال في أسرتي لم يسافر أحد إلى باريس، قرأت في طفولتي عن رجال مصريين سافروا إلى باريس. لا أتذكر منهم الآن إلا سعد زغلول وطه حسين. في خيالي عن باريس نساء شقراوات جميلات يرقصن على ضفاف نهر السين، عيونهن زرقاء وسيقانهن وردية ناعمة وألحان الموسيقى تملأ الكون.
الطائرة تهتز وتتأرجح كأنما ستسقط بين أمواج السحب، الصوت يعلن أننا نهبط في مطار باريس، ورقعة الضوء كشفت عن عبارة: اربطوا الأحزمة، أذناي تنغلقان وتنفتحان، والأزيز يشتد كالصفير الحاد، ثم الارتجاجة العنيفة الأخيرة وتلامس العجلات مع الأرض. •••
المطار ضخم متعدد الممرات، أحاول تتبع العلامات فوق اللافتات لأصل إلى باب الخروج. الأرض نظيفة لامعة تبرق، الناس وجوههم نضرة متوردة، أجسامهم ممشوقة سريعة الحركة، كعوب النساء الرفيعة العالية ترن فوق الأرض بدقات سريعة، كعوب الرجال أيضا تدب دباتها القوية النشيطة، الأجسام الرشيقة تتدافع أمامي في تناسق وسرعة كموجات نهر رشيق.
الشوارع فسيحة والأشجار خضرتها قوية، البيوت أنيقة شرفاتها تطل منها الزهور. لم أر في أي شرفة ملابس منشورة على حبل غسيل.
هبطت الدرجات لأركب «المترو»، الزحام شديد، والخطوات سريعة لكن لا أحد يرتطم بأحد. على المقعد المواجه لي في القطار فتاة وفتى يتعانقان، يستغرقان في قبلة طويلة والقطار مزدحم ولا أحد ينظر إليهما، أحاول أن أبعد عيني عنهما. ثلاثة شباب وفتاة يعلقون على أكتافهم آلات موسيقية ويعزفون. أبواب القطار تنفتح وحدها في كل محطة، ويهبط ناس ويصعد ناس، ثم تنغلق الأبواب وحدها. توقف القطار في محطة الشانزليزيه فاندفعت بسرعة خارج القطار، صعدت السلالم إلى الشارع، رأيت أمامي قوس النصر الضخم والشارع الفسيح على جانبيه المحلات ذات النوافذ الزجاجية الكبيرة، عيناي تتحركان بلا توقف، الوجوه من حولي مشرقة والخطوات مرحة، الملابس أنيقة متعددة الأشكال والألوان، سراويل ضيقة كالقفاز، أثواب قصيرة تكشف عن سيقان ناعمة ملونة، شاب وشابة يسيران متعانقين.
الحرية تتجسد أمامي، حيث لا عيون ولا آذان ولا أنوف تندس أو تتشمم، وسرت إلي عدوى الحرية، شددت عضلات ظهري ورفعت رأسي وسرت بخطوات منطلقة أحرك ذراعي في الهواء. اشتريت تفاحة حمراء ضخمة ووضعتها بين أسناني، واندفعت مع مجموعة من الشباب نحو مركب للنزهة في نهر السين.
هبطت نحو النهر أجري كما كنت أفعل وأنا طفلة، ثم توقفت لحظة ألتقط أنفاسي، أدركت أنني لم أعد طفلة. وضفاف نهر السين على الجانبين تحوطها الأبنية ذات القباب العجيبة والتماثيل الحجرية منتصبة فوق الجدران كآلهة العصور القديمة قبل ظهور الآلهة السماوية، الأبنية ضخمة ممتدة في الأفق، برج إيفيل عملاق حديدي يبعث في الجسد قشعريرة، هواء بارد يلفح وجهي، قلبي ثقيل وصدري يمتلئ بالرهبة. هذه المدينة أكبر مني، تمتد أكثر مما يمتد بصري، والأسماء فوق الجدران الشاهقة لا أعرفها، عدم المعرفة يسلب المتعة والجمال.
وفي متحف اللوفر كدت أحوطه بذراعي، ملامحه المألوفة ورأسه الضخم، كتفاه العريضتان الصلبتان، أصابعي تتحسس جسده البرونزي اللامع، ويعود إلى أنفي رائحة الصحراء والهرم، السياح الأجانب يرمقونه بعيون زرق مستطلعة، وكلمة «اسفنكس» ترتطم بأذني غريبة، أسمع عندي «أبو الهول»، رقدته في صحراء الجيزة أكثر جمالا من رقدته هنا في متحف اللوفر، عيناه تلتقطان عيني من بين كل العيون الغريبة، يستشعر الغربة مثلي ويحن إلى العودة، اقتربت منه أكثر، وحوطته بذراعي كأنما سأحمله فوق صدري وأعود.
قضيت اليوم أتجول في متحف اللوفر، أمر بين التماثيل واللوحات المتعددة ثم أعود إلى حيث يرقد أبو الهول، بالقرب منه أشعر بالألفة، وأوشك أن أحدثه.
في إحدى القاعات رأيت الناس يتجمعون حولها وهي منتصبة بقوامها الرشيق، «فينوس» إلهة الجمال كما يسمونها، لها ذراع واحدة، أحملق في وجهها لأعرف سر جمالها، ملامحها عادية، إلى جوارها تنتصب الإلهة «أثينا» إلهة الحكمة، عيون الناس منصرفة عنها مع أنها أكثر رشاقة من فينوس وأكثر جمالا. هل الحكمة في المرأة غير مطلوبة وبالتالي غير جذابة؟
وعند لوحة الجوكندا أو الموناليزا توقفت قليلا. كانت هي اللوحة الوحيدة التي وضعت داخل إطار زجاجي، وانعكس الضوء على الزجاج، ورأيت صورتي داخل الإطار ولم أر الجوكندا، حركت رأسي ناحية اليمين واليسار لأراها دون جدوى، صفوف الناس تقف أمام الجوكندا في خشوع، كل ينتظر دوره ليراها عن قرب، لكن ما إن يقترب حتى ينعكس الضوء على الزجاج فيرى وجهه ولا يرى وجه الموناليزا، ومع ذلك يستدير تاركا مكانه لمن وراءه وهو يهتف: عظمة! معجزة!
استدرت مبتعدة عن الجوكندا، كلما ابتعدت أراها أكثر، تشبه العذراء مريم بدون المسيح، رأسها مائل قليلا في خضوع الأنثى، وابتسامتها فيها حياء القديسة، في أناملها أمومة. ليوناردو دافنشي كان طفلا محروما من الشرعية؛ ولدته أمه بغير أب كما فعلت العذراء مريم، ولم يستطع ليوناردو دافنشي أن يتكلم في المهد ويصبح نبيا. لكنه صنع معجزة أخرى؛ أمسك الريشة ورسم أمه كاترينا، وأعطاها اسم الجوكندا، جعل ملامحها مقدسة كأم النبي، الناس يحجون إليها من جميع بلاد العالم، ويقفون أمام صورتها في خشوع، أناملها فيها نبض كالحياة، وفي عينيها حركة غريبة تتبعني أينما ذهبت، تنظر إلي كما أنظر إليها، وتبتسم لي كما أبتسم لها، مددت يدي كأنما لأمسك يدها، أصابعها تشبه أصابع أمي، مستديرة ومملوءة بالأمومة والفضيلة معا، خالية من الإثم، في كل حياتي لم أتصور أن أمي عرفت الخطيئة، وأنها أنجبتني بقدرة الله الروحية، حتى بعد أن كبرت وعرفت أن أمي ليست هي العذراء مريم، وبعد أن درست التشريح والطب، ظلت أمي في نظري الأم العذراء لم يمسسها رجل ولا حتى أبي.
مرت ساعة أخرى وأنا لا أزال أحملق في وجه أمي، أدرك بعقلي أنها ماتت ودفنت في مقابر الغفير قرب جبل المقطم، وأن الوجه الذي أمامي هو وجه الموناليزا، لكن الفاصل بين الماضي والحاضر تلاشى، وشريط حياتي منذ الطفولة يتتابع أمام عيني : الصورة وراء الصورة. كنت وأنا طفلة أحب أبي أكثر من أمي؛ يغيب نصف النهار خارج البيت، ولا يؤنبني مثل أمي حين أخرج بدون إذن، ويدفع لي مصاريف المدرسة، لكن بعد أن كبرت أصبحت أحب أمي أكثر من أبي؛ لا تنام حتى أعود وتعد لي العشاء وتجلس معي حتى آكل، وفي الليل أحس بها تنهض على أطراف أصابعها وتغطيني.
هل بدأت الفضيلة في العالم بحب الأم قبل معرفة الأب؟ خطوط ليوناردو دافنشي لا تعرف إلا حب الأم، وتحول الحب في الأنامل إلى عبادة، والعبادة تحولت في القلب إلى لذة، لكن الأب المجهول حرم حب الأم وجعل العبادة لنفسه.
حملقت في وجوه الناس الواقفة في خشوع أمام الجوكندا، ماذا يبهرهم في خطوط دافنشي؟ وماذا يتحرك في أعماقهم؟ أهي اللذة في أعماق القلب للمحرمات؟ أم هي الكراهية الخفية للمقدسات؟
أستكشف بطرف عيني أعماق الناس. لا أحد ينظر لي، راحوا جميعا في غيبوبة الفن أو هكذا بدا لي، حتى ذلك القسيس الواقف في خشوع بملابسه المقدسة، يملأ عينيه بسحر الجوكندا وجاذبيتها الآثمة. •••
سرت على شاطئ السين أعرض وجهي الساخن للهواء البارد المنعش، الشمس مشرقة والأكشاك الخشبية تعرض اللوحات، والكتب القديمة تذكرني بسور الأزبكية. الحياة متألقة تحت الضوء الباهر، الشارع مزدحم بالناس، خطواتهم نشطة مرحة، الفاكهة مرصوصة بعناية فوق الرفوف، والزهور ألوانها متعددة، الناس يجلسون في المقاهي وأمامهم صواني تلمع وفناجين وأكواب تبرق تحت الشمس.
ألمح قباب كنيسة نوتردام، النقوش العتيقة والتماثيل منتصبة تحت الضوء. أمام الباب الضخم رجل يبيع النباتات العطرية الجافة داخل أكياس من القماش. قال بالفرنسية: ثمن الكيس عشرة فرنكات، وتعيش الرائحة لمدة عام. إلى جواره رجل يبيع البالونات الملونة. السياح من مختلف البلاد يملئون المكان، بعضهم افترش الأرض وجلس يأكل ويشرب البيرة من علب مثلجة. شاب وشابة يرقدان على دكة خشبية ويتعانقان تحت الشمس.
البهو الواسع داخل الكنيسة رطب مظلم، أضواء الشموع تشيع في الجو رهبة سماوية غامضة لها رائحة كالدخان أو الشمع المحترق. الناس يسيرون بخشوع نحو الهيكل، صورة العذراء مريم تحتضن المسيح، الناس يتأملونها كأنما الجوكندا، الصليب يتدلى منه الجسد المقدس، امرأة عجوز راكعة على دكة خشبية ترسم على صدرها علامة الصليب، امرأة أخرى راكعة في الطرف الآخر من الدكة، امرأة ثالثة تقترب من الصليب وتلمسه بيدها ثم تمسح وجهها بيديها، يداها معروقتان وحركتها تشبه حركة جدتي مبروكة، والبهو المقدس المعتم له رائحة رطبة تشبه رائحة سيدنا الحسين في طنطا. كنت لا أزال طفلة وارتبطت في ذهني الرطوبة والعتمة بالأمكنة المقدسة والأيادي المعروقة والوجوه المليئة بالتجاعيد والجلاليب السود والعيون الذابلة المتغضنة تعوم في الحزن، والأغلبية نساء فقيرات. لماذا يخاف النساء والفقراء عقاب الآلهة أكثر من غيرهم؟
رفعت رأسي نحو الهيكل، رجل وامرأة راكعان على ركبتيهما أمام الإله المقدس، الرجل خاشع والمرأة خاشعة، لكن خشوع المرأة أشد، رأسها مطرق وعيناها الاثنتان مغلقتان، لكن الرجل يغمض عينا ويفتح عينا، ويرمقني وأنا واقفة بطرف عين.
ضوء الشموع يملأ البهو بالأشباح، رائحة غريبة كرائحة الموت، وظلال الأجساد تصنع فوق الأرض هياكل سوداء، رجل عجوز له لحية طويلة بيضاء يتمتم وفي يده الكتاب، عيناه صغيرتان غائرتان من تحت النظارة البيضاء، جفونه مسدلة تنفتح بحركة سريعة منتظمة كحركة جفون عمي الشيخ عبد الحميد. كان الأخ الأصغر غير الشقيق لجدتي مبروكة، من بين ثلاثة عشر أخا غير شقيق من زوجات أبيها الأربعة، وكان يجلس في صحن الدار وفي حجره القرآن يتمتم بصوت خافت، وجفونه مسدلة تنفتح وتنغلق بحركة سريعة كحركة رأسه، وحبات المسبحة الصفراء بين يديه لا تكف، وطرقعة شباشب زوجاته الثلاث، وأصواتهن الحادة يتشاجرن حتى غروب الشمس، ثم ترقد كل واحدة منهن في غرفتها، ويدخل هو إلى غرفة زوجته الأولى ليلة السبت، ثم يستريح ليلة الأحد، ويدخل إلى غرفة زوجته الثانية ليلة الإثنين. أما زوجته الثالثة وهي الصغرى فتحظى بليلتي: الثلاثاء والأربعاء، ثم يستريح ليلة الخميس.
وتهمس زوجته الأولى في أذني قائلة: عمك سيذهب إلى جهنم. لا يوزع بالعدل ليالي الأسبوع.
ولم أكن أفهم ماذا تعني. كنت لا أزال طفلة، ولا أعرف إلا أن في الأسبوع سبع ليال، وعمي الشيخ يعطي زوجاته أربع ليالي، ويستريح ليلتين، فأين هي الليلة السابعة؟
وسألته ذات يوم وهو جالس في صحن الدار يقرأ القرآن، وقال لي: ليلة الجمعة أعطيها لله؛ فهي ليلة مباركة.
في غرفتي الصغيرة بشارع سان جرمان تمددت على السرير، أغمضت عيني ثم فتحتهما، خيل إلي أنني ولدت في هذه الغرفة، وفيها أموت، ولم أعرف مكانا غيرها، حركت رأسي ورأيت حقيبة السفر فوق المنضدة، يتدلى من مقبضها ورقة صغيرة نصفها أحمر ونصفها أبيض كتب عليها بالفرنسية: باريس، أتذكر بدهشة أنني في باريس، وتبدو لي هذه الحقيبة غريبة شبه مستحيلة، الغرفة لا تختلف كثيرا عن أي غرفة أخرى، دولاب وسرير ونافذة مغلقة، وتعود عيناي تتلمسان الحقيبة بورقتها نصف الحمراء لأتأكد أنني جئت إلى باريس.
ارتديت ملابسي وخرجت إلى الشارع، أملأ صدري بهواء رطب منعش وأشعة الشمس سقطت على وجهي، ومن حولي الضوء الساطع، والوجوه المرحة، ومياه نهر السين تهتز تحت الشمس كملايين الأسماك الفضية، على المقاعد الخشبية شباب وشابات يتعانقون، وفي حديقة اللوكسمبورج أطفال يمرحون ويلعبون. وشعرت بالجوع فجأة، فاشتريت رغيفا طويلا دسست فيه شرائح الجبن والمورتاديلا، وجلست على مقعد خشبي تحت الشجر أمضغ الطعام ببطء، وأراقب الشمس وهي تغرب.
مهرجان من الألوان والأضواء والناس سائرون على الأقدام أو جالسون على المقاهي يشربون ويأكلون ويتحدثون، أوراق الشجر تلمع وتهتز، السماء تبرق بالأنوار، مياه نهر السين تتراقص تحت اللمبات الملونة، نسمة الهواء باردة منعشة خالية من التراب، الوجوه نضرة تبدو عليها الراحة، المقاهي والمطاعم أنيقة تسبح في الضوء، أعمدة الأبنية ضخمة تزينها التماثيل، قباب الكنائس والقصور، الحدائق ومساحات الخضرة، الشوارع نظيفة لامعة، الملابس أنيقة متعددة الألوان والأشكال، النساء تمشي ببساطة وحرية وتلقائية. لا أحد ينظر إلى أحد، ولا رجل يعاكس امرأة، الأتوبيس يقف في المحطة والناس تهبط وتصعد في صفوف منتظمة. لا أحد يدفع أحدا من الخلف. لا يجري أحد وراء الأتوبيس، ولا يصعد أحد فوق ظهر الأتوبيس، أو يركب على السلم، وليس هناك رجل يلتصق بامرأة من الخلف ، وليس هناك كمساري ينضغط بين أجساد الناس ويدق على صندوقه الخشبي المعلق على كتفه مناديا: تذاكر! تذاكر!
كنت أرقبه قبل أن يصل إلي وهو يشق الطريق بين الركاب، فإذا ما أصبح بينه وبيني مسافة ذراع هبطت بسرعة من الأتوبيس، ولم تكن ذراعه تطولني، مرة واحدة هبط ورائي بسرعة، وجعلني أدفع التذكرة، ولم يكن ثمن التذكرة حينئذ إلا عشرة مليمات. لكنها كانت تبدو لي وأنا طفلة كأنها عشرة جنيهات. •••
أمامي فنجان القهوة باللبن، وأنا جالسة على الرصيف في ذلك المقهى المواجه لحديقة اللوكسمبورج، العالم كله يمر أمام عيني كالنهر المتدفق، وجوه من جميع أنحاء العالم وجميع اللغات واللهجات.
أمدد ساقي في ارتخاء وأرتشف القهوة ببطء ولذة، منذ الزيارة الأولى لباريس وأنا أحب الجلوس في المقاهي على الرصيف، وفي الزيارات الأخرى ظل مقعدي الصغير في المقهى هو مكاني المفضل، والحي اللاتيني هو أجمل الأحياء، وغرفتي في ذلك الفندق الصغير الأنيق في بوليفار سان جرمان، والمكتبات والمسارح ودور السينما الصغيرة، حيث أجلس في المقعد الدافئ المريح وأمدد ساقي وأتابع المشاهد لأي مؤلف في العالم: من شكسبير وأبسن المريح وبرنارد شو وتشيكوف إلى موليير وسارتر وجان جينيه.
لا زلت أجلس في المقهى، الساعة الثالثة وأمامي ساعتان حتى أذهب إلى المطار لأغادر باريس، الشمس ناعمة كالقطيفة، دقات الكعوب فوق الأرض مرحة نشطة.
ضحكة تنطلق من حين إلى حين ثم تذوب في الهواء، شاب يجلس إلى جواري يقرأ في كتاب ويرشف البيرة، رجل عجوز داخل معطف صوفي يحملق في الشارع ويمص القهوة من فنجان ملون، امرأتان تسيران متعانقتين تضحكان بصوت عال وتقفزان لحظة في الهواء ثم تواصلان السير، أوراق الشجر تهتز مع الهواء وتلمع تحت أشعة الشمس، ومن خلال سور الحديقة أرى أحواض الزهور متعددة الألوان والأشكال.
الساعة الثالثة والربع ولا أزال أمامي الوقت، طلبت كوبا كبيرا من البيرة وشرائح رقيقة من البطاطس المحمرة، رائحة البيرة وملمسها المثلج في جوفي يملؤني بالانتعاش، أترك جسمي يسترخي أكثر في المقعد، وأغمض عيني، أشعة الشمس أحسها دافئة فوق جفني أفتح عيني فجأة باندهاش: أين أنا؟ وأدرك أنني جالسة في المقعد على رصيف المقهى، جالسة وحدي وأمامي كوب ضخم من البيرة، والناس تمر، والرجال يمرون، ولا أحد يقذفني بكلمة أو يرمقني بنظرة.
لم أستمتع بجلسة في مقاهي الوطن؛ فالمقاهي في بلادنا للرجال، يجلسون على المقاعد، ويرمقون النساء السائرات، من الأمام ومن الخلف، من الرأس حتى الصدر، ثم تدور عيونهم لتفحص السيقان من الخلف والردفين.
وفي يوم جلست في المقهى المواجه لوزارة المالية في ميدان لاظوغلي. كانت لي بعض الأوراق في الوزارة وتأخر الموظف المسئول، وقررت انتظاره في المقهى، طلبت كوبا من الشاي وجلست، لكن عيون الرجال ظلت ترمقني، من داخل المقهى وخارجه، ثم اقترب مني رجل وجلس إلى المنضدة المجاورة لي وهمس ببضع كلمات لم أسمعها، وسألته بدهشة: ماذا تريد؟
لم أكن أعرف حينئذ أن مثل هذا السؤال يعد في نظر الرجال قبولا لفتح الحوار أو على الأقل عدم الرفض، فإذا به ينتقل بسرعة إلى المقعد المجاور لي ويقول بصوت لزج: تشرب إيه يا جميل؟ ولم أستطع التخلص منه إلا حين رفعت صوتي الغاضب عاليا، وبدأ الرجال الجالسون في المقهى يضحكون ويقهقهون، ووجدتني أترك الكوب دون أن أكمله وخرجت مسرعة من المقهى والعيون تلاحقني ومعها النكات والقفشات النابية.
ولم يكن في إمكاني التنزه على شاطئ النيل دون أن يتبعني رجل يهمس بصوت قبيح كالفحيح، أو يرفع يده ويلمس ذراعي أو صدري حين يكون الطريق خاليا من المارة.
ولم أعد أجلس في المقاهي أو أتنزه على الشاطئ، وأدركت أن المرأة ليس لها مكان للنزهة في بلادنا إلا إذا سار إلى جوارها زوج أو أخ أو أي رجل آخر.
إن وجود الرجل الآخر إلى جوارها يعني على الفور أنها ليست وحيدة، وأن هناك رجلا يملكها، وليس للرجال الآخرين أن يعتدوا على امرأة مملوكة لرجل آخر.
أما المرأة الوحيدة فهي غير مملوكة لأحد؛ وبالتالي تصبح في نظر الرجال ملكية عامة وليست ملكية خاصة، والاعتداء عليها غير ممنوع، سواء بالنظر أو اللمس.
اختفت الشمس وراء سحابة رمادية، وهب هواء بارد. لا زال أمامي ساعة، ويمكنني السير حتى محطة المترو، معي حقيبة صغيرة أجرها خلفي على عجلتين. لا أحمل معي ملابس كثيرة في السفر، أغسل ملابسي بيدي، وأعلقها في الحمام على الشماعات، وفي الصباح أجدها جافة.
ظهرت الشمس مرة أخرى، وامتلأ الكون بالدفء وتلاشى اللون الرمادي، سرت بحذاء سور حديقة اللوكسمبورج، ولم أهبط إلى محطة المترو. لا زلت راغبة في السير. وقد أسير حتى ميدان «البورت مايو» وآخذ الأتوبيس من هناك للمطار، السير في شوارع باريس له متعة، لكن هل يكفي الوقت؟ ونظرت في ساعتي وجدتها متوقفة.
وسألت فتاة من المارة: «كم الساعة الآن؟» كانت تسير بخطوات مسرعة، وتعلق على كتفها حقيبة جلدية تطل منها بعض الكتب والكشاكيل، طويلة نحيلة، ترتدي حذاء كاوتش وبنطلونا أسود وسترة صوفية بيضاء، توقفت عن السير ونظرت في ساعتها بسرعة ثم قالت: الساعة الرابعة إلا ربعا. وقلت: أشكرك.
رفعت وجهها نحوي ورأيت الزرقة اللامعة في عينيها، شاهدتها تبتسم وتنظر إلي ثم سمعتها تقول قبل أن تمضي في طريقها بسرعة: «فوزت بيل مدام» (أنت جميلة يا سيدتي).
قبل أن تدرك أذناي كلماتها كانت هي قد اختفت، واستدرت ورائي، فلم أر إلا ظهرها وهي تسير بسرعة ونشاط، ظهر مستقيم داخل السترة الصوفية البيضاء وجسم ممشوق وخطوات خفيفة سريعة فوق الأرض.
وظل صدى صوتها في أذني: أنت جميلة يا سيدتي. وفي الأتوبيس إلى المطار ظل الصوت، وعادت إلي صورتها، الزرقة اللامعة في عينيها وهي تبتسم، ظهرها المستقيم وخطواتها السريعة النشطة، صوتها والحروف كما نطقتها الحرف وراء الحرف «أنت جميلة يا سيدتي»، وحركة شفتيها السريعة النشطة كحركة قدميها فوق الأرض.
وفي الطائرة جلست وربطت حزام المقعد، طغى صوت الطائرة على صوتها، فلم أعد أسمعه، لكن بعد الإقلاع فككت الحزام من حولي وسرت في الممر حتى مؤخرة الطائرة، ووقفت أطل على باريس من النافذة الخلفية، الأنوار كعناقيد اللؤلؤ فوق مربعات حمراء، ومن فوق الأنوار زرقة لامعة، ونظرت إلى وجهي في المرآة المعلقة فوق الحوض، كأنما وجه جديد يطل علي، الملامح تشبه ملامحي القديمة لكنها أصبحت كالملامح الجديدة، البشرة تتألق بلون أكثر حمرة، العينان أكثر اتساعا، و«النني» الأسود أشد بريقا، وهمست للمرآة: أنت جميلة يا سيدتي.
وسمعت صوتي بأذني: أنت جميلة يا سيدتي. لأول مرة أقولها لنفسي بصوت عال، كنت أهمس بها بلا صوت حتى لا يسمعني أحد، فلم يكن هناك أحد في الوطن يرى أنني جميلة إلا أنا، ولم أعرف لماذا؟ لكن مقاييس الجمال لم تكن تنطبق علي، وفي أعماقي كانت لي مقاييس أخرى، وبيني وبين نفسي أدرك أن هذه المقاييس تنطبق علي، إدراك فطري نابع من أعماقي وليس له دليل في العالم الخارجي، ومع ذلك فهو إدراك كامل يشبه اليقين، أو هو اليقين ذاته.
إلا أن اليقين يشوبه الشك؛ فلا أحد من حولي يقول لي، ومنذ الطفولة لم أسمع أحدا يقول لي: أنت جميلة. لا أبي ولا أمي، وجدتي آمنة كانت تمصمص شفتيها في حسرة وتقول إنني ورثت بشرة أبي السمراء، وجدتي مبروكة ترمق أسناني الأمامية البارزة وتمط بوزها قائلة: «ورثت الضب عن أمك.» وفي المدرسة حين تغضب مني البنات يقلن لي: إنني طويلة ونحيفة مثل عمود السواري.
ولم تكن أمي تعتبر قامتي الطويلة عيبا. لكنها كانت ترى أختي الأصغر أجمل مني؛ لأنها ورثت بشرتها البيضاء وشعرها الناعم.
لم يكن شعري خشنا. لكنه ناعم أيضا، وكانت فيه تموجات طبيعية، لكن خالتي كانت تراه خشنا، وتأخذني معها إلى الحلاق ليكوي شعري بالمكواة الحديدية بعد أن يحميها على النار، وأشم في أنفي رائحة احتراق الشعر، وأختنق بالشياط والدخان، وأشد رأسي بين يدي الحلاق فتلسع المكواة أذني أو طرف أنفي.
وحين يدب الخلاف بين خالتي وعمتي تتهمني خالتي بأن شعري أكرت وبشرتي سوداء مثل جدود أبي. أما عمتي فكانت تقول إن «الضب» جاءني من جدود أمي.
واشترت لي خالتي علبة بودرة بيضاء أخفي بها بشرتي السمراء، وعمتي كانت تنصحني بألا أفتح فمي وأنا أضحك. أما القامة الطويلة فلم يكن لها من علاج إلا أن أسير بظهر محني.
وشددت عضلات ظهري وعنقي حتى ارتطم رأسي بسقف الطائرة المنخفض، وغسلت وجهي بماء الكولونيا لأفتح مسام البشرة وأطهرها من آثار المساحيق.
وفي كل مرة أرفع رأسي نحو المرآة في الطائرة أرى وجهي أجمل، وفي كل رحلة خارج الوطن كنت أندهش.
وجهي دائما يبدو أجمل في مرايا الطائرات عنه في المرايا في بيتي أو أي مرايا أخرى في الوطن كنت. ولم أعرف هل كانت ملامحي تتغير بمجرد اختراق الحدود، أم أن نوع المرايا في الطائرات كان أجود؟ •••
بعد باريس حملتني الطائرة إلى لندن، ثم ركبت القطار إلى بانجور في مقاطعة ويلز، ومن هناك ركبت الباخرة إلى دبلن عاصمة أيرلندا.
وأصبحت أنتقل من بلد إلى بلد بسهولة أكثر، وكلما اتجهت نحو الشمال وهنت الشمس وتكاثفت السحب واشتدت برودة الهواء، ثم هطلت الأمطار كالسيل، والسحب بعد المطر تتباعد قليلا، وتظهر الشمس مرة أخرى. لكنها ليست كالشمس في مصر.
وكنت أظن أن الشمس لا تشرق إلا في مصر، لكن السفر في البلاد جعلني أرى شموسا مختلفة عن الشمس عندنا؛ فالشمس كنت أراها ساطعة دائما في الصيف والشتاء، وفي الربيع والخريف، ضوءها لا يكاد يتغير طول العام، ضوء ساطع قوي يجعل الأشياء تحت عيني مسطحة أو ذات سطح واحد، كالأرض المستوية بلا ارتفاع وبلا عمق، مساحات أفقية ممدودة كالصحراء الساطعة، وشدة السطوع تجعل الأشياء بيضاء أو سوداء وتختفي الألوان الأخرى والظلال.
لكن الأرض هنا لها ارتفاعات وانخفاضات، استدارات غريبة، منحنيات عميقة، والجبال تلقي الظلال المتعددة على الأرض والأنهار والتلال الخضراء، والمطر ينهمر من السماء كقطع صغيرة من الثلج الأبيض الشفاف عكس الأضواء كمثلثات من البلور الدقيقة أو شظايا المرايا متعددة الزوايا، وأشعة الشمس سريعة التغير، وألوان السماء تتبدل في اللحظة الواحدة ما بين الرمادي والأرجواني مرورا بألوان الطيف السبعة، والغابات كثيفة الخضرة، واللون الأخضر له كثافة ترى بالعين كطبقات متراكمة متعددة الألوان داخل اللون الأخضر الواحد، والهواء أيضا سريع التغير ما بين برودة الشتاء القارص ودفء الربيع الناعم في اللحظة الواحدة، وحركة السحب واتجاه الريح ورائحة الهواء ولون السماء والأرض كلها في تغير دائم، والدنيا متعددة الأبعاد وكأنها ليست دنيا واحدة.
عيناي تدوران حولي، أو ربما أدور حول نفسي، ولا أعرف هل أنا أدور أم الدنيا هي التي تدور.
عيناي لم تتعودا بعد على كل هذه الأبعاد المتعددة للشيء الواحد. كنت أرى الشيء واضحا، والدنيا مكشوفة أمامي في خط مستقيم أرى بدايتها ونهايتها في آن واحد.
وعلى أحد تلال ويلز الخضراء رأيت فوق العشب رجلا عجوزا راقدا يرتدي سترة قديمة وفي الأكمام ثقوب، وسمعت الشباب يقولون إنه السير برتراند راسل، واتسعت عيناي بدهشة، كنت أرى المشهورين في بلادنا يرتدون ملابس ذات قماش جديد يلمع تحت الضوء الساطع، ليس في أكمامهم ثقوب ولا يرقدون على الأرض.
وفي أحد شوارع بانجور رأيت امرأة داخل سيارة ترتدي حلة خضراء وإلى جوارها رجل، وسمعت أحد المارة يقول إنها الملكة إليزابيث، ورأيت المارة يقفون وينظرون نحوها، لا تصفيق ولا هتاف، ثم واصلوا السير، ومرت سيارة الملكة بهدوء، ومن خلفها سيارة أخرى، وانتهى الموكب دون أن يتغير شيء في الدنيا.
لا صفارات ولا سيارات بوليس تزأر لتخلي الشوارع من الناس، لا موتوسيكلات تجري وتعوي كالدبابير المجنونة وتمنع المرور، لا طوابير العساكر الممدودة بطول الشارع ووجوههم للجدار رافعين بنادقهم، لا حشود بشرية تعبأ في العربات اللوري لتفرغ فوق الأرصفة حناجر تدوي بالتصفيق والهتاف.
حركت رأسي من حولي باندهاش، مر الموكب دون أن يتغير شيء في الدنيا. أهي دنيا غير الدنيا؟ أم أن دنيانا هي التي غير الدنيا؟
واكتشفت أن الدنيا في بلاد العالم يمكن أن تختلف عن دنيانا، وطبائع الناس أيضا تختلف، لكن هذا الاكتشاف لم يساعدني على رؤية الأوطان الأخرى وسكانها لأول مرة فحسب، ولكني رأيت وطني والناس في الوطن لأول مرة أيضا.
وبدأت أدرك أن السفر خارج الوطن ضروري، ليس فقط لأعرف البلاد الأخرى وأهلها، وإنما لأعرف من أنا ومن نحن؟ فإن معرفة النفس لا تتحقق إلا في ضوء معرفة الآخرين.
وأصبحت كلما أسافر ثم أعود إلى الوطن ترتطم عيناي أول ما ترتطم بتلك الصورة الضخمة فوق الجدران، وعلى أقواس النصر في الميادين، وفوق أعمدة النور في الشوارع، داخل إطارها المذهب، تحوطها الأعلام ولمبات كهربية، تطارد الإنسان منا أينما ذهب، تطل عليه من فوق مكتبه، ومن فوق مائدة الأكل في أي مطعم، ومن فوق فنجان القهوة في أي مقهى، ومن فوق سريره وهو نائم إلى جوار زوجته: صورة حاكم مصر.
الفصل الثاني
النصف الآخر من الأرض
ورثت عن أبي كراهية لحاكم مصر والإنجليز، ولم أكن أنجذب إلا لرجل مثل أبي، وفي كلية الطب كان أول حب لرجل قرر أن يطرد الإنجليز من مصر. لكنه لم يطرد الإنجليز، وطاردته الحكومة حتى مات في السجن.
وأصبح للسجن في ذهني علاقة بالحب، وكلما أسمع عن رجل مسجون أو دخل السجن يوما أحس الخفقات تحت ضلوعي.
حين عدت من السفر وجدت التراب فوق مكتبي، ومن فوق الجدار صورة الحاكم الضخمة داخل إطار ذهبي كبير، وأصبح قلبي ثقيلا، ولا أدخل مكتبي إلا وأشعر بالغربة.
وفي ربيع عام 1964 التقينا، أنا وهو وحدنا، وسألته من أين جاء. قال من السجن. وضحكنا وملأنا صدورنا بهواء المقطم وذرات الغبار، وتزوجنا دون أن أشتري ملابس جديدة، واشترينا ثوبا جديدا لطفلتي ارتدته في يوم العيد، وعدنا إلى البيت نحمل كعكة كبيرة.
وفي سكون الليل وضعت رأسي على صدره وأنهيت غربتي، لكن الصفارات في الشارع ظلت تنطلق من عربات البوليس، ورجال بالهراوات يطاردون التلاميذ، وعساكر واقفون على كل شبر من الشارع كالأعمدة الخشبية، ظهورهم للناس ووجوههم للحائط.
كنا نسير في الشارع متعانقين، والعيون ترمقنا بكراهية، علامات الحب بين الناس مكروهة، ولا ينامون إلا في بحر من الشك، وفي ليلة مقمرة أوقفنا السيارة بجوار النيل، وجلسنا نرقب ضوء القمر وذراعه تحوطني، وفجأة رأينا الرجل البوليسي يقتحم السيارة، وقلنا له إننا زوجان، ولم يصدقنا، علامات الحب بين الزوجين غير معروفة، ولا بد أن يعيش الزوجان في بحر من الكراهية، ولم يطمئن الرجل البوليسي حتى رأى قسيمة الزواج بتوقيع المأذون والشهود. •••
كان صامتا، ثلاثة عشر عاما في السجن، بشرته ملوحة بشمس الواحات في الصحراء الغربية، وجهه نحيل وعيناه مرفوعتان بكبرياء طبيعي، سوداوان واسعتان، تتسعان لحزن العالم وإصرار التحدي وعدم اليأس، الرجال من حوله يثرثرون وهو صامت، يتناثر رذاذ لعابهم في الجو مع كلماتهم الثورية، يلوحون بقبضة اليد في الهواء ويضربون بها على المنصة وهو صامت، يرمقونه بطرف عين في وجل، صمته يؤلمهم كوخز الإبر، وجوده على ظهر الدنيا يضايقهم، يكشف عن زيفهم.
حاولوا إزالته من الوجود. لكنه نوع من البشر يظل موجودا رغم كل شيء، كالظواهر الطبيعية.
وأنا أحب الطبيعة وظواهرها، بيني وبين المصنوع عداء، نشأت بين الخضرة والزرع يكبر تحت الشمس، والماء يتدفق في النهر، وأتطلع نحو الطيور في السماء، وأتمنى أن ينمو لي جناحان طبيعيان. •••
الجناحان أمام عيني، مصنوعان من الفولاذ وليسا طبيعيين، وأنا أحلق في السماء، قلبي ثقيل. لم يعد للسفر البهجة القديمة، تركت في الوطن ابنتي وزوجي وأخذت معي ابني الذي لم يولد بعد.
من تحت حزام المقعد أحس حركته، يدق بيده الصغيرة جدار بطني، وألف الغطاء الصوفي من حولي لأدفئه.
من تحت الصحراء الشاسعة الصفراء يتوسطها نهر النيل، والشاطئان الرفيعان كالشريطين الأسودين بامتداد الفرعين، وبينهما الأرض على شكل مثلث أسود.
أسندت رأسي إلى ظهر المقعد وأغمضت عيني، الوجهان يطلان من وراء الزجاج، يلوحان لي من الشرفة البعيدة ثم يذوبان في الجو كأنما اختطفتهما يد خرافية غير مرئية، السحب ملبدة وأنا بين السماء والأرض داخل صندوق حديدي مغلق، ينطلق نحو عالم مجهول.
أطرافي باردة مثلجة، كمن ألقت بنفسها في مياه المحيط دون أن تعرف السباحة، مرت مضيفة الطائرة بالشاي والقهوة، نكهة الشاي أنعشت صدري، والسخونة بدأت تسري في أطرافي، وخيالي بدأ يصحو كالمارد النائم، وأمريكا الشمالية تبدو لي مغامرة جديدة، كالأرض البكر وكأنما لم يكتشفها إنسان من قبلي، ولا حتى كريستوفر كولومبس. •••
الساعة في يدي تشير إلى العاشرة صباحا، الشمس تلمع في الأفق ومن تحتها بساط أبيض متعرج من السحب، أشبه بالتلال الصغيرة من القطن المندوف الأبيض.
اجتازت الطائرة الساحل ، وأصبحنا فوق البحر، أغمضت عيني ونمت، وبالأمس نمت نوما متقطعا. كنت أصحو فجأة وأنظر في الساعة وقد تصورت أن الطائرة أقلعت بدوني، وزوجي إلى جواري نائم، أتأمل ملامحه وهو مغمض العينين، أنفاسه هادئة بلا شخير، وبلا شارب أسود فوق الشفة العليا، يفتح عينيه ويبتسم: لا زال الوقت مبكرا.
وأقول: أخشى أن تفوتني الطائرة.
ويحوطني بذراعيه هامسا: وإذا فاتتك لن يحدث شيء، هناك طائرات أخرى.
لكني أتصور أنه لو فاتتني هذه الطائرة فلن تكون هناك طائرات أخرى.
في الغرفة المجاورة ابنتي، فتحت عينها وابتسمت ثم نامت مرة أخرى.
حملقت في السماء والسحب، عيناي شاردتان وخلايا عقلي عاجزة عن إدراك الحقيقة، الطائرة تجتاز الأرض وراء الأرض والبحر وراء البحر وأنا لا أحس شيئا، الأرض تدور ولا أحس دورانها، أو أنني أدور حول الأرض، والأرض لا تحس بي.
منذ ولدت وأنا أحاول أن تكون حركتي فوق الأرض محسوسة. لا يمكن أن أعيش وأموت ولا يدري بي أحد، لكني اكتشفت أن ملايين مثلي يتحركون فوق الأرض والأرض لا تبالي، والسماء أيضا لا تبالي.
جناح الطائرة من خلال الزجاج فولاذي ضخم، يشق السحاب كسكين، في نهايته لمبة حمراء تومض كنجم يظهر ويختفي ثم يظهر، كياني داخل الطائرة هزيل، خطأ صغير في ذلك الجناح قادر على هلاكي، كيف اكتشفت الطائرة؟ لاح لي وجه أبي يحكي قصة رجل عربي؛ عباس بن فرناس الذي أراد أن يقلد الطيور، فصنع لنفسه جناحين من الريش، واستطاع أن يطير. لكنه سرعان ما سقط على الأرض، واكتشف أنه نسي أن يصنع لنفسه ذيلا من الريش.
حسدت الطيور وأنا طفلة؛ لأنها تحلق في السماء. أما أنا فما إن أقفز في الجو حتى تشدني الأرض.
مياه المحيط لا تزال تحت السحب، الساعة في يدي تشير إلى الثامنة، الشمس غربت منذ أكثر من ساعة في الوطن ولا بد أن الدنيا أصبحت ليلا.
لكني أرى قرص الشمس في وسط السماء، الصوت يعلن أننا سنهبط في مطار نيويورك بعد دقائق وأن الساعة الواحدة بعد الظهر.
التفت أصابعي حول مسمار الساعة لأحرك العقارب إلى الوراء سبع ساعات، هل درت حول الأرض وأصبحت الآن فوق النصف الآخر من الكرة الأرضية؟ •••
في كل رحلة جديدة يشتغل خيالي، وتتأرجح رغبة الاكتشاف، ولكن حين أطأ بقدمي على الأرض الجديدة تنطفئ الجذوة وتتبدد النشوة، هل كنت أتوقع أرضا غير الأرض؟ أو ناسا غير الناس؟
قدماي تدبان على الأرض، وأختبر بكعب حذائي صلابتها، ملمسها تحت قدمي كالنصف الأول من الكرة الأرضية، والهواء ساخن رطب يشبه هواء مصر في الصيف.
عيناي تدوران حولي، تفتشان بين وجوه الناس عن وجه غريب لونه أحمر وعلى رأسه الريش، أكنت أبحث عن الهنود الحمر!
مطار نيويورك ضخم، يشبه مطار باريس وأكثر ضخامة، زحام وناس من مختلف الأشكال والألوان، بيض وسود وسمر ومن ذوي الملامح اليابانية والصينية، امرأة سوداء سمينة الردفين ترتدي قبعة عليها ريشة حمراء، وحذاء أحمر لامع تطرقع على الأرض بخطوات بطيئة، إلى جوارها فتاة بيضاء نحيفة بلا ردفين داخل بنطلون ضيق أخضر وحذاء كاوتش تجري وشعرها الأصفر يتطاير، رجل أبيض جالس على مقعد يشرب من علبة كوكولا حمراء، شعره أصفر منكوش، يرتدي قميصا رسمت عليه قطط زرقاء وصفراء، ياقة القميص مثبتة بزراير صغيرة من الأمام، رجلان قصيران سمينان ملامحهما يابانية يجريان وكل منهما يمسك في يده حقيبة جلدية سوداء، طفلة سوداء تجري وترفع ذراعها إلى أعلى وفي يدها كوب كرتون مليء بالآيس كريم، رجل صيني يهرش في رأسه وسرواله طويل يلامس الأرض. جريت مع الناس إلى باب طائرة الهليكوبتر، دارت محركات الطائرة بسرعة وارتفعت في الجو دون أن يغلق الباب، عمارات نيويورك الشاهقة تلامس السحاب، وبينها عدد من البحيرات والأنهار، الطائرة تسير بين قمم العمارات، وفي كل اهتزازة أمسك في المقعد أمامي، الركاب الآخرون جالسون في مقاعدهم يقرءون الصحف وكأنهم في الأتوبيس.
هبطت الهليكوبتر بعد دقائق، وسمعت صوت فرامل عجلاتها، ثم توقفت فجأة واندفع الناس من الباب، اندفعت معهم، واتجهت نحو طائرة متجهة إلى الجنوب، أربع ساعات من التحليق ثم سمعت صوت المضيفة يعلن أننا سنهبط في «رالي»، الهواء راكد ساخن، أشد سخونة من هواء القاهرة في أغسطس، والرطوبة مرتفعة، العرق أحسه تحت ملابسي، وشعري التصق برأسي، كفاي مبللان والحقيبة تنزلق من يدي، أسرعت إلى أقرب تاكسي وقلت له: إلى المدينة الجامعية، السائق أبيض البشرة، يتكلم الإنجليزية بطريقة غريبة لا أفهمها، ينطق نصف الكلمات فقط، ويبتلع النصف الثاني. لا يفتح فمه وهو يتكلم، وكأن الحروف تخرج من أنفه.
وسألني: من أي بلد أنت؟
وقلت: من مصر.
وصاح بدهشة: أوهوه!
ثم سألني: وماذا تعملين؟
قلت: طبيبة.
صاح بدهشة: أوهوه! هل في مصر أطباء؟
وقلت: طبعا مثل الأطباء عندكم.
وقال: الأطباء عندنا أغنياء جدا. لا بد أنك غنية.
ورأيته يرمقني بنظرات فاحصة في المرآة أمامه، عيناه زرقاوان ضيقتان، وعلى رأسه قبعة صغيرة من القماش، وله أنف طويل مدبب مخيف، وخيل إلي أنه سيأخذني إلى مكان بعيد ويستولي على ما معي. لم يكن معي إلا حقيبة واحدة، وثلاثون دولارا، وقلت: أنا طبيبة ولكني فقيرة.
وصاح بدهشة: كم تكسبين في العام؟
ولم أكن حسبت من قبل دخلي في العام. كنت قد أغلقت عيادتي من سنوات، وأتقاضى من الحكومة في ذلك الوقت أربعين جنيها في الشهر.
وقلت: أقل من خمسمائة جنيه مصري في السنة.
وصاح بدهشة: أوه! هذا قليل جدا، هنا يكسب الطبيب ثلاثون ألف دولار في السنة على الأقل.
ورددت بدهشة: ثلاثون ألفا!
وقال: على الأقل. بعضهم يصل إلى ضعف هذا وأكثر.
وسألته: وأنت؟ كم هو دخلك في الشهر؟
ومصمص شفتيه: أنا؟ مهما اشتغلت ليل نهار لا أصل إلى خمسة آلاف أو ستة آلاف.
وقلت بدهشة: أوهوه! أنت غني جدا.
وقال: ستة آلاف في السنة لا شيء، وأنا من الفقراء هنا.
وقلت: فقراء؟ هل في أمريكا فقراء؟
وضحك واهتزت القبعة فوق رأسه، وبأصبع طويل يكسوه شعر كثيف أشار إلى البيوت والشوارع وقال: هذه المدينة كلها يملكها أربعة أشخاص من أصحاب الملايين، وفي البيوت نعيش نحن، وعندي أربعة أولاد وزوجة.
قلت: وزوجتك ألا تعمل؟
وقال: ماذا تعمل؟ ومن يرعى الأولاد؟ وعندي ولد مريض بالدرن الرئوي. إنه يرقد في مصحة جرافلي، في الطرف الآخر من «رالي».
وتذكرت مستشفى الصدر وطابور المرضى، وشددت الزجاج إلى تحت لأفتح نافذة السيارة. لا هواء، وصدري مختنق ببخار الماء، إلى جواري حقيبة ملابسي، يتدلى ورقة نصفها أخضر، عليها حروف بالإنجليزية، «رالي» ما هي «رالي» وهل أنا في أمريكا؟ وما الذي يمكن أن أصفه من غرائب الدنيا حين أعود إلى أهلي في الوطن؟ •••
غرفتي بالمدينة الجامعية شديدة الحرارة، والوقت يمر ببطء، أهبط إلى الدور الأسفل حيث التليفزيون، جونسون يتكلم عن السلام وعن فيتنام، طالبة أمريكية جالسة إلى جواري تبصق على الشاشة وتصيح: كاذب! تختفي صورة جونسون فجأة قبل أن يكمل كلامه وتظهر امرأة نصف عارية ترقص وتغمز بعينها وتشرب من زجاجة كازوزة اسمها «غمزة عين»، تتراقص وتمط شفتيها وتقبل فوهة الزجاج ثم تغني «اشربوا غمزة عين»، وتختفي المرأة ويعود جونسون إلى الظهور يكمل حديثه عن السلام، مدت الطالبة قدميها في وجه جونسون وهتفت: تتحدث عن السلام ثم ترسل جنودك بالأسلحة إلى فيتنام؟
ونظرت إلي وقالت: من أي بلد؟
قلت: من مصر.
هتفت بدهشة: أوهوه!
اسمها ماري وترتدي شورت أبيض قصيرا وحذاء كاوتش أزرق، طويلة ونحيفة، وشعرها أصفر وينسدل على كتفيها، عيناها خضراوان فيهما بريق، وفي نهاية الأسبوع أخذتني إلى أسرتها في «شابل هيل» على بعد خمسين ميلا من «رالي»، قادت سيارتها الطويلة الضخمة بين الشوارع الملتوية داخل غابة كثيفة الخضرة عالية الأشجار، البيوت متناثرة في الخضرة، توقفنا أمام بيت صغير أبيض تحوطه حديقة واسعة، أمها تزرع الزهور، وأبوها فوق سقالة يدهن النوافذ بالطلاء، ارتدت «المايوه» وقالت: هيا بنا إلى حمام السباحة في النادي، قادت السيارة وهي ترتدي المايوه.
في دورة المياه في النادي بابان، كتب على أحدهما: للبيض، وكتب على الآخر: للملونين، وتوقفت أمام المرآة أدقق النظر في لون بشرتي، ولم أعرف أيهما أدخل، ثم دخلت من باب الملونين.
عادت ماري إلي دون أن تسبح وقالت بغضب: تصوري، حمام السباحة مغلق للتطهير؛ لأن اثنين من الزنوج نزلا فيه بالأمس . هذه الولاية عنصرية. وبصقت على الأرض.
وفي الليل دعتني هي وصديقها ديفيد للرقص، القاعة صغيرة مزدحمة بالشباب، والدخان ورائحة البيرة والموسيقى الراقصة، الرءوس كلها شعرها طويل، والأجسام داخل السراويل الضيقة نحيفة طويلة، والحركات منطلقة حرة، ولا أكاد أفرق بين الولد والبنت.
دعاني ديفيد للرقص ولكني فضلت الجلوس وشرب البيرة، ورقص ديفيد مع ماري، وعيناي تتابعان حركاتهما الراقصة، سرت إلي عدوى الرقص مع سريان البيرة في عروقي، ووجدتني أحرك ذراعي ورأسي وأنا جالسة، ثم نهضت ورقصت مع ديفيد وماري، وشباب آخرين انضموا إلينا، وبدأنا نغني معا ونضرب الأرض بأقدامنا بقوة إيقاع اللحن.
منذ الطفولة وأنا أحب الرقص بحركات قوية، ترمقني العيون بنظرات استنكار، عضلات البنت لا بد أن تكون ضعيفة، وحركاتها في الرقص رقيقة وديعة، لكن رقص البنات لم يكن يحركني، حركات بطيئة وعضلات مرتخية ورجرجة الشحم فوق البطن والردفين، وذلك اللحن البطيء المليء بالنواح والبكاء.
تركت حلبة الرقص وجلست شاردة، إحساس مفاجئ بالحزن، وأقبلت نحوي ماري وجلست إلى جواري، وتساءلت بدهشة: ماذا يحدث؟
وقلت: الشباب عندنا وخاصة البنات ليس عندهن هذه الحرية.
وزمت شفتيها ثم قالت: ونحن أيضا ليس عندنا حرية؛ فأنا أحب ديفيد، لكن أبي وأمي لا يحبانه؛ لأنه أسود.
وقلت: وماذا ستفعلين؟
قالت: سنتزوج ونسافر إلى بلد آخر، أريد لأطفالي أن يعيشوا في مجتمع أكثر حرية. •••
المسئولة عن الإدارة في الجامعة امرأة عجوز، عيناها زرقاوان غائرتان تحت نظارة بيضاء، لها سلسلة ذهبية تعلقها في أذنيها، نظرتها من تحت العدستين البيضاوين فاحصة حادة، أحسها فوق وجهي كاللسعات، تدقق النظر إلى لون بشرتي السمراء كأنما تقيس درجة السمرة ودرجة ارتفاع الأنف والصدر والبطن.
وقلت لها: لون بشرتي ومقاييس جسمي مسألة شخصية.
وفغرت فاها واهتزت النظارة وسقطت فوق أنفها فأمسكتها بيديها، وصاحت بدهشة: ماذا قلت!
وتركتها تنظر إلي بملء عينيها، ثم وضعت الاستمارة تحت نظارتها وقلت: انظري. هذه هي خانة الاسم، واسم الأب، والجد، والعنوان، والجنسية، وتاريخ الميلاد، والحالة الاجتماعية، والديانة، ولون البشرة والعينين، والطول، والشهادات العلمية السابقة، وشهادة حسن السير والسلوك، وعدم وجود سوابق أو جرائم سياسية أو دخول السجن في أي مرحلة من العمر، وعدد الجوائز التي تم الحصول عليها، والخلو من العاهات.
كانت الاستمارة كاملة البيانات، وأمام كل خانة كتبت المعلومات المطلوبة بدقة وعناية، مثلا أمام خانة الطول دونت 171,5 سنتيمترا، بعد أن وقفت أمام الحائط، ووضعت علامة بالقلم عند قمة رأسي، ثم قست المسافة بين هذه العلامة والأرض وهي طول قامتي بالضبط، وأما خانة السوابق والجرائم كتبت لا شيء، ولم أكن دخلت السجن بعد، وأمام الديانة كتبت مثل ديانة أبي، وأمام لون العينين كتبت «سوداوان»، ثم أضفت كلمة «لامعتان» من أجل الدقة، ومن الدقة أيضا كتبت أمام الخلو من العاهات، توجد حسنة سوداء في مؤخرة العنق.
ومع كل ذلك ظلت المسئولة عن إدارة الجامعة تنقل عينيها من رأسي إلى قدمي ثم قالت بصوت أخنف: ولكنك لم تدوني في الاستمارة أنك حامل.
وبحثت بعيني عن خانة خاصة بالحمل فلم أجد، وقلت لها: ولكن لا يوجد بالاستمارة ... وقاطعتني قائلة: وهل يمكن لجامعة محترمة أن تخصص في استماراتها خانة لمثل هذه الأشياء؟ وقلت بغضب: مثل هذه الأشياء؟! ماذا تعنين بمثل الأشياء؟ هل الحمل عيب؟ ثم إنني حامل بطريقة شرعية!
وأخرجت من حقيبتي بسرعة قسيمة الزواج بتوقيع المأذون والشهود، واتسعت عيناها الغائرتان الزرقاوان بذهول وهي تحملق في الحروف العربية التي بدت كاللغة الهيروغليفية أو الصينية، وتوقيع المأذون على شكل شخبطة بالقلم.
وتساءلت بدهشة: أي لغة هذي؟
وقلت: اللغة العربية.
وصاحت بريبة: أنت مصرية أم عربية؟
وقلت: أصبح المصريون عربا منذ الفتح العربي لمصر عام 640م على يد عمرو بن العاص! •••
وجدتني وحقيبتي داخل الأتوبيس الضخم المتجه شمالا، تراجعت بيوت «رالي» وشوارعها إلى الوراء، وأصبحت ولاية نورث كارولينا وجامعتها خلف ظهري، فتحت زجاج النافذة وملأت صدري بالهواء المنعش القادم من ولايات الشمال، وأحسست كالسجين الذي يطلق سراحه، أو المختنق الذي يخرج من بطن الأرض إلى سطح الدنيا.
ليلة الأمس قررت السفر إلى نيويورك، هل يمكن أن آتي إلى أمريكا، فلا أرى منها إلا تلك الولاية العصرية في الجنوب؟
لكني في الصباح سمعت من أحد الطلبة العرب أن مؤتمرا هاما سيعقد في جامعة إلينوي، ووجدتني داخل الأتوبيس المتجه إلى شيكاجو. •••
وقفت وسط سبعمائة طالب وطالبة ننشد بصوت واحد باللغة العربية:
نحن الشباب لنا الغد
ومجده المخلد
شعارنا على الزمن
عاش الوطن عاش الوطن
بعنا له يوم المحن
أرواحنا بلا ثمن.
على المنصة الرئيسية كان يجلس ممثلو البلاد العربية، وحاكم ولاية إلينوي، وعميد الجامعة، وممثلو الاتحادات الطلابية الأمريكية والعربية، وكان رئيس منظمة الطلبة العرب طالب مصري اسمه أسامة الباز، وعدد الطلبة العرب في الولايات المتحدة حينئذ كان سبعة آلاف طالب وطالبة، وكان الدكتور فايز الصايغ أحد المحاضرين في المؤتمر، هو فلسطيني درس في أمريكا الفلسفة، وتولى دائرة الأبحاث الفلسطينية في الولايات المتحدة في عام 1955، ثم عين أستاذا لشئون الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية في بيروت في عام 1958، وكلفته منظمة التحرير الفلسطينية بتأسيس مركز للأبحاث الفلسطينية في بيروت، قرأت بعض مؤلفاته عن الاستعمار الصهيوني في فلسطين، والحياد وعدم الانحياز، وفلسفة الاشتراكية عند جمال عبد الناصر، وضباب البورقيبية، طرد أكثر من مرة من الجامعات الأمريكية، الصهيونيون كانوا يحاربونه ويحاولون إقناع المسئولين بطرده بحجة أنه يستغل منبر التدريس للقضية الفلسطينية.
وفي إحدى القاعات كان الدكتور عزت طنوس يشرح لبعض الطلبة العرب مشكلة تحويل مجرى نهر الأردن، هو طبيب فلسطيني تخصص في طب الأطفال عام 1920. بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين سافر إلى لندن وأنشأ المركز العربي في لندن، وغادر لندن في عام 1940 إلى القدس، وعين أمينا لبيت المال في الحركة الوطنية الفلسطينية بالقدس، وفي عام 1965 أصبح مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في نيويورك.
ومن الشخصيات العربية الأخرى في المؤتمر: سعادات حسن، والدكتور محمد المهدي الذي تحدث عن دور البترول في القضية العربية، والدكتور برهان حماد وتكلم عن الخليج العربي، والدكتور رشاد مراد وكان رئيسا للوفد الدائم للجامعة العربية لدى الأمم المتحدة في نيويورك.
ومن الرجال الأمريكيين المهتمين بقضايا البلاد العربية: «هارولد ماينور» المشرف على جمعية أصدقاء الشرق الأوسط في أمريكا.
وقد عمل قنصلا لأمريكا في القدس ثلاثين عاما، وفي عام 1953 أصبح سفيرا لأمريكا في بيروت. لكنه استقال من منصبه وتفرغ لقضايا العرب في الجامعات الأمريكية.
وكان «هارولد ماينور» هو أول أمريكي أسمعه يتكلم ضد الصهيونية وضد سياسة جونسون، ورنت كلماته في أذني غريبة؛ فلم تكن أذناي قد تعودتا بعد مثل هذه العبارات المعارضة لأعلى سلطة في الدولة، ولم أكن سمعت في بلادنا رجلا يخطب بصوت عال ضد الحكم القائم.
ومددت ساقي في استرخاء وأنا جالسة في مقعدي، وإحساس بالحرية يسري دافئا في كياني كحركة الدم، هل يمكن أن يكون في بلادنا شيء اسمه المعارضة!
وصعد على المنصة شاب أمريكي طويل نحيل اسمه «جاك شرير» ممثل اتحاد الطلبة الأمريكية، أمسك الميكرفون وأعلن بلغة غربية فصحى أن اتحاد طلاب أمريكا أصدر قرارا يؤيد عودة الفلسطينيين إلى وطنهم وتعويضهم عن الخسارات التي لحقت بهم، وهاجم «جاك شرير» سياسة جونسون في الشرق الأوسط وفي فيتنام، ووصفها بأنها سياسة فاسدة.
وهبط من فوق المنصة وعيناي تتبعانه حتى جلس في مقعده، تصورت أن رجال البوليس سوف يحوطونه ويقودونه إلى السجن.
وكان أحد الطلبة الأمريكيين يجلس إلى جواري، وسمعني وأنا أقول: لم يأخذه أحد إلى السجن.
وقال: لا يذهب إلى السجن هنا إلا من يمثل خطرا على النظام. وهذه الخطب والمؤتمرات لا تمثل أي خطورة.
وقلت: عندكم مساجين سياسيين؟
وقال: كثيرون، وفي إبريل الماضي مات في السجن «ألبيزو كامبوز» المناضل البورتريكي، وقد قضى في السجن ثلاثين عاما.
وتبدد الاسترخاء الطارئ، وعادت عضلات جسمي مشدودة، وغادرت قاعة الخطب إلى قاعة أخرى علقت على جدرانها لوحات الفنانين الفلسطينيين: عيسى عبد المجيد وإسماعيل شموط؛ مأساة الشعب الفلسطيني تتجسد في الخطوط، أم تقف في العراء أمام خيمة سوداء تضم إلى صدرها طفلا وليدا، شيخ عجوز يتكور فوق الأرض وطفل وحيد يتأمل الطريق الخاوي بعينين خائفتين، شاب يحمل السلاح وعيونه نحو الوطن المسلوب.
انتهت أيام المؤتمر الستة بإعلان القرارات وانتخاب الأعضاء السبعة الجدد لمجلس إدارة منظمة الطلبة العرب ورئيسها الجديد.
وخلف أسامة الباز في رئاسة المنظمة طالب مصري آخر اسمه سعد الدين إبراهيم، وفي نهاية المؤتمر وزعت علينا ورقة مطبوعة عليها القرارات وضعتها في حقيبتي.
وبينما أنا أخرج من الباب رأيت صفوفا من الرجال العجائز الأمريكيين يدخلون إلى القاعة ذاتها، يرتدون ملابس عسكرية تشبه ملابس الجنود في القرن التاسع عشر، وعلى رءوسهم قبعات سوداء محلاة بريش النعام الأبيض، وعلمت أنهم في طريقهم لحضور المؤتمر رقم 109 للمحاربين القدامى في ولاية إلينوي.
وفي مقعدي داخل الأتوبيس المتجه نحو الساحل الشرقي لأمريكا فتحت حقيبتي وبدأت أقرأ الورقة التي وزعت علينا: أصدر المؤتمر الرابع عشر لمنظمة الطلبة العرب في أمريكا عدة قرارات خاصة بمختلف القضايا العربية، أوصى فيها بدعم منظمة تحرير فلسطين ماليا وأدبيا ومساعدتها على بناء جيش التحرير الفلسطيني، ومساندة مقررات مؤتمرات القمة العربية، وتأييد اتفاقية جدة، ووضع خطة موحدة لاستخدام البترول العربي في خدمة القضايا العربية، وأعلن المؤتمر تأييده للنضال الثوري المسلح لتحرير الجنوب المحتل والمطالبة بتكوين جبهة موحدة من القوى التقدمية العربية لمواجهة المخططات الاستعمارية وتحرير الخليج العربي وعمان، ولتنمية هذه المنطقة اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا عن طريق صندوق التنمية العربي، ومطالبة حكومة الكويت بمنع تسلل غير العرب إلى هذه المنطقة. ووجه المؤتمر نداء إلى حكومة السودان للوصول إلى حل لمشكلة الجنوب يصون وحدة السودان ويحبط المؤامرة الانفصالية الاستعمارية ضده، كما أوصى المؤتمر بزيادة النشاط الإعلامي للطلبة العرب في أمريكا وكندا، وخاصة في مواجهة تطورات السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط.
لا زلت أحتفظ بهذه الورقة في مكتبي رغم مرور عشرين عاما على صدور هذه القرارات. لكنها تبدو وكأنها صدرت بالأمس. •••
في نيويورك قابلت عميد جامعة كولومبيا. كان اسمه الدكتور «تراسل»، قدمت له الاستمارة المملوءة بالبيانات، وأضفت من عندي خانة جديدة خاصة بالحمل، ودونت أمامها: حامل في الشهر الرابع.
وابتسم الدكتور تراسل وقال: هذه كلها أمور شخصية، والجامعة لا تطلب هذه البيانات.
وقلت: ولكن جامعة نورث كارولينا ...
وقال الدكتور تراسل: لا تظني أن كل الجامعات في أمريكا بهذه العقلية المتخلفة. •••
عشت في «مانهاتن» في قلب نيويورك ؛ مكاني المفضل دائما هو في قلب الأشياء، أحس نبض الحياة في تدفقها، وإذا كانت «مانهاتن» هي قلب أمريكا النابض فإن «رالي» كانت القدم أو قاع القدم، وذكراها عندي كالحلم البغيض، كالقرية المشوهة المتوارثة من قرى العصور الوسطى، رغم الأبنية الحديثة، والشوارع المرصوفة شبه المهجورة، وردهات الجامعة ذات الكآبة.
لكن هنا في «مانهاتن» كل شيء يتحرك بحيوية، والناس خطواتهم سريعة، وفي حي «جرينتش» يجلس الناس على المقاهي فوق الأرصفة كأنها باريس، يأكلون ويشربون ويتحدثون، والشباب يجلسون على العشب في ميدان واشنطن قرب جامعة نيويورك، مجموعة من الشباب تعزف على الجيتار وتغني وترقص، والناس يلتفون حولها ويغنون، وتحت الأشجار على الدكك الخشبية جلس بعض العجائز ومن حولهم أطفال يلعبون.
في الطرف الآخر من الميدان حلقة من الشباب يلتفون حول شاب وقف على شيء عال وأخذ يخطب، إنه «كي مارتن». كان يلوح يديه في الهواء غاضبا قائلا: «مالكوم إكس قتلوه في قلب أمريكا كما قتلوا لومومبا في أفريقيا! لماذا لا نكف أيدينا عن آسيا وأفريقيا؟ ألا نوقف هذا الخداع؟ ألا نوقف هذه الأسلحة المتنكرة داخل علب الطعام والمعونات الأمريكية!»
واقترب مني شاب صغير، ناولني مجلة سوداء كتب عليها بخط أبيض عريض: البارتزان، مجلة جمعية الشاب ضد الحرب والفاشست، وعلى صفحات المجلة صور لجنود صرعى في فيتنام، أشلاء ممزقة تختلط فيها أجساد الأمريكيين بالفيتناميين.
وفي جامعة كولومبيا تعرفت على زميلة لي اسمها مايون. كانت عضوا في جامعة تنظم المظاهرات ضد الحرب في فيتنام، طويلة نحيفة وشعرها رمادي قصير، عيناها زرقاوان واسعتان لامعتان، وما إن تنتهي المحاضرات حتى تدور على الزملاء والزميلات توزع عليهم المنشورات والصور ضد حرب فيتنام.
وفي عطلة نهاية الأسبوع نذهب معا إلى السينما، أو المسرح، أو نلعب التنس في النادي، وفي المظاهرات نرفع اللافتات معا ونهتف مع الشباب: أوقفوا الحرب في فيتنام.
في إحدى المظاهرات رأيت ثلاثة من رجال البوليس يحوطون شابا أسود طويلا، ورأيت ماريون تندفع نحوهم وتحاول انتزاع الشاب منهم وهي تضربهم بقدمها بالشلوت، وتجمع الشباب حول رجال البوليس يضربونهم بالأقدام، وانطلقت الصفارات من كل مكان، وهجمت علينا السيارات المسلحة، ووجدت يد ماريون في يدي ونحن نجري لنهرب داخل أحد البيوت، وصوت الصفارات يدوي مع صوت الهتافات: يسقط جونسون!
ومن وراء الجدار حيث اختبأنا كان قلبي يدق بعنف وصدري يعلو ويهبط في أنفاس لاهثة متقطعة، وتعود إلى ذاكرتي صورتي منذ خمسة عشر عاما، وصدري يلهث وقلبي يدق، وأنا مختبئة وراء الجدار وطلقات الرصاص تدوي مع هتافات الطلبة: يسقط الملك! •••
وفي يوم آخر أخذتني ماريون إلى اجتماع كبير تحدث فيه الدكتور «ستوتن ليند» وهو أستاذ أمريكي بجامعة «بيل» سحبوا منه جواز سفره؛ لأنه ذهب إلى فيتنام في رحلة لتقصي الحقائق، وعاد ينظم المظاهرات ضد الحرب في فيتنام، قدمتني له ماريون قائلة: هي زميلة معي في جامعة كولومبيا وطبيبة مصرية، وأذكر أن ستوتن ليند قال لي يومها: إن مشكلة فلسطين لا تقل خطورة عن مشكلة فيتنام، لكن القوى الصهيونية في أمريكا تملك البنوك وأجهزة الإعلام، وقلت له: ولماذا لا تذهب في رحلة لتقصي الحقائق بالشرق الأوسط كما ذهبت إلى فيتنام؟ وضحك قائلا: حين أسترد من الحكومة جواز سفري. •••
طرف الخطاب يطل من وراء الزجاج داخل صندوق البريد، أجمل منظر في أمريكا، أجمل من تمثال الحرية في عرض المحيط، وأعظم من الأفينيو الخامس تطل عليه ناطحات السحاب، ومنتزه روكفلر الشهير في قلب نيويورك حيث النافورات ذات الألوان والزهور والناس من كل العالم، والموسيقى والرقصات العجيبة فوق قباقيب التزحلق.
طرف الخطاب تلمحه عيناي داخل الصندوق، وطابع البريد عليه صورة الهرم وكلمة مصر، وفوق المظروف اسمي بحروف كبيرة مستديرة، وحركة الأصابع النحيلة حول القلم، في غرفة مكتبنا المشتركة في الشقة الصغيرة في أول شارع الهرم.
في رسالة طويلة قال إنه اشترى لمبة مكتب جديدة، وقرأ بعض كتب لم يقرأها من قبل، وأن ابنتنا بصحة جيدة، وتذهب إلى المدرسة كل صباح، وقبل أن تنام يحكي لها قصة جميلة.
أضع الرسالة تحت وسادتي، وأفتح عيني بالليل وأعيد قراءتها، وفي الصباح أضعها في الحقيبة مع أوراقي وكتبي ، وأثناء الغداء أمضغ الطعام ببطء وأقرأ الرسالة.
وفي الليل تحت ضوء اللمبة أجلس في سريري تحت الأغطية وأقرؤها، وعلى الجدار فوق مكتبي تتدلى نتيجة عام 1966 بالأيام والشهور، وأشطب بالقلم قبل أن أنام على اليوم الذي انتهى، وأعد الأيام الباقية. •••
ثم أطفئ النور وأضع رأسي على الوسادة، وأحس النبض تحت أذني كأنه قلبي، وحركة ناعمة تضرب جدران بطني كأذرع دقيقة من القطيفة، ترى متى يرى النور؟ •••
على باب الكلية تقدم نحوي أحد الطلبة العرب اسمه «سعدون». كان يوزع بيانا مطبوعا، وقال لي: ستكون المظاهرة يوم الخميس القادم ولا بد أن تشتركي.
البيان بتوقيع الدكتور محمد المهدي، الأمين العام للجمعية العاملة لإصلاح العلاقات العربية الأمريكية، وجاء البيان هكذا بالحرف الواحد:
بمناسبة يوم وعد بلفور المشئوم قررت الجمعية العاملة لإصلاح العلاقات العربية الأمريكية القيام بمظاهرة سلمية يوم الخميس 4 / 11 / 1965 من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة بعد الظهر.
يجتمع المتظاهرون في العاشرة صباحا أمام بناية الأمم المتحدة، وبعدئذ تتحرك «مسيرة السلام» حيث يحمل المتظاهرون اللافتات التي تدعو إلى السلام في الشرق الأوسط عن طريق إعادة اليهود إلى أوطانهم الأولى أو فتح أبواب الهجرة لإدخال مليون يهودي إسرائيلي إلى أمريكا الشمالية.
والغاية من هذه المظاهرة في يوم وعد بلفور هي القول بأن ذلك الوعد المشئوم أدى إلى المآسي في الشرق الأوسط، ونحن نريد إزالة تلك المآسي وإحلال السلام إلى تلك الربوع وإلى البلاد المقدسة.
وستدفع الجمعية مبلغ دولارين في الساعة لكل من يشترك في المظاهرة، وهو مبلغ ضئيل للغاية من تقديمه التعويض عن جزء من الوقت الذي تصرفونه.
لأول مرة في حياتي أسمع عن مظاهرة مدفوعة الأجر.
في المظاهرات في بلادنا كنت أسمع طلقات الرصاص، وأجساد الطلبة تسقط، والدم يسيل في الشارع، وفوهات البنادق تطل من سيارات البوليس، وتلاميذ تختطفهم العربات المصفحة وتبتلعهم السجون.
وقلت لنفسي: كم دولارا تساوي ثلاثة لترات من الدم يسال على الطريق؟
وكم دولارا يمكن أن تدفع من أجل تلميذ يصبح شهيدا؟ وكم يمكن أن يكون ثمن حياتي إذا انطلقت رصاصة في جزء من الثانية؟
وجاء يوم الخميس ولم أذهب. لا أحد يمكن أن يدفع ثمن جزء من الثانية يساوي حياتي، وحياتي كلها أدفعها بطلقة رصاص واحدة نظير كرامتي وكرامة الوطن. •••
في مستشفى «سلون» المجاور لجامعة كولومبيا ذهبت لمقابلة الدكتور «تود»، فحصني بدقة ثم قال: أتوقع أن تكون الولادة خلال أسبوع واحد، كنا في أوائل ديسمبر والثلوج البيضاء بدأت تلمع فوق النوافذ والشوارع، وابتسم قائلا: أنت محظوظة؛ فموعد الولادة يجيء مع إجازة الكريسماس والعام الجديد.
واتفقت ماريون معي على أن نذهب معا لشراء ملابس للطفل القادم من شارع برودواي، وصاحت الزميلات الأمريكيات في الجامعة: نحن لا نشتري ملابس الطفل إلا بعد أن يولد، ودهشت لماذا، وعرفت أن بعض الخرافات لا تزال تعيش في أمريكا: شراء ملابس الطفل قبل ولادته فأل سيئ قد يعرضه للموت قبل أن يولد أثناء الولادة، لكني رأيت أمي تشتري ملابس الطفل قبل أن يولد. وقد ولدت تسعة أولاد وبنات دون أن يموت أحدهم، وجدتي أيضا لم تكن تؤمن بهذه الخرافة.
وقالت لي ماريون: هؤلاء النساء الأمريكيات لا زلن متخلفات.
وسألتها: وأنت؟ ألست أمريكية يا ماريون؟
قالت: نعم، ولكني حررت نفسي من الخزعبلات وأولها كراهية البشرة السوداء.
وقلت: وثانيها؟
قالت: تبييض الوجه بالمساحيق.
بسيطة وطبيعية تتدفق بالحيوية، تنتبه للمحاضرات العلمية بمثل ما تتحمس للمظاهرات السياسية، بشرتها صافية بلا مساحيق وشعرها حر تتركه للهواء والمطر ونجري معا في الشارع كالأطفال.
لم أشعر معها بالغربة، وكأنما ولدنا في بلد واحد وعشنا طفولة واحدة، الزميلات الأمريكيات الأخريات تفصلني عنهن مسافة كبيرة، وأشعر بينهن بالغربة. لا يعرفن شيئا عن العالم خارج أمريكا. لا فلسطين ولا فيتنام ولا أي بلد آخر في آسيا أو أفريقيا، وجوههن مدهونة بالمساحيق، فوق الجفون وعلى الرموش والخدود، ولون فضي غريب يلمع فوق الشفاه، وفوق الأظافر المدببة الطويلة كالدمى البيض الملونة، كالجواري في عهد هارون الرشيد رغم لكنتهن الأمريكية وبشرتهن البيضاء وقامتهن الطويلة النحيلة، أسيرات المفهوم العبودي لمعنى الأنوثة والجمال، يكشفن عن الشق بين النهدين، ويرقصن داخل سراويل ضيقة وعيونهن على الرجل، ينشدن الزواج رغم كل شيء، وإذا تزوجن تبخرت طموحاتهن الأخرى، وانقطعن عن الدراسة أو العمل، وتفرغن لشئون البيت والأطفال إلى أن يكبر الأطفال، فتعود إليهن طموحاتهن القديمة ويصبحن تلميذات من جديد وهن في الخمسين أو الستين من العمر، وفي ساعة الغداء يجلسن معا ويثرثرن في أمور الأزواج والأولاد. •••
هذه الليلة أذكرها رغم مرور السنين. كانت السبت 9 ديسمبر 1965. وقد دعتني ماريون في الصباح إلى متحف جوجنهايم، ودعوتها في المساء لرؤية مسرحية: مشهد من الجسر، لآرثر ميلر.
سرنا على الأقدام حتى تقاطع شارع 88 مع الأفينيو الخامس حيث متحف جوجنهايم، وهو متحف حديث، افتتح عام 1959، صممه المهندس فرانك رايت على النمط الهندسي العضوي، ربما هو نمط جديد في المعمار. لا بد أنه دراسة للمكان في علاقته بالإنسان، وكيف يمكن استخدام المساحة لتبدو للإنسان أكثر اتساعا وأكثر راحة للعين.
الأدوار تمتد أمام عيني في خطوط دائرية، كل شيء دائري: الجدران والسلالم والطوابق والدائرة تبدو للعين أكثر امتدادا كأنما بلا بداية أو نهاية، وهي توحي أيضا بالحركة كالشيء الحي، والمكان يتحول إلى ما يشبه الجسم العضوي، يشع نوعا غامضا من الدفء والراحة.
وصعدنا من طابق إلى طابق، ثلاثة آلاف لوحة تصور الفن التشكيلي الحديث في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وأسماء متعددة في عالم الفن الحديث: من بول سيزان إلى بابلو بيكاسو ومارك شاجال وموندريال، ثم جاكسون بولوك وكينزو أوكادا، وأخيرا جان دوبوفيه وسيرج بولياكوف وغيرهم.
لوحة ضخمة تتصدر البهو الفسيح، لوحة بيضاء تماما، ليس بها إلا خط واحد متعرج بالقلم الفحم الأسود، وفي الركن بقعة على شكل دائرة سوداء غير منتظمة داخلها نقطتان حمراوان، تشبه خطوطي وأنا طفلة في كراسة الرسم. كانت ترمقها المدرسة بعينين ضيقتين ثم تمط شفتيها وتعطيني صفرا.
رجل أمريكي إلى جواري، شعره طويل ينسدل فوق كتفيه، ولحيته طويلة غزيرة، يحملق في اللوحة ولا يتركها، ترى ماذا يرى في ذلك الخط المتعرج الأسود وتلك البقعة شبه العشوائية؟ هل يرى فيها تلقائية الفن الشجاع يكسر القوالب المألوفة؟ أم يرى العبث واللا عقل في نظام الكون؟
أحملق في الخط المتعرج الشبيه بخطي. كانت خطوطي فوق الورقة وأنا طفلة تبهرني. لكنها لم تكن تبهر أحدا غيري، وكان مصيرها دائما صندوق القمامة، لكن هذا الخط يحتل المساحة الكبيرة في هذا المتحف والعيون ترمقه بانبهار.
أهو الفن العظيم؟ أم أن أي شيء داخل أي متحف يبدو مبهرا؟ وهذه الحركة التلقائية فوق الورقة أهي قمة الثقة بالنفس؟ أم ذروة الفشل في إدراك العالم الخارجي؟
وظللت أحملق في اللوحة، يبدو لي الغموض واضحا والخط تماما كخطي، وأكاد أرى نفسي ثم لا يلبث أن يغرق كل شيء في اللون الأسود فلا أعرف شيئا، ولا حتى من أنا، وأين أكون؟
دوار في رأسي وألم في العمود الفقري وأنا لا أزال واقفة أمام اللوحة، أهي حالة من الإرهاق أدخل فيها بعد مجهود اليوم الطويل؟ أم أن الفن التشكيلي يدخل مرحلة جديدة؟ وما هذه المرحلة؟ رفض الكون القديم والوجود؟ اكتشاف جديد للذات والوعي؟ علاقة جديدة للوعي بالوجود؟ أنا أفكر إذن أنا موجود كما قال ديكارت، أم أنا موجود، إذن أنا أفكر كما حاول ماركس أن يقول.
لكن لماذا يطرح السؤال بهذا الشكل، ولماذا لا نسأل سؤالا آخر، فنقول مثلا: لماذا لا يكون الوعي والوجود شيئا واحدا وليس شيئين منفصلين يسبق أحدهما الآخر؟
لماذا لا أقول: أنا موجود وأفكر في آن واحد، إذن أنا وجود فكري، أو أنا جسم مفكر؟
منذ الطفولة أدركت أنني أفكر بجسمي، ثم كبرت أكثر وبدأت أتساءل: إذا كان الفكر هو الجسم فلماذا يمتد فكري خارج حدود جسمي وخارج حدود الزمان والمكان؟ يمتد في الماضي آلاف السنوات، ويعبر البحار والسماوات والمحيطات لآلاف الملايين من الكيلومترات؟!
عيناي شاخصتان نحو الدائرة فوق اللوحة، بقعة اللون سوداء بلون الأرض وكروية ولها حركة خفية رغم السكون كحركة الأرض، والكون يبدو ضخما بلا نهاية، وعقلي يتسع للمساحة لكنه يبحث عن النهاية، أين ينتهي الكون وأين يبدأ؟ وكيف بدأت الحياة البشرية ومتى تنتهي؟ لا أذكر متى ولدت ولا أتصور أنني سأموت.
الامتداد اللا نهائي للزمان والمكان يبدو كالمستحيل أمام عقلي، فكيف يمكن ألا تكون هناك نهاية لأي شيء؟ الخط المستقيم له بداية ونهاية، لكن الدائرة ليس لها نقطة تبدأ بها، ولا تنتهي أيضا عند نقطة، وأي نقطة فوق الدائرة يمكن أن تكون هي البداية أو النهاية. لا فرق، وإذا أصبحت البداية هي النهاية فلا وجود لكليهما، فلماذا لا أتعامل مع الكون على أنه دائري الشكل بلا بداية وبلا نهاية؟
وإذا كان الشكل دائريا فلماذا لا يكون المعنى أيضا دائريا؟ بلا نقطة بداية أو نهاية، ويظل السؤال بلا جواب واحد محدد، ويصبح للحقيقة الواحدة أبعاد متعددة، وإذا تعددت الحقيقة فليس هناك حقيقة واحدة، وإذا تعدد الكون فليس هناك كون واحد.
ألكل إنسان حقيقة؟ ولكل إنسان الكون الذي يراه؟ وما يراه جاكسون بولوك ليس هو الكون الذي رآه بول سيزان؟ والكون في عيني بول سيزان لم يكن هو الكون الذي رآه أساتذة الرسم في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس. كانوا يتصورون أن الكون واحد، وكان الفن لا يزال محدودا بالتصور القديم للكون الواحد كما ورد في الكتاب المقدس، والصراع بين المقدس والحقيقي كان واضحا في خطوط بول سيزان، ونجح كل التلاميذ في امتحان القبول إلا هو، لم يدخل مدرسة، ولم يقتل المدرسون في فنه الصراع، أعطوه صفرا في الامتحان، ونجت خطوطه من الموت في سجون الأكاديمية، وخلق كونا جديدا، ولم يعد الفن من بعده مقلدا للطبيعة، أصبح ذا طبيعة جديدة.
وعلى إحدى اللوحات نقشت حروف جاكسون بولوك: اللوحة صراع.
وأفقت على صوت ماريون يقول: أتفهمين شيئا من هذه الخطوط؟
وقلت: لا أظن، ولكني أحاول.
ومرت لحظة صمت ثم سألتها: وما هي مادة الصراع؟
وقالت ماريون: أي صراع؟
قلت: مادة الفن الحديث. إنها فلسفة جديدة، ليست خامات أو أدوات حديثة.
قالت: وما هي الفلسفة الجديدة في هذه الخطوط العشوائية بلا شكل وبلا معنى، أنا لا أفهم شيئا من هذا العبث، وسكتنا لحظة نتأمل الخطوط.
ثم قالت ماريون: على أي حال الفن يحس ولا يفهم .
وتساءلت : وهل هناك فاصل بين الإحساس والفهم؟
وقالت: ماذا تعنين؟
قلت: الإحساس هو الفهم، وأنا أحس إذن أنا أفهم.
وضحكت: وأنا أفهم إذن أنا أحس.
وسألتها: وماذا تحسين؟
قالت: بالجوع.
وضحكنا وخرجنا من متحف جوجنهايم إلى مطعم صغير حيث أكلنا اللحم المشوي، وبعد الغذاء ذهبنا إلى المسرح في شارع برودواي حيث كانت تعرض مسرحية: مشهد من الجسر لآرثر ميلر.
كان المسرح مزدحما، ولم نحصل إلا مقاعد خلفية. كنت أمد رأسي إلى الأمام لأسمع صوت الممثلين، لكني لم ألتقط إلا أنصاف الجمل، وبلكنة أمريكية سريعة، ونكات يضحك عليها الجمهور ولا أسمعها، وحين رأيت ماريون تشارك الجمهور الضحك، سألتها: أسمعت النكتة؟
وقالت: لا، ولكن الضحك يعدي. وضحكنا وخرجنا من المسرحية قبل نهايتها.
سرنا نتمشى في الأفينو الخامس، أكبر شوارع نيويورك، برودة الجو منعشة، نوافذ المحلات الضخمة تتألق تحت الأضواء والشموع، الاستعداد لأعياد الكريسماس والعام الجديد، من وراء الزجاج نافورات ملونة، وتماثيل تتحرك وترقص تحت الأضواء، ومعروضات جديدة تدور مع دوران النوافذ المتحركة، معاطف فرو، قبعات، مجوهرات، أجهزة إلكترونية من كل نوع وصنف، وزحام من الناس من جميع بلاد العالم.
أمام إحدى النوافذ الزجاجية الضخمة رأينا جمعا كبيرا من الناس يتزاحمون ويتنافسون على الرؤية، الأطفال يصعدون على أكتاف آبائهم وأمهاتهم ليروا ماذا هناك.
وقلت لماريون: ربما هو حاوي وراء الزجاج!
وبدأنا نشق الطريق، ورأينا تحت الضوء الملون جهازا كبيرا كالفرن الكهربي، داخله بيض كبير كبيض البط، تتحرك البيضة وحدها ثم تنكسر فجأة، ويخرج منها كتكوت حي يجري على أرجل رفيعة.
الأطفال يضحكون ويصفقون بأيديهم، والشباب والشابات يتعانقون ويتراقصون، والعجائز يحملقون بدهشة، ورجل يهمس في أذن زوجته: هذا زمن عجيب، وكل شيء يصنع بالآلات حتى الكتاكيت!
وقالت ماريون: بعد قليل سنصنع الأطفال في الأنابيب، وتتحرر النساء من الحمل والولادة. وضحك الجميع.
في الطريق إلى البيت أحسست بدوار خفيف. كانت ماريون تقود سيارتها، ورأتني صامتة فقالت: أتشعرين بتعب؟
وقلت: لا.
قالت: كان يوما مرهقا، لكن بديع.
عند باب بيتي تمنت لي ليلة طيبة ثم انطلقت بسيارتها إلى بيتها.
كانت الساعة الحادية عشرة والنصف حين خلعت ملابسي لأرتدي قميص النوم، وفجأة أحسست بالآلام، هل هي آلام الولادة؟!
كنت وحدي تماما، وتلفت حولي في حيرة ثم جلست على طرف السرير، هدأت الآلام فترة ثم عادت بسرعة، وأدركت أنها الولادة، التليفون على المنضدة إلى جوار السرير، هل أطلب ماريون؟ لكننا قضينا يوما طويلا مرهقا، وهي بحاجة إلى النوم، ونحن في منتصف الليل ولا يمكن أن أطلب أحدا في مثل تلك الساعة وإن كانت أمي.
مستشفى «سلون» على بعد عشر دقائق من بيتي سيرا على الأقدام، ارتديت المعطف الصوفي السميك ودسست ملابس الطفل الجديد في الحقيبة وخرجت إلى الشارع.
كان الهواء باردا كالصقيع، والظلمة حالكة، والشارع خال من البشر، سرت بخطوات سريعة ثم بدأت أجري، أطرافي مثلجة، ترتجف بالبرد والخوف معا، شبح طويل أسود يتبعني، وكعب حذائه يدب على الأرض، توقفت لحظة ثم استدرت خلفي. لم يكن هناك أحد، ثم أدركت أنه ليس إلا ظلي فوق الأرض، وقدماي تدبان على الأسفلت القدم وراء القدم، ثم توقف الدبيب لحظة، ألم حاد في العمود الفقري أوقفني عن السير، وجسمي يتراخى وينثني نحو الأرض، هل أجلس على الرصيف؟ وإذا جلست فهل يمكن أن يولد الطفل في الطريق؟
أنوار المستشفى تلوح لي من بعيد أبعد مما هي. وقد لا أصلها أبدا.
وشددت عضلات ظهري بقوة وقلت لنفسي: سأكمل الطريق ولن أتوقف إلا بعد أن أدخل المستشفى، ولا أدري كيف عادت قدماي تدبان فوق الأرض، وكيف قطعت المسافة الباقية بتلك الخطوات المتعاقبة المنتظمة القوية، لكن إرادة عجيبة من نوع غريب كالعضو الجديد ينبت في الجسد فجأة، أو الجسد الجديد يحل بالجسد القديم، وساقان جديدان تحملان جسمي بسرعة وخفة، وإلى جواري أرى ظل جسمي يصاحبني بالحركة ذاتها، النشاط يبدد السكون الموحش ويؤنسني في الظلمة كالرفيق.
وما إن وصلت المستشفى حتى اختفت هذه الطاقة الطارئة أو الجسد الجديد. لا أدري كيف اختفى، لكني أحسست بجسدي القديم يظهر فجأة ثم يتهاوى ويسقط على أقرب مقعد، ولم أتحرك بعد ذلك إلا فوق نقالة، دفعتها الممرضة أمامها بكلتا يديها حتى غرفة الولادة، وملأتني رائحة اليود والأتير واللون الأبيض للجدران وملابس الممرضات بالراحة العميقة كالبهجة.
ورأيت وجه الدكتور «تود» أمامي. كان يبتسم ويقول لي: إنني سأضع طفلا جميلا، وحاول أن يضع قناع التخدير فوق وجهي، لكني رفضت وصممت على أن ألد طفلي وأنا في كامل الوعي، كنت أعرف أنهم يأخذون المولود بعد الوضع مباشرة، ويضعونه في الغرفة الزجاجية حيث عشرات المواليد الآخرين.
واستولى علي شعور مفزع: أن طفلي اختلط بالآخرين.
لكن الآلام اشتدت، وخيل إلي أنني سأموت من شدة الألم، فإذا بي أطلب التخدير، وقبل أن يضع الدكتور «تود» القناع فوق وجهي. قلت له: أعطني مخدرا خفيفا بحيث يمكنك أن تنبهني حين يولد الطفل لأراه قبل أن يأخذوه إلى غرفة المواليد.
وابتسم الدكتور تود قائلا: أعدك بذلك، لكن هذا يتوقف عليك أيضا وقدرتك على الإفاقة السريعة من المخدر.
وملأت أنفي وفمي رائحة الأتير، وسرت في جسدي برودة غريبة انتقلت بسرعة من رأسي إلى صدري ثم إلى ساقي وقدمي، وأحسست كأنما أسقط في بئر مظلم عميق بلا هواء، وأفتح فمي لأستغيث دون جدوى. لقد تحولت إلى جسد ميت لا يتحرك، وثقل غريب كثقل الكرة الأرضية فوق جفني.
ورأيت أمي أمامي فجأة. كانت ترتدي الثوب الأصفر الحريري والإيشارب الشفاف الأبيض حول عنقها، عيناها العسليتان في عيني وأنا ممدودة فوق السرير، وبركة الدم من تحتي، وقلت بدهشة: كيف عرفت؟ وكيف جئت من البلد البعيد؟
كنت أخفي عنها كل آلامي، حتى آلام الولادة، وكل شيء مؤلم كنت أفعله وحدي بدون أمي وبدون أبي. أما الفرح فلم أكن أحسه وحدي، ولا بد أن تكون معي أمي أو أبي، وكنت أفاجائهما دائما بأفراحي، كل آلامي كانت تحسها أمي قبلي، ومهما ابتعدت وأخفيت تعرف مكاني وتأتي، وكنت وحدي بالبيت تلك الليلة في ربيع عام 1956 حين فاجأتني الآلام. لم أعرف أنها الولادة، ونزفت دما غزيرا. كان رأس ابنتي كبيرا لا يريد أن يهبط، وعضلاتي صلبة لا تلين، وكان يمكن أن أنزف الدم حتى أموت، ثم دق جرس الباب فجأة ورأيت أمي. لم أعرف كيف عرفت وكيف جاءت ومن فتح لها الباب، وكل ما أذكره أنني كنت وحدي بالبيت، وأمي في بيت آخر بعيد، ولا أحد غيري يعرف أنني أنزف، بل أنا نفسي لم أكن أعرف.
وتلاشى الثقل من فوق جفني، وفتحت عيني بذهول، ورأيت وجه أمي غريبا، ولأول مرة أراها ترتدي نظارة بيضاء، وعيناها زرقاوان وليستا عسليتين، وقلت لنفسي: ربما تغير وجهها لأنها ماتت منذ سنين، لكن سمعت صوت رجل يرن في أذني بلغة ليست عربية: انظري. إنه صبي جميل.
وانقشع الضباب ورأيت الضوء قويا أبيض، والجدران بيضاء ومعطف الدكتور أبيض ناصع البياض، وعيناه زرقاوان شديدتا الزرقة تلمعان من تحت النظارة البيضاء بابتسامة واسعة، أسنانه لامعة وصوته يرن في أذني كرنين الفضة المجلوة: انظري. إنه صبي جميل!
حملقت في الوجه الصغير بدهشة، بشرته حمراء بلون دمي، والشعر الأسود الغزير، والأنف الدقيق، والعينان مغلقتان، والفم مفتوح يلهث، ثم ما لبث أن أغلق فمه وفتح عينيه، وثبتت عيناي على المقلتين السوداوين اللامعتين، وانحفرت الصورة في ذهني، أصبحت جزءا مني، وسمعت صوت الدكتور «تود» يقول ضاحكا: هل حفظت ملامحه؟
وحملته الممرضة بين ذراعيها وهو يبكي ويرفس بذراعيه وساقيه، ثم وضعته على منضدة بيضاء، ولفت حول معصمه الصغير إسورة من النايلون تحمل رقم 9578، وممرضة أخرى أمسكت يدي، ولفت حول معصمي إسورة من النايلون الأبيض تحمل الرقم نفسه.
وأغمضت عيني ونمت وليس في ذاكرتي إلا المقلتين السوداوين، ورقم 9578 فوق المعصم. •••
فتحت عيني في الصباح، ورأيت صينية إلى جواري عليها إبريق الشاي وبيضة مسلوقة وزبدة وخبز «توست»، أكلت بشهية ثم هبطت من السرير، وسرت في الممر الطويل حتى وصلت إلى الغرفة الزجاجية، وألصقت وجهي بالزجاج وعيناي تبحثان عن المقلتين السوداوين بين المواليد المتشابهة، والتقطتهما من بين العيون، دقات قلبي تتصاعد، ويدي ترتفع لألوح له من وراء الزجاج. لكنه كان راقدا في سريره الصغير الأبيض، شاخصا إلى السقف وأصبعه في فمه.
وأقبلت الممرضة نحوي تجري وتقول بدهشة: وضعت طفلك الساعة الواحدة صباحا، والساعة الآن الثامنة صباحا. لم يمض على الولادة إلا سبع ساعات وتسيرين هكذا في الممر؟! وقلت لها: الحركة بعد الولادة مفيدة، ثم إن طفلي جائع ولا بد أن أرضعه الآن.
وعدت إلى سريري، وبعد لحظات رأيتها مقبلة نحوي تجر سريرا زجاجيا صغيرا داخله طفلي، وامتدت ذراعاي لتحوطه، ووضعته فوق صدري، ورأيت الفم الصغير يلهث، وحين دسست الحلمة السوداء بين شفتيه الصغيرتين قبض عليها بفكيه وأخذ يرضع اللبن بشهية وأصابعه الخمس الرقيقة تلتف بقوة حول أصبعي، وإحساس جارف بالأمومة يسري في كياني دافئا كتدفق الدم في الشرايين. •••
طلبت الخروج من المستشفى بعد ثلاثة أيام؛ لا أرى طفلي إلا في أوقات الرضاعة، وينام في غرفة بعيدة عني، وأريد أن أضمه بين ذراعي، وتضمني أنا وهو غرفة واحدة، ثم إن رائحة المستشفى فقدت بهجتها ولم يعد بقائي يعني إلا مزيدا من النفقات.
قدمت لهم شيكا بالمبلغ، وقدموا لي شهادة ميلاد ابني، ووجدت أنهم أعطوه لقب أبي، ودهشت، هل يسمى الطفل هنا باسم الأم؟ وتساءلت رئيسة الممرضات بدهشة وكان اسمها مسز سيلفرمان: ألا تحملين اسم زوجك؟
وقلت: لا، أنا أحمل اسم أبي، وتصورت مسز سليفرمان أنني أم غير متزوجة؛ لأن الأم المتزوجة تحمل اسم زوجها بالقانون الأمريكي، ولا تحتفظ باسم أبيها إلا الأم غير المتزوجة، والطفل في هذه الحالة يحمل اسم الأم، وينظر إليه كطفل شرعي تماما.
وقلت: أنا متزوجة ولكني أحمل اسم أبي. وهذا هو القانون في مصر، وشهقت مسز سيلفرمان بدهشة: هذا عجيب! ألا تحمل المرأة عندكم اسم زوجها؟!
وقلت: لا.
ورددت مسز سيلفرمان: هذا عجيب! ثم فكرت لحظة وقالت: الزوجة المصرية أكثر حظا من المرأة الأمريكية، فهي تحمل اسما واحدا طول حياتها. أما المرأة هنا فهي تغير اسمها بعد الزواج. وقد تغير اسمها أكثر من مرة إذا تزوجت أكثر من مرة.
وحكت لي قصتها مع أسمائها الثلاثة. كان اسمها قبل الزواج مس سيلفرمان، وتزوجت من رجل اسمه براون فأصبح اسمها السيدة براون، وحصلت على شهادة التمريض بهذا الاسم، ثم طلقت من براون بعد عامين وتزوجت مورجان، وبعد الزواج حصلت على درجة الماجستير في التمريض باسم السيدة مورجان، ثم انفصلت عن زوجها مورجان بعد ثلاثة أعوام، وأصبح اسمها السيدة سيلفرمان وهو اسم أبيها، وحصلت على الدكتوراه في التمريض العام الماضي باسم مسز سيلفرمان.
وقالت في ختام قصتها بأسى: وهكذا فأنا أحمل ثلاث شهادات من الجامعة وعلى كل شهادة اسم مختلف.
وقلت لنفسي: أي امتهان لشخصية المرأة!
لكن ذلك كان في نهاية عام 1965، ولم تكن حركات تحرير المرأة قد سمع بها أحد في أمريكا بعد، ولم يخطر ببالي حينئذ أنه لن تمر سنوات قليلة حتى تخرج النساء الأمريكيات إلى الشوارع في مظاهرات ضد سيادة الرجل، وضد القوانين التي تجعل المرأة أقل من الرجل، ومنها القانون الذي يفرض على الزوجة أن تحمل اسم زوجها، وامتدت الثورة النسائية أيضا لتشمل إلقاء مساحيق الوجه في صناديق القمامة، ومشدات الصدر وغيرها من أدوات الزينة رموز القهر الجنسي للمرأة. •••
عدت إلى الكلية بعد أربعة أيام، وانتشر الخبر في الجامعة، وبدأ الأساتذة والزملاء والزميلات يفدون إلى بيتي للتهنئة، وكل يحمل هدية للطفل، إحدى الهدايا كانت عربة صغيرة لها كبوت أحمر جميل، وفي الأيام الدافئة حين تسطع الشمس أخرج إلى المنتزه على شاطئ نهر هدسون، أدفع بالعربة أمامي، ومن تحت الكبوت الأحمر يطل وجهه الصغير، تتوسطه المقلتان السوداوان اللامعتان، تتسعان بالدهشة لأي صوت وحركة، وتنفرج الشفتان الصغيرتان عن ابتسامة سعيدة. وقد يضحك بصوت عال كزقزقة عصفور، وتتوقف النساء وهن سائرات ليحملقن في العينين السوداوين ذات البريق، وتنطلق الأصوات هاتفة: كيوت! كم هو طفل جميل!
وتتسع عيناه بالدهشة، وعيناي أيضا تتسعان، النساء في بلادنا لا يتوقفن في الطريق، ولا يظهرن إعجابهن بالطفل مهما كان جميلا، بل تهتف الواحدة منهن قائلة: كم هو طفل قبيح! وتبتسم الأم في سعادة وقد اطمأنت إلى أن العين لم تحسده.
كان طفلا وديعا هادئا، ينام طول النهار والليل، ولا يصحو إلا للرضاعة، وكنت أتركه بعد رضعة الصباح نائما وأذهب إلى الكلية المسافة بين البيت والكلية سبع دقائق سيرا على الأقدام بالخطوة السريعة، وأعود إلى البيت جريا كل ثلاث ساعات لأرضعه.
وفي أيام الإجازات تساعدني ماريون في تنظيف البيت وغسل ملابس الطفل وشراء لوازم البيت، وفي نهاية كل أسبوع تلتقط له صورة ملونة، أرسلها بالبريد إلى زوجي وابنتي.
وأصبح رفيقي يؤنسني بالنهار بضحكاته المرحة كالشهقات المتقطعة، وحركة يديه وهو يهز الكرات الملونة المثبتة أمام مقعده، وأصابعه الصغيرة حين تلامس أصبعي تلتف حوله بقوة لا تريد أن تتركه.
وفي ظلمة الليل الموحش بالغربة، وصفير الرياح من المحيط، وهدير المطر فوق زجاج ناطحات السحب، وصرير الأعمدة السوداء الضخمة فوق الكباري الحديدية، في ظلمة الليل في قلب تلك المدينة الأمريكية الضخمة على بعد آلاف الأميال عن الأهل والوطن، أفتح عيني في الظلام وأنا راقدة تحت الغطاء، أطرافي باردة بالغربة، وقلبي ثقيل بالوحدة والوحشة.
وأرفع رأسي من فوق الوسادة فأراه نائما في سريره الصغير، بشرته من لون بشرتي، وملامحه تشبه ملامحي، وأنفاسه ساخنة لها رائحة الأهل والوطن.
أحوطه بذراعي، وأغمض عيني لأحس الدفء يسري في أطرافي، والريح تكف عن الصفير، والليل لا يعود غريبا ولا موحشا، وأنام حتى أصحو على صوته في الصباح، عصفور يغرد، يحرك ذراعيه وقدميه في الهواء، يحاول أن يرفع رأسه ويطل علي من بين أعمدة السرير الملونة.
كان ينمو بسرعة ويأكل بشهية، طعام الأطفال داخل علب زجاجية صغيرة، مطهي جاهز ولذيذ الطعم، على الرفوف في المحلات والأسواق تطل العلب بألوانها وأشكالها المتعددة: فواكه وخضر وأسماك وبيض وبقول من كل نوع، على علبة التفاح ترسم تفاحة حمراء، وعلى علبة السمك سمكة ملونة في يد طفل يلعب، وعلى علبة الأرز باللبن وعاء أبيض مملوء بالمهلبية.
كم من الوقت كانت تقف أمي أمام الموقد تقلب اللبن مع مسحوق الأرز لتصنع المهلبية؟ وكم من الوقت كنت أنفقه لأصنع لابنتي طعامها وهي طفلة؟ ولكني هنا أمد يدي وأسحب علب طعام الأطفال ما أشاء.
وتآلف مع حياتي الجديد، أصبحت أحب الكلية والمحاضرات وصداقات جديدة تربطني بالزميلات والزملاء ، والأساتذة يندهشون حين يرون أنني أقدم البحوث في موعدها وأحصل في الامتحانات على أعلى الدرجات، ولم أتغيب طوال العام إلا أربعة أيام.
أحد الأبحاث التي قدمتها كان عن مستشفى «هارلم»، وهارلم هو حي الزنوج في نيويورك، زرت المستشفى عدة مرات مع ماريون، قاعة انتظار المرضى تذكرني بقاعات الانتظار في مستشفى قصر العيني، والطابور يشبه الطابور الذي كان يقف أمامي كل صباح، الوجوه الشاحبة الذابلة، عيون ضامرة حزينة، ينتظرون اللحظة التي تناديهم فيها الممرضة ليمثلوا بين يدي الطبيب أو الطبيبة، بعضهم ينزف، بعضهم في شبه غيبوبة أو إغماءة، مكدسون في القاعة منذ ساعات طويلة.
وتساءلت: لماذا ينتظرون كل هذه الساعات؟
قالت ماريون: نقص في عدد الأطباء، والطبيب الواحد يكشف على مائة مريض في اليوم.
في مفكرتي عام 1956 حين كنت طبيبة امتياز بقصر العيني كنت أدون عدد المرضى الذين أفحصهم في العيادة الخارجية في اليوم الواحد، بلغ الرقم في أحد الأيام مائة وثلاثة وعشرين مريضا، وحين انتقلت للعمل بوزارة الصحة لم تعد هناك وسيلة لمعرفة عدد الطابور الممتد بامتداد البصر.
عنابر المرضى في مستشفى هارلم تشبه عنابر قصر العيني، لكن الطرقات في قصر العيني كانت خالية، وهنا أرى المرضى يرقدون على أسرة إضافية في الطرقات، والممرات الضيقة في المستشفى، والرائحة هي الرائحة التي كنت أشمها وأنا أمر على المرضى، عفونة الدم والصديد والجروح المتقيحة، ودورات المياه تفوح منها رائحة نتنة كالمجاري الطافحة، وصراصير حمراء وسوداء كبيرة وصغيرة تجري حول البالوعات.
وضعت ماريون على أنفها منديلها الأبيض وهي تقول: يلقون الفائض من علب الطعام في مياه المحيط وهؤلاء الناس يمرضون من الجوع.
وسألتها: ولماذا يحدث هذا؟ أمريكا بلد غني!
قالت ماريون: نعم، وعندنا مشكلة السمنة، وهي مشكلة ثراء، 25٪ من الأمريكيين مصابون بتضخم الجسم من الزيادة في الأكل، لكن الاقتصاد الرأسمالي يقتضي وجود الفقراء؛ إنهم هم الذين يشترون من السوق، وإذا وزع عليهم الفائض لم يذهبوا للشراء، وتنخفض بذلك القوة الشرائية، وتتكدس البضائع ويخسر أصحاب المصانع والشركات.
كنت أعرف أشياء جديدة كل يوم ، وأختار لأبحاثي الموضوعات الشائكة الصعبة، علاقة الاقتصاد بالطب والصحة والمرض، أسباب الفقر في أمريكا، أحوال الزنوج في هارلم وأصحاب الملايين في مانهاتن، نسبة مرض الدرن في حي بروكلين، علاقة العدالة الاجتماعية بالصحة.
موضوعات أبحاث جديدة، وعلاقات جديدة بين السياسة والطب، وبين الفرد والمجتمع، وبين الجسد والنفس والعقل.
ولم تكن هناك محظورات في البحث، أختار ما أشاء من الموضوعات، وليس هناك مكتب أمن في الجامعة ولا حرس من رجال البوليس.
والأساتذة لا يعلمون فحسب، ولكنهم يتعلمون أيضا، والمحاضرة لا تلقى والطلبة يستمعون ويدونون في الكشاكيل، ولكن الحوار يدور بين الأساتذة والطلبة والطالبات: حوار مفتوح ومناقشات، والأستاذ يعترف بأخطائه، ويعرف كل طالب وطالبة معرفة وثيقة، ونوع غريب من الإنسانية وروح الزمالة تشيع في الجامعة. •••
أصبح للهواء في الصباح برودة منعشة تملؤني حماسا ونشاطا وأنا ذاهبة إلى الكلية أحرك قدمي فوق الأرض اللامعة بخطوات سهلة خفيفة، كأنني ولدت هنا وسأموت هنا ولم أعرف مكانا آخر، صوت العجلات المسرعة فوق الكبري الحديدي أصبحت مألوفة، والبخار يتصاعد من ثقوب الأرض، وأصوات الهليكوبتر تمرق كالطيور بين ناطحات السحاب، ورائحة مياه المحيط وقراءة صحف الصباح وهدير المظاهرات والهتافات.
وأمطار الليل غسلت الأرض والهواء والبيوت، وكل شيء يلمع تحت الشمس.
وعينا ماريون الزرقاوان تلمعان وهي تستقبلني على الباب، اليوم مظاهرة!
منذ الطفولة وأنا أحب المظاهرات، عشق خفي لكل مظاهر التمرد على النظام، لهفة وانتظار غامض لوقوع خلل في الكون، أي خلل، وإن كان سقوط نجم من السماء أو ارتجاج الأرض بصوت الرعد والبرق.
أصوات الطلبة في المظاهرات كهدير الشلال، فوق جسدي تسري قشعريرة كاللذة الغامضة، هل يمكن حقا أن تسقط النظام؟
ماريون توزع علينا منشورات طويلة صفراء، صورة لطفلة في فيتنام احترق وجهها بالنابالم، وصورة أخرى لجندي أمريكي يرقد على الأرض بذراع واحدة والدم يسيل من رأسه، وجندي فيتنامي يحاول أن يحمله.
الشوارع امتلأت بالشباب والرجال والنساء، أمهات يدفعن بعربات الأطفال أمامهن ويحملن اللافتات ويهتفن: نريد السلام لا الحرية، مظاهرة من النساء والرجال العجائز يحملون لافتة كبيرة كتب عليها : أعيدوا أبناءنا من فيتنام!
ميدان كولومبس الفسيح يرتج تحت أصوات الهتاف، شمس مارس تتألق في السماء مع بشائر الربيع الأولى، الحماس يسري في كياني كالدم الساخن، أصوات الهتاف ترن في أذني مألوفة كهتافات الطلبة في الوطن، والوجوه تشبه وجوه الناس من أهلي: بيضاء وسوداء وسمراء، كلها متشابهة، متلاصقة في جسد بشري واحد، وأنا جزء من هذا الجسد، أنفاسهم من أنفاسي، وحرارتهم من حرارتي، والذوبان النهائي آخر قطرة من قطرات الغربة أو الوحشة في دمي. •••
في اليوم الأخير من العام الدراسي وزعوا علينا الشهادات في حفل كبير، الدكتور «تراسل» يقف بملامح الأب وسط الأساتذة، يقدم لي شهادة التفوق مكتوبة على الورق المصقول، وشهادة أخرى غير مكتوبة على الورق، ترن في الجو بصوته الهادئ، وتنحفر الكلمات في ذهني، تصبح جزءا مني، وتظل حية كخلايا المخ.
في قاع مكتبي رقدت الشهادات المكتوبة على الورق عشرين عاما، أصبح الورق باليا والحروف بليت وأكلها الزمن والعتة، لكن الشهادات غير المكتوبة ظلت حية في خلايا المخ، تعيش معي وتموت معي، ولا زلت أذكر عبارة قالتها لي مدرسة الطبيعة في المدرسة الابتدائية عام 1942، أذكر الحروف حرفا حرفا، وحركة الشفتين وهي تنطق الكلمات، وحركة «النني» في العينين، وصوتها يلامس أذني ثم يسري في القنوات العميقة داخل الرأس، ويمشي في الخلايا دافئا متدفقا كشحنة من الدم الجديد. •••
عينا ماريون الزرقاوان فيهما دموع، تلوح لي بيدها من وراء الزجاج، ثم تذوب في الجو، عيناي تتسعان بالدهشة، وزجاج النافذة تكسوه عتامة وقطرات ماء دقيقة كرذاذ المطر.
تسقط قطرة على ظهر يدي ساخنة، وأدرك أنها دموع، وأن قلبي ثقيل.
لكن الصوت ينبعث فجأة من سقف الطائرة معلنا الإقلاع خلال دقائق إلى «القاهرة»، ترن كلمة «القاهرة» فجأة، وتحدث من حول رأسي انتفاضة في الهواء كالمس الكهربي، ويلوح لي الوجهان تحت الضوء في بيتنا الصغير أول شارع الهرم، والشجرة الخضراء تطل من السور أمام البيت، وعم أحمد البواب جالس على الدكة، وكشك الصحف على ناصية الشارع، وبائع الفول يدس المغرفة الطويلة داخل الفوهة يتصاعد منها البخار، وبائع الروبابيكيا يدفع بالعربة أمامه ورأسه إلى أعلى مناديا بصوت حاد: بيكيا!
يزحف الحنين على جسدي كقشعريرة برد، انتفاضة تشملني من رأسي لقدمي كرجفة بدايات الحمى، وعيناي تدوران من حولي تفتشان عن الملامح الأليفة، وأذناي تتشممان اللهجة والصوت، وحنين جارف كالمرض الكامن ينفجر فجأة، فإذا بي أشتاق لكل شيء وأي شيء، حتى ذرات الغبار السابحة في الهواء تحت شعاع الشمس، ورائحة المجاري تحملها نسمة الربيع في أول الصباح. •••
عيناي تسبقان العجلات السريعة فوق الأرض، وخفقات قلبي تطغى على كل الأصوات، أخترق الزجاج لأطل على الرءوس الكثيرة في شرفة المطار، وجوه كثيرة غريبة وعيناي تقفزان من وجه إلى وجه، تبحثان عن العلامات المميزة: الوجه النحيل والعينان السوداوان العميقتان، الوجه الصغير المستدير تتوسطه العينان العسليتان.
ورأيتهما فجأة كأنما تكثفت ذرات الهواء وتجمعت لتجسدهما أمام عيني، زوجي يرتدي قميصا أبيض ويلوح لي بحركته الهادئة الواثقة، ابنتي تقفز إلى جواره وتتقدم نحوي غير عابئة بحزام الشرطة، الرجل الشرطي يدفعها إلى الوراء.
أرفع يدي في الهواء كأنما لأمسكها، لكن المسافة لا تزال بعيدة، وعلى اللوح الخشبي أمام موظف الجمرك تبعثرت ملابسي وملابس الطفل، وأصابع الموظف تعبث بأوراقي وكتبي، ولم يكن معي شيء، لعب أطفال وطائرة زرقاء لابنتي تحوطها أجنحة رقيقة بيضاء.
شد الموظف الطائرة من علبتها الكرتون المربوطة بشريط ملون، وهزها بقوة ليتأكد أن ليس داخلها شيء، فانزلقت من يده، وسقطت على الأرض، وتناثرت الأجنحة الرقيقة كالفراشة البيضاء فوق الأسفلت.
وفي العناق أغرق الفرح الأحزان الصغيرة، وخرجت من المطار والأذرع تحوطني: زوجي وابنتي وإخوتي والأصدقاء، وبين ذراعي أحمل ابني، عضو جديد في الأسرة الصغيرة.
الفصل الثالث
الأغوار وحافة النهر
في يونيو 1966 عدت إلى الوطن، وفي يونيو 1967 وقعت الهزيمة، عام واحد مضى كأنه عشرة أعوام، والهزيمة في الهواء أتنفسها قبل أن تقع.
الأعلام وأقواس النصر ترتفع فوق كل شبر من الأرض، الأناشيد الوطنية في الميكروفونات والإذاعات ليل نهار، لكن خلايا جسمي وعقلي تحس الهزيمة في انحناءات أقواس النصر لأي نسمة تهب، ونبرات الأصوات تصيبها البحة كالنشيج في نهاية كل نشيد، وزوايا العيون تحت الجفون المسدلة فوق المنصات، وفتحات الأنف تتشمم من تحت الكراسي والموائد.
ثم جاء ذلك اليوم الخامس من يونيو، ورأيت العصافير والطيور ترفرف مذعورة في السماء ثم تختفي هاربة، كأنه يوم شتاء والبرق والرعد ينذر بالمطر.
كنا في عز الصيف ولا برق ولا رعد ولا مطر، لكن السماء تغيرت فجأة، دوي الطائرات الخاطف أشد سرعة من الضوء، وانفجارات بعيدة مكتومة، ثم عادت السماء كما كانت بعد بضع دقائق.
كنا في أول الصباح ولم أعرف ماذا حدث، وذهبت كعادتي كل يوم إلى مستشفى الدرن، ولأول مرة لا أرى طابور المرضى واقفا ممدودا بامتداد البصر. كانوا جالسين في فناء المستشفى وبينهم راديو صغير، يقربون آذانهم من الراديو يهللون ويصفقون، واستقبلتني الممرضة وهي تهتف بالحماس: أسقطنا حتى الآن أربع عشرة طائرة للعدو!
لم أكن أصدق الإذاعات ولا الصحف ولا البيانات الرسمية، لكني صدقتها. كنت مرهقة، أتنفس كل يوم أنفاس مرضى الدرن دون العازل الواقي، وفي المثلث تحت الضلوع ألم يلازمني كل صباح كالغثيان يبدد حاستي السادسة، ويضعف حواسي الأخرى الخمس، فلا أشم رائحة المجاري في البركة أمام المستشفى، ولا أسمع الأنين ينبعث من الطوابير، وجلدي أيضا يفقد حاسة اللمس، وعدسة العين تكسوها غشاوة، وخلايا المخ تصيبها عتامة.
وصدقتها على الفور، وتلاشى الألم المزمن تحت الضلوع، وانقشع الغثيان ومعه العتامة، وهتفت بالفرح: إنه إذن النصر وليس الهزيمة! ووجهت لنفسي اللوم والتأنيب على أحاسيسي السوداوية والعجز عن التنبؤ إلا بالفشل. لكنها لم تكن إلا نصف دقيقة استعدت فيها حواسي، ورأيت الطابور الطويل يعود بالوجوه الشاحبة والرءوس المنكسة والعيون المنكسرة، وتجمدت الابتسامة على وجه الممرضة وانسحب منه الدم، وبدأنا نعرف أن طائراتنا كلها ضربت على الأرض وهي نائمة، وقالت الممرضة كالمعتذرة: لم أكذب عليك يا دكتورة، ولكني صدقت الراديو.
وبدأت الهزيمة تتجسد على شكل الحقيقة، والحقيقة تتجسد على شكل وجه طويل شاحب، وأنف طويل شاحب، وعينان شاحبتان واسعتان لكل هزائم العالم.
وأصبح الوطن كالمأتم، نصحو على صوت يتلو الآيات وننام على التلاوة نفسها الرتيبة، والميت لم يدفن بعد ولا زال يمشي على الأرض، يطل علينا كل يوم بعينين مقتولتين، والقاتل عيناه تلمعان بالنصر، يحمل سلاحا لا زال يقطر دما، ويدوس على أرض الوطن في الضفة الغربية والجولان وسيناء، وجبهة القتال أصبحت ثلاث جبهات وأكثر. •••
الطائرة تحملني إلى جبهة القتال في الأردن، في حقيبتي أدوات الطب وليست أدوات الحرب، لكن في رأسي قرار، أن أتدرب على إطلاق الرصاص والقتل، العالم من حولي إما قاتل أو مقتول، ولن أكون أبدا المقتول، تدريب على السلاح في عام 1956، بعد العدوان الثلاثي (الإنجليزي الفرنسي الإسرائيلي) على بور سعيد. كنت طبيبة في الريف في قرية طلحة، وتحولت الوحدة الطبية إلى معسكر للتدريب على السلاح والتمريض، الرجال يحملون السلاح ويقاتلون، والنساء يضمدون الجروح، تقسيم العمل على أساس الجنس في الحرب والسلم، وقلت: سأحمل السلاح وأقاتل ولن أضمد الجروح!
وتدريب على إطلاق النار وإصابة الهدف، أثبت البندقية على كتفي وأركز عيني على نقطة الوسط ثم أضغط على الزناد، ويندهش المدرب العسكري كيف لامرأة أن تصيب الهدف من أول مرة، وأصبح يطلق علي اسم «الكابتن» بلغة المذكر كنوع من المكافأة على الامتياز في الرماية، لكني رفضت اسم الرجل وتمسكت باسمي، وصاح بدهشة: هذا تكريم لك حين نعطيك اسم الرجل! وناديته باسم المرأة فغضب، وقلت بدهشة: هذا تكريم لك حين نعطيك اسم المرأة.
ورأيته يدفع بندقيته ويصوبها نحو رأسي، ورفعت بندقيتي وصوبتها نحو رأسه، وتراجع على الفور وأدركت منذ تلك اللحظة أن الرجل لا يفهم إلا السلاح، والسلاح لا يهزمه إلا السلاح، وأصبح يحترم اسمي ولم يعد يناديني باسم الرجل، وبقي معنا شهرا ثم سافر، وأقامت له الوحدة الطبية حفل وداع صغير، وألقيت كلمة قصيرة شكرته فيها لأنه بذل جهودا في تدريب الناس على القتال، ورد بكلمة شكر في نهاية الحفل وقال: من السهل أن نتعلم كيف نطلق النار ونقتل، لكن من الصعب أن نتعلم كيف نحترم المرأة.
أكره ملمس السلاح في يدي، وأكره منظر الدم، لكن كراهيتي للاغتصاب أشد، اغتصاب حق المرأة أو اغتصاب أرض الوطن.
كلاهما اغتصاب، كلاهما وجهان لعملة واحدة: العبودية أو القهر بالقوة المسلحة.
في مطار عمان رأيت عددا من الشباب الفدائيين، ركبت معهم السيارة الجيب إلى مركز القيادة، شوارع عمان واسعة نظيفة، والجبال من كل ناحية، وعيون الفدائيين فيها بريق خاطف يعكس لون الجبل، يذكرني بالملامح الجبلية في الجزائر، وصوت لا زال في أذني: الثورة تجعل الملامح جذابة.
العيون في الوطن كانت شاحبة مليئة بالهزيمة تجعل الملامح خالية من الجمال، حركة الجسم تصبح بطيئة، ونظرة العين جانبية. لا تواجهك من الأمام. لا ترتفع وتثبت في عينك، والذراعان يتهدلان إلى جوار الجسم في مشية متعرجة، وعضلات البطن مرتخية، وخلايا العقل مرتخية. منذ الطفولة وأنا أكره منظر الوجوه المهزومة، وجه خالتي نعمات بعد أن طلقها زوجها، وخالي يحيى حين فشل في الدراسة، ووجه عبد الناصر بعد الهزيمة، كالأسد الجريح مكسور العينين، والأسد المكسور قبيح الشكل، وأجمل منه الأسد المقتول.
في مركز القيادة في عمان التقيت بالقيادات: رجال كلهم، و«النني» داخل عيونهم يتحرك في كل الاتجاهات بلا توقف، يتكلمون أيضا بلا توقف، ولا يسمعون إلا أنفسهم. أحدهم يرتدي زي الصاعقة ومن حول وسطه حزام عريض مزركش يتدلى منه السلاح، أصابعه ناعمة وأظافره شفافة نظيفة لم تعرف ملمس التراب، بشرته بيضاء لم تلوحها شمس الصيف ولا حرارة الأرض، صوته له رنين معدني دوى في الأذن كأصوات الآلهة الخفية، ويتحول الصوت دون أن يحرك شفتيه إلى أوامر عليا.
أشعر بالاختناق حين تقودني الظروف التعيسة إلى الجلوس وسط الآلهة في مركز قيادة، أو مكتب رئاسة أو وزارة، أو حينما تكون القيادة؛ فالقيادة في بلادنا سلطة، والسلطة امتيازات. وقد تركت مصر؛ مهبط السلطة المركزية ذات السيادة والامتيازات في الدنيا والآخرة، وجئت إلى مركز الثورة الجديدة وجبهة القتال، لكن يبدو أن القيادات هي القيادات، في السلم وفي الحرب وفي الثورة. عجينة واحدة هذا النوع من الرجال رغم اختلاف الملامح واللهجة والأزياء وحركة الذراعين أثناء السير، والعين لا تثبت أبدا في العين.
والتقت عيناي وأنا جالسة في مركز القيادة بعيني شاب فدائي، أدركت من عينيه أنه فدائي وليس من سلالة القيادات؛ النظرة المباشرة الصريحة، والعين تثبت في العين في خط مستقيم، واليد أيضا تصافح والذراع ممدود مستقيم.
كانت له ذراع واحدة، والذراع الثانية فقدها في فلسطين، وساق واحدة والساق الثانية بترت فوق الركبة بعد معركة الكرامة في 21 مارس 1968.
لم أكن حتى ذلك الحين أعرف معنى الحرب. لم أشهد في حياتي حربا إلا فوق شاشة السينما، مفرقعات وانفجارات وأجساد تسقط وأجساد تجري وسيارات تنقلب وتحترق وطلقات رصاص ودوي مدافع، ثم ينقشع الدخان وتسطع الشمس ويخرج الناس من بيوتهم إلى الحدائق يرقصون ويغنون رافعين رايات النصر. وفي طفولتي لم أعرف عن الحرب إلا صوت صفارة الإنذار، صفارة غليظة متقطعة كبوق السيارة العتيقة، وأمي تجري في غرفات البيت تطفئ الأنوار، وأبي يغلق شيش النوافذ ويترك الزجاج مفتوحا، ومن باب المطبخ أتسلل إلى الفناء الخلفي، وتتعلق عيناي بكشافات الأنوار تتحرك في السماء السوداء وتملأ الكون بأشباح ضوئية بيضاء كالآلهة المسحورة، وأصوات تدوي من بعيد كالرعد، وأضواء تلمع وتختفي كالبرق، بيضاء وصفراء وحمراء تشبه صواريخ العيد، ثم تدوي صفارة الأمان، صفارة طويلة حادة غير متقطعة كصفارة القطار، ويعم ضوء الكهرباء في بيتنا وكل البيوت، وصوت الراديو يرتفع بالغناء. كنت لا أزال صغيرة والعالم كبير، وأسمع أبي يقول: إن الحرب بين الإنجليز والألمان.
ولم أكن أعرف الفرق بين الإنجليز والألمان، وإذا مات الإنجليز في الحرب أو مات الألمان كلاهما عندي سيان ما دمت أفتح عيني في الصباح فأجد أمي وأبي وجميع إخوتي أحياء ولم يموتوا.
وحين كبرت وبدأت أفهم أكثر عرفت اسم إسرائيل، وتدوي صفارة الإنذار بالصوت الغليظ المتقطع، ويعم الظلام الدامس، وزجاج النوافذ طلاؤه أزرق داكن، وضوء السيارات أزرق، ووجوه الناس من حولي تشوبها زرقة، ولأول مرة في حياتي أسمع كلمة الموت، مجرد كلمة سمعتها، ارتبطت في ذهني بالزرقة الداكنة فوق الوجوه والجدران والنوافذ ومصابيح النور، وبكلمة أخرى اسمها إسرائيل.
لكنها ظلت مجرد كلمة إسرائيل أو الحرب أو الموت، وظل الموت بعيدا عن ذهني لا أكاد أذكره، وأظن أنه غير موجود، حتى دخلت كلية الطب، وعلى منضدة التشريح رأيت - لأول مرة - وجه إنسان ميت. •••
لا زلت أحملق في وجه الشاب الفدائي، عينان مرفوعتان إلى أعلى وفيهما بريق، يتطلع نحو الطريق، وهو جالس إلى جوار السائق وفي يده السلاح، ويده الثانية مبتورة، والسيارة مصفحة من النوع «الجيب»، أجلس خلف السائق وإلى جواري ثلاثة من الفدائيين المسلحين، منهم فتاة فدائية اسمها «أسماء»، عيناها كعيون الشباب؛ البريق والعين المرفوعة تثبت في العين ولا تتذبذب، وخلفي تجلس «أم يوسف»، امرأة متوسطة العمر، ملامحها ريفية تشبه ملامح عمتي بهية، تلف رأسها بمنديل أبيض يسمونها أم الفدائيين. وصلت بنا السيارة إلى الكرامة، خراب وحطام، والصمت كالهواء الثقيل الراكد يتحرك من حين إلى حين على صوت انفجار مكتوم، البيوت كلها متهدمة والأسلاك مقطوعة وعربات الفحم الأسود، ولا أحد من السكان. لا شيء إلا الأحجار، بقايا بيوت متناثرة، وبقايا أثاث، وفردة حذاء طفل ورائحة دم جاف وشجرة محترقة.
سرت مع الفدائيين بين الركام، ثم انشقت الأرض فجأة عن شاب طويل نحيف يلف رأسه بكوفية بيضاء فيها دوائر سوداء، عيناه سوداوان فيهما البريق والنظرة المباشرة، والعين تنفذ في العين وتظل ثابتة، قادنا إلى مغارة قريبة من حافة النهر في بطن الأرض، ومجموعة من الشباب المسلحين في وضع الاستعداد، عيونهم نحو الضفة الغربية شاخصة، وحنين إلى الأرض التي ولدوا عليها ثم طردوا منها بقوة السلاح، تطل الأرض عليهم من وراء نهر الأردن، الضفة العالية الخضراء، الوطن والأهل والأم الممزقة بين الضفتين، الأم المقتولة تحت الجدار، والأب المطعون في الصدر والبطن والظهر، والطفل الذي لم يبق منه إلا فردة حذاء، ومن أرض الوطن حيث إسرائيل الآن تطلق مدافع الهاون تقذفهم بالدانات، وطائرات أمريكية الصنع تلقي الصواريخ وقنابل النابالم.
تلقى أحد الشباب الإشارة، واختفينا جميعا داخل المغارة، صوت المدافع والقذائف يرج جدران المغارة، غبار يتساقط من السقف، أتطلع بعيني فوق رأسي، السقف أسود بلون الأرض، خشن ومشقق كالأرض ، وحروف محفورة فوق الجدار بخط متعرج كشقوق النيل، واسم محمود درويش:
إني مندوب جرح لا يساوم
علمتني ضربة الجلاد أن أمشي وأمشي وأقاوم
ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي
ربما أعمل حجارا وعتالا وكناس شوارع
ربما أبحث في روث المواشي عن حبوب
ربما أحيا عريان وجائع
يا عدو الشمس، لكن لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم. «أسماء» إلى جواري قابعة عند فوهة المغارة، سلاحها في يدها، وعيناها تخترقان الأرض والسماء حتى رام الله، الأرض التي ولدت عليها ورأت أباها يذبح أمام عينيها، وفي الليل تسللت وفوق صدرها قنبلة، ألقتها على ثلاثة من جنود إسرائيل، مات اثنان وجرح الثالث، وعادت إلى بيتها، وفي يوم آخر حملت قنبلة أخرى وألقت بها على سينما صهيون، وفي المرة الثالثة أمسكوها وهي تحمل المتفجرات فحبسوها وعذبوها لتعترف بأسماء زملائها ولم تعترف، اعتدوا عليها جنسيا حتى أغمى عليها ولم تعترف، أطفئوا في جسدها السجائر وخلعوا أظافرها وظلت مطبقة بأسنانها على شفتيها دون أن تنطق، ولما يئسوا منها ألقوا بها على الجسر وسارت حافية على الضفة الشرقية، دخلت المستشفى في السلط ثم خرجت بعد ثلاثة شهور وعلى جسدها آثار جروح وفي يدها سلاح جديد، قابعة عند فوهة المغارة، وعيناها على الضفة الغربية، وأذناها مرهفتان لصوت المدافع، تعرف نوع المدفع من صوته، وتعرف أيضا من أي مسافة يضرب: هذه ضربة مدفع ماية وخمسين من مسافة خمستاشر كيلومتر.
وعلى باب المغارة رأيتها جالسة، «أم يوسف» برأسها المربوط بالمنديل الأبيض، وبشرتها المحروقة بالشمس كعمتي بهية، عيناها شاخصتان نحو الضفة، عيناها واسعتان غائرتان تغطيهما طبقة متجمدة من الدمع وتحت حاجبها الأيسر ندبة، جفناها مفتوحتان لا ترمشان، والمدافع تدوي، والسماء تمتزج في كتلة نار واحدة يلفها الغبار.
ظلت جالسة تنتظر، ثم رأيتها تنتفض واقفة ثم تجري بلا توقف حتى تصل إلى حافة النهر، ظلت واقفة على الحافة تروح وتجيء في قلق كأم ضاع منها طفلها الوحيد، ثم رأيت النهر ينشق فجأة عن ثلاثة من الشباب يحملون شابا جريحا، اندفعت نحوهم تحمل معهم الجريح، وبأربطة الشاش والقطن ضمدت الجروح، ثم حملته معهم إلى السيارة الجيب التي انطلقت كالسهم إلى المستشفى السلط، وفي المستشفى رأيتها تمر على المصابين واحدا واحدا تفك الرباط المتسخ وتضع الرباط النظيف، سمعتهم ينادونها «أمنا» كما ينادون الأرض والوطن، وهي تناديهم «أطفالي» كما تنادي الأرض نبتها الأخضر. لم تتزوج ولم يكن لها بيت ولا رجل، لكن البيوت كلها بيتها، والرجال كلها رجالها، والنساء نساؤها، والشباب شبابها، واسمها الأصلي «أم يوسف» وفي ذاكرتها من ثلاثين عاما قصة حب كبير، وطفل اسمه يوسف لا تذكر إلا اسمه، كأنه مجرد خيال وحلم، أو جنين لم تلده أبدا، أو ولدته وضاع في الضفة.
كانت عربة الإسعاف قد حملت الجريح من جوار النهر وانطلقت بنا في الأغوار تشق طريقها نحو السلط حينما رأيت شبحا يجري خلفنا وكأنما انشقت عنه الأرض، واتضح لي بعد لحظات أنه امرأة تجري وراء العربة، وطلبت من السائق أن يتوقف، فاندفعت المرأة نحو العربة دون أن تحدثنا أو تلتفت إلينا، ونظرت متفرسة في وجه الجريح ثم بأصابعها النحيلة راحت تقلب في يديه وقدميه، وأمسكها الفدائي برفق وأبعدها عن الجريح، وهمس في أذني بصوت حزين: إنها لا تسمع أحدا ولا ترد على أحد، بالنهار تتجول بين الخيام تتلفت حولها، وفي الليل نرى جسمها مرتخيا ممدودا بحذاء النهر، وحينما تلمح جريحا أو غريقا تهب واقفة وتجري إليه، تفتش في ملامحه وفي يديه وقدميه كأنما تبحث عن شخص تعرفه.
رأيت هذه المرأة كثيرا خلال الفترة التي عشتها في السلط. كانت تندفع أحيانا وراء عربة الإسعاف، وفي أحيان أراها راكعة بين الصخور في الأغوار تنبش الأرض وتأكل التراب، والتقيت بها مرة وهي تتجول بين الخيام وجها لوجه، ورفعت إلي عينين واسعتين تغطيهما طبقة متجمدة من الدمع، وجرح عميق تحت العين كالندبة. تشبه «أم يوسف» لكنها لم تكن أم يوسف، وتشبه عمتي بهية لكنها ليست عمتي بهية، ملامح وجهها مؤكدة لكن جسدها يذوب في الضوء مع العناصر الأخرى فيما يشبه الضياع، ولا أحد يعرف اسمها الحقيقي، وينادونها «عين الحياة».
وحين عدت إلى مصر ظلت هذه المرأة تلوح لي في منامي بعينيها الغائرتين، تؤرقني وتوقظني من عز النوم، وفي ليلة مؤرقة أمسكت القلم ورسمتها فوق الورق على شكل قصة اسمها «عين الحياة».
الفصل الرابع
مؤتمر النساء في هلسنكي
كانت هي أول رحلة إلى تلك المنطقة الباردة القريبة من القطب الشمالي، والتي يطلق عليها اسم البلاد الاسكندنافية، تلك البلاد المحصورة بين المعسكرين الكبيرين: الشرقي والغربي، تفصل بينهما كحاجز من مادة عازلة لا توصل الحرارة، باردة وهادئة وساكنة كنقطة في حبل طرفاه مشدودان بقوتين متعادلتين.
هذا السكون هو الصفة الغالبة على تلك البلاد وأهلها، حتى الطبيعة تبدو ساكنة؛ فلا الليل يعقب النهار ولا النهار ينتهي بقدوم الليل، وإنما تظل الشمس في السماء ساكنة بغير حراك لا تغرب لا تسقط وراء الأفق، ويظل لون شفقها الأحمر ثابتا في السماء، ويكاد يختلط الأمر على العين فلا تكاد تعرف أهي سماء حقيقية أم لوحة لفنان.
وبعد منتصف الليل أعود إلى حجرتي الصغيرة في فندق «غالي» في هلسنكي، الشمس من وراء الغابة الكبيرة معلقة في السماء، ولا أكاد أعرف الليل من النهار لولا التعب الطبيعي يصيب أجسامنا ساعة النوم، فأسدل الستارة الكثيفة على زجاج النافذة لأخفي ضوء الشمس ولأصنع داخل غرفتي ليلا صناعيا فأستطيع أن أنام، كنا في يونيو عام 1969. وهذه الليالي البيضاء في فنلندة تستمر تسعين ليلة في فصل الصيف، ويقابلها في الشتاء الأيام السوداء، حيث لا نهار ولا شمس، وإنما ليل دائم طوال الأربع والعشرين ساعة.
وشوارع هلسنكي نظيفة هادئة، ووجوه الناس نظيفة هادئة. لا يكاد يبدو عليها انفعال، سكون غريب في العيون كسكون البئر، فيه صفاء ولكنه صفاء بارد برودة الماء المخزون في بطن الأرض.
وكل شيء في هلسنكي بارد وساكن، حتى شمس الصيف وعيون النساء وعيون الرجال أيضا، ولعل ذلك انعكاس الطبيعة الباردة أو انعكاس السياسة المحايدة الصامدة بغير انفعال نحو شرق أو غرب أو يسار أو يمين.
ولكن هذا هو سطح هلسنكي الخارجي. هذه هي الطبقة الثلجية المتجمدة على سطح بحر فنلندة، إذا ما كسرت بالسفن الفنلندية الحديثة أو ذابت تحت شمس الصيف انبثق الماء من تحتها غزيرا ودافئا، وكشفت القلوب الفنلندية عن طبيعتها الإنسانية التي لا تختلف عن الطبيعة الإنسانية في أي مكان وزمان. وحتى في السياسة، تحت تلك الطبقة الحيادية الباردة بغير انفعال صراع دائم بين ثمانية أحزاب سياسية: المحافظين، الأحرار، الوسط، الفلاحين، (الاشتراكيين الديمقراطيين)، حزب المعارضة، (الفنلنديين الديمقراطيين)، الأقلية السويدية.
ويقابل الحزب الاشتراكي الديمقراطي حزب العمال في بريطانيا، ويمثل حزب الفنلنديين الديمقراطيين أقصى اليسار. وهذان الحزبان يفوزان وحدهما بنصف مقاعد البرلمان، ويفوز بالنصف الباقي ممثلون عن الأحزاب الستة الأخرى، ولم يحدث أن فاز حزب واحد بالأغلبية، ورغم الصراع الدائم بين ممثلي اليسار وممثلي اليمين إلا أن حالة التوازن تكاد تكون دائمة والحكومة تمثل مجموعة من الأحزاب وليس حزبا واحدا.
حصلت فنلندة على استقلالها وأعلنت جمهوريتها المستقلة، وخرجت من تحت سيطرة روسيا القيصرية سنة 1917، وهي نفس السنة التي تحررت فيها روسيا نفسها من قبضة القيصر، وتكونت أول دولة اشتراكية في الاتحاد السوفييتي برئاسة لينين.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتوقيع معاهدة السلام في باريس سنة 1947 أعلنت فنلندة تصميمها على الوقوف على الحياد وبقائها خارج صراع القوى الكبيرة في العالم.
وفي سنة 1952 تكون مجلس الدولة الاسكندنافية الذي يضم الدول الخمس: السويد، النرويج، الدانمارك، أيسلاندة، فنلندة، وأصبح يسود هذه المنطقة الشمالية من أوروبا نظام اجتماعي وسياسي واحد، وجواز سفر واحد، وموقف واحد داخل هيئة الأمم المتحدة، هو الموقف الحيادي الدائم البارد بغير انفعال مهما انفعل العالم ومهما بلغ الصراع ذروته بين ما يطلق عليها بالقوى الكبيرة في العالم.
هذا هو الموقف الحكومي. أما الشعب فهو كأي شعب آخر في العالم لا يمكن أن يكون حياديا في عالم يغلي والحروب تشتعل هنا وهناك ويقتل بعضه بعضا.
قالت لي إحدى السيدات الفنلنديات: قرأنا كثيرا عن كفاح شعب فيتنام، وعن الحروب الدائرة في الشرق الأوسط، وشعب فلسطين الذي طرد من وطنه ... الاستعمار والإمبريالية الأمريكية هي التي وراء كل هذا ! وضاعت القشرة الخارجية الساكنة وبدأ الانفعال والنقاش.
كان المؤتمر ضخما، وكله من النساء، نظمه الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، أكثر من ألف امرأة يمثلن 92 دولة، ثم ممثلات المنظمات الدولية وعددها ثلاثون أو أكثر، ولأول مرة في حياتي أعيش خمسة أيام كاملة في مجتمع نسائي من كل الجنسيات.
وكنا مجموعة من النساء المصريات والعربيات، عددنا يبلغ المائة، وكل دولة عربية أرسلت وفدا من خمس نساء أو أكثر يمثلن الحكومات العربية، ولكل وفد رئيسة تجلس في الوسط ومن أمامها لافتة بيضاء كتب عليها اسم الدولة، وعلى صدر كل واحدة دبوس ولافتة بيضاء كتب عليها اسمها ولقبها.
وجلست في أحد المقاعد المخصصة لوفد مصر، ولم أعلق الدبوس فوق صدري، منذ الطفولة وأنا أكره الدبابيس المعلقة فوق صدور النساء، ومنذ أول مؤتمر حضرته في كلية الطب وأنا أكره منظر اللافتات فوق الصدور، وحروف الاسم واللقب معلقة فوق جسم الإنسان كما تعلق الماركة والسعر واسم الدكان فوق الأحذية والملابس وعلب السردين، ومن حولي ألف امرأة مكدسات في القاعة، والنوافذ مغلقة، والهواء الصناعي المكيف يختلط في صدري برائحة العطور الأنثوية، وكلمات رئيسات الوفود من فوق المنصة ترن في رأسي كضربات المطرقة.
عطست بصوت عال وأنا جالسة لأطرد الهواء والكلمات المصنوعة، وسمعتني رئيسة الوفد المصري وأنا أعطس فرشقتني بنظرة حادة من فوق المنصة، ولمحت صدري الخالي من الدبوس فاعتبرتني ضد النظام، وجاءت جلستها بعد أن هبطت من فوق المنصة إلى جوار امرأة من إسرائيل فانتفضت مذعورة ولمت أوراقها وأسرعت في الممر بين المقاعد لتجلس في مكان آخر، وعضوات الوفد الأخريات يتبعنها حيث تذهب، يتأرجحن على كعوبهن العالية الرفيعة من خلفها كسرب بطيء من البط.
منذ الطفولة وأنا أكره أحذية أمي ذات الكعب العالي، لكن أكثر ما كرهته هو دور التابع، ومنظر الخادم وهو يسير خلف أبي أو أمي، وظللت جالسة في مكاني، وكان بيني وبين المرأة الإسرائيلية مسافة تزيد عن المترين، وظهري ناحيتها وعيناي ناحية المنصة، لكن رئيسة الوفد اعتبرتني وكأنما عقدت صلحا مع إسرائيل.
وحظيت قضية فيتنام بالصدارة في كلمات الوفد، اشتركت جميع الوفود في إدانة السياسة الأمريكية واعتدائها على شعب فيتنام، ووقفت على المنصة فتاة فدائية من فيتنام اسمها ونتوانتو بملابسها الكاكي وعينيها الطويلتين المسحوبتين إلى أعلى. لم تتجاوز الأربعة والعشرين عاما وتقود سرية في جنوب فيتنام، فقدت أختها في الحرب، وأسر أخوها، ومنذ تسع سنوات وهي تحارب، استطاعت سريتها تحت قيادتها أن تسقط طائرة أمريكية وتحرق سفينة مائتي جندي أمريكي. هي وحدها قتلت 35 جنديا أمريكيا، جسمها صغير كالطفلة، وضفائرها طويلة كتلميذات المدارس، وابتسامتها رقيقة كالأم، وهي نفسها أم لطفل عمره ثمانية شهور، لكن النظرة الثاقبة في عينيها وخطواتها السريعة كوثبات الفهد تؤكد لي أنها يمكن أن تقتل.
وجاءت قضية فلسطين بعد فيتنام، ووقفت مندوبة فلسطين على المنصة، حكت تاريخ نشأة إسرائيل، وآلة الحرب الإسرائيلية والإنجليزية ثم الأمريكية، والشعب الفلسطيني الذي قتل بالآلاف وطرد من أرضه، وأصبح يعيش في الخيام خارج وطنه، والقهر والإذلال في الأرض المحتلة داخل إسرائيل.
وحظيت القضية الفلسطينية بتأييد الوفود كلها إلا وفدي: رومانيا وإسرائيل. •••
رأيتها لأول مرة وهي جالسة وسط مجموعة من النساء وقلت لنفسي: هذا الوجه مألوف، أين رأيته؟ وفي لحظة عرفتها؛ إنها فالنتينا التي طالعتنا صورها في الصحف بعد أن طارت في سفينة الفضاء ثم عادت إلى الأرض لتحمل على صدرها النجمة الذهبية، جاءت فالنتينا إلى هلسنكي رئيسة لوفد الاتحاد السوفييتي في المؤتمر: شابة نحيفة الجسم دقيقة الملامح، لها أنف مستقيم مدبب، وعينان زرقاوان عميقتان، وشفتان دقيقتان مطبقتان لا تعرفان الثرثرة، وقلما تنفرجان رغم البسمة الطبيعية الهادئة تكسو ملامح وجهها الصغير. والتفت حول فالنتينا النساء من مختلف الوفود يعانقنها، وتوالت عليها كلمات الإعجاب وكثير من الأسئلة، كيف صعدت إلى السماء؟ هل شعرت بخوف؟ العالم كله يعترف ببطولتك، فهل تشعرين أنك عظيمة؟ وأنت جميلة أيضا ورقيقة، فكيف قمت بهذه الرحلة العجيبة؟ وعانقتها إحدى السيدات وهي تلهث قائلة: لم أتصور أنني سأراك بعيني في يوم من الأيام ... لم أتصور أنك امرأة مثلنا من لحم ودم.
ورغم هذا الجو المفعم بالإعجاب لم يبد على فالنتينا أي زهو بنفسها، وظلت ملامحها هادئة باسمة ولم تنس في غمرة الإعجاب بها بقية عضوات الوفد السوفييتي، فقدمتهن واحدة واحدة إلى النساء وقالت بصوت هادئ: لست وحدي، عندنا بطلات من النساء في كل مكان من الاتحاد السوفييتي يكافحن كل يوم من أجل بناء المجتمع.
ولم تتكلم فالنتينا كثيرا بل تكلمت بضع دقائق، ثم أعطت الكلمة لزميلاتها عضوات الوفد، وبدأ الجميع يشترك في الحديث والمناقشة.
وفي اليوم الأخير من المؤتمر صدرت القرارات والبيان الختامي في ورقة وزعت علينا على النحو التالي:
إلى كل النساء وأمهات العالم
جئنا إلى هلسنكي مندوبات عن ملايين النساء من مختلف البلاد؛ لندرس دور المرأة في عالمنا الحاضر. كانت النساء في الماضي يهبن حياتهن لأعمال البيت اليومية، واليوم أصبحن يشاركن في كل ما يجري في العالم وفي كل ما يتعلق بمشاكل بلادهن، وأدركن أن حل هذه المشكلة يرتبط ارتباطا وثيقا بتحقيق الاستقلال الوطني والحرية والسلام، كما يرتبط بحصولهن على حقوقهن السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإن النساء في كفاحهن من أجل التحرير ومن أجل المساواة بالرجل ومن أجل تحقيق حياة أفضل في الاستقلال. إننا نمثل بلادا مختلفة في سياساتها وتنتمي إلى مجتمعات ومعتقدات مختلفة، إلا أننا نتفق جميعا على أن العالم يواجه الآن خطرا يقتضي منا كل جهودنا وتضامننا.
إننا ندين الاستعمار العالمي والإمبريالية العالمية في حربها الوحشية ضد شعب فيتنام وفي لاوس وفي كوريا وفي الشرق الأوسط. إننا ندين إسرائيل ومن ورائها الإمبريالية العالمية في عدوانها على البلاد العربية. إن أكثر من مليوني لاجئ فلسطيني قد طردوا من وطنهم، إننا نؤيدهم في حقهم لمقاومة العدوان وحقهم في العودة إلى وطنهم. إننا نطالب بحقوق الشعب الفلسطيني التي أهدرت، ونؤيد بقوة كفاح الشعوب العربية المحتلة، ونطالب بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الصادرة في 22 نوفمبر سنة 1967. إننا نؤيد كفاح الشعوب الأفريقية في حربها ضد الاستعمار القديم والجديد، ونؤيد كفاح شعب أنجولا وموزنبيق وغينيا البرتغالية ضد الاستعمار البرتغالي، ونؤيد كفاح شعب جنوب أفريقيا وروديسيا ضد نظم التفرقة العنصرية والفاشستية في بلديهما.
إننا نؤيد كفاح الشعب الكوبي ضد أي ضغوط اقتصادية وسياسية وعسكرية. وإننا نؤيد كفاح أي شعوب في العالم من أجل الاستقلال والحرية والسلام، ونؤيد شعب اليونان وإسبانيا والبرتغال وشعوب أمريكا اللاتينية ضد أي قوى فاشستية ديكتاتورية.
إننا نؤيد أي حركة تناضل من أجل القضاء على التفرقة العنصرية في أمريكا وفي أي مكان من العالم. إننا ندين الإمبريالية الأمريكية. إنها هي القوة وراء كل العدوان والحروب في العالم. إنها القوة المؤسسة للأحلاف العسكرية، وإن قواعدها تنتشر في العالم من جوانتانامو إلى قبرص، وفي آسيا وأفريقيا وأستراليا وأوروبا، إنها المسئولة الأساسية عن التسابق إلى التسلح الذي يبتلع ملايين الدولارات ويبتلع الإمكانيات البشرية الطائلة التي يحتاجها العالم أشد الاحتياج للقضاء على الجوع والمرض والفقر والجهل.
دعتني إحدى السيدات الفنلنديات لتناول العشاء في بيتها، وفي سيارتها الصغيرة تجولنا في شوارع هلسنكي النظيفة ومررنا بالغابات الخضراء والبحيرات الصافية كالماء المقطر ... ووصلنا أخيرا إلى بيتها الصغير وسط الشجر والماء، ومن الشرفة وقفت أتطلع، وهواء الليل كان باردا منعشا، وأشعة الليل تسقط على سطح البحيرة الساكن، أشعة بيضاء غريبة تختلط على العين فلا تكاد تعرف أشمسا كان أو قمرا هذا الذي يضيء الكون. لكنها الشمس المعلقة في السماء بالليل.
تجولت في أنحاء الشقة الفسيحة الغارقة في الصمت والهدوء. - تعيشين وحدك؟ - مع ابني. - وزوجك؟ - لم أتزوج.
وسكت لحظة ثم قلت: أهذا شيء عادي هنا؟ - نعم. - وابنك، ما نظرة المجتمع إليه؟ - كأي ابن آخر. إنه يحمل اسمي وهذا شرف له؛ لأني امرأة لي عمل ناجح. - ألا توجد عندكم مشكلة اسمها أطفال غير شرعيين؟ - نحن لا نعرف هذه التسمية، كل طفل يولد هو طفل شرعي. - ولماذا لم تتزوجي؟ - كنت أحبه وأريد أن أتزوجه ولكنه لم يرغب في الزواج مني. - ألم تقابلي رجلا يرغب في الزواج منك؟ - قابلت بعضا منهم، ولكني لم أحبهم. - كأنك لا توافقين على الزواج إلا بعد الحب؟ - هذا شيء طبيعي. - وهل تعيشين الحب الآن؟
ونظرت إلي وقالت: هل وجدت تناقضا بين شخصيتي التي عرفتها في المؤتمر وبين حياتي الخاصة؟ إننا هنا نفصل بين العمل وبين الحياة الخاصة. في ساعات العمل أنا أعطي كل نفسي للعمل، وفي ساعات الراحة والاستمتاع بالحياة أعطي كل نفسي للراحة والاستمتاع بالحياة. أما مسألة الزواج فهذا شيء لا أحدده وحدي وإنما يحدده معي الرجل. والآن دعيني أسألك سؤالا صريحا، ماذا تفعلين لو أحببت رجلا ثم رفض الزواج منك؟ ألا يحدث ذلك أحيانا عندكم؟ - يحدث كثيرا. - وماذا تفعل المرأة عندكم في هذه الحالة؟ - هذا موضوع يطول شرحه. ولكن هذه الحرية موجودة في كل البلاد الاسكندنافية؟ - بالطبع، ولكني أعتقد أن المرأة الفنلندية أكثر تقدما من غيرها، وربما يكون هذا تحضرا، ولكن التاريخ يثبت ذلك؛ فقد كانت المرأة الفنلندية أول امرأة في أوروبا تحصل على حقوقها السياسية، وكان ذلك في سنة 1906.
كان اسمها «ناتاشا»، وهي عضو في جمعية الصداقة العربية الفنلندية، دعتني إليها، والتقيت هناك برجل فنلندي طويل ضخم اسمه أرماس صالنن، وهو رئيس الجمعية وصديق العرب، يتكلم اللغة العربية الفصحى، ويقول إنها أصعب لغة في العالم، ومن بعدها تأتي اللغة اليونانية الفصحى، ثم اللغة الهندية القديمة، وأسهل لغة في رأيه هي اللغة التركية.
وفي الليلة الأخيرة في هلسنكي لم أنم، ظللت أطل على الكون من نافذة غرفتي، الضوء ينتشر في الغرفة طول الليل كضوء النهار.
قبل الفجر أعددت حقيبتي، سأغادر بعد ساعة فنلندة مع مجموعة من النساء، في أول رحلة لي للاتحاد السوفييتي كان المفروض أن أعود إلى القاهرة بعد انتهاء مؤتمر هلسنكي، لكن فالنتينا رائدة الفضاء دعتني لزيارة بلدها، ولم أكن رأيت روسيا من قبل إلا في الروايات وأفلام السينما، وفي ذهني للاتحاد السوفييتي صور متناقضة، بعضها مشرق كضوء الشمس، وبعضها غامض مظلم كالوجه الآخر من القمر.
سمعت كلمة «الاشتراكية» لأول مرة من أبي وأنا في العاشرة من عمري، وحين دخلت المدرسة الثانوية التقيت بفتاة سمراء نحيلة اسمها «سعاد» ناولتني جريدة اسمها «الجماهير»، وفي كلية الطب التقيت بطالب اسمه «يسري» ناولني جريدة اسمها «الجميع»، وكان الطلبة يطلقون على «يسري» اسم «الطالب الأحمر ».
وقبل أن أتخرج في كلية الطب قرأت تولستوي ودوستويفسكي وماركس وإنجلز ولينين وكروبسكايا وبوشكين وجوركي وترجنيف.
وكان دوستويفسكي أقرب إلي من تولستوي، وفردريك إنجلز وكروبسكايا أقرب إلي من كارل ماركس ولينين.
ومن شرفتي ظللت أطل على الليلة الأخيرة البيضاء وهي تنتهي، دهشتي لا تزال كأول ليلة في فنلندة، والليل الأبيض ينحسر عن نهار أبيض ولا أكاد أعرف الليل من النهار إلا بحركة السيارات وظهور الناس في الشارع.
وفي خيالي صورة للاتحاد السوفييتي مضيئة وبيضاء كليالي الصيف في فنلندة. لكنها أيضا كالليل الصامت لا تزال غارقة في السكون الغامض.
الفصل الخامس
أول رحلة إلى العالم الأحمر
ركبنا القطار من هلسنكي إلى ليننجراد، كل أربع نساء في حجرة، وكل حجرة بها أربعة أسرة: اثنان منهما في الدور العلوي، وقفزت بهيجة الأفغانستانية إلى السرير العلوي، وقفزت إلى السرير المقابل وقالت بهيجة: أنت رشيقة جدا، هل تزوجت؟ قلت: نعم، ثلاث مرات، وعندي طفلان، وأنت؟ قالت: عندي سبعة أولاد من زوجين، وضحكت، ثم صمتت طويلا وقالت بعد فترة وفي صوتها حزن: لا زلنا نهدم القيم البالية في مجتمعنا لنبني مجتمعا جديدا يتمتع فيه الناس بالعدالة. لا يمكن أن يهدأ الناس إذا حكموا بالقوة، قد يبدو عليهم الهدوء ولكن إذا ما نبشت السطح وجدت الثورة.
وسمعنا ضجة بممر القطار فقفزنا إلى الخارج ورأينا «روزا» الأرجنتينية تحتضن الجيتار وتغني بالإسبانية: أنا سجين أكسر قيودي وأخرج إلى الهواء. وافترشت أرض القطار من حولها نساء أمريكا اللاتينية ورحن يرددن معها مقاطع الأغنية.
وسرت عدوى الغناء إلى النساء وبدأت كل مجموعة تغني أغنية بلغتها الشعبية، غنت النساء العربيات: والله زمان يا سلاحي، وغنت النساء السوفييتيات كاتيوشا، وغنت أوكيتا وونتي أنتو نشيد شعب فيتنام، وغنت تشارلي الزنجية الأمريكية: وجهي أسود ولكن قلبي أبيض. وعلا صوت النساء على صوت القطار، وارتفعت في الجو أصوات ونغمات بمختلف اللغات واللهجات، واختلطت الألحان العربية بالروسية بالأفريقية بالأمريكية بالإسبانية بالإنجليزية بالفرنسية بالفيتنامية، ووجدت نفسي أردد مع النساء لحنا لا أعرف كلماته ولا أعرف لغته، وأصبحنا مجموعة واحدة من بلد واحد، وتلاشت الفروق الصناعية التي تفصل الإنسان عن الإنسان.
وكانت فالنتينا رائدة الفضاء تجلس وسطنا ولها سرير صغير كسرير النساء، وفي الدرجة الثانية بالقطار أنظر إلى وجهها، وأدهش للبساطة الطبيعية تكسو الملامح الهادئة.
ثم سمعنا صوتا يعلن من ميكرفون القطار أننا اجتزنا حدود فنلندة وأصبحنا في أرض الاتحاد السوفييتي، أخرجت رأسي من نافذة القطار في استطلاع، وفي خيالي لهذا البلد صور كثيرة، بعضها من القراءات والكتب وبعضها أقوال سمعتها. الأقوال المتضاربة تصيب من يسمعها بتساؤل عن الحقيقة، ورغبة في أن يذهب بنفسه ليرى بعينيه ويحكم على الواقع.
وأدرت عيني في كل مكان خارج نافذة القطار، أنظر إلى الشجر والأرض والبيوت وألتقط أي شخص يظهر في شارع أو حقل أو بيت، أدقق إليه النظر رغم حركة القطار، وأنظر إلى ملابسه وحذائه، لماذا الحذاء بالذات؟ ولكن كم سمعت من إشاعات!
وكان كل شيء يبدو كما كان، الأرض هي الأرض والأشجار هي الأشجار والناس هم الناس، ولولا ذلك الصوت الذي أعلن اجتياز الحدود لظننت أننا لا زلنا في فنلندة.
وعدت لسريري لأنام قليلا، ثم استيقظت فجأة على صوت القطار وهو يقف، وهنا بدأت أحس أننا في الاتحاد السوفييتي. كان رصيف المحطة مزدحما بالرجال والنساء والأطفال يحملون الزهور ويرحبون بوفود النساء ويلتفون حول فالنتينا، وأخذت أدقق النظر في الناس. كانوا يرتدون ملابس جميلة وفي وجوههم نضارة وفي عيونهم بريق، وجذبتني وجوه الأطفال النضرة. هؤلاء هم أهالي قرية «لوجيكا» أول قرية سوفييتية على الحدود.
وسارت وفود النساء تتقبل التحيات والزهور إلى استراحة المحطة الفسيحة حيث صفت الموائد، وجلست فالنتينا وسطنا، وبدأت سدادات زجاجات الشمبانيا تتطاير مفرقعة في الهواء، وتطايرت معها الضحكات والقفشات، وأكلت النساء من كل بلاد العالم الكافيار الروسي واللحم والفراخ، وشربن معا أنخاب الصداقة والحرية والسلام.
دخل بنا القطار ليننجراد في منتصف الليل، لكن قرص الشمس كان لا زال في السماء يضيء المدينة الكبيرة بنور أبيض كالنهار، ولمعت في الضوء الأبيض القباب النحاسية الحمراء، وانعكست المباني الضخمة المتشابهة على صفحة نهر نيفا ينساب تحت الكباري ليصب في خليج فنلندة.
ومن خلف النهر تلمع قبة نحاسية من فوق مبنى ضخم غارق في الصمت والنسيان؛ أحد السجون القديمة، وفي إحدى زنزانات هذا السجن عاش دستوفسكي فترة من حياته، ومكسيم جوركي أيضا دخل هذا السجن قبل الثورة الاشتراكية وعاش وراء جدرانه يكتب.
ويواجه السجن على الضفة القريبة من النهر يلمع تمثال مكسيم جوركي منتصبا بقامته الطويلة في الفضاء وقبعته في يده، وعلى مسافة غير بعيدة ينتصب لينين بملامحه الدقيقة وقامته المتوسطة ويده المرفوعة نحو القاعة البيضاء، أول قاعة في روسيا تشهد ثورة الفلاحين والعمال، وعلى كراسيها الخشبية وعلى جانبي الكراسي وعلى النوافذ، جلس العمال والفلاحون الثائرون في يوم 26 أكتوبر سنة 1917، ثم دخل لينين القاعة بخطواته السريعة، وأعلن أول دولة اشتراكية في تاريخ روسيا.
وأخذونا في زيارات للمصانع: أحدها مصنع العلم الأحمر. قالوا إنه من أكبر مصانع النسيج في الاتحاد السوفييتي، يعمل به عشرة آلاف عامل منهم 85٪ نساء، ومدير المصنع شابة أنيقة قدمت لنا مجموعة من السيدات قائلة: هذه سكرتيرة لجنة الحزب في المصنع. وهذه مقررة لجنة الشباب. وهذه رئيسة اللجنة النقابية، كلهن شابات جلسن معنا حول مائدة محلاة بالزهور وزجاجات المياه المعدنية والشمبانيا وأطباق الكافيار الأسود والأحمر والسمك واللحوم، ولا بد لنا أن نشرب الأنخاب في صحة المصنع والعاملات وفي صحة الصداقة والحرية والسلام.
وطفنا بأنحاء المصنع الضخم، واستقبلنا العاملات بابتسامات ووضعن على صدورنا الشارات والنجوم. العمل عندهن ثماني ساعات في اليوم، والإجازات الأسبوعية يومان، الحد الأدنى للأجور للعمال والعاملات 110 روبل في الشهر، والحد الأقصى 200 روبل حسب الإنتاج والمهارات، مديرة المصنع تأخذ 300 روبل في الشهر، بالمصنع ست دور حضانة لجميع أطفال العاملات من سن شهرين حتى السابعة، من حق المرأة العاملة أن تحصل على إجازة وضع وشهرين بعد الوضع، بالمصنع مصيف خاص للأطفال ومعسكرات صيفية للأشبال والشباب في مراحل عمرهم المختلفة من سبع سنوات إلى 28 سنة، بالمصنع مصحة خاصة للراحة ومستشفى، أجر الطبيب 180 روبل في الشهر، وأجر الممرضة 100 روبل في الشهر.
ثم خرجنا إلى ساحة كبيرة تتوسطها شعلة ومن خلفها نصب الجندي المجهول ومقابر 700000 شهيد. اصطفت وفود النساء ومن خلفهن مئات السياح من بلاد العالم يحملون الزهور ويسيرون على أنغام موسيقى تشايكوفسكي، تنبعث هادئة، فيها قليل من الحزن وكثير من القوة، وتتراكم الزهور البيضاء والحمراء عند قدمي الجندي المجهول حيث تلك الكلمات بالروسية:
لن ننسى شجاعتكم وصبركم، لن ننسى الشتاء المظلم وقنابل سنة 1943.
لن ننساكم ولن نستسلم.
وقالت لي صديقتي الروسية «نينا»: أهل ليننجراد صمدوا كالأبطال ولمدة 900 يوم في وجه الحصار النازي، عاشت ليننجراد الحرب ضد الألمان النازيين من سنة 1941 إلى سنة 1945، ومات منها مليون شهيد، وقصفت المدينة بأكملها بالقنابل والمدافع، ولكن انظري، كيف بعثت ليننجراد من جديد! هذا هو إصرار الشعب على الحرية! •••
لم أر بلدا مولعا بالمتاحف كالاتحاد السوفييتي، ليننجراد وحدها بها خمسون متحفا، وكل شيء هنا له علاقة بالتاريخ أو الفنانين يمكن أن يتحول إلى متحف، والفنانون يحظون بتقدير يشبه التقديس، والأدباء والشعراء تتحول بيوتهم إلى متاحف، وتقام لهم التماثيل، وتسمى المدن بأسمائهم. بالقرب من ليننجراد مدينة بوشكين، وتمثال بوشكين أمامنا، وأصغر طفل يعرف أشعار بوشكين.
وكان لا بد من قضاء يوم كامل بمتحف «الهيرميتاج»، ولا يمكن أن ترى لوحات الهيرميتاج في يوم واحد، ولكن يمكنك أن ترى كل لوحات الهيرميتاج في ثمانين عاما إذا ما دخلت المتحف كل يوم بانتظام ولمدة سبع ساعات في اليوم الواحد، حينئذ فقط تستطيع أن ترى كل لوحات المتحف لو وقفت أمام كل لوحة دقيقة واحدة، فكم عدد اللوحات؟
ولم أحاول أن أبدأ بالتجربة، فقد وقفت ساعة كاملة أتأمل تمثال «الولد المنحني» لمايكل أنجلو، وساعة أخرى أمام لوحة حب الأب: لوحة غريبة، فتاة ترضع أباها؛ كان أبوها مسجونا وذهبت لتزوره في زنزانته. لم تستطع أن تأخذ له طعاما، وأشفقت الابنة على أبيها من شدة الجوع ولم تجد أمامها إلا لبن ثدييها فأرضعته.
واحتدم النقاش بين النساء حول اللوحة، أليس هذا حراما؟ وما هو الحرام؟! حبس الأب حتى الموت جوعا؟! أم إرضاع الابنة لأبيها! ولماذا لا يتحول الأب إلى ابن إذا دعت الظروف؟!
ولم أشهد احتفالا كهذا الاحتفال، حديقة القصر الصيفي في ليننجرد تحولت صباح يوم 22 يونيو إلى كرنفال، والقصر الصيفي - متحف الآن - أحد قصور قيصر روسيا قبل الثورة، وقد رأيت قصورا في مختلف بلاد العالم، ولكن ما إن دخلت قصر قيصر روسيا حتى أيقنت السبب وراء الثورة الاشتراكية في روسيا.
حديقة القصر بدت لي كالحلم، أشجار وخضرة وزهور ورياحين وأعناب تجري من تحتها الجداول والنهيرات، تماثيل من الذهب. قباب ذهبية تنبثق من قممها المدببة نافورات مياه لا يمكن عدها ولا يمكن معرفة ارتفاع مياهها. مسرح من الرخام وسط النافورات ترقص عليه فوقة باليه ليننجراد رقصة بحيرة البجع. راقصات الباليه بملابسهن البيضاء يرقصن بين نافورات المياه كحوريات الجنة أو جنيات في الأساطير والحكايات. تمثال شمشون في أحد أركان الحديقة ومن حوله نافورات. وتمثال آدم والتفاحة ومن عرائس الجنة. آلاف من الرجال والنساء والأطفال جاءوا من كل انحاء الاتحاد السوفييتي ومن كل بلاد العالم لمشاهدة كرنفال الليلة البيضاء في ليننجراد، يحملون الزهور ويرقصون على نغمات الموسيقى تنبعث من كل أرجاء الحديقة، ووجوه تتألق بالحيوية وتنقل عدوى الحيوية إلى كل من ينظر إليها، وأتلفت حولي في دهشة: أحلم هذا أم علم! ولا أحاول أن أعرف الجواب فقد اندفعت مع الراقصين على الأنغام.
السفينة اسمها «ترجنيف»؛ باسم الكاتب الروسي المعروف، والنهر هو الفولجا أشهر أنهار الاتحاد السوفييتي، يسمونه نهر الثورة والحب والألحان؛ فهذا النهر يشق الجمهورية التتارية حيث نشأ لينين، وكانت أسرة لينين تعيش في تلك المدينة التتارية الصغيرة على نهر الفولجا، والتي سميت الآن باسم أسرته «أوليانوس».
وحينما وصلت السفينة إلى «أوليانوس» كان نهر الفولجا قد اتسع فلم نعد نرى الضفة الأخرى، وقالوا: إن اتساعه في هذه المنطقة أربعون كيلومترا، وكان المطر ينهمر بشدة، وتغير الجو فجأة فأصبح باردا شديد البرودة، ورغم ذلك رأينا أهل أوليانوس ينتظروننا على شاطئ النهر يحملون الشماسي والزهور، والموسيقى تعزف الأناشيد.
ونزل موكب النساء من السفينة وانهالت علينا الزهور والورود والتحيات والقبلات . لم أكن أتصور أن الشعب السوفييتي ينطوي على هذه الحرارة والعواطف، أو أن النساء لهن كل هذه المنزلة عند أهل التتار.
وكما يحدث في كل استقبال ذهبنا إلى حيث الموائد، وطارت سدادات الشمبانيا مفرقعة في الهواء، وأكلت النساء الكافيار والسمك واللحوم، وشرب الجميع نخب الصداقة والحرية والسلام، ثم ارتفعت الكئوس مرة أخرى وشرب الجميع نخب رئيس الطباخين الذين صنع مع زملائه الطباخين الأطعمة التي أكلناها، «يونس أحمد» وهذا هو اسم رئيس الطباخين (أهل التتار مسلمون وأسماؤهم عربية)، رفع كأسه ورد على التحية بكلمة شكر، ثم جلس إلى مائدته بجوار نائبة رئيس الوزراء التتارية والوزراء وأعضاء الحزب، وبعد الطعام وقف الجميع وأنشدوا أنشودة الوطن، ثم بدأت الموسيقى تعزف الألحان الراقصة، وانخرط الجميع في الرقص والغناء، رأيت نائبة رئيس الوزراء تعزف على البيانو، ووزيرة التضامن الاجتماعي ترقص، ووزير التعليم يشترك في حلقة الرقص مع النساء، ولا شيء يبدو غير طبيعي، ولا أحد يبدو أنه يختلف عن الآخرين، الكل مرح وعلى الوجوه تعبير بالاطمئنان.
ثم سرنا في شارع «أوليانوس» حتى دخلنا بيتا صغيرا من الخشب، وجعلونا نرتدي فوق أحذيتنا أحذية خفيفة مصنوعة من القماش. وهذا نظام يتبع قبل دخول أي متحف للمحافظة على الأرض من ملايين الكعوب المدببة وغير المدببة التي تفد من أنحاء العالم، وبيت لينين في أوليانوس أصبح متحفا يزوره كل يوم آلاف السياح، وصعدت السلم الخشبي الصغير الذي يقود إلى حجرة نوم لينين، حجرة صغيرة بغير باب يفصلها عن السلم، وسرير معدني صغير إلى جواره منضدة عليها كتب محفوظة وراء الزجاج، وقرأت عناوين الكتب: رأس المال لماركس، تاريخ الماركسية في روسيا لباروفسكي، أصل العائلة لفرديك إنجلز، وكتب أخرى في القانون والاقتصاد والفلسفة، ولمبة جاز فوق المنضدة لها سلك كهربي، تعمل بالكهرباء، وإذا انقطعت الكهرباء تعمل بالجاز. وبعد حجرة لينين حجرة أخيه ألكسندر الذي أعدم شنقا وهو في الحادية والعشرين من عمره؛ لاشتراكه في مؤامرة لقتل القيصر، وحجرة أمه والبيانو كانت تعزف عليه لأطفالها الستة، وحجرة أخته «أنا» التي حبست ونفيت ، الكرة الأرضية «اللعبة» التي كانت تلعب بها أختاه الصغيرتان.
ونطوف بالبيت الصغير نستمع إلى شرح المترجمة الروسية، كل ركن في البيت له قصة ولكل قطعة أثاث دور في حياة أسرة لينين. وأنظر من خلال نافذة حجرته الزجاجية فأرى فروع شجرة صغيرة تتدلى على الحائط، أتخيله واقفا وراء النافذة نفسها يطل على الشجرة نفسها وذهنه شارد، مشغول بالأفكار التي دخلت رءوس العمال والفلاحين في روسيا وأشعلت أول ثورة اشتراكية. ومات لينين سنة 1924 لكنه ظل حيا في كل مكان بالاتحاد السوفييتي؛ تماثيله في كل قرية وكل مدينة، وكلماته محفورة على الحجر، وكتبه وأقواله تكاد تكون محفوظة، حتى جسده الميت لم يدفن ولم يتحول إلى تراب ككل أجسام البشر، وإنما ظل محفوظا في مقبرته في الميدان الأحمر بموسكو.
وهذا هو شارع مكسيم جوركي. وهذا هو متحف جوركي، ودخلنا بيتا صغيرا من الخشب في أحد شوارع أوليانوس، وارتدينا الأحذية القماش، وهبطنا بضع درجات مظلمة فأصبحنا في البدروم، وهو المخبز الذي عمل فيه جوركي فترة من حياته، ورأينا الفرن والمنضدة الخشبية التي يوضع عليها الخبز، وتحت الطاولة على الأرض الإسمنت كان ينام جوركي ويثني جسمه الطويل تحتها، وفي الحائط علقت لمبة جاز كان يقرأ على ضوئها. الكتب كان يحصل عليها من صاحب المخبز، وصعدنا إلى صالة واسعة على جدرانها لوحات كثيرة تصور حياة جوركي. كان حمالا. وهذه صورته وهو يحمل الأثقال، واشتغل عند امرأة في حانة، وحرضته المرأة على السرقة فضربها وخرج، وهذه صورته وهو يبيع الخبز. وهذا تمثال لخنازير تأكل الخبز وجوركي لا يأكله. رفضته جامعة كازان لفقره، وانضم إلى خلية واحدة مع لينين، وتتوالى اللوحات والتماثيل تحكي قصة كفاحه.
ثم ركبنا السفينة الكبيرة، سبحت بنا على نهر الفولجا واللحن السوفييتي «بحار الفولجا» تدندن به «زوبا» عضو الاتحاد النسائي السوفييتي، يشبه في بعض مقاطعه لحن النيل نجاشي «هيلا هوب هيلا»، واشتركنا كلنا في الغناء، وكان الجو قد بدأ يصفو، وسطعت الشمس وخلعت النساء المعاطف وملابس الشتاء وارتدين ملابس الصيف والربيع.
وفي مدينة كازان استقبلنا بالموسيقى والزهور وموائد الطعام والشراب، وقيل لنا إنه لم يحدث من قبل أن زار الاتحاد السوفييتي كل هذه الوفود من النساء. كان الاستقبال حارا والاحتفاء بنا أكثر من تصوراتنا. وكما يحدث في كل بلد طفنا بالمتحف والمسارح، ووضعنا الزهور على النصب التذكاري للجندي المجهول، وزرعنا شجرة في طريق الصداقة، ووقفنا أمام تمثال «عبد الله تقي» شاعر التتار، وتمثال «موسى جليل» بطل التتار المقيد بالحبال، وبرج سيوميبكي المائل. وفي متحف كازان رأينا العربة الحنطور التي ركبتها كاترين الثانية، والقرآن باللغة العربية داخل برواز زجاج، وملابس التتار الشعبية مطرزة بشكل يشبه ملابس نساء فلسطين، وطاقية الرجال كطواقي العرب، واللغة التتارية القديمة تشبه في حروفها اللغة العربية، وأسماء التتار تشبه أسماء العرب، ودينهم الإسلام أيضا.
وفي قسم من المتحف رأينا أنواع سمك الفولجا، سمك «بيروجا» ويستخرج منه الكافيار الأحمر، وسمك أميوترا ويستخرج منه الكافيار الأسود، وقسم لصناعات التتار والترول، وأجهزتهم الحديثة وخاصة في مجال الطب: جهاز الكلى الصناعية وأجهزة جراحة الرئة الحديثة.
وجامعة كازان لها تاريخ طويل، درس بها تولستوي، وفي كلية الحقوق درس لينين، ودخلت النساء إلى القاعة التي كان يدرس بها لينين، وتنافسن على الجلوس على المقعد الخشبي الذي كان يجلس عليه في مؤخرة الفصل، وأمام الجامعة تمثال لينين وعمره سبعة عشر عاما.
وقضينا اليوم الأخير في كازان مع الأطفال، والأطفال في الاتحاد السوفييتي طبقة مميزة تحظى بالاهتمام، زرنا مركزا لرعاية صحة الطفل، وقالت لنا طبيبة المركز بعد أن طفنا بأنحاء المكان: وفيات الأطفال هنا 2 في الألف وكانت قبل الثورة 342 في الألف، والنساء هنا يلدن بالمستشفيات، وقبل الثورة كان 4 فقط من النساء يلدن بالمستشفيات.
وزرنا دار الحضانة، واستقبلنا الأطفال بالزهور والأناشيد، وفي معسكر الأشبال استقبلنا بالعيش والملح، وأكلنا العيش والملح كرمز للصداقة والحب، وقبل أن نودع الأطفال وقفوا في حديقة معسكرهم الواسعة وأنشدوا أنشودة الأطفال السعداء، ومسحت بعض النساء دموعهن وهن يودعن الأطفال ويطبعن على خدودهم الحمراء قبلة الوداع.
حين وصلنا إلى القاعة الفسيحة في فندق «روسيا» في موسكو التقيت بعدد من الأدباء العرب والمصريين، وكانوا في طريقهم إلى مؤتمر الكتاب في طشقند.
وفي الصباح وصلتني باقة ورد ورسالة تدعوني لحضور مؤتمر الكتاب في طشقند. انفصلت عن وفود النساء ووجدتني وحقيبتي داخل طائرة الأدباء، قطعنا المسافة بالطائرة بين موسكو وألماتا «عاصمة كازاخستان» في خمس ساعات ونصف ساعة، هبطنا إلى مطار ألماتا، ولفحت وجوهنا نسمة الصيف الحار، يشبه صيف مصر، وطالعتنا وجوه أهل كازاخستان بأنوفهم الفطساء وعيونهم المستطيلة المسحوبة إلى أعلى كعيون أهل الصين. لا يفصلهم عن الصين إلا الجبل العالي تغطي قمته الثلوج البيضاء، وتنمو على سفحه الأشجار والخضر والفواكه، يزرعون الجبل هنا، ويصنعون من الثلوج الذائبة فوق القمة أنهارا وبحيرات صناعية، ويحولون مجرى الأنهار الطبيعية في سدود عالية تصنع الكهرباء، وهؤلاء هم أهل كازاخستان الذين أرسلوا خبراءهم إلى أسوان واشتركوا مع المصريين في بناء السد العالي.
وكان رئيس اتحاد الأدباء يتقدم الوفد الذي استقبلنا في المطار بالزهور، ومن المطار إلى الاستراحة إلى المائدة رصت عليها زجاجات الفودكا والكونياك والشمبانيا والنبيذ، وأطباق الكافيار والسمك والفراخ واللحوم، وعلى المائدة تلقى كلمات الترحيب، ونشرب نخب الصداقة بين شعوب آسيا وأفريقيا، ونخب أولادنا الذين ولدوا والذين لم يجيئوا بعد. يحبون الأولاد، ولا يحددون النسل، بل يمنحون مكافآت للأم التي تلد أطفالا من بعد الطفل الرابع، وشربنا مرة أخرى نخب أطفالنا الذين لم يولدوا بعد، وارتفعت الضحكات والقهقهات، وزالت الكلفة بين الكاتب الهندي والمصري والجزائري والسوداني والروسي والأفريقي، وأصبحنا جميعا أهل وطن واحد: الأدب والفن.
ورأيت على المائدة دورقا كبيرا مليئا باللبن، وصب لي «يوري بروفيتش» (رئيس اتحاد الأدباء في موسكو) كأسا من اللبن، ما إن أخذت منها رشفة حتى لسعت حلقي بالحامض وضحك يوري قائلا: لبن حصان، مفيد للصحة وبه 5 في المائة كحول.
وسألت: أتشربون لبن الحصان؟
وسألني: أتشربون لبن البقر؟
ما الفرق بين لبن الحصان ولبن البقر؟
ومددت يدي إلى طبق به قطع مشوية من اللحم، وأكلت بشهية قطعة لحم وجدت لها طعما لذيذا، وقلت لجارتي «لاريسا» المترجمة الروسية: «لحم لذيذ».
وقالت لاريسا : جدا . إنه لحم الحصان.
وأخفيت دهشتي وارتفعت مرة أخرى الأيدي بكئوس لبن الحصان يشربون نخب الفن والصداقة، فرفعت كأسي معهم وشربت لبن الحصان. •••
صعدت بنا السيارة الطرق المتعرجة فوق الجبل ويسمونه هنا باسم «القمة الخضراء»، الأشجار والخضروات تتخللها جداول الماء الذائب من فوق القمة، السيارات في مكان من الجبل، وأقبل علينا جمع من المزارعين يتقدمهم رئيس المزرعة الجماعية، رجال يرتدون البدل، وقادونا إلى داخل المزرعة حيث رأينا مائدة طويلة عليها الأطعمة كالعادة، وإلى جوارها حمام سباحة، وكان إغراء الماء شديدا في ذلك الجو الحار فنزل بعض الكتاب وسبحوا في الماء ثم تمددوا تحت الشمس.
وتجولنا في المزرعة مع المزارعين ومعنا مرشد يقول: تتكون مزرعتنا من ثلاث قرى يبلغ تعدادها 6500 شخص من قوميات مختلفة عددها 29 قومية، مساحة المزرعة 8000 هيكتار (32000 فدان)، يربى بها 28000 من الماشية، منها 7500 حصان، عندنا آلات الزراعة الحديثة وماكينات ومصانع مرتبطة بالإنتاج، وثلاثة مستشفيات، وأربع مدارس، وثلاث دور حضانة، ومعامل كيماوية وأبحاث، ربح المزرعة يوزع على المزارعين بعد دفع حصة الحكومة، والدولة هي التي تدفع أجور الأطباء والممرضين والمدرسين والإخصائيين الزراعيين والكيماويين.
أجور المزارعين تتفاوت حسب عملهم وإنتاجهم، لكل أسرة بيت وحديقة يزرعها رب الأسرة لنفسه وأولاده، العمل في مزرعتنا ثماني ساعات في اليوم، وأجر المزارع العادي 90 روبل في الشهر، الذي يربي الحيوانات يحصل على 120 روبل في الشهر، والذي يعمل على الآلات يحصل على 300 روبل في الشهر. نجحت فكرة المزرعة الجماعية عندنا بعد أن تدرب الفلاحون على العمل الزراعي الجماعي، وبعد أن تغيرت القيم وتخلصوا من نزعة الملكية، الحديقة والبيت والسيارة ملكية خاصة، ولكنها ملكية لا تستغل أحدا، الأنانية والطمع يزدادان بازدياد الملكية، نحن نبني إنسانا اشتراكيا له قيم جديدة أساسها العمل الجماعي والتعاون مع الآخرين والحصول على الرزق بقدر العمل والإنتاج، الفرد منا يطمئن إلى مستقبله ومستقبل أولاده. لا نشعر بقلق أو خوف من مرض أو عجز أو شيخوخة، الدولة ترعى كل هذا. لا نحمل هموم تربية أولادنا والإنفاق عليهم؛ فالدولة رفعت عنا هذا العبء. كل شيء متوفر لأطفالنا بالتساوي، والمرأة عندنا كالرجل، تعمل في أي عمل وتقود الجرار وآلات الزراعة وتأخذ حقها في الأجر ولها حقوقها الاجتماعية والسياسية كالرجل. لا توجد عندنا مشكلة اسمها أطفال غير شرعيين، كل طفل يولد هو طفل شرعي، يأخذ اسم الأب أو اسم الأم وله كل الحقوق، الناس عندنا يتزوجون عن حب، وروابط الأسرة قوية والطلاق ليس سهلا وله إجراءات ونظام معين. لينين هو مؤسس الاشتراكية في بلدنا ولكنه لم يكن وحده؛ كان معه أبطال كثيرون من شعبنا، نحن لا نحب الطقوس التي تقدس أي فرد مهما كان، ونكره من يقدسون لينين أو ماركس، نريد أن نحرر الناس من طقوس العبودية، عندنا حرية رأي في إطار الماركسية اللينينية، ولا نريد أن يكون للفكر الحر أي إطار مهما كان، قضينا على الجهل والخرافات والأمية، أصبحنا ثاني دولة في العالم بعد خمسين سنة فقط، حققنا الاشتراكية في مجتمعنا. أما الشيوعية فلا نزال بعيدين عنها كثيرا وبيننا وبينها سنوات طويلة. لن نصل إلى الشيوعية إلا بعد أن نحقق وفرة في إمكانياتنا المادية ونغير تفكير الناس بحيث يمكن تطبيق مبدأ «من كل حسب طاقته إلى كل حسب حاجته»، تغيير تفكير الناس هو أصعب شيء. •••
على باب الجامع طلبوا منا أن نخلع أحذيتنا، وضعت حذائي بجانب أحذية الرجال المتراصة أمام الباب. لم يطلب أحد مني أن أغطي شعري أو أرتدي الحجاب، خطوت داخل الجامع وأنا رافعة رأسي كالرجال.
منذ الطفولة وأنا أكره التفرقة بين إنسان وإنسان، أو بين البنت والولد، وعلمني أبي الصلاة وأنا طفلة في السابعة، وحين أرى أخي يصلي دون أن يغطي شعره مثلي أتساءل: لماذا يفرض الحجاب على البنت؟ ويقول أبي: إن الحجاب يخفي مفاتن المرأة عن أعين الرجال، وأسأل أبي: ولكني أصلي في الغرفة وحدي ولا يراني إلا الله، وهل من المفروض أن أخفي مفاتن شعري عن الله وهو يراني في كل لحظة حتى وأنا داخل الحمام؟ ويقول أبي: تغطية شعرك أثناء الصلاة احترام لله وليس إخفاء للمفاتن.
وأسأل أبي: ولماذا لا يغطي أخي شعره أثناء الصلاة، وأنت أيضا لا تغطي شعرك، فهل احترام الله أثناء الصلاة مفروض على البنات والنساء وليس مفروضا على الرجال؟!
ولم يكن أبي يجد الإجابة على أسئلتي وأنا طفلة، ولم أكن أكف عن الأسئلة، ولم يكن أبي يمنعني عن التساؤل عن أي شيء. لكنه كان حين يعجز عن الإجابة يقول لي: هناك حكمة في هذا لا يعلمها إلا الله.
ولم يكن عقلي وأنا طفلة يقتنع بهذا الرد من أبي.
ورأيت عددا من الرجال راكعين يصلون، وسمعت صوت الإمام يرتل القرآن باللغة العربية كأي فقيه عربي:
يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول .
وبعد انتهاء الصلاة نظر إلي الرجال بدهشة؛ فالجامع لا تدخله النساء، وذهبت إلى الإمام الكازاكي وقلت له: الدين الإسلامي لم يمنع النساء من دخول الجوامع.
وقال: ونحن لا نمنع، ولكننا غير متعودين على ذلك. - أنت تعرف اللغة العربية. - لا أعرفها. - ولكني سمعتك ترتل القرآن باللغة العربية. - إنني أحفظ بعض الآيات فقط. - ألم تدرس القرآن باللغة العربية؟ - لا، لا يوجد عندنا القرآن إلا باللغة التركية. - أيأتي إلى الجامع كثير من الناس؟ - لا، ولكن معظم أهل كازاخستان مسلمون وأسماؤهم عربية. - هل يتزوج الرجال المسلمون هنا بأكثر من واحدة؟ - لا، الإسلام في نظري لا يبيح الزواج بأربع؛ قال الله سبحانه وتعالى:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ،
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم . لقد أقر الإسلام استحالة العدل؛ وبالتالي فقد أقر عدم الزواج بأكثر من واحدة. •••
الفنانون في كازاخستان طبقة مميزة كالأطفال والعلماء ورجال الحزب، وفي الساعة السابعة مساء ينطلق الناس من بيوتهم إلى المسارح وقاعات الموسيقى وعروض الباليه والرقص الشعبي والغناء، وفي الليلة الأخيرة في «الماتا» جلسنا نستمع إلى بلبل كازاخستان «ببي بول»، وهي شابة جذابة لها عينان سوداوان وشعر أسود وملامحها تشبه المصريات، وغنت ببي بول على نغمات «الدومبرا» وهي آلة موسيقية شعبية تشبه العود في شكلها وأنغامها وطريقة العزف عليها.
وبعد الغناء قدمنا الزهور كعادة السوفييت إلى المغنية ، وجلست معنا ببي بول إلى المائدة، وشربنا نخب صوتها الجميل، وكانت تتقبل الإعجاب والتهاني ببريق خاطف في عينيها يشبه الدموع وسألتها: هل رأيت القاهرة؟
وقالت بلغتها الكازاكية بضع كلمات لم أفهمها.
وترجم «عبد الكريم» - أحد كتاب كازاخستان - كلماتها من الكازاكية إلى الروسية، وترجمت «ماتاشا» الكلمات الروسية إلى الإنجليزية، وأخيرا استطعت أن أفهم ما الذي قالته، قالت إنها رأت القاهرة وقابلت أم كلثوم وأنها أحبت صوتها حبا شديدا. •••
سافرنا بالطائرة ذات الأربعة محركات من الماتا إلى طشقند (عاصمة أزبكستان)، وكان الجو صحوا ودافئا والشمس كشمس مصر، والملامح أيضا تشبه ملامح مصر، ولهم عادات المسلمين وبعض طباعهم، والفلاحون في المزارع الجماعية يرتدون طاقية تشبه طاقية العرب، ولولا اختلاف اللغة لظننت أنني في مصر. وطفنا بمتاحف المدينة وتماثيلها ودخلنا قاعات الموسيقى والمكتبات والمسارح ومعاهد الأبحاث والمصانع ودور الحضانة والمستشفيات ومعسكرات الأشبال والشباب، وقال لنا المرشد إنهم زرعوا الجبل بالغابات، واستخرجوا المعادن من باطن الأرض، وبعد سنتين فقط ستنتج أزبكستان وحدها 70٪ من ذهب الاتحاد السوفييتي، وأحدثوا طرقا جديدة في الزراعة، أنزلوا المطر الصناعي في بعض المزارع الجماعية، وانتخبوا أنواعا جديدة من الفواكه، عندهم الآن 1200 نوع من العنب فقط، وعندهم 26 معهدا لأبحاث الفواكه فقط، وينتجون كل أنواع المشروبات والنبيذ.
ثم أخذونا إلى مائدة طعام نصبت بجوار البحر، يشبه بحر الإسكندرية. لا أرى الشاطئ الآخر وإن أطلت التحديق. لكنه بحر بلا أمواج كبحيرة قارون في الفيوم، وقالوا لنا إنه إحدى البحيرات الصناعية في أزبكستان.
وارتدى بعض الأدباء بدل السباحة وقفزوا إلى الماء، واتكأ الأديب السوفييتي «سوفرونونف» على كتف زوجته وراحا يغنيان معا أغاني موسكو، ورقصت «ناتاشا» رقصة طشقند الشعبية.
وأمسك الأديب الهندي «ملك راج أندند» بيد «لاريسا» وراح يقرأ لها الكف، واستطعت أن ألتقط جزءا من الحوار دار بينهما.
لاريسا :
ماذا ترى في كفي يا دكتور ملك؟
دكتور ملك :
لك زوج تحبينه، وطفلان.
لاريسا :
قلت لك ذلك من قبل عدة مرات.
دكتور ملك :
على العموم خطوط كفك تؤكد لي أنك قلت الصدق.
لاريسا :
وماذا عن مستقبلي في الأدب؟ (ودقق دكتور ملك في كفها لحظة.)
دكتور ملك :
خط القلب يدل على أن قلبك نقي. (وسكت لحظة يفكر بعمق.)
دكتور ملك :
قلبك نقي يا لاريسا، أنقى من أن يدرك شرور الحياة؛ ولذلك لن تصبحي كاتبة أبدا في يوم من الأيام.
وكان الكاتب السوداني «محمد سليمان» يتحدث بحماس إلى المترجم الروسي عن ثورة السودان.
والأديب الجزائري «مولود مامري» قد نسي «المايوه» في الفندق وراح يحملق في الماء طويلا، ثم ألقى بنفسه في البحر بملابسه. أما «يوري بتروفيش» فقد أمسك بأسياخ الكباب الساخن وراح يأكل بشهية وحماس ثم وقف على رأس المائدة وطلب أن يشرب الجميع نخب الصداقة السوفييتية العربية، وتسابق الجميع إلى رفع الكئوس، وأنشد شاعر طشقند باللغة الأزباكية أبياتا من الشعر.
وفي طريق العودة كان هناك لحن خافت ينبعث من مكان ما، وعلى جانبي الطريق أشجار وجداول مياه وبحيرات يستحم فيها أطفال ومبان تنشأ وطرق، وقبل أن تنحرف بنا السيارة إلى داخل المدينة رأيت امرأة تقود وابور زلط وترصف الطريق ولوحت لها من وراء الزجاج فاقتربت من السيارة وهي تقود وابور الزلط، رأيت وجها مرهقا ملوحا بالشمس وغارقا في العرق.
وسمعتها تقول شيئا بصوت غاضب، وترجمت لاريسا كلماتها. كانت المرأة تقول: أيها السياح لا تنظروا إلي «كالثور» في حديقة الحيوان، ولا تصدقوا أن المرأة تساوت هنا مع الرجل؛ فأنا أعمل في الشارع وفي البيت. •••
ركبت الطائرة إلى موسكو. لم أر موسكو بعد، وربما يكون ذلك أمرا معكوسا؛ فالناس تدخل البيوت من أبوابها وتدخل البلاد من عواصمها، ولكن قد يدخل الإنسان إلى البيت من النافذة.
وأزحت الستارة الشفافة عن النافذة الزجاجية العالية، في أعلى طابق فندق «روسيا» الضخم، فإذا بالميدان الأحمر يمتد فسيحا تحت عيني، وقباب الكرملين الذهبية تعلوها النجمة الحمراء اللامعة، والكنيسة المهجورة القديمة تحوطها السقالات؛ حيث تجري الترميمات استعدادا للاحتفال بمرور مائة عام على مولد لينين، وفي مواجهة الكنيسة ترقد مقبرة لينين المربعة الحمراء، ومن خلفها مقابر الشهداء ملاصقة لجوار الكرملين، ومن وراء سور الكرملين العالي يجري نهر موسكو صامتا إلا من لحن خافت لا أكاد أسمعه، وكنت مرهقة ولكني شعرت برغبة في أن أتجول في شوارع موسكو بالليل، ولبت رغبتي في السير صديقة روسية اسمها «فيرا» تعرفت عليها.
اخترقنا الميدان الأحمر وسرنا بحذاء النهر. كان الليل دافئا، وأسراب الشباب تنساب مع لحن الليل الهادئ، ثنائية أو على شكل مجموعات صغيرة، تدندن أو تغني أو تلتف بعضها حول البعض وترقص على اللحن الروسي القديم: «تلك كانت الأيام يا أصدقائي التي ظننا أنها لن تنتهي، كنا نرقص ونغني إلى الأبد ونحارب وننتصر؛ لأننا كنا في شباب العمر، تلك كانت هي الأيام يا أصدقائي.»
وعلى المقاعد الخشبية بحذاء النهر كان هناك فتيان وفتيات يتبادلون العناق والقبل، الشباب هم الشباب في كل أنحاء العالم لا شيء يحول بينهم وبين تبادل العناق والقبل.
ثم عدنا إلى الفندق وجلسنا في البهو الكبير المزدحم بالناس. فندق «روسيا» هو ملتقى الوفود والمؤتمرات العالمية، وجوه كثيرة متعددة الجنسيات، وأصوات بمختلف اللهجات واللغات، وملابس وأزياء من كل نوع، أمواج من البشر، رجال يحملون الحقائب الجلدية وأوراق المؤتمر الاقتصادي، شباب يعلقون شارات المؤتمر الرياضي، ممثلات ونجوم سينما تحوطهم العدسات والأضواء، وفود النساء وطرقعات الكعوب الرفيعة، مندوبو الصحافة يهرولون وراء الشخصيات المعروفة.
وهذه مجموعة من المشايخ يرتدون القفاطين والعمم، يسيرون بخطوات بطيئة حاملين في أيديهم السبح والكتب السماوية، واستطعت أن أشق طريقي إلى شيخ معمم سمعته يتكلم اللغة العربية، اسمه الشيخ ضياء الدين، ويسمونه في الاتحاد السوفييتي باسم بابا خانوف، وهو مفتي المسلمين بآسيا الوسطى وكازكستان، درس الإسلام في طشقند على يد والده، ودرس بالأزهر بالقاهرة منذ سنين.
وسألته إلى أين تذهب؟ قال: إلى مؤتمر الأديان الذي يعقد الآن، ويحضره رجال الأديان من الاتحاد السوفييتي ومن جميع أنحاء العالم، مسلمون ومسيحيون وبوذيون وغيرهم، سيعقد المؤتمر في مدينة زافورمنسك ويشرف عليه صاحب القداسة بطرق موسكو وعموم روسيا، وأنا أيضا بصفتي مفتي المسلمين بآسيا الوسطى وكازكستان. قانون الحكومة عندنا ينص على حرية الأديان وممارسة الشعائر الدينية، سأقدم بحثا في المؤتمر عن مشكلة النزاع في الشرق الأوسط.
وجاء اليوم الأخير في الرحلة، واقترحت «فيرا» أن أزور مقبرة لينين. كنت أرى الطابور الطويل كل يوم في الميدان الأحمر، وحرس المقبرة بزيهم الرسمي يسيرون بخطى بطيئة، وعند كل دقة ساعة يؤدون التحية.
منذ الطفولة وأنا أكره الطقوس العسكرية والدينية، وحركات الجسم تبدو لي ميكانيكية، وأكثر ما كنت أكره منظر الجنود وهم واقفون بغير حراك كأعمدة النور.
لكني هبطت ذلك الصباح من غرفتي إلى البهو الكبير ثم سرت نحو الميدان الأحمر. كان الطابور أمام المقبرة طويلا، وفكرت في العودة إلى الفندق، لكن الاستطلاع جعلني أنتظر، لا بد أن هناك شيئا يستحق الرؤية طالما أن هذه الأمواج من البشر تأتي كل يوم وتنتظر بالساعات لحظة الدخول.
كان الطابور يتقدم ببطء شديد، وشمس يوليو فوق الرءوس، والعرق في الملابس، ولا أحد يتخلى عن مكانه في الصف، كطابور يوم القيامة والسير على الصراط المستقيم، لكن نار جهنم ليست تحت أقدامنا، وإنما هي فوق رءوسنا، ومن فوقها قباب الكرملين تعلوها النجمة الحمراء.
أخيرا وجدت نفسي على عتبة المقبرة، ولفحت وجهي نسمة باردة مكيفة، سرت بخطوات بطيئة وراء السائرين، ورأيت لينين راقدا داخل غرفة زجاجية، يسقط على وجهه ضوء أحمر خافت يخفي شحوب البشرة ويكسبها لونا ورديا صناعيا، العيون شاخصة نحوه في خشوع كالصلاة الصامتة.
قشعريرة كالموت تزحف على جسمي، كأول مرة دخلت مشرحة كلية الطب ورأيت جسدا ميتا كأول مرة رأيت المومياء المحنطة في التابوت القديم.
وقلت: التحنيط علم عرفه قدماء المصريين منذ خمسة آلاف عام.
وقالت «فيرا»: كان «لينين» عظيما.
وقلت: نعم، ولكني أكره الوثنية وعبادة الأجساد المحنطة.
الفصل السادس
إيران قبل الثورة
كانت رحلتي الأولى لإيران (في نوفمبر 1968) رحلة علمية طبية، محصورة داخل جامعة طهران، أجلس وسط أعضاء المؤتمر الأطباء، أسماؤهم وألقابهم معلقة فوق صدورهم، أستمع إلى أوراق طويلة مكررة عن الصحة والمرض، ثم أخرج من الجامعة لتحملني عربة خاصة تسير بي في طريق واحد مستقيم يوصلني إلى حجرتي الصغيرة بالفندق. وهذه الحياة العلمية البحتة لا أطيقها خاصة وأنا خارج الوطن؛ فالعلم ليس هدفي الوحيد حين أسافر؛ فالعلم يمكن أن يحصل في الجامعات المصرية أو في المكتبات أو في بيت، وليس من الضروري أن يسافر الإنسان إلى بلد آخر ليقبع بين جدران جامعته ويتلقى العلم. أما المعرفة وهي شيء آخر غير العلم فتقتضي أول ما تقتضي الفرار من بين جدران الجامعات والمكتبات إلى الحياة والناس والشوارع، ومن هنا تكون للسفر أهمية كبيرة.
ورغم انحصار مهمتي داخل جامعة طهران ورغم إدراكي الشديد لانعدام الرغبة في كثرة الحركة والتنقل هنا وهناك، ورغم تلك المحاولات التي تحدث في كل بلد تقريبا، والتي تشد الأجانب والسياح شدا إلى الواجهة المطلية من البلد سواء كانت أحجارا أو أشخاصا تحجروا في الوضع الذي صنع لهم، يرددون صدى الأصوات كالقباب الأثرية الخاوية.
لم أكن أعرف تماما إلى أين أنا ذاهبة، لكني رأيت بناء كبيرا مواجها لهذا الجامع كتب على بابه بالفارسية: «دانشكدة أدبيات» ومعناها كلية الآداب، وقلت لنفسي: لعل هذا هو الباب إلى الأدب الفارسي، ودخلت وسألت عن أفضل أديب في إيران، فقالوا لي إنه عميد الكلية، فاشتريت كراسة جديدة وذهبت للقائه في مكتبه الفاخر، وجلست معه نصف ساعة لم أدون في الكراسة كلمة واحدة عن الأدب، ثم خرجت مسرعة من الباب الخلفي للجامعة، وبهذا تفاديت باب العربة الذي يتصيدني بعد انتهاء المحاضرات لأحمل كالوديعة الثمينة إلى الفندق.
كان المطر قد بدأ ينهمر فدخلت إلى مطعم صغير تفوح منه رائحة «الشيلو كباب»، وكانت الموائد مكتظة برجال ونساء أمامهم أطباق كبيرة كالصواني عليها أسياخ الكفتة المصنوعة من أصناف متعددة من البقول والخضر ولحم الخروف؛ فالخبز الإيراني الكبير كالفطير المشلتت والبصل واللفت الأحمر. وجلست إلى جوار مجموعة من الشباب يختلف عن الشباب الذي رأيته داخل الجامعة؛ فالملامح أكثر خشونة، والشعر مقصوص، وفي عيونهم نظرة متحفزة فيها سخط وفيها غضب، وأنا أحب هذه النظرات في الإنسان أحيانا، فكأنما خلق الإنسان في نظري ليثور ويغضب، ولعلها نظرة خلفها لي عمر عشته في ظروف تقتضي دائما السخط والغضب والثورة .
وتآلفت بسرعة مع هذه العيون، وكان بينهم فتاة اسمها «ماني» شعرها أسود قصير وعيناها سوداوان لامعتان، ووجدتني أشاركهم الحديث وكانوا - لحسن الحظ - يلمون بشيء من الإنجليزية، وكنت أنا قد تعرفت على بعض الكلمات الفارسية، ودار بيننا حوار وعرفت منهم الطريق إلى إيران الحقيقية والشعب الإيراني الحقيقي، وعرفت أيضا كيفية الوصول إلى أديب إيران الأول الذي يتلقف الناس كتبه ويحفظون كلماته وينتظرون مؤلفاته الجديدة.
رغم كل ذلك استطعت أن أجد طريقا للهروب، وكان ذلك هو طريق الأدب. والأدب في حياتي ليس كالأدب في حياة الأدباء الشرعيين الذين يمارسون الكتابة والذين يتقاضون رواتب ويأكلون ويشربون ويسافرون إلى الخارج من أجل أن يكتبوا أدبا، لكن الأدب في حياتي شيء غير رسمي، شيء غير معترف به وسط الأطباء كالطفل اللقيط، أمارسه في الليل بعد أن أنتهي من مهامي الرسمية كما يمارس الحب الآثم. أنفس به عن نفسي من وطأة حياتي الشرعية التي تموج في جو مشبع بالأمراض والجراثيم.
وهكذا وجدتني فجأة أجمع أقلامي وكتبي وكراريسي وأغادر قاعة المحاضرات في هدوء شديد، وخرجت إلى فناء الجامعة. كانت شمس نوفمبر دافئة رقيقة، والشباب الإيراني الجامعي ينتشر في الفناء، وجوه لا تختلف كثيرا عن وجوهنا، الملامح الشرقية بارزة في الوجه ومدببة، فيها خشونة ورجولة شرقية تتناقض مع الشعر الطويل المسدل فوق الرقبة وأمام الأذنين، والفتيات بشرتهن القمحية الفاتحة وعيونهن الواسعة كعيون المها تتعثر فيها نظرات وجلة خجلة لم تتحرر بعد من عقدة الأنثى الأمة، رغم المساحيق الأمريكية التي تظلل الجفون والرموش ورغم الميني جيب «التي تكشف عن أفخاذ شرقية ممتلئة حياء وخفرا».
وفي وسط الفناء حديقة جميلة منسقة تتوسطها نافورة تملأ حوضا واسعا يشبه حمام السباحة يعكس الشمس الذهبية، ويجلس من حوله الشباب والشابات يتهامسن ويتناجين، والعيون تبرق متأججة بعنفوان الحب والرغبة، لكن التقاليد لا تزال تمنع العناق والقبل أمام الآخرين. وفي مواجهة هذه الحديقة الحالمة جامع رصين ضخم البناء حليت جوانبه البيضاء بآيات من القرآن، ومن مئذنته الكروية ينبعث صوت عربي يؤذن لصلاة الظهر محييا على الفلاح ومصليا على النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
وكان الطريق إليه طويلا وعرا، فهو لا يعيش في قلب طهران العاصمة ككل المشهورين، وإنما يعيش في منطقة بعيدة شمال طهران اسمها شميران، والطريق إليه صاعد الجبل، وعلى جانبيه أشجار عالية وقنوات تجري فيها مياه المطر، والمياه الذائبة الهابطة من فوق والثلج الأبيض يغطي القمة العالية تشق السماء وتنعكس عليها أشعة الشمس الذهبية.
وصعدت بي السيارة إلى شارع ضيق ثم دخلت في زقاق، ووقفت أمام بيت صغير قديم ظهر منه شاب أشيب ملامحه مألوفة كأنما رأيته من قبل، تماما كما يحدث لي في كل مرة حين ألتقي بإنسان من هذا النوع، يرتدي ملابس بسيطة، وبيته من الخارج والداخل بسيط، وعربته الصغيرة تسد مدخل البيت الضيق، عربة قديمة يشك الناظر إليها في قدرتها على الحركة، وربما هي أول عربة قديمة أراها في طهران حيث العربات الأمريكية الجديدة تزحم الشوارع والميادين.
هذا النوع من الناس تألفه من أول لقاء، وتلك الهالة غير المرئية تحيط بأجسام بعض الناس؛ وهبوا طاقة لها إشعاع غير عادي، ربما في العقل، أو في النفس، أو في شيء ما عميق داخلهم نحسه نحن الغرباء عنهم بشيء ما داخلنا عميق ومجهول أيضا.
اسمه جلال آل أحمد، يعرفه الناس في إيران ويقرءون كتبه، لكن حكومة الشاه تصادر الكتب، وتمنع نشر مخطوطاته الجديدة، فيهرب بها تلاميذه وقراؤه إلى خارج إيران، ويطبعونها في بلاد أخرى، ثم يوزعونها سرا في إيران.
فيه نحافة تكسبه مسحة من الإرهاق فكأنه لا ينام ولا يأكل، ملامحه إيرانية صميمة؛ البشرة الملوحة بالشمس، والأنف المستقيم الحاد، والعينان الواسعتان السوداوان فيهما نظرة صريحة كاشفة، تعري الأشياء بقسوة تصبح مع الصدق نوعا من الحنان، له رواية طويلة بعنوان «لعنة الأرض» وصف فيها مأساة الفلاحين في إيران، وكتاب بعنوان «غرب زدكي» ومعناه «سحقا للغرب» هاجم فيه المبادئ الغربية الاستعمارية. وقد منع هذا الكتاب في إيران، لكن تلامذة جلال آل أحمد طبعوه في كاليفورنيا ووزعوا منه في إيران خمسين ألف نسخة سرا، وقال جلال آل أحمد: وإنني أسهل على تلامذتي هذا العمل فأكتب على غلاف الكتاب أنه حر للطبع في أي مكان وزمان دون قيد أو شرط ودون أي حقوق للمؤلف، فيطبع منه ما يطبع ويوزع منه ما يوزع.
وله مؤلفات عن قضية فلسطين، آخرها كتيب صغير كتبه بعد حرب 5 يونيو 1967، لكن السلطات في إيران صادرته، وحرقت دار النشر التي نشرته، فهرب به بعض تلاميذه إلى الخارج حيث طبعوه، وترجم إلى اللغة العربية ووزع في بيروت.
كنا نجلس في حديقة بيته الصغيرة، وجاءت زوجته الدكتورة «سيمين دانشوار» وهي أستاذة في جامعة طهران، لها أيضا مؤلفاتها، ومجموعة من القصص بعنوان «النار المطفأة». احتفظت باسم أبيها دانشوار ولم تحمل اسم زوجها جلال آل أحمد، ملامحها تشبه ملامح المصريات، وجو من الألفة يسود، وأشعر كأنني في بيتي في مصر، وسيمين تضع صينية الطعام والشاي الساخن أمامنا.
وأمسك جلال آل أحمد ورقة وقلما ورسم خريطة إيران والخليج العربي، ووضع نقطة أعلى الخليج كتب عليها «أبان»، ونقطة أخرى في أسفل الخليج عند عنقه الضيق وكتب عليها «يحرس مسندم»، وكتب إلى جوارها 1000 طن بترول، ثم أمسك أحد مؤلفاته وأخذ يقلب في صفحاته بأصابع طويلة رفيعة، واستقرت أصابعه فوق بعض السطور، وضع تحتها خطا عريضا بالقلم.
الآن 90 درصد نفت إسرائيل لإيران ميدهد وأنوقت حكومت إيران إذ ترس أعراب إعلامية ميدهد كه مادر مقابل كمياني هيجكارة أيم، إيشان خودشان نقت رابهركه بخواهند مي فورشندا.
وقال بصوت حزين: هذه الكلمات معناها أن 90٪ من بترول إسرائيل من عبدان من عندنا! يا للخجل ويا للعار!
وتأملته طويلا في صمت ثم قلت: وكيف تعيش في إيران بكل هذه الأفكار الخطيرة؟
وقال في هدوء: أعيش لأني لست وحدي، معي مجموعة كبيرة من الشباب والكتاب نلتقي كل أسبوع مرة في أحد المقاهي الصغيرة، ولقد فصلت من وظيفتي ثلاث مرات، ولكني لست موظفا، أنا كاتب وفنان.
وسألته: ماذا تكتب الآن؟
قال: انتهيت من دراسة جديدة عن إسرائيل في حوالي 400 صفحة استغرقت مني سنوات. - وهل ستنشرها هنا؟ - إذا استطعت. - وإذا لم تستطع؟ - سينشرها تلامذتي بالخارج كما حدث للمؤلفات الأخرى.
ولمحت بين مؤلفاته كتيبا صغيرا أبيض بالفرنسية طبع بدار المعارف بالقاهرة، بعنوان جلال آل أحمد كاتب إيران المعاصر بقلم: مونوت. ويحتوي الكتيب على ترجمة فرنسية لإحدى قصص جلال آل أحمد اسمها «زيارة للأماكن المقدسة»، ومقدمة استعرض فيها مونوت حياة جلال آل أحمد منذ ولد في طهران سنة 1923، واتجه في أول حياته إلى حزب تودا أو حزب الجماهير الإيراني، ثم انفصل مع مجموعة عن هذا الحزب سنة 1947، وأكمل دراسته الجامعية وحصل على ليسانس الآداب وأصبح أستاذا للغة الفارسية، وكان له نشاط صحفي وأدبي، حرر في جريدة «الشعب» ومجلة «الطلبة» ومجلة «العلم والحياة» ومجلة «الشاهد» الناطقتين باسم الحزب الاشتراكي تحت زعامة مصدق، وأسس مجلة اسمها «العالم الشهري» صودرت بعد العدد الثاني، ثم أصبح رئيسا لتحرير مجلة العالم الجديد لكنه أقيل من منصبه سنة 1966. وقد أصدر جلال آل أحمد مجموعات من القصص القصيرة منها «الزيارات» و«آلامنا» و«ألسنا في حاجة إلى هذه المرأة»، وعدة روايات طويلة منها «عش النحل» و«مدير المدرسة» و«نون والقلم»، وكتب دراسات ومقالات نقدية، وترجم لدوتسوفسكي وكامو وسارتر وأندريه جيد ويونسكو، وله كتاب بعنوان «خدمات وخيانات المثقفين».
وقلت لجلال آل أحمد: هذه دار مصرية نشرت لك إحدى قصصك.
وابتسم، وقال: ولكنها صدرت باللغة الفرنسية وليست اللغة العربية. لقد قرأت قصصا لبعض الكتاب العرب باللغة الفرنسية أيضا، ولكني لا أريد هذا؛ أريد أن يلتقي الأدب العربي والأدب الفارسي وجها لوجه وباللغة العربية وباللغة الفارسية دون أي وسيط فرنسي أو إنجليزي.
وكانت الشمس قد غابت والدنيا أظلمت دون أن أدري فنهضت وملأت حقيبتي بمؤلفات جلال آل أحمد الفارسية.
وودعني هو وزوجته سيمين دانشوار حتى الباب الخارجي للحديقة الصغيرة، وظل ممسكا بيدي وهو يصافحني قائلا: تأكدي أن هذا النظام في إيران سوف يسقط قريبا. إن 80٪ من الشعب الإيراني يعيش تحت خط الفقر، ولن يستمر الحال هكذا طويلا، شعب مصر وشعب إيران صديقان، ونحن نحب العرب، وعداؤنا لإسرائيل مثل عدائكم.
كان واقفا أمامي ممسكا بالباب، والشمس قد غربت، وشبح أسود لمحته يتحرك في الظلمة، والتفت ورائي وقشعريرة باردة تسري فوق جسمي، وقال جلال آل أحمد بصوت مرهق: مخابرات الشاه في كل مكان.
وشددت على يده وأنا أصافحه وهاجس غامض ملأني بالقلق ووجدتني أقول له: احترس؛ فالخطر يحوطك.
وقال بهدوء: اختفى بعض أصدقائي، وقد يحين دوري في أي وقت.
ولم أكن أعرف وأنا أودعه أنه الوداع الأخير، وأنني سأزور طهران مرة ثانية بعد عامين فلا أجده.
وفي الطريق المظلم وأنا عائدة وحدي شعرت بالخوف، قطرات المطر فوق الأسفلت كوقع الأقدام من خلفي، وحفيف الأشجار على جانبي الشارع الهابط من الجبل كأنفاس شبح مختف، والظلمة داكنة، والجبل عال أسود، والطريق ضيق ينحدر إلى أسفل، ووصلت إلى غرفتي بالفندق وأنا مبللة بالعرق. •••
بعد عامين وفي يونيو عام 1970 سافرت إلى طهران لحضور مؤتمر طبي عن تحديد النسل، وسافر معي طبيب آخر يعمل في جهاز تنظيم الأسرة اسمه الدكتور «سرور»، استخرجنا تذاكر السفر ثم ذهبنا إلى السفارة الإيرانية في القاهرة وكتبنا طلبا للحصول على تأشيرة الدخول إلى طهران.
وحصل الدكتور «سرور» على تأشيرة الدخول. أما أنا فلم أحصل عليها، وقال لي أحد موظفي السفارة: رفضت السلطات في طهران إعطاءك التأشيرة. وتساءلت في دهشة: لماذا؟ وقال الموظف: لا أعرف؛ فالرفض يأتي بدون إبداء الأسباب.
وخرجت من السفارة الإيرانية حزينة. كنت أريد السفر إلى إيران مرة أخرى، والسير في الطريق الصاعد نحو الجبل حتى شميران، ثم الزقاق الضيق والبيت القديم ذي الحديقة الصغيرة، والحديث الطويل حتى الليل مع جلال آل أحمد وسيمين دانشوار.
وعلى الباب الخارجي للسفارة سمعت صوتا من خلفي، ورأيت شابا إيرانيا طويلا نحيلا أشيب الشعر يشبه جلال آل أحمد، قال: قرأت مقالك منذ عامين بمجلة المصور، لكن مخابرات الشاه كتبت تقريرا ضد المقال.
وتساءلت: أي مقال؟
قال: مقالك عن جلال آل أحمد الذي نشر بمجلة المصور عدد رقم 2309 في 10 يناير 1969، ودهشت لقدرته على الاحتفاظ في ذاكرته برقم العدد وتاريخ صدوره رغم مرور عامين، وأنا نفسي نسيت المقال، ولم أكن أحتفظ بالمقالات التي أكتبها، وسألت: من أنت؟ وهل تعمل بالمخابرات الإيرانية؟
وابتسم: لا، ولكني أعمل بالسفارة في القسم الصحفي، وأعجبني مقالك؛ فأنا أحب جلال آل أحمد، وهو كاتبي المفضل، وتألمت كثيرا لموته.
وانتفضت: مات؟!
قال بصوت خافت: نعم، في ظروف غامضة.
وسرت فوق جسدي القشعريرة القديمة ذاتها، وتراءى لي جلال آل أحمد وهو واقف ممسكا بالباب، وشبح أسود في الظلمة من ورائي كأنما يتبعني.
وفي الصباح رأيت الدكتور «سرور» وحكيت له عما حدث، فضحك بسخرية الأطباء وقال: أنت طبيبة فلماذا تكتبين وتجرين على نفسك المشاكل؟ وها هو مقال واحد يحرمك من السفر إلى طهران وحضور هذا المؤتمر العالمي الهام!
عيناه من خلف النظارة البيضاء كعيون الأطباء؛ شبه زجاجية، بريقها من فوق السطح بغير عمق خال من العواطف. لا يعرف عن الحياة إلا المرض والجراثيم، والناس في نظره إما مرضى أو سيمرضون حتما قبل أن يموتوا، وفي كلا الحالين: المرض أو الموت، هو يقبض الثمن مقدما أو مؤخرا.
عيناه تلمع كالزجاج، و«النني» يتذبذب في حركة دائرية كالحاسب الإلكتروني، لا يكف عن النظر إلى عقارب ساعته، وفي يده حقيبته الجلدية، داخلها السماعة المعدنية وجهاز ضغط الدم والحقن والإبر، والجراب الداخلي السري تفوح منه رائحة البنكنوت واليود والدم.
منذ دخلت كلية الطب وأنا أكره الأطباء؛ مشيتهم المتغطرسة بين الممرات، طرقعات كعوبهم الحديدية فوق البلاط، أنوفهم المرفوعة بعيدا عن رائحة الجرح، عيونهم الشاخصة فوق جيب المريض، أصواتهم المعدنية فوق المنصات عن الإنسانية والرحمة.
وظل صوت الدكتور «سرور» في أذني، نبرة السخرية تؤكد فشلي، أهرب من أوساط الأطباء، ولا أجد في أوساط الأدباء راحة أو عزاء؛ فالأدباء في بلادنا يشتغلون بالصحافة، يتقاضون مرتبات من الدولة كموظفي الحكومة، يطيعون الأوامر العليا، عيونهم ناحية الحكام وظهورهم ناحية الناس والإنسانية.
وفي أعماقي منذ الطفولة رغبة في تحدي الأوامر، ووجدتني أعد حقيبتي، المؤتمر طبي عالمي، وصدر القرار المصري بسفري، وتلقيت أوراق المؤتمر من جنيف، وفي نهاية إحدى الأوراق عبارة تقول بالإنجليزية: إذا لم يحصل أحد أعضاء المؤتمر على تأشيرة الدخول إلى طهران بسبب ضيق الوقت فيمكنه الحصول عليها عند وصوله إلى مطار طهران.
وضعت هذه الورقة في حقيبتي ومعها جواز السفر والتذكرة، وفي مطار القاهرة لمحت الدكتور «سرور» من ظهره، أمام النافذة الزجاجية للسوق الحرة يشتري زجاجات الويسكي وسجائر «كنت».
وسرت نحو الطائرة بقلب ثقيل، قد أصل إلى طهران ثم أعود في الطائرة نفسها إلى القاهرة، ربما أبرقت سفارة إيران إلى مطار طهران لمنعي من الدخول، ربما يسمحون لي بالدخول ثم ينتقمون مني داخل طهران، عقلي يموج بهواجس متضاربة، وقدماي تتقدمان نحو الطائرة بغير تردد، إرادتي من حديد، لكن الرحلة تبدو لي عبثية، لماذا أعرض نفسي للخطر بغير داع؟! سؤال راقد في قاع عقلي منذ الطفولة، وللخطر في أعماقي جاذبية، ولطهران أيضا منذ الرحلة الأولى جاذبية، وجلال آل أحمد لا يزال وجهه أمامي. لا أصدق أنه مات؛ كان شابا فكيف يموت الشباب في ظروف غامضة؟
كلمة «غامضة» تثير خيالي منذ سمعتها من موظف السفارة، وفي رأسي قرار: لا بد أن أعرف. والرغبة في المعرفة كالثمرة الآثمة أكلتها حواء وجعلت آدم يأكل منها.
وفي صدري إحساس بالخوف كالهواء الثقيل، كالحزن القديم، والألم تحت المعدة، جالسة في مقعدي بالطائرة كمن تنتظر المصير وعقاب السماء والآلهة. •••
ارتفعت الطائرة في الجو وأصبح كل شيء أبيض، خفيفا بغير وزن كالهواء. لا أرض ولا سماء ولا ألوان إلا ذلك البياض المتكثف كرغوة صابون بغير ماء.
للحظة خاطفة غمرتني سعادة، إحساس طاغ بالخلاص من الخوف، ثقل الأرض تحت جسدي، وثقل جسدي فوق الأرض، وثقل الهواء في صدري، وثقل الأصوات في أذني، وثقل العيون في عيني.
من شدة الفرح قفزت، لكن جسدي لا يزال مربوطا في ومعه الخوف. لا هرب منه ولا فرار، سأظل إلى الأبد مشدودة إليه مربوطة فيه كوتد.
تجمع الحزن العتيق وأخذ يضغط على معدتي من تحت حزام المقعد، الألم القديم والطنين في أذني، ومن وسط السحاب الأبيض برز الجناح الفولاذي.
أغمضت عيني فأصبح السحاب أحمر ثم أسود، وجناح الطائرة الأبيض يقذف ما يشبه اللهب، وعلى الرمل الأصفر في قاع الأرض البعيد طفل منكفئ على وجهه يسيل من زاوية فمه لعاب أحمر، لم أر وجهه لكن أصابع يديه كانت ملوثة بحبر أزرق، وأصبع قدمه الصغير يطل من الصندل الجديد الأخضر، صرخت: ابني! لكني سمعت صوته، البحة نفسها والقهقهة المتقطعة كالشهقة، واستدرت بسرعة، لم يكن هو ابني؛ كان طفلا متورد الوجه يتكلم بالإنجليزية. - ما هذه الأرض التي تحتنا يا أمي؟ - هذه مصر. - ما معنى مصر يا أمي؟ - لا أعرف، إنها بلد في شمال أفريقيا.
نقط النور في القاع البعيد الأسود تهتز وتقاوم الليل، إحدى هذه النقط مصباحي بجوار سريري، ورف كتبي وأوراقي، وأحزاني وأفراحي، والوسادة الصغيرة عليها بضع شعرات من رأسه وقطرات من عرقه، والعينان الصغيرتان السوداوان تلمع فيهما دمعة، وصوت فيه بحة يناديني، ويدان صغيرتان تتشبثان بيدي وتمسكان بها كقيد، أخلص يدي بغير عنف، برفق شديد، وأسير على أطراف أصابعي نحو الباب، ومن خلفي أسمع صوتا خافتا كبكاء طفل، البحة نفسها، والشهقة المتقطعة، واستدرت بسرعة. لم يكن ابني. إنه الطفل الإنجليزي السمين لا زال يضحك ويلعب، ضحكته تشبه ضحكة ابني، وعمره يكاد يقترب من عمره، أربع سنوات ونصف، تركته مع أبيه وأخته من أجل ماذا؟ رغبة آثمة في المعرفة؟ حنين جارف منذ الطفولة للعصيان ورفض الأوامر؟ أم أنه السفر والترحال والانجذاب نحو العوالم الأخرى؟
ثم ارتفع الصوت من خلال الميكروفون يعلن عن الهبوط في مطار طهران، ولامست العجلات الأرض بخفة فائقة، ثم توقفت الطائرة تماما وظلت الأبواب مغلقة، وخيل إلي أنه بمجرد انفتاح الأبواب سيندفع رجال البوليس والسافاك إلى داخل الطائرة يبحثون في وجوه الركاب عن وجهي.
وانفتحت الأبواب ولم يدخل أحد، وخرج الناس يسيرون إلى مدخل المطار في طوابير، وأمام ضابط الجوازات وقفت في مكاني من الصف الطويل، وإلى جواري طبيب هندي تعرفت عليه، ولم يكن حصل على تأشيرة للدخول أيضا، وأخذنا أحد موظفي المطار إلى غرفة جانبية قدمنا أوراق المؤتمر ، وأسماءنا في كشف ضمن الأعضاء، وأشرنا إلى العبارة التي تقول: إن تأشيرة الدخول يمكن أن تعطى لأعضاء المؤتمر الذين لم يجدوا الوقت للحصول على التأشيرة في بلادهم.
كانت الغرفة مزدحمة بالناس، وشاب إيراني نحيل يجلس من وراء مكتب صغير، وجهه شاحب مرهق، وقطرات عرق فوق جبهته، وفوق مكتبه كوم من الأوراق وجوازات السفر، رفع رأسه وألقى على الطبيب الهندي نظرة سريعة، ثم نظر إلى الصورة في جواز سفره، ورفع يده بالمطرقة على إحدى الصفحات الخالية وطبع تأشيرة الدخول. وبالسرعة نفسها نظر إلى صورتي في جواز سفري، وظلت عيناي ثابتتين وهو ينظر في وجهي، ورفع يده عاليا بالمطرقة وطبع تأشيرة الدخول فوق إحدى الصفحات الخالية في جواز سفري.
ثم وجدت نفسي في قلب طهران، وفي شارع بهلوي أسير، الشارع نفسه الذي كنت أسير فيه أربع مرات في اليوم، لولا الفاصل الحديدي الذي ينتصف الشارع والمباني الجديدة التي احتلت المساحات الخالية لظننت أن الزمن لم يمر منذ كنت هنا من عامين؛ فالوجوه تكاد تكون هي الوجوه، الرجال بملامحهم البارزة المدببة فيها قوة الجبل وجرأته، والنساء بعيونهم السوداء الكبيرة وجونلاتهم القصيرة تكشف عن أفخاذ شرقية سمينة، والسينما هي السينما تعرض فيلم راعي البقر، وبائع الفسدق واللبان بأسنانه الذهبية وشاربه الأسود جالس فوق الرصيف، والصبي الشاحب الحزين بميزانه الصغير، والشحاذة العجوز نفسها لا تزال في مكانها متكورة حول نفسها بجوار الحائط ويدها الفارغة ممدودة للأمام.
ملأت صدري برائحة الجو، والبلاد كالأشخاص لكل منها رائحة خاصة مميزة، ورائحة طهران جذابة بقدر ما فيها من رائحة الجبل، والمياه الذائبة الساقطة من فوق القمم الثلجية في شلالات صغيرة تنكسر فوق الصخور ثم تجري صافية بين الأشجار العالية على جانبي الشوارع المنحدرة إلى أسفل.
وسرت في الطريق الجبلي الصاعد نحو شميران حتى الشارع الضيق، ووقفت أمام البيت الصغير، لا زلت أذكر شكل الحديقة الصغيرة التي رأيتها منذ عامين، والسلم الصغير الذي يقود إلى حجرة الاستقبال، وفتح الباب، وكنت أظن أن الشاب الأشيب الطويل النحيل سيظهر على الفور كما ظهر في نوفمبر 1968. لكنه لم يظهر، وخرجت لي امرأة شابة متشحة بالسواد، تعرفت على ملامحها رغم شحوبها ونحولها؛ إنها زوجته سيمين دانشوار أستاذة تاريخ الأدب في جامعة طهران.
وحكت لي الدكتورة دانشوار قصة وفاة زوجها جلال آل أحمد؛ كان يمضي إجازة الصيف الماضي على شاطئ بحر قزوين، وكانت معه تقرأ له بعضا من الشعر بعد رياضته على الشاطئ حينما وضع رأسه على الوسادة وصمت إلى الأبد. كانت الدنيا ليلا، والمنطقة بعيدة عن المدينة بغير كهرباء، واستنجدت ببعض عمال الشاطئ، وعندما عرفوا أنه جلال آل أحمد جاءوا من كل الأكواخ وملئوا مصابيحه بالجاز، وحوطوه بالزهور، وسهر النجارون حتى الفجر يصنعون له نعشا مزخرفا. وابتلعت الدكتورة دانشوار دموعها وهي تقول: مات جلال بين الناس الذين أحبهم وكتب عنهم طوال الستة والأربعين عاما التي صنعت كل عمره، مات في 17 سبتمبر سنة 1969 منذ تسعة أشهر. لم يمض عام على موته بعد، مات شابا، وتساءلت: هل أصابه مرض؟
وتلفتت حولها وهمست بصوت خافت: لا أعرف، كنا نجلس في غرفة تطل على الحديقة، ودب الصمت فجأة، وحفيف الشجر بدا كوقع الأقدام الخفية. وسرت فوق جسدي القشعريرة، وهمست: أتظنين أن البيت مراقب؟
وقالت بصوت حزين: لا أعرف.
وفجأة انقطع التيار الكهربائي وغرق البيت في الظلام، وجلست في مكاني غير قادرة على النطق أو الحركة.
وسمعت صوت دانشوار الخافت: التيار الكهربي ينقطع كثيرا فلا تنزعجي.
وعاد النور بعد دقائق، وقرأت لي بعض فقرات من روايتها الأخيرة، عنوانها: «الحزن على سيايوشي»، استوحتها من الأساطير الفارسية القديمة قبل مجيء الإسلام. كان «سيايوشي» بطلا شعبيا، وجد مقتولا وحزن عليه الناس. نشرت دانشوار روايتها قبل موت جلال آل أحمد بأسبوعين، وقال لها جلال: لا تنشريها هذه الأيام، ربما تجعلهم يضعون الفكرة في رءوسهم!
مسحت سيمين دانشوار عينيها وقالت: خاتمة روايتي جاءت على شكل أبيات من الشعر، يرسلها الناس إلي الآن من كل أنحاء إيران.
وقرأت خاتمة روايتها، وجاءت كالآتي:
لا تبكي يا أختاه
في بيتك ستنمو شجرة
وأشجار في مدينتك
وأشجار كثيرة في بلدك
والريح ستنقل رسالته
من شجرة إلى شجرة
إلى كل الشجر
وهي في طريقها إليك
هل رأيت الفجر؟
ثم بدأت تصف لي جنازة جلال آل أحمد، عشرة آلاف شخص حضروا الجنازة، وارتدى شباب الجامعة السواد، وصدرت الأوامر بمنع نشر أي شيء عنه. أحد الشعراء الإيرانيين اسمه «صوراتجر» أنشد قصيدة في مناسبة ذكرى تتويج الشاه تمدحه، ولم يذهب أحد إلى جنازته. كاتب إيراني اسمه «فردون تنكاليوني» في السجن؛ لأنه عارض سياسة الشاه.
وقعت دانشوار ومائة كاتب إيراني على عريضة تحتج على حبسه وتطالب بالإفراج عنه، تطوع بعض المحامين للدفاع عنه، المعارضة ضد الشاه تزداد قوة، وكثير من الناس في السجون، منظمات كثيرة سرية داخل إيران، وفي الخارج أيضا نشاط كبير ضد الشاه.
ثم قالت دانشوار: «جمعنا 600000 توماني وأرسلناها إلى الفدائيين الفلسطينيين في الأردن. أعلن وزير الخارجية أنه مع الفدائيين، لكن هذا غير حقيقي، حكومة الشاه أقامت احتفالا في ذكرى لينين في جامعة طهران، لكن الطلاب قاطعوا الاحتفال، وأنا أيضا لم أذهب؛ لأنه إذا أصبح لينين تابعا لحكومة الشاه فأنا ضد لينين! شباب الجامعة في إيران قوة كبيرة، وهم الذين سيصنعون الثورة.»
وتركتها في الليل وحدها بالبيت الصغير في الجبل، ودعتني حتى باب الحديقة ووقفت أمامي ممسكة بالباب، وقبل أن أترك الشارع الضيق استدرت خلفي ورأيتها لا تزال واقفة في الضوء الخافت ممسكة بالباب. •••
من النافذة المفتوحة في غرفتي بالفندق رأيت الهضبة العالية ومن فوقها تتلألأ أنوار فندق الهيلتون، وإلى جواره «مركز إيران للمؤتمرات العالمية»، وفي الحديقة الواسعة اصطفت الموائد وأطباق الطعام وكئوس النبيذ والشمبانيا، وثلاثمائة شخص من كل أنحاء العالم: من أمريكا وغانا وتنزانيا وبريطانيا والسويد والهند وكينيا وأوغندة والسودان وليبيا وتونس والفلبين ومدغشقر وأفغانستان والحبشة ولبنان وتركيا، ومن مصر كان الدكتور سرور وثلاثة آخرون من الأطباء وأنا منهم.
لم أحضر حفل التعارف الأول بعد الافتتاح، ولم أحضر الحفل الختامي للمؤتمر، بيني وبين الحفلات عداء، وجوه ترتدي أقنعة النفاق، وحول أعناق النساء جواهر تبرق، وحول أعناق الرجال الربطة الحريرية الملونة .
يد تمسك الكأس واليد الأخرى تصافح، عين تتابع حركة الرئيس أو مندوب الرئيس، والعين الأخرى تتابع حفيف الجواهر، وضحكات تتطاير في الجو مع فرقعات السدادات وهي تتطاير من فوهة الزجاجات، وترتفع الأصوات والقهقهات، ومن حين إلى حين يرن في الجو اصطلاح طبي، أو اسم جديد لمرض أو نوع حديث من لوالب عنق الرحم، أو معونة أمريكية جديدة على شكل شحنة من حبوب منع الحمل.
وفي أحد المقاعد الخاصة بالوفد الأمريكي جلس طبيب أمريكي، وأعلن أن ولاية نيويورك أصدرت قرارا هذا العام يبيح الإجهاض، وارتفع صوت من الوفد التونسي يقول: إن الإجهاض أبيح في تونس، وتحدثت طبيبة إنجليزية عن مفهوم جديد للجنس، وعاد الطبيب الأمريكي يقول: إن المجتمع الأمريكي لا زال يحمر وجهه إذا سمع كلمة الجنس، وتحدث طبيب من السويد عن الحقنة الجديدة التي تحقن بها المرأة فتمنع الحمل لمدة عام كامل، واعترض عضو الوفد التركي على اضطهاد جسد المرأة وحده في موضوع تحديد النسل، وأدان طبيب من الفلبين طبيعة المرأة التي تجعلها قابلة للإخصاب في أيام قليلة من الشهر. أما الرجل فهو مخصب طوال الشهر ولا انفصال عنده بين الجنس والإخصاب، وتحدث طبيب من الهند عن عمليات التعقيم للرجال وأنها سهلة وسطحية. أما عملية التعقيم عند المرأة فتستدعي فتح البطن.
وجلست صامتة طوال جلسات المؤتمر، ثم رفعت أصبعا طويلا مدببا في الجلسة الأخيرة وألقيت في القاعة بالسؤال: ولماذا تحددون النسل؟ وتحركت نحوي العيون محملقة مستطلعة مندهشة. لم يكن حول عنقي جواهر فأدركوا أنني من البلاد الفقيرة في العالم الثالث. ولم أكن أحمل اسمي ولقبي فوق صدري فأدركوا أنني بلا اسم ولا لقب. واعترض طبيب على السؤال وقال إنه لا علاقة له بموضوع المؤتمر؛ لأن الموضوع هو وسائل تحديد النسل وليس أسباب تحديد النسل. واعترض على الاعتراض طبيب من السودان وقال: إن السؤال في صلب الموضوع، ولا يمكن فصل الأسباب عن الظواهر. وتدخل الطبيب من الفلبين وقال: إن الأسباب تدخل في نطاق علوم الاجتماع والسكان وليس علوم الطب.
واعترض الطبيب من الهند وقال إنه لا فاصل اليوم بين الطب والمجتمع، ونهض الطبيب من الفلبين ليرد، لكن رئيس الجلسة دق بيده على المنصة وطلب المحافظة على النظام، وأعطى الكلمة للطبيب الأفريقي من غانا الذي كان أول من رفع يده، وألقى الطبيب محاضرة عن فوائد تحديد النسل وخاصة في البلاد المتخلفة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. واعترض الطبيب من الهند على كلمة «المتخلفة» واستبدلها بكلمة «النامية». ورفع الدكتور سرور يده وطلب الكلمة وأوضح أن التخلف ليس عيبا، وأن الفقر ليس عيبا، ولكن العيب هو كثرة الحمل وولادة الأطفال كالأرانب. واعترض الطبيب من السودان على كلمة «الأرانب»، وقال: إن الفقر هو المشكلة وليس الأطفال، والمفروض أن نعالج الفقر أولا. وتساءل الطبيب من السويد عن أسباب الفقر في البلاد المتخلفة. ورد الطبيب من السودان وقال: الاستعمار. وهنا وقف الطبيب من كينيا وقال: هذا مؤتمر طبي ولا دخل لنا بالسياسة. واقترح العودة إلى موضوع المؤتمر الأصلي، ووافق رئيس الجلسة على ما قاله الطبيب الكيني، وعادت المناقشة من جديد إلى ما كانت عليه، وبدءوا يتحدثون عن أنواع اللوالب التي توضع حول عنق الرحم، ونسب الهرمونات في حبوب منع الحمل الجديدة، تنتجها شركة «إس إم» الأمريكية، وترسل منها كميات كبيرة إلى البلاد المتخلفة ضمن مشروعات التنمية أو المعونات الاقتصادية والعسكرية.
وتسللت من الباب الخلفي إلى الشارع. كانت الشمس تميل نحو الغروب، وظلال الأنوار تنعكس على الجداول الهابطة من الجبل، ورأس الجبل مدبب أبيض، وعلى السفح المائل «شتانوجا» بأنوارها الحمراء كحبات الكريز، ونسمة الليل والجبل، والمياه الذائبة في رائحة العشب، وأنغام الموسيقى الراقصة، وإيقاع كعوب الأحذية الثمينة مع اللحن الأمريكي، والشفاه المصبوغة تلتهم كرات الكافيار الأحمر.
ومن حول «شتانوجا» ترقد السيارات الطويلة الفارهة، تتمدد على العشب بجوار أحواض الزهور، وداخل كل سيارة سائق يجلس وراء عجلة القيادة في وضع الاستعداد.
وعند مؤخرة السيارة كان الطفل النحيل واقفا في يده فوطة صفراء، يقترب من السيارة في وجل ليمسح الزجاج، ويمد السائق ذراعه من النافذة ويطرده بيده كما يطرد الذباب ، ويجلس الطفل على الأرض في الركن البعيد، وينضم إليه عدد من الأطفال، عيونهم واسعة جاحظة، وبياض العين أصفر، وفي يد كل طفل فوطة صفراء، واليد الأخرى مفتوحة ممدودة في الهواء، تنتظر سقوط قطعة نقود من السماء.
سرت في الطريق الهابط نحو المدينة، واجتزت شارع بهلوي، يسمونه خيايان بهلوي، طوابير الشباب أمام السينما تعرض فيلم راعي البقر، امرأة عارية في وضع الإغراء، ورجال فوق الجياد يحملون المسدسات، وملصقات أخرى فوق الجدران، صورة الشاه والإمبراطورة، إعلانات عن سجائر «كنت»، وويسكي «جوني ووكر»، زجاجة كوكولا ضخمة تحتل المساحة فوق الجدار ومن حولها لمبات حمراء وزرقاء وصفراء على شكل دوائر تضيء ثم تضيء، نافورة المياه في الميدان، بائع الفسدق واللبان جالس فوق الرصيف، الطفل الشاحب الحزين جالس القرفصاء وأمامه الميزان الصغير، الشحاذة العجوز متكورة حول نفسها بجوار الحائط ويدها الفارغة ممدودة إلى الأمام.
دخلت إلى المطعم الصغير، تفوح منه رائحة «الشيلو كباب»، الخبز الإيراني الكبير والبصل واللفت الأحمر، مجموعة من الشباب حول مائدة وبينهم فتاة شعرها أسود قصير وعيناها سوداوان لامعتان. - التقينا هنا من قبل؟ - نعم، منذ عامين. - اسمك «ماني». - نعم.
وسألتها من يكتب في إيران بعد جلال آل أحمد، وذكرت اسم عباس بهلوان، وقالت: إن جلال آل أحمد صنع جسرا بين الماركسية والإسلام، وعباس بهلوان يمشي فوق هذا الجسر. لكنه يرفض الدروشة والدراويش، وكتابه الأخير بعنوان «نادرويشي» ومعناها لا درويش.
ذهبت إليه في مكتبه، وكان يرأس تحرير مجلس «فردوسي»، شاب نحيل قصير، ملامحه هادئة، ولمعة في العينين تكشف عن أعماق غير هادئة، ثورة كامنة تحت السطح، ودار بيننا حوار غريب؛ فهو لا يعرف الإنجليزية، وأنا لا أعرف الفارسية، لكني فهمت ما يقول، أشار بأصبعه على بعض الصور في مجلة «فردوسي»، ورأيت صورة لبعض الفدائيين الفلسطينيين، ومن تحتها مقال باسمه يدافع عن القضية الفلسطينية، وصورة أخرى لمجموعة من شباب فيتنام يحاربون، وعلى غلاف أحد الأعداد رأيت صورة جمال عبد الناصر، ثم المقال الرئيسي بقلم عباس بهلوان يدافع عن القضية العربية ويهاجم إسرائيل.
وكان معنا في هذه الجلسة شاعر إيراني اسمه «علي نوري زاده» يتكلم العربية. وقد ترجم إلى الفارسية قصائد بعض الشعراء الفلسطينيين: محمود درويش، وسميح القاسم، وفدوى طوقان.
وبينما نحن جالسون دخل رجل إيراني طويل أشيب ما إن عرف أنني من مصر حتى بدأ يتكلم بالعربية الفصحى، اسمه علي أكبر قسمائي. كان في القاهرة في شتاء سنة 1948، وحين فشلت محاولة اغتيال شاه إيران في ذلك الوقت كتب مقالا في جريدة الأخبار عن هذه القضية. وقد ترجم علي أكبر قسمائي من العربية إلى الفارسية بعضا من كتابات المازني وطه حسين والعقاد والحكيم، ويقول عن نفسه إنه ربيب الأدب العربي.
وسألني علي أكبر قسمائي: هل قرأت الخبر في الصحف هذا الصباح؟
وقلت: أي خبر؟
قال: عودة العلاقات بين حكومتي: مصر وإيران. وهذا خبر يفرحنا نحن الإيرانيين؛ فالشعب المصري شقيق لنا، ولغتنا الفارسية نصفها كلمات عربية، وبيننا تاريخ قديم وفلاسفة قدامى مثل ابن سينا والرازي.
وتراءى لي وجه جلال آل أحمد وصوته وهو يقول: 90٪ من بترول إسرائيل يأتي من عبدان من عندنا! يا للخجل ويا للعار!
وتساءلت: ماذا عن جلال آل أحمد؟
ودب الصمت طويلا، وظهرت الحقيقة في العيون على شكل الحزن المكتوم.
وفي اليوم التالي أخذتني «ماني» لأرى متحف جواهر تيجان الملوك في قلب طهران، وقال «ماني»: لا بد أن تري الجواهر داخل هذا المتحف؛ لتعرفي لماذا يثور الشعب الإيراني إذا قدر له أن يثور.
رجال البوليس كانوا يحوطون المتحف، جردونا من الحقائب ومن آلات التصوير، سرت في الطابور الطويل، ندور حول العلب الزجاجية، ومن خلال الزجاج نطل على التيجان المرصعة بالياقوت والماس والمرجان والفيروز، أسلحة مزركشة بالجواهر، الكراسي محلاة بالأحجار الكريمة والماس، في حفلات التتويج يستعير الملك أو الإمبراطور التاج من هنا، وكذلك الملكة أو الإمبراطورة، القطعة الواحدة من الجواهر بحجم رأس الدبوس تقدر بملايين الجنيهات.
وسمعت ماني تقول: أموال مجمدة في هذا المتحف لمجرد الزينة على حين يجوع الملايين من الشعب الإيراني.
في الطريق بالسيارة إلى أصفهان وشيراز رأيت الفلاحين في القرى، يرتدون سراويل طويلة واسعة تشبه سراويل الفلاحين المصريين، وجوههم شاحبة، أجسادهم نحيلة مرهقة وفي عيونهم حزن السنين كعيون الناس في قريتي كفر طلحة.
إلى جواري كان يجلس أحد الأطباء الإيرانيين من أعضاء المؤتمر، وحين سألته عن مشاكل الفلاحين قال: الفقر، الجهل، المرض.
وفي شيراز وأصفهان انتقلت من عالم الفقر والجهل والمرض إلى عالم آخر مرصع بالجواهر، الجدران والسقف مزركشة بالأحجار الكريمة، وفندق اسمه «شاه عباس» في أصفهان، بني في القرن 17، ينقلنا إلى عالم شبه خيالي مسحور كليالي ألف ليلة وليلة، بذخ الحكام وإسرافهم في المتع إلى حد الجنون، وتحت أقدامهم العبيد والجواري راكعون.
وعدت إلى طهران في اليوم التالي. لم أحضر الجلسة الأخيرة في المؤتمر أو الحفل الختامي، يد تمسك الكأس بالنبيذ، وفي اليد الأخرى ورقة طويلة عليها التوصيات، كلمات مكررة وحبر على ورق.
الليلة الأخيرة في طهران قضيتها في غرفة «ماني» في الزقاق الصغير، تعيش وحدها في طهران، وأهلها في قرية صغيرة بالقرب من شيراز، تذهب إلى الجامعة في الصباح وفي الليل تعمل مع مجموعة من المناضلين، صنعت لي كوبا من الشاي وجلست أمامي، وجهها طويل نحيل، بشرتها سمراء، عيناها سوداوان واسعتان وشعرها أسود طويل على شكل ضفيرة كبيرة خلف ظهرها، ترتدي ثوبا أبيض، وتجلس على شلتة خضراء فيها مربعات بيضاء. كانت تتكلم وكنت أنصت: لي صديقة في السجن اسمها «هوما»، قبض عليها رجال السافاك وهي تسير في الشارع. لم تكن تحمل أي منشورات، وضعوها في السجن وحاولوا استجوابها، جردوها من ملابسها إلى ما تحت الصدر، ثم بدأ أحد الضباط في حرق حلمة ثدييها بسيجارة مشتعلة، كاد يقتلها الألم وبدأت تعترف بكل ما لديها، وفي الليل اقتحم البوليس بعض البيوت وحبسوا عددا من زملائنا الطلبة. قام رجال السافاك ورجال المخابرات الأمريكية المركزية بعمل فيلم عن «فن استجواب الثوار» وخاصة من البنات والنساء، وعمل من هذا الفيلم مئات النسخ، وزعته أمريكا كجزء من المعونة الفنية على بلاد صديقة مثل تايوان والفلبين وأندونيسيا. لم نعد نجتمع في البيوت أو الأماكن العامة، أصبحنا نجتمع في المسجد؛ فهو المكان الوحيد الذي لا يصله رجال السافاك أو المخابرات الأمريكية، الشاه شبه معزول، وأمريكا ترشده في كل شيء، وتحاول أن تصوره على أنه «الأب» للشعب الإيراني أو العائلة الإيرانية (فرمانده) حسب التقاليد الشعبية. صور الشاه تغطي الجدران ومن تحتها كتب: «أبو العائلة الإيرانية»، وفي كل أسبوع يذهب إلى الصلاة في مسجد من المساجد، يحاول انتزاع القيادة الدينية من الأئمة وآيات الله، ويوهم الناس أنه رجل صالح يخاف الله، وهو فاسد في حياته العامة والخاصة؛ استولى على أموال الشعب، وخياناته الزوجية المتعددة معروفة للجميع حتى زوجته فرح ديبا، يعتبرها بقرة ولادة لتنجب له ولي العهد. لا يحترم زوجته ولا يحترم النساء، فكرته وراء إنشاء وزارة لشئون المرأة ليس إلا محاولة لكسب تأييد النساء نظير تقديم بعض الحقوق السطحية لهن.
صوت «ماني» ظل في أذني حين ركبت الطائرة في الصباح وعدت إلى القاهرة، ومرت السنون ونسيتها أو خيل إلي ذلك، حتى قامت الثورة الإيرانية فعاد إلي صوتها وعيناها السوداوان الواسعتان وهي جالسة أمامي بثوبها الأبيض وضفيرتها الطويلة خلف ظهرها. وطرد الشاه من إيران ولم يجد بلدا يرحب به، حتى أصدقاؤه الأمريكيون نبذوه كأرنب ميت.
وتصورت أن الثورة الإيرانية سوف تحرر الشعب الإيراني، وتتحقق آمال «ماني» وزملائها وزميلاتها، لكن الثورة الإيرانية سرعان ما أجهضت على يد الخميني وأعوانه وتحولت من ثورة للتحرير إلى قوة بطش باسم الدين.
وفي يونيو عام 1984 التقيت في لندن ببعض الشباب الإيرانيين الذين هربوا من بطش النظام الخميني وسألتهم عن «ماني». قالوا: إن هناك كثيرات من المناضلات اسمهن «ماني»، وحاولت أن أصف لهم ملامحها. قلت: بشرتها سمراء وعيناها سوداوان واسعتان ولها ضفيرة طويلة خلف ظهرها. وتذكرها أحدهم، ورأيته يطرق إلى الأرض ثم يرفع إلي عينين فيهما دموع وقال: «ماني» أعدمت في سجن الخميني، وقبل الإعدام بأيام قليلة دخل عليها رجل واعتدى عليها جنسيا حتى لا تموت وهي عذراء، فهناك اعتقاد عند آية الله الخميني أن الفتاة إذا ماتت وهي عذراء تدخل الجنة، ومن أجل أن تدخل «ماني» النار أحضروا أحد الرجال وزوجوها له رغم أنفها قبل إعدامها بأيام.
هذه هي العقلية التي تحكم إيران اليوم، ومنذ ثلاثة أعوام حاول أحد الأساتذة الإيرانيين طبع كتابي: «الوجه العاري للمرأة العربية»، وطبع فعلا بعد أن ترجم إلى اللغة الإيرانية، لكن رجال الخميني هجموا على دار النشر وحرقوا الكتاب، وأصر الأستاذ الإيراني على إعادة طبع الكتاب، وفعلا طبع ووزع في إيران، وأرسل نسخة من الكتاب إلى عنواني بالقاهرة مع رسالة رقيقة يعتذر فيها عن التأخير.
وفي يونيو عام 1984 وفي لندن أيضا التقيت بهذا الأستاذ الذي اضطر إلى الهروب من بطش الخميني وأعوانه، وأصبح يعيش في المنفى هو وبعض أفراد أسرته هربوا معه عبر حدود إيران. وله ابنة صغيرة لم تستطع الهرب معهم وبقيت في سجون إيران، وزوجته لا تنام الليل في لندن تفكر في ابنتها الحبيسة في طهران، وفي غيرها من الفتيات والنساء الإيرانيات اللائي فرضت عليهن حكومة الخوميني «الشادور»، وألوانها محددة هي الرمادي، الأسود، البني، الأزرق، أو الأخضر الداكن، ومن لا تلبس هذه الألوان تعاقب، ومن لا ترتدي الشادور تهدد بالفصل من عملها أو السجن، وكثير من الفتيات والنساء دخلن السجون أو أعدمن. أما الشباب الذين لم يدخلوا السجن أو يعدموا فقد جندهم الخميني في الحرب ضد العراق، وعلق في عنق كل شاب منهم مفتاحا حديديا ليدخل به من باب الجنة بعد أن يموت في الحرب.
بغير دموع تتحدث زوجة الأستاذ، عيناها مليئتان بالحزن، وشيء آخر غير الحزن، الغضب والإصرار والتحدي. ذكرتني بعيني الدكتورة سيمين دانشوار، وزوجها الأستاذ أيضا يشبه جلال آل أحمد، شاب طويل القامة نحيل، وأشيب أبيض، البشرة سمراء، والملامح إيرانية صميمة، والحديقة صغيرة، حديقة جلال آل أحمد في شميران، ومائدة الطعام ونكهة الشاي ولهجة الكلام، وكل شيء يذكرني بطهران عام 1969 رغم أننا في لندن والعام هو 1984.
وعلى الباب الخارجي لبيتهما الصغير ودعني الأستاذ وزوجته بمثل ما ودعني جلال آل أحمد ودانشوار، ورأيت مجموعة من الشابات والشبان الإيرانيين مقبلين نحو الأستاذ وزوجته، وقلت لنفسي وأنا أسير نحو الشارع: ستحدث ثورة أخرى في إيران.
وعلى جدران محطة القطار تحت الأرض رأيت الحروف الفارسية بالخط الأسود: «يسقط الخوميني»، وتذكرت هذه الحروف نفسها منذ أعوام، وبدلا من كلمة «الخوميني» كانت كلمة «الشاه».
الفصل السابع
رحلة الهند
رحلتي إلى الهند لم تكن كأية رحلة إلى أي بلد. كانت أشبه ما تكون برحلة الحياة كلها منذ الولادة حتى الموت، كالدائرة تبدأ وتنتهي إلى النقطة ذاتها. لكنها ليست النقطة ذاتها؛ لأن الولادة ليست هي الموت والبداية ليست هي النهاية.
قد يدهش الكثيرون ممن يهوون السفر والرحلات لماذا شعرت نحو الهند بالذات مثل هذا الشعور، والعالم فيه من البلاد والأمكنة التي ينبهر لها السياح؟ لكن السياحة في رأيي ليست ركوب طائرات وزيارة متاحف والنوم والأكل في الفنادق الفاخرة، السياحة عندي هي التجول على الأقدام في الشوارع والحواري المتربة، واكتشاف الإنسان في أي مكان، وبالذات تلك الأمكنة التي يهرب منها السياح، أو يضعون مناديلهم فوق أنوفهم حين يمرون عليها بالصدفة.
رحلتي إلى الهند كانت طويلة ومرهقة، ولكنها كانت ممتعة، أشبه ما تكون برحلة إلى النفس في قسوتها وفي حلاوتها، ربما هي أصعب رحلة قمت بها في حياتي رغم أنني زرت معظم بلاد العالم ومشيت في أوعر الطرق. لكن صعوبة اكتشاف الهند تشبه إلى حد كبير صعوبة اكتشاف النفس، رغم أن النفس ملتصقة بالإنسان منا، لكن كم من زمن وجهد حتى يعرف الواحد منا نفسه. وهذه هي الهند أيضا، بقدر ما تعرف نفسك تعرفها، وبقدر ما عندك في نفسك بقدر ما تعطيك الهند من نفسها، ولعل هذا هو السبب في أن بعض الناس لا يرون في الهند إلا التراب والفقر، والبعض الآخر يستطيع أن يخترق السطح ويصل إلى قلب الإنسان الهندي.
قبل أن تهبط الطائرة في مطار نيودلهي أعلنت المضيفة أن الساعة السابعة صباحا، نظرت في ساعتي فأدركت أن الناس في القاهرة لا زالوا نائمين (الشمس تشرق في الهند قبل مصر بثلاث ساعات ونصف)، كنا في شهر يناير، وكنت أرتدي معطفا صوفيا، لكني خلعت المعطف بمجرد هبوطي على أرض الهند، وأحسست شمس الشتاء في الهند دافئة حنون بعثت في جسدي نوعا من اللذة والتفاؤل.
انتظرت وصول الحقائب وسط جمع كبير من السياح والمسافرين، معظمهم من الأجانب ذوي الوجوه البيضاء المشربة بالحمرة، ملابسهم عالية أنيقة، حقائبهم كبيرة ثمينة، بعضهم يعلق الكاميرا في كتفه (سياح)، والبعض الآخر يمسك حقيبة يد «سمسونايت» (خبراء بالطبع)، في كل مطار ألتقي بهؤلاء الرجال، أعرف شكل حركاتهم، وأعرف نظرة عيونهم الزرقاء ترقب في استعلاء الوجوه السمراء مثل وجهي أو وجه الهنود، وتتأفف من منظر الحقائب القديمة والملابس البالية، كأنما السفر بالطائرات ليس إلا حق هؤلاء الرجال مندوبي الشركات الاستعمارية أو السياح الأثرياء العاطلين في أوروبا وأمريكا، وكأنما الأموال التي يشترون بها ملابسهم الأنيقة وحقائبهم الكبيرة الثمينة ليست هي في الأصل أموال هذه الوجوه السمراء والكادحة أصحاب الأرض وأصحاب البلد.
الوجوه الهندية من حولي تذكرني بالوجوه في بلدي، وتلك الابتسامة المتواضعة التي تشبه أحيانا ابتسامة من يشعرون بالضعف أو الحرج أو الذل، أحد مخلفات الاستعمار هي تلك الابتسامة، وكم أفضل عليها تكشيرة الغضب. أحد الهنود يفسح مكانه في تواضع لذلك الرجل الإنجليزي المتعالي، يتقدم الرجل الإنجليزي ويأخذ حقائبه دون أن يشكر الهندي أو حتى يبتسم له، أكتم الغضب في نفسي وأرمق الرجل الإنجليزي بنظرة ازدراء وكراهية يقشعر لها بدنه ويكاد يهرب من أمام عيني جريا، أبتسم لنفسي في سخرية، هؤلاء الإنجليز يغلفون أنفسهم من الخارج بكبرياء يشبه الثقة والشجاعة، ولكنهم في حقيقة أمرهم لا يستطيعون مواجهة عينين سوداوين مفتوحتين تنظران إليهم دون أن ترمشان.
حملت حقيبتي بنفسي، حوطني عدد من الحمالين يحاول كل واحد منهم أن يحمل عني الحقيبة، تذكرت مطار القاهرة وشعرت بالحزن، مثل هذا المنظر لا أراه في مطارات أوروبا وأمريكا، ولكن الفقر في الهند أو في مصر أو في أي بلد من بلاد آسيا وأفريقيا ليس إلا أحد مخلفات هؤلاء المستعمرين في أوروبا وأمريكا، وينسى السياح هذه الحقيقة ويتأففون من منظر الحمالين وهم يتنافسون على حمل الحقيبة، أو يصدمهم منظر الشحاذين ، وكم يشكو السياح في الهند من كثرة الشحاذين. •••
وجدت - بحكم خبرتي - في السفر والرحلات أن الانطباعات الأولى للعين الغربية من أهم الانطباعات وأصدقها. وقد تعودت أن أسجل انطباعاتي الأولى عن أي بلد جديد أسافر إليه، قبل أن تألف عيني البلد، وقبل أن تضعف هذه الألفة حساسية العين للأشياء الجديدة، ويصبح الجديد شيئا عاديا لا تراه العين.
لا أقصد هنا العين أو الرؤية فقط ولكني أقصد الإحساس أيضا، فقد أدركت منذ هبطت على أرض الهند أن إحساسا عميقا بالراحة والسلام والطمأنينة غمرني. لم أعرف سبب ذلك، هل هي ابتسامة الناس المستسلمة الوديعة، هل هي السماء الزرقاء الصافية والشمس، هل هو ذلك الرجل العجوز الجالس فوق الرصيف ينظر إلى الناس والحياة بإشفاق وزهد يشبه إشفاق وزهد غاندي؟ أم هي تلك العصافير التي تشدو في كل مكان وتهبط في أي مكان تلتقط طعامها من وسط الناس؟ أم هذه الأبقار التي ترعى في الشوارع إلى جوار السيارات والموتوسيكلات والعجلات تأكل من أي مكان دون أن يتعرض لها أحد؟
قلت لنفسي إذا كانت العصافير والأبقار آمنة في الهند فهذا هو سبب شعوري بالأمان والسلام، ولكني عرفت بعد ذلك أن الهنود يحترمون الحياة في أي شكل من أشكالها، وأن الفلسفة الهندية قائمة على تقديس الحياة وعدم قتل أي كائن حي وإن كان بعوضة، بل إن إحدى الديانات الهندية واسمها الديانة «الجينية» تفرض على الناسك منها أن يرتدي فوق أنفه قناعا، وأن يمشي على الأرض حافيا وبخطوات خفيفة، والهدف من ذلك هو حماية النمل والحشرات البريئة من أن تدوسها قدم الناسك. أما القناع فهو لحماية الباعوض أو الهاموش الصغير البريء من أن يدخل مع الهواء إلى أنف الناسك ويموت في صدره.
كنت قد أعجبت كثيرا بموقف الهنود من الحياة واحترامهم لها، لكني لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك على هؤلاء الرجال الحفاة ذوي الأقنعة الذين كنت ألتقي بهم في الشارع أحيانا، وكنت أندهش لمنظرهم وأظن من ملابسهم البيضاء والقناع الأبيض أنهم أطباء خرجوا لتوهم من حجرة العلميات بحثا عن مريض هارب، أو أنهم مصابون بمرض في الأنف، أو أنهم مصابون بمرض الوسوسة ويغطون أنوفهم خوفا من الجراثيم في الجو، أو أنهم نزلاء أحد المستشفيات العقلية، وحينما عرفت أنهم الناسكون في الديانة الجينية، وأنهم يغطون أنوفهم ليس حماية لأنفسهم من الجراثيم وإنما حماية للجراثيم منهم قلت لنفسي: كم ينقلب المبدأ العظيم أحيانا إلى نوع من الهلوسة والجنون! وكم تنطوي الأديان أحيانا على تناقضات ومبالغات وخزعبلات!
من الصعب أن تعرف البلد من عاصمته؛ فعواصم البلاد في معظم الأحيان ليست إلا مدنا كبيرة متشابهة، تسكنها السفارات ودواوين الحكومة، شوارعها فسيحة نظيفة، تزداد مساحة ونظافة باقترابك من بيوت الحكام أو مكاتبهم أو حيث ينشط مندوبوهم أو ممثلوهم أو ما شابه ذلك. والعاصمة نيودلهي لا تختلف عن أية عاصمة في ذلك. وكم تندهش لبعض البيوت الفاخرة ذات الطراز الحديث المحوطة بالحدائق اليانعة، وتلك الشوارع الفسيحة الجميلة التي تقودك إلى الأحياء الراقية حيث يعيش أثرياء الهنود والأجانب والسياح.
ولكن سرعان ما تدخل إلى «دلهي» القديمة كما يسمونها، وتضيق الشوارع وتزدحم بالأجسام والأنفاس، ولا تكاد تعرف الرصيف من الشارع، ولا تكاد تفصل بين تلك المركبات التي تجري فوق الأرض، مركبات تعرف أنها سيارة أو موتوسيكل أو عجلة، ومركبات لا تعرف ما إذا كانت سيارة أو موتوسيكلا أو عجلة أو مزيجا من كل هذا، في الهند تستطيع أن ترى بعينيك جميع أنواع المركبات منذ اكتشاف العجلة وابتداء من الفيل أو الجمل أو البقرة أو الخنزير. كل أنواع الحيوانات هنا تجر أية عربة في أية شارع، وكل أنواع العجل منذ تطور من عجلة تحركها قدما الإنسان، إلى عجلة يحركها موتور، إلى موتوسيكل، ثم إلى سيارة، كل ذلك تراه في الشارع الواحد يجري ويتسابق، ويمكنك أن تميز الطبقات وأنت سائر في الشارع؛ الذين يركبون السيارات هم طبقة الحكام والأثرياء من الهنود والأجانب وذوي المهن المربحة العالية. الذين يركبون الموتوسيكلات هم طبقة صغار التجار وصغار الموظفين. الذين يركبون العجلات هم أبناء الطبقة الفقيرة والطبقة العاملة. أما أدنى طبقة في الهند فهم الذين لا يركبون شيئا وإنما هم الذين يجرون العجلات (كما يجرها البقر أو الحمير). ومن المناظر المألوفة في الهند هي أن ترى ذلك الرجل النحيف الهزيل الذي يلهث ويتصبب العرق من وجهه وجسده وهو يجر على عجلته ثلاثة أو أربعة من الأشخاص. هذه العجلة التي يجرها الإنسان اسمها «الريكشا» وهي منتشرة في الهند، وكم ترى أحيانا ذلك السائح الأبيض السمين وإلى جواره زوجته السمينة يجلسان في سعادة يتفرجان، بينما راح الرجل الهزيل الأسمر يجرهما فوق عجلته وهو يلهث.
على أن هذا الرجل النحيل اللاهث أحسن حالا من غيره؛ لأنه لا زال يملك القوة التي يجر بها شيئا، وهناك من فقد تلك القوة، ولم يعد يملك إلا الرقاد على الرصيف في انتظار الأجل المحتوم. وعلى الأرصفة في أي مكان في الهند ترى هؤلاء الرجال والنساء والأطفال الذين لا مأوى لهم إلا قطعة الرصيف التي يرقدون فوقها.
بعض السياح في الهند ينظرون إلى هذا الفقر نظرة رومانتيكية، بعضهم يقف مذهولا يتألم دون أن يدرك السبب الحقيقي لهذا الفقر، بعضهم يتهم الفقراء بالكسل أو الغباء، بعضهم يقول: إن هذه هي إرادة الله، والله هو الذي يوزع الرزق على من يشاء ويحرم من يشاء. بعضهم يظن أن الفقر فلسفة هندية ونوع إرادي من العزوف عن متع الحياة. كل شيء ممكن أن يفكر فيه السياح إلا السبب الحقيقي؛ ذلك أن المال الذي ينفقه السائح الواحد منهم في اليوم يكفي لإعالة أسرة هندية لمدة شهر، وذلك أن ثروات الهند الطائلة لم تكن تذهب إلى أصحاب البلد وإنما إلى جيوب الغزاة الأجانب، بل إن جزءا منها حتى الآن لا تزال تنهبه الشركات الإنجليزية والأجنبية. •••
لا أدري لماذا تذكرت طفولتي وأنا في الهند، ليس تذكرا عاديا بأن أتذكر حوادث ما، ولكنه إحساس قوي طاغ يستولى علي حين أنظر في وجوه الأطفال الهنود فإذا بي أحس كأنما هذا الطفل الواقف أمامي هو أنا حينما كنت طفلة، وأن تلك النظرة في عينيه هي بالضبط نظرة عيني وأنا طفلة، وأن الطريقة التي ينبهر بها أو يجري أو يلعب بها، أو يحمل بها أخاه الأصغر هي نفسها طريقتي وأنا طفلة.
من المناظر المألوفة في الهند أن ترى الأطفال يلعبون وقد حمل الواحد منهم أخاه أو أخته الأصغر بطريقة معينة؛ ذلك أن يركب الطفل الأصغر فوق خصر الطفل الأكبر وتتدلى ساقاه، هؤلاء هم الأطفال المحظوظون الذين خرجوا من بيوتهم ليلعبوا في الشوارع أو الحدائق، أما معظم الأطفال فإنهم لا يعرفون شيئا اسمه اللعب وإنما يشتغلون ويكدون سعيا وراء الرزق سواء في الحقول أو المصانع أو الدكاكين الصغيرة، وهناك أيضا الأطفال الذين يعترضون طريقك في أي شارع باسطين أيديهم النحيلة وهم يقولون باللغة الإنجليزية: أعطني بقشيشا. لكن المنظر الذي لا يمكن أن تنساه هو هؤلاء الأطفال الذين لا يعترضون طريقك، ولا يقولون شيئا وإنما ينظرون إليك بعينين صامتتين ليس فيهما إلا معنى واحد ملح وصارخ يهتف بغير صوت: نحن جوعى! •••
إحساس غريب أصبح يلازمني في الهند كلما رأيت طفلا أو دخلت بيتا أو معبدا أو مكتبا أو مدرسة أو مستشفى أو مصنعا، إحساس غريب كأنما أنا لست في الهند وإنما في مصر، رغم الاختلاف الظاهري هناك نوع من التشابه الغريب، كأنما الجذور واحدة، وأصبحت وأنا أكتشف الهند كأنما أكتشف مصر، وبدأت أتفهم تاريخ مصر من تاريخ الهند، وأرى حقائق عن مصر لم أرها وأنا في مصر. ليس ذلك فقط لأن الإنسان لا يعرف بلده إلا وهو خارجه أو لا يرى الشيء إلا من مسافة، وإنما لأن الملامح العامة في الهند تشبه الملامح العامة في مصر، بل إن رائحة الهواء ورائحة التراب تكاد تشبه هواء وتراب مصر.
في كل مكان أذهب إليه يسألونني: هل رأيت التاج محل؟ وحينما أقول: لا. تتسع العيون دهشة وأسمعهم يقولون: إذن أنت لم تري الهند، وتذكرت «الهرم» في مصر، وكيف يتصور الكثيرون أن أهم ما في مصر هو هرم خوفو، كما يتصور الكثيرون أن أهم ما في الهند هو التاج محل. وليست هذه هي الحقيقة في رأيي، ولست من هؤلاء الذين يعبدون الآثار والأبنية، ودائما يرادوني هذا السؤال حينما أرى أثرا ضخما أو بناء هائلا: من الذي بناه؟ ولماذا؟ مهما بلغ البناء من جمال لا أرى جماله إلا بعد أن أعرف القصة وراءه. وكم من قصص أليمة وراء أجمل الآثار والأبنية، وكم من أهرامات وأشباه الأهرامات بنيت بدماء وعرق آلاف العبيد الجوعى.
إن أعظم أثر تاريخي هو الهرم الأكبر في مصر، الذي بني بعرق ودم آلاف العبيد من المصريين الفقراء، وإن أجمل أباجورات في العالم عملت من جلود الرجال والنساء الذين قتلهم هتلر في سجون النازية، وإن التاج محل أجمل بناء في العالم بني بسواعد آلاف الهنود الجوعى لمدة عشرين عاما. ويقولون إن الإمبراطور المغولي قطع ذراعي المهندس الذي بناه حتى لا يبني واحدا مثله لأي إمبراطور آخر. ومع ذلك فقد أصبح التاج محل يرمز في التاريخ إلى الحب، وفي الليالي القمرية ترى أفواجا من العشاق والسياح يتطلعون إلى هذا المبنى الرخامي الأبيض، ويذكرون بإعجاب ذلك الإمبراطور المغولي الذي بناه لزوجته المحبوبة بعد وفاتها. إن التاج محل ليس إلا مقبرة لإحدى زوجات الحكام المغول. لكنه بني بالرخام الثمين، تعلوه قباب رخامية رائعة المنظر، وعلى جدرانه من الداخل والخارج نقوش بديعة متعددة الألوان.
وقد رأيت التاج محل في مدينة أجرا. وكما نصحني الناس رأيته في ضوء الشمس، ورأيته في ضوء القمر، ولمست بأصابعي جدرانه الرخامية الناعمة تشبه في نعومتها بشرة زوجات الأباطرة والملوك، وهبطت السلالم داخله لأرى التابوت الذي دفنت تحته الزوجة والذي رصع بالمرمر والأحجار الكريمة، وقيل لي: إن الأموال التي بذلت في بناء التاج محل كانت تكفي لبناء الهند وجعلها أكثر البلاد تقدما.
وعلى العشاء في بيت الشاعرة أمرتنا برتيام دار الحوار حول هذا السؤال: أيهما كان أكثر فائدة: بناء تاج محل، أم بناء الهند؟ وانقسمت الآراء، بعض الهنود قالوا: إن بناء تاج محل كان أكثر فائدة؛ لأن السياح من جميع أنحاء العالم يأتون إلى الهند لرؤيته، ولأنه يعتبر من الناحية المعمارية والناحية الجمالية أجمل بناء في العالم، لكن البعض الآخر عارض هذا الرأي وتساءل قائلا: ما هو الجمال؟ إن الجمال الذي يقوم على استغلال آلاف الجوعى لا يمكن أن يكون جمالا. وقد كنت مع الرأي الأخير. لكن بعض عشاق التاريخ والآثار قالوا: بهذا المنطق كان من الممكن ألا يكون هناك آثار ترى الآن، ولا تاريخ عريق للهند أو مصر يجسده الهرم الأكبر ويجسده التاج محل، لكني تساءلت: ما هو التاريخ؟ هل تاريخ الهند هو كيف أحب الإمبراطور المغولي زوجته إلى حد أنها حين ماتت بنى لها هذه المقبرة الثمينة الرائعة؟ هل التاريخ هو قصص غرام الأباطرة والملوك بزوجاتهم أو بأنفسهم وتلك المقابر التي بنوها لأنفسهم أو أسرهم على شكل أهرامات أو على أي شكل آخر؟
لا شك أننا في حاجة إلى إعادة فهم التاريخ؛ فالتاريخ ليس فقط حياة الملوك والحكام أو موتهم، والتاريخ ليس مجرد أبنية وقلاع وأهرامات، لكن التاريخ أكبر من هذا، التاريخ هو قصة ملايين الناس في كل شعب وكفاحهم المستمر من أجل البقاء، التاريخ هو صمود هؤلاء الملايين في وجه الأباطرة والملوك والحكام. إن الحاكم الذي يستحق أن نذكره في التاريخ هو ذلك الذي يسعى لتوفير حياة كريمة لملايين الناس في بلده، وليس هو الذي سخر الملايين واستعبدهم من أجل أن يبني مقبرة من الرخام الثمين لجسد زوجة لم تفعل في حياتها شيئا سوى الأكل والنوم.
إن التاج محل في رأيي ليس رمزا للحب الذي حدث في التاريخ، ولكنه رمز للحب الذي فقد في التاريخ، ودفن تحت مقبرة من الرخام الأبيض! •••
في نيودلهي - عاصمة الهند - نزلت ضيفة على زوجي الذي يعمل في الهند منذ عامين، في شقته الصغيرة البسيطة في حي «ديڨنس كولوني»، أدركت لأول مرة أن أفضل وضع للزوجة هو أن تكون ضيفة في بيت زوجها؛ إنها تشعر دائما أنها سعيدة؛ ذلك لأن بقاءها ليس دائما وإنما بقاء مؤقت. عرفت أيضا أن البعد يجدد الحب والشوق. كنت أعرف هذه الحقيقة دائما وأقول: إن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في حجرتين منفصلتين لتظل بينهما مسافة، وحينما تطور تفكيري كنت أقول: إن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في شقتين منفصلتين، ولكني الآن وبعد أن نضج تفكيري أقول: إن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في بلدين منفصلين. إن البعد يضعف العلاقات الزوجية الهشة لكنه يقوي العلاقات المتينة القائمة على أساس من الحب الحقيقي والفهم والتقدير. «نارايان» هو اسم الشاب الهندي الذي يطبخ لزوجي طعامه. إنه شاب أسمر قصير نحيف يمشي على الأرض بخفة غريبة، كأنما هو يشفق على الأرض من أن يدوس عليها بقوة. وقد لاحظت أن كثيرا من الهنود لهم هذه المشية، وعرفت من بعد أنها نوع من التواضع الذي يتميز به الهنود، وأيضا نوع من الرقة والحرص على احترام الكائنات الحية وإن كانت حشرات صغيرة تسعى فوق الأرض.
وعرفت من نارايان أن عمله في الحياة هو الطبخ فقط. إنه مثلا لا يغسل العربة ولا يكنس البيت مهما أخذ من أجر إضافي؛ وليس ذلك لأنه لا يحتاج إلى هذا الأجر، ولكن لأن مثل هذه الأشغال الدنيا لها طبقة معينة. أما هو من طبقة أعلى. وهو لا يغسل إلا ملابس الرجل. كان يمكنه أن يغسل ملابس زوجي. أما ملابسي أنا فهو يترفع عن غسلها؛ لأني امرأة.
إن المجتمع الهندي لا زال حتى الآن يفرق بشدة بين الطبقات، أعلى طبقة هي طبقة البراهميين، وأدنى طبقة هي طبقة الخدم ويسمونهم «طبقة الذين لا يلمسون» أو طبقة المنبوذين، وهم هؤلاء الناس الذين يستنكر الناس لمسهم أو مصافحتهم؛ لأنهم فقراء وملوثون. حاول بعض الرواد وزعماء الهند من أمثال غاندي ونهرو أن يحاربوا هذه التفرقة الشديدة بين الطبقات. وقد خفت حدة هذه التفرقة لكنها لم تختف تماما.
كان يفرض على أعضاء طبقة المنبوذين ألا يقتربوا من أعضاء الطبقات الأخرى، وأن يتحدثوا معهم من على بعد معين حتى لا تصل أنفاسهم إلى أنوف الآخرين، وقيل لي: إن بعض الأثرياء من البراهميين كانوا يستحمون إذا ما وقع عليهم ظل رجل من المنبوذين. •••
في الصباح الباكر أصحو كل يوم على صوت صفارة مفزعة تشبه صفارة الإنذار، وعرفت أنها فعلا صفارة إنذار، ولكنها تستخدم في أوقات السلم كجرس عام يعلن للناس بدء اليوم، فكرة لا بأس بها للذين يعملون، ولكنها مزعجة أحيانا لمن لم يعتدها، أو لمن سهر الليل مثلي ويرغب في الراحة لوقت متأخر من النهار.
لكن الناس في دلهي لا يسهرون مثل الناس في القاهرة، معظمهم ينامون قبل العاشرة مساء، وهم يستيقظون مبكرا جدا، إذا سرت في الشارع الساعة السادسة صباحا تجد الزحام والعجلات والموتوسيكلات، وتسمع الراديو يشدو بالأغاني الهندية في الدكاكين والبيوت.
لكنك لا ترى السيارات في الشوارع إلا بعد التاسعة؛ فالعمل في المكاتب الحكومية يبدأ في العاشرة صباحا وينتهي السادسة مساء. وهذا نظام إنجليزي لا زال قائما في الهند. كان الإنجليز يستيقظون مبكرا ويذهبون إلى النادي لممارسة لعبة الجولف قبل أن تشتد حرارة الشمس، ثم يأخذون دشا، وحين يذهبون إلى مكاتبهم تكون الساعة قد أصبحت العاشرة، معظم الهنود الموظفين في الحكومة لا يذهبون إلى النادي صباحا ولا يلعبون الجولف، ولكنهم يستيقظون الساعة السادسة صباحا ويجلسون في بيوتهم يشربون الشاي ويتحدثون حتى تقترب الساعة من العاشرة. قال لي بعضهم: إن هذا النظام الإنجليزي لا يتناسب مع جو الهند الحار، والأفضل أن يبدأ العمل السادسة صباحا قبل أن يبدأ الحر وللاستفادة من ساعات الصباح الضائعة. •••
الهنود يدخلون عليك بيتك في أي وقت، قد تكون مسترخيا في سريرك مثلا وتفاجأ بجارك الهندي وقد دخل حجرة نومك، وهم أيضا يتركون أبواب بيوتهم مفتوحة دائما لتدخل إليهم في أي وقت. إنهم يذكرونني بأهل قريتي كفر طلحة، وكم أحب مثل هذه العادات البدائية التي تحطم الحواجز المصنوعة بين الناس. لكنها تبعث في النفس بعض الضيق خاصة في تلك الأوقات التي يريد فيها الإنسان أن يكون وحده أو في عزلة كاملة عن الآخرين. لكن الهنود عامة لا يعرفون العزلة عن بعضهم البعض، اللهم إلا إذا كان الواحد منهم من عشاق اليوجا، أو من النساك البوذيين أو الهندوس الذين يقضون حياتهم في عزلة كاملة غارقين في تأمل النفس الكلية الخالدة، والوصول إلى تلك الحالة المسماة «النزفانا» حيث يتوحد الإنسان مع نفسه ويدرك السعادة النهائية.
إحدى صفات الهند المميزة هي التناقض؛ فالهند مليئة بالتناقضات شأنها شأن أي مجتمع ينمو من التخلف إلى التقدم، ويلتقط القيم الجديدة على حين تظل القيم القديمة موجودة وسائدة، إن بعض الناس في الهند لا زالوا يقدسون التقاليد الإقطاعية القائمة على التفرقة بين الطبقات وسيادة الرجل على المرأة داخل البيت وخارجه، البعض الآخر لا زال مجتمعا أمويا تسود فيه النساء وترث البنات الأرض ولا يرث الأولاد الذكور، البعض الآخر وبالذات في نيودلهي ومدن الشمال قد تأثر إلى حد كبير بالثقافة الغربية الإنجليزية، فترى البنات قد خلعن الساري وارتدين الميني جيب أو البنطلون الضيق، والصبيان قد أطالوا شعورهم، والرجال قد رشقوا البايب في زاوية الفم ومزجوا اللغة الهندية باللغة الإنجليزية. وفي ظل هذه الثقافات المتباينة تجد قيما أخلاقية متباينة تبدأ من أقصى التزمت وفرض الحجاب على النساء والعذرية على البنات إلى أقصى التحرر وسيادة المرأة وحريتها في اختيار زوجها بل أزواجها، حيث تتزوج المرأة بعدد من الرجال، وتنسب إليها أطفالها.
وأيضا تجد هذه الاختلافات الشاسعة بين الأديان والعقائد في الهند، بعضهم يؤمن بإله واحد مكانه السماء، وبعضهم يؤمن بعدد لا حصر له من الآلهة ويقولون إن الله داخل كل إنسان، وبعدد الملايين من البشر توجد الملايين من الآلهة، بعضهم ينكر وجود الإله لا في السماء ولا في الأرض ويقولون إن الدين هو الحياة وهو الاستمتاع بالحياة.
وتنعكس هذه الفلسفات المتباينة على المعابد الهندية، بعض المعابد تشبه البيوت، يدخلها الرجال والنساء والأطفال ويأكلون ويشربون ويلعبون داخل المعبد. ويقولون إن المعبد وجد للحياة، وإن العبادة هي هذه الحياة.
وبعض المعابد تحرم دخول النساء والأطفال ولا يدخلها إلا الذكور؛ لأن الذكور هم الجنس المفضل الطاهر المقرب إلى الآلهة. أما النساء فهن الجنس الملوث غير الطاهر. والتماثيل والنقوش على جدران المعابد تختلف أيضا اختلافا شديدا، بعض التماثيل تصور الآلهة على أنهم بشر يأكلون ويشربون ويرقصون ويمارسون الجنس بكل أوضاعه وأنواعه، وبعض التماثيل تصور الآلهة على أنهم كائنات غير بشرية بغير جنس وبغير أعضاء، وإنما هي قوى غريبة الشكل تبعث على الدمار أو الفزع أو الموت.
بعض الآلهة لها ملامح إنسانية باسمة محبة للحياة والخير، وبعض الآلهة لها ملامح شيطانية يتصاعد الشرر والنار من عيونها البشعة.
فتحت هذه التناقضات عقلي على حقائق كثيرة عن طبيعة هذا المخلوق الذي اسمه الإنسان، أحسست وأنا في الهند أزور المعابد وأشهد بعيني تطور البشرية منذ العصور البدائية حتى اليوم كأنما عالم جديد ينفتح أمام ذهني، وبدأ ضوء جديد يضيء أركانا كانت مظلمة في رأسي.
مهما قرأنا عن التاريخ ومهما درسنا نظريا عن تطور الأديان وتطور الحياة البشرية والإنسانية، فلا يمكن أن يدرك الإنسان الحقائق كما يدركها حين يزور الهند وينتقل بين أجزائها المختلفة المتباينة، ويعايش قبائلها البدائية فوق الجبال، وأسرها الحديثة في المدن الكبيرة مثل بومباي ودلهي وكالكاتا. إن جذور الإنسان واحدة وجذور الأديان واحدة، كم تتشابه حياة البشر حين يصل المرء إلى أعماقها وجذورها، وكم يشتد الاختلاف بخروجنا إلى السطح والمشاهدات السطحية. •••
كنت في سريري أقرأ رواية هندية. كانت الساعة الواحدة صباحا حينما سمعت صوتا غريبا مزعجا يدق أرض الشارع، فتحت الشرفة ورأيت رجلا هنديا يسير بخطوات بطيئة في يده عصا غليظة، وفي كل خطوة يدق الشارع بعصاه، وظننت أنه «المسحراتي» الذي يطوف ببعض الشوارع في مصر أثناء رمضان ليوقظ الناس ليتناولوا طعام السحور، وسألت زوجي: هل هذا مسحراتي؟ وهل يصوم الهنود رمضان أيضا؟
وضحك زوجي لهذا السؤال وقال: ليس هذا مسحراتيا. إنه الخفير الذي يشرف على الأمن في هذه المنطقة.
وسألت: ولماذا يدق الأرض بذلك الصوت العالي؟
وقال زوجي: ليعرف سكان البيوت أنه يقظ وأنه ساهر لحمايتهم.
قلت: ولكنه بهذا الصوت يعلن للصوص عن الشارع الذي يحرسه فيسرعون إلى شارع آخر حيث يسرقون الناس وهم مطمئنون إلى عدم وجود الحارس.
وضحك زوجي قائلا: هذا بالضبط ما يحدث؛ إن عصا هؤلاء الحراس لا تفعل شيئا سوى إزعاج النائمين أو تنبيه اللصوص إلى مكان الحارس.
وفي أول الشهر جاء هذا الحارس إلى شقتنا وطلب أجره الشهري، وعرفت سببا آخر لتلك العصا التي تدق ليلا. إنها تقول للناس: أنا أقوم بواجبي كل ليلة وأستحق الأجر الذي تدفعون.
الفقر في الهند يدفع الكثير من الناس إلى ابتكار مهن غريبة للحصول على أجر، أي أجر. من المناظر المألوفة في مدينة نيودلهي أن ترى هؤلاء المكوجية الذين يجر الواحد منهم عربة يد خشبية يوقفها أمام أي بيت، ويهبط الخادم بصرة ملابس ويبدأ المكوجي عمله بنشاط حتى ينتهي من ملابس هذا البيت، فيجر عربته وينتقل إلى بيت آخر ... وهكذا. حين تسير في أي شارع في الصباح تجد هؤلاء المكوجية المتنقلين أمام أبواب البيوت يكوون الملابس فوق عرباتهم الخشبية الصغيرة.
في أي وقت من النهار قد يدق جرس بيتك، وتجد ذلك الرجل الهندي الذي جاء يعرض عليك خدماته دون أن تطلبها. إنه قد يقول لك إنه مستعد لأن يشتري أثاثا جديدا لبيتك إذا كنت من سكان الحي القدامى. أما إذا كنت ساكنا جديدا فإنه يأتي إليك ليؤثث لك شقتك، وأحيانا يعرض عليك أن يبحث لك عن شقة أخرى مع أنك لم تقل له إنك تريد الانتقال من شقتك. وهكذا يتفنن بعض الهنود في الوسائل التي يقدمون بها خدماتهم من أجل الحصول على أجر أو ربح ما، وكم من مرة يدق جرس الباب (وبالذات في يوم إجازتك) ويظهر أحد هؤلاء الرجال ليعرض عليك خدمة لم تطلبها ولم تفكر فيها.
في مرة من المرات دق الجرس رجل سمكري، واكتشفت أثناء وجوده أن إحدى الحنفيات تحتاج إلى جلدة حتى لا يتسرب منها قطرات الماء، وأخرج الرجل أدواته العديدة (تشبه أدوات الطبيب الجراح)، وأخذ يفحص الحنفية طويلا ثم قال في النهاية إنها لم تعد تصلح ولا بد من تركيب واحدة جديدة. وتذكرت الرجل السمكري في مصر الذي كلما أطلبه ليضع جلدة في الحنفية يقول لي إنه لا بد من تركيب حنفية جديدة، وبالطبع يطلب ثمنا باهظا، تذكرت ذلك وقلت للسمكري الهندي: لا ، هذه الطريقة أنا أعرفها من مصر. وضحك الرجل الهندي؛ لأنني اكتشفت حيلته ووضع الجلدة في الحنفية نظير أجر بسيط. •••
أحب التجول في الأحياء الشعبية، وأعشق السير في حواريها والتفرج على الدكاكين الصغيرة وزحام الناس والأصوات والروائح القوية المنبعثة من كل مكان. ولكني حين أسكن أفضل في حي هادئ بعيد عن الأصوات والزحام. وقد شاركت زوجي شقته الصغيرة في ذلك الحي الهادئ «ديفينس كولوني»، لكن الهدوء هنا لا يعني الهدوء الكامل؛ إذ ما إن تشرق الشمس في الصباح الباكر حتى تهب العصافير من أوكارها فوق الشجر وتبدأ تشدو بأصوات حادة عالية يشترك فيها عدد هائل من العصافير. في مصر حينما كنت أسمع عصفورا يشدو يطرب قلبي من الصوت الرقيق العذب، ولكن حينما يصبح هذا الصوت الرقيق العذب مضاعفا مئات المرات فإنه يفقد رقته وعذوبته ويصبح كصراخ النسور. إن أعذب الأصوات تصبح مزعجة إذا زادت عن الحد. العصافير هنا في الهند كثيرة وجريئة، وأحيانا تبلغ جرأتها أن تطير فوق رأسي وتخطف الخبز من يدي، إن جرأتها لا تقل عن جرأة البقر الذي يرعى في الشوارع ويسير بين العربات السريعة بغير وجل ولا خوف؛ وسبب ذلك هو أن الهنود يحترمون كل الكائنات الحية ولا يتعرضون لأي نوع منها بأي أذى.
حينما تكف العصافير قليلا عن الصياح يبدأ صياح الباعة الجائلين الذين يطوفون بالبيت حاملين فوق رءوسهم وعرباتهم مختلف أنواع الخضروات أو الفاكهة أو أية سلعة أخرى، وأيضا يطوف رجل الروبابيكيا مناديا: كبادي وله! («وله» باللغة الهندية تعني «ولد» أو «رجل»)، وحينما يكف الباعة قليلا عن صياحهم يأتي ذلك الرجل ومعه القرد أو الثعبان ويطوف بالبيوت مغنيا الأغاني الهندية أو نافخا في المزمار، ويرقص القرد على النغمات ويقوم الثعبان بألعاب بهلوانية، وتطل النساء من شرفات البيوت ويقذفن له بعض النقود، وأحيانا لا يكون المغني رجلا واحدا وإنما فرقة بأكملها من المغنين بالمزامير ودقات الطبول وحركات القردة والثعابين وقد يصاحبهم في جولاتهم فيل يركبه رئيسهم، أو ذلك الحاوي الذي ينام فوق المسامير ويأكل النار ويطير في الهواء فوق ملاءة كالبساط السحري.
لقد وجدت أنني لست في حاجة دائما إلى أن أخرج من بيتي لأتعرف على الهند؛ لأن الهند تأتي إليك بنفسها حتى باب بيتك، لكن ليس هذا إلا وجها واحدا من وجوه الهند، وكم تحتوي الهند على وجوه متعددة متباينة! •••
كنا في شهر يناير، والجو في نيودلهي كالربيع في مصر؛ الشمس دافئة حنون، ونسمة الهواء منعشة لا هي حارة ولا هي باردة. لا تكاد تحس ملمسها على جسمك، كأنما هي من درجة حرارة الجسم، كنا ننتظر في مطار «دلهي» الطائرة التي ستقلنا إلى جنوب الهند حيث منطقة مزارع الشاي، زوجي يقرأ جريدة التايمز الهندية وأنا أرقب حركة الناس من المطار. المطارات بصفة عامة كالعواصم، أمكنة عالمية تختلط فيها كل الأجناس وكل الألوان وكل اللغات. بمعنى آخر: هي أمكنة بغير جنس وبغير لون وبغير لغة؛ ولهذا السبب تبدو جذابة وقبيحة في نفس الوقت، جذابة لأنها تحطم كل الفوارق بين الأجناس والألوان واللغات والطبقات، وقبيحة لأنها بغير شخصية تذوب فيها (بما في ذلك وجهي أنا) في وجه واحد ليس له ملامح معينة.
على أن مطار «دلهي» له شخصية مميزة. لا أدري لماذا، ربما بسبب النساء الهنديات ذوات «الساري» والنقطة الحمراء في منتصف الجبهة، وأيضا أبواب المطار الزجاجية عليها نقطة حمراء في منتصف كل باب. لم أكن أعرف سر تلك النقطة الحمراء، لكني عرفت من بعد أنها بقايا عادة هندية دينية، ثم أصبحت من الزينة للنساء أو الرجال في بعض مناطق الهند.
حلقت بنا الطائرة الهندية في السماء الشاسعة الممتدة فوق أرض الهند المترامية الأطراف، حجم الهند يساوي حجم مصر 36 مرة، وتطير بك الطائرة بالساعات لتصل من بلد إلى بلد داخل الهند.
هبطت الطائرة في مدينة «مدراس» جنوب الهند، وعرفت أنني أصبحت على خط الاستواء وتحت قرص الشمس مباشرة؛ بسبب تلك الحرارة الشديدة والرطوبة التي تميز جو المناطق الاستوائية، تخففت من بعض ملابسي وبدأ العرق يتساقط من وجهي، رأيت الوجوه في جنوب الهند شديدة السمرة تشبه وجوه الناس في أفريقيا الاستوائية، لولا أن تقاطيع الوجه هنا دقيقة: الأنف مرتفع دقيق ومدبب، والشفتان رقيقتان، والشعر أسود ناعم وليس مجعدا، والعينان تلمعان في الوجه الأسمر الجذاب.
سرنا على شاطئ بحر مدراس وهو جزء من المحيط الهندي، ولم ينجح هواء البحر في تخفيف حدة الحر إلا قليلا، لست ممن تعودوا الحرارة الشديدة مع الرطوبة الشديدة؛ ولهذا أشعر بنوع من الاختناق في المناطق الاستوائية، وتبدو لي الأرض كأنما تحولت إلى قطعة من جهنم بغير نقطة هواء.
أسرعت ناحية السيارة التي ستقلنا إلى مناطق مزارع الشاي فوق الجبل، هدأت أنفاسي قليلا وجف العرق حين بدأت السيارة تصعد فوق الجبل، أصبح الهواء منعشا محملا برائحة الأشجار والزهور الاستوائية من كل نوع ولون، السيارة الهندية الصغيرة تتبع الطريق الجبلي اللولبي، وعند كل ثنية في الطريق يدوس السائق الهندي الأسمر على البوق؛ فالمساحة ضيقة ومن السهل أن تصطدم العربة بأي من هذه اللوريات التي تهبط الجبل محملة بالشاي.
لاحظت أن معظم هذه اللوريات تحمل اسم «تاتا»، وسألت: من هو «تاتا»؟ فعرفته أنه مليونير هندي يملك اللوريات والفنادق وعددا من الشركات والمشروعات التجارية والصناعية في الهند. في كل مكان في الهند لا بد أن ترى اسم «تاتا» فوق أي شيء. لا زالت ثروات الهند الطائلة تذهب إلى جيوب حفنة قليلة من الناس بعضهم هنود وبعضهم إنجليز. رغم استقلال الهند إلا أنها لا تزال جزءا من «الكومنولث»، ولا زال أصحاب الأرض وأصحاب الرأسمال يدعمون النظم الإقطاعية والرأسمالية ويحاربون بكل قوة أي اتجاه اشتراكي.
والأحزاب في الهند متعددة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولكل حزب صحفه ومنابره وأشخاصه ووسائله.
الهواء يزداد جفافا كلما صعدت بنا السيارة فوق الجبل. اختفت الأشجار الكثيفة التي كانت تكسو الجبل وبدأت أشجار الشاي القصير المستوية تظهر كالبساط الأخضر الممدود صاعدا فوق الأفق، عرفت أن شجرة الشاي شجرة غريبة جدا، ولها مزاج خاص، ولها شروطها الخاصة لتنمو وتزدهر؛ إنها تحتاج إلى أرض معينة وارتفاع معين فوق سطح البحر لا يقل عن أربعة آلاف قدم ، ودرجة حرارة معينة، ودرجة رطوبة معينة، وقدر من الشمس معين، وقدر من المطر معين، وقدر من الظل معين، أفضل أنواع الشاي تنمو فوق الجبل على ارتفاع 7000 قدم فوق سطح البحر.
وقد وصلت بنا السيارة إلى هذا الارتفاع عند المدينة المسماة «كونور»، ورأيت مساحات هائلة من الجبل وقد تحولت كلها إلى بساط أخضر هو أشجار الشاي القصيرة التي قلمتها يد الفلاحات، لكن هناك شجرة طويلة لا تشبه شجرة الشاي قد نمت بنظام معين بين أشجار الشاي، ظننت أنها شجرة برية نمت وحدها، لكني عرفت أنها زرعت بين أشجار الشاي؛ ليحمي ظلها أوراق الشاي من حرارة الشمس القوية.
شجرة الشاي قد تعيش مائة عام، تعطي خلالها قدرا كبيرا من أوراق الشاي، تأتي الفلاحات الهنديات السمراوات كل صباح وعلى ظهورهن تلك السلال الكبيرة، وبأصابعهن السريعة المدربة يقطفن الأوراق الناعمة العلوية. إن زراعة الشاي وجمعه وصناعته في الهند عمل نسائي في معظمه، ومن يتتبع الشاي منذ أن يزرع في الحقل إلى أن يصبح فنجانا من الشاي نشربه يدرك أن وراء هذه المتعة من هذا الفنجان آلافا من الناس (أغلبهم نساء) الذين يعملون ويكدون منذ شروق الشمس حتى غروبها نظير بضعة روبيات هندية لا تكفي إلا لسد الرمق.
بدأت زراعة الشاي وصناعته على يد المستعمرين الذين حملوا إلى الجبال (ضمن ما حملوا) أعدادا من فقراء الهند، جعلوهم أشبه بالعبيد. بعد استقلال الهند تحرر هؤلاء العبيد لكنهم لا زالوا يبيعون جهودهم نظير أجور ضئيلة، ولا زال أبناؤهم محرومين من التعليم وليس أمامهم من مستقبل إلا أن يرثوا المهنة عن أمهاتهم وآبائهم.
قبل أن تبلغ البنت العاشرة تذهب مع أمها إلى الحقل لتعمل في مزارع الشاي، أو إلى المصنع لتشارك في صناعة الشاي، في بعض القرى يعمل الأولاد والرجال أيضا، ولكن هناك مناطق لا يعمل فيها إلا النساء والبنات. أما الرجال فهم الجنس الأسمى العاطل الذين يتزين ويرقص في الحفلات الدينية ويجلس طول النهار أمام البيوت يدخن ويشرب ويلعب الطاولة أو النرد. •••
في الصباح الباكر ركبت السيارة الصغيرة إلى جوار المترجم الهندي. كنت قد طلبت أن أتحدث إلى هؤلاء الفلاحات اللائي يعملن ويعلن أطفالهن وأزواجهن العاطلين، هؤلاء النساء يتكلمن اللغة الهندية المحلية، وكان لا بد أن آخذ معي مترجما من أبناء المنطقة ويعرف اللغة الإنجليزية.
كان الصباح مشرقا، لكن سرعان ما تجمعت السحب الرمادية فوق قمم الجبال وبدأ المطر ينهمر، انهمار المطر في تلك المناطق الاستوائية الجبلية يجعل السماء كالمحيط الذي يفرغ ماءه فوق الجبل بغير هوادة ولا رفق.
سألت الشاب الهندي: ما اسمك؟
قال: اسمي بوجان.
سألت: واسم أبيك؟
قال: لا أحمل اسم أبي، أحمل اسم أمي، وأمي اسمها «برافاتي» على اسم الإلهة برافاتي زوجة الإله شيفا.
قلت: ولكن هل كل الناس هنا يحملون أسماء أمهاتهم؟
قال: لا، معظم الناس هنا لا يحملون لا اسم الأم ولا اسم الأب. إنهم يحملون اسمهم فقط، أما اسم الأب فلا يكون إلا حرفا واحدا، وتدخل سائق السيارة قائلا: أنا اسمي م. نارايان. إن «م» هو أول حرف من اسم أبي. أما اسمي فهو «ناريان»، وهو اسمي الأساسي واسم أسرتي. وهذا عكس ما يفعله الإنجليز؛ إذ إن الاسم الأساسي عندهم وهو الاسم الأخير الذي هو اسم الأب أو الجد. أما اسم الشخص نفسه فلا يكون إلا الحروف الأولى.
سألته: وأيهما أفضل عندك؟
قال: طبعا أن يكون اسمي الأساسي والأخير هو اسمي أنا وليس اسم أبي أو أمي أو جدي.
وضحكت وأنا أسأله: وهل تريد أن يحمل أولادك اسمك من بعدك؟
قال بحماس: لا، كل ولد من أبنائي أو بنت من بناتي يجب أن يحمل اسمه هو أساسا.
وتدخل المترجم الشاب قائلا: كثير من الرجال هنا لا يحرصون على مسألة النسب هذه كما هو الحال في شمال الهند مثلا؛ لأن المرأة هنا في أحيان كثيرة تتزوج أكثر من رجل، وأحيانا يتزوج خمسة أو ستة أو سبعة من الإخوة امرأة واحدة. إن نسب الأطفال إلى الأب هنا ليس شيئا هاما ولا يفكر فيه الرجال كثيرا.
سألت: وهل تحظى المرأة هنا بمكانة عالية ؟
وقال: نعم ، في بعض المناطق تعمل المرأة وتعول أطفالها وأزواجها. هذا إذا لم يسيطر عليها الرجل ويستولي على أجرها كما يحدث في بعض مناطق مزارع الشاي.
توقفت بنا السيارة أمام بيت صغير أنيق بني على هضبة مرتفعة تحوطه من جميع الجهات حديقة جميلة مليئة بالزهور الاستوائية النفاذة العطر وأشجار المانجو والجوافة وفواكه أخرى خاصة بهذه المنطقة. رحب بنا رجل هندي هو المشرف الإداري على هذه المرزعة التي تملكها شركة هندية، مساحة المزرعة 900 فدان ممتدة كالدرجات الخضراء من السفح إلى أعلى الجبل، يعمل فيها 910 عاملات وعمال معظمهم من العاملات، طلبت أن أذهب إلى العاملات لأحدثهن، لكن المدير قال لي: إن الصعود إليهن صعب؛ بسبب ارتفاع الجبل وتدرج الأرض.
وسألته قائلة: وكيف تصعد العاملات؟
قال: لقد تعودن ذلك.
قلت: أنا امرأة رياضية وأستطيع أن أصعد.
صحبني المترجم الشاب وصعدنا إلى فوق بين صفوف أشجار الشاي، بعد بضع دقائق أصبحت ألهث، وابتسم الشاب الهندي وهو يقول: إن العاملة من هؤلاء الفلاحات تصعد وتهبط هذا الطريق الشاق عدة مرات في اليوم وفوق ظهرها سلة كبيرة تجمع فيها أوراق الشاي، وعند الغروب تهبط الطريق وتسير حاملة سلتها حتى باب المصنع حيث تفرغ حمولتها وتنال أجرها حسب كمية ما جمعت.
وصلنا إلى أحد صفوف الفلاحات. وقد وقفن بنظام معين حسب صفوف أشجار الشاي، فوق ظهر الواحدة السلة الضخمة، وأصابعها تجمع وريقات الشاي العلوية بسرعة شديدة ودقة غريبة، نظرت إلي عيون الفلاحات في دهشة وأخذن يتأملن ملابسي ووجهي، ثم أخذن يضحكن ويتحدثن بلغة لا أفهمها اسمها «التامل».
واخترت واحدة منهن لها عينان تلمعان بذكاء وحيوية وسط وجهها الأسمر النحيف وسألتها: ما اسمك؟ قالت: اسمي ساروجا.
سألتها: كم عمرك؟
قالت: سبعة عشر عاما.
قلت: متزوجة؟
قالت: نعم.
لاحظت أن بعض النساء يرتدين «ساريا» كاملا وبعضهن يرتدين نصف ساري فقط، وعرفت أن المرأة المتزوجة هي التي ترتدي الساري الكامل، وهن يتزوجن في سن مبكرة جدا، ويعملن طول النهار وحين يعدن إلى البيت آخر اليوم يطبخن الطعام وينظفن البيت ويغسلن .
وسألت ساروجا : هل ذهبت إلى المدرسة؟
قالت: نحن لا نذهب إلى المدارس.
وضحكت النسوة من سؤالي وقالت إحداهن: نحن نعمل فقط.
وسألت ساروجا: وماذا يفعل زوجك؟
قالت: يعمل معي في المزرعة.
قلت: هل لك أطفال؟
قالت: طفلان.
قلت: أنت لا تزالين صغيرة، يا ترى كم من الأطفال سيكون لديك حين تصبحين في الثلاثين؟
قالت ساروجا: لن أنجب غير هذين الطفلين؛ لأن زوجي ذهب إلى الطبيب وأجرى له عملية التعقيم.
وعلمت من مدير المزرعة أن المشرفين الصحيين على المزرعة ينصحون العمال والعاملات بتحديد النسل حتى لا يزيد عدد أطفال الأسرة الواحدة عن اثنين أو ثلاثة، وحتى لا تنشغل الأم بأطفالها عن أعمال المزرعة، وفي المزرعة دار حضانة للأطفال حتى يشبوا ويصلح الواحد منهم للعمل في الحقل أو المصنع. إنها مستعمرة كاملة من الرجال والنساء والأطفال نظمت حياتهم بدقة الساعة من أجل أن يخدموا شيئا واحدا هو إنتاج الشاي. أما الربح الذي يعود من هذا الشاي فلا يعود إليهم وإنما إلى هؤلاء أصحاب المزرعة وأصحاب المصنع.
مصنع الشاي لا يختلف عن المزرعة في ذلك النظام الدقيق المحكم الذي يعرف كيف يأخذ من العاملة أو العامل أقصى الجهد وأكبر الإنتاج نظير أقل أجر وأقل حقوق. وكما تحتاج شجرة الشاي لمزاج وشروط خاصة لتنمو وتزدهر، كذلك تحتاج الأوراق الخضراء داخل المصنع إلى شروط خاصة لتتحول إلى ذلك الشاي الذي نشربه، عملية طويلة تبدأ بتجفيف الأوراق الخضراء بتعريضها لتيار من الهواء الجاف. هذا التجفيف له درجة معينة بحيث تجف الأوراق وتظل محتفظة بمرونتها ولا تتكسر، ثم توضع أوراق الشاي الجافة في آلة معينة لتلف كل ورقة على حدة على شكل اللوزة، ثم تنتقل إلى آلة أخرى حيث تكسر الأوراق ليسيل منها سائلها، ثم تنتقل إلى آلة أخرى ليعاد السائل إليها مرة أخرى، ثم عملية التخمير التي يقوم بها رجل خبير يعتمد في عمله على أنفه الذي تدرب لسنوات طويلة على قياس الدرجة المثلى لتخمير الشاي.
من حين إلى حين يتشمم هذا الخبير رائحة الشاي المخمر ، ثم يوقف عملية التخمير عند درجة معينة. سألت مدير المصنع: ألا توجد آلة قادرة على هذا العمل بدلا من أنف الخبير؟ وقال المدير الهندي: بالطبع هناك آلات حديثة حلت محل أنف الإنسان، ولكنا هنا لا زلنا نفضل أنف هذا الخبير؛ لأنه عجوز ومدرب وأنفه أكثر دقة من الآلة.
ولا أدري كيف سررت من هذه الحقيقة؛ فقد أكد هذا الكلام إيماني بأن حواس الإنسان إذا دربت تكون أكثر دقة وكفاءة من أية آلة؛ فالإنسان هو الذي اخترع الآلة، لكن كم تنسى المجتمعات الصناعية المتقدمة هذه الحقيقة ويضعون الآلة فوق الإنسان ويجعلون البشر عبيدا لها.
بعد عملية التخمير يجفف الشاي ليتخلص من البلولة التي تفسده إذا حفظ طويلا، ثم يمر بعد ذلك بمراحل النخل وتنقية الشوائب، ثم يعبأ في الصناديق الخشبية ويرسل إلى شركات التوزيع، حيث يخلط بأنواع متعددة من الشاي، ويعبأ في العلب الصغيرة التي نشتريها من السوق.
دهشت وأنا أتتبع هذه الخطوات الطويلة الدقيقة، ورأيت هذه الوجوه السمراء النحيلة من وراء الآلات تعمل بغير توقف، ورأيت أجساد الأطفال النحيلة الشاحبة وهي تتطلع إلى الجبل تغطيه أشجار الشاي، يدركون أن مصيرهم كمصير آبائهم وأمهاتهم في الحقل أو المصنع. رأيت البنات الصغار بأقدامهن المشققة يصعدن الجبل وفوق ظهر كل واحدة حمل كبير ينثني تحته جسدها الهزيل. دخلت بيوت المزارعين والمزارعات ورأيت أنهم ينامون على الأرض أو على شيء أشبه بالبرش القديم. دخلت بيت المدير الأنيق وقدم لي فنجانا من الشاي الفاخر فوق صينية من الفضة، كاد الشاي الفاخر أن يقف في حلقي. وحينما لاحظ المدير أنني أبتلع الشاي بصعوبة سألني قائلا: ألا يعجبك الشاي؟ إنه شاي درجة أولى.
قلت: هل هناك شاي درجة أولى ودرجة ثانية؟
قال: نعم بالطبع، الشاي درجة أولى هو الذي ينقى من الشوائب جيدا. وهذا لا يباع في السوق وإنما يرسل بناء على طلبات خاصة إلى الملوك والأباطرة ورؤساء البلاد.
سألت: والشاي درجة ثانية؟
قال: إنه الشاي الذي يخلط بأنواع أخرى من الشاي وتظل به بعض الشوائب. أما الشاي الدرجة الثالثة فهو الذي لا ينقى.
قلت: وهل هناك درجة رابعة؟
قال: نعم، ويسمى تراب الشاي، وهو التراب الذي يبقى بعد أن ينخل الشاي. وهذا هو الشاي الذي يباع في السوق المحلي بالهند.
قلت بأسى: وهذا هو ما يشربه هؤلاء الذين يزرعون الشاي والذين يصنعونه؟ قال دون أن يدرك معنى سؤالي: نعم.
وهكذا علمت أن هؤلاء النساء والرجال الذين يعملون طول النهار في مزارع الشاي ومصانعه لا يتذوقون طعم الشاي الذي يزرعونه ويصنعونه بأيديهم وعرقهم ودمهم.
في الهند لم أشعر أنني غريبة في بلد غريب، أمشي في الشوارع وأنظر إلى الوجوه والسماء والأرض والمباني والآثار فأنسى أنني في الهند وأظن أنني في مصر، بل إنني رأيت مصر في الهند أكثر مما كنت أراها وأنا في مصر، عرفت عظمة تاريخ مصر الذي لم أعرفه جيدا في مصر؛ اقترابنا من الشيء يجعلنا دائما عاجزين عن رؤيته جيدا، ولا بد من مسافة بيننا وبين الأشياء لنراها ونعرفها.
رأيت في الهند جذوري، طفولتي «ماضي وحاضري»، ولأول مرة تتلاشى غربتي مع نفسي، ويحدث نوع من الاتصال بين الحلقات المتقطعة في نفسي ووطني.
أعظم ما في الهند أنها توحي للإنسان بأفكار وأحاسيس جديدة. إنها تقوي الجزء العقلي والنفسي في الإنسان، تجعله أكثر اقترابا من نفسه الحقيقية؛ لهذا شعرت في الهند بسعادة غريبة، كالذي يكتشف نفسه من جديد، ويعثر على خصوبة جديدة في عقله وأحاسيسه، ويكتسب تلك القوة النفسية المجهولة والمعلومة التي تجعله قادرا على الخلق والابتكار.
هذه هي ميزة الهند التي لم أجدها في بلد آخر، وكم من بلاد زرتها فشعرت بالغربة مع نفسي والناس، بل كم شعرت بالغربة عن نفسي والناس في وطني أحيانا.
أعطتني الشهور التي عشتها في الهند وقتا كافيا لأقرأ شيئا من الأدب الهندي. كان في خطتي أن ألتقي بعدد من الأدباء والأديبات ذوي الإنتاج الجيد، ولم تكن هناك وسيلة لاختيار هؤلاء سوى أن أقرأ بعض الروايات والقصص، فإذا ما أعجبني شيء أكتب اسم المؤلف أو المؤلفة، كنت في رحلاتي السابقة أسأل أهل البلد عن أدبائهم وأديباتهم، ويذكرون لي بعض الأسماء المشهورة، وعلمتني التجارب أن هؤلاء لم يكونوا دائما أفضل الأدباء أو الأديبات؛ كأنما الشهرة تتناسب تناسبا عكسيا مع جودة الإنتاج الأدبي.
لم أكن متحمسة للقاء الأدباء الرجال، ليس ذلك لكونهم رجالا، ولكن لأنني وجدت بين إنتاج النساء ما استوقفني، وبمثل ما استوقفني كفاح المرأة الهندية في السياسة ونشاطها في الأحزاب استوقفني أدب المرأة الهندية، وبمثل ما أعجبت بشجاعة أنديرا غاندي وقوتها في حسم الأمور أعجبت بشجاعة المرأة الهندية التي تمسك القلم وتكتب.
والمرأة التي تكتب في الهند تتناول جميع القضايا في بلدها وفي الحياة تحليلا ونقدا بغير خوف ولا حرج. لا شيء أمامها اسمه موضوع حساس. لا في السياسة ولا في الدولة ولا في الحب وفي الجنس ولا في العمل، كل شيء في الهند وفي العالم أمام قلمها قابل للعرض والكشف.
إحدى الكاتبات واسمها «ساهجال» كتبت تنقد الحكومة وتنقد سياسة أنديرا غاندي، وبصرف النظر عن سلامة رأيها أو عدم سلامته فإنها استطاعت أن تعبر عن نفسها، ولم تستطع الحكومة أن تمنعها، بل والأهم من ذلك أن شيئا لم يحدث لها وظلت صداقتها بأنديرا غاندي كما هي، وساهجال تكتب في السياسة، وتكتب أيضا روايات وقصص، في روايتها الأخيرة بعنوان «هذا الظل» تكتشف حياة المرأة المطلقة في الهند، وتنقد كثيرا من التقاليد التي تحيط بالمرأة الهندية.
شربت الشاي الهندي في بيت ساهجال في دلهي، وحدثتني عن حياتها، وعن علاقتها بالزعيم نهرو، وعرفت أنها ابنة شقيقة نهرو، وأنها تأثرت إلى حد كبير بشخصية نهرو؛ لأنها نشأت في أسرته.
إحدى الكاتبات في الهند اسمها «كاملاداس» تمسك القلم كأنه مشرط في يد جراح، تشق اللحم وتكشف النخاع، تكتب عن حياتها بالشجاعة نفسها التي تكتب بها عن حياة الآخرين، آخر كتاباتها هي مذكرات حياتها. تقول عن نفسها إنها لا تملك إلا الصدق. وهذا الصدق دفعها إلى أن تترك بيتها وزوجها والمدينة الكبيرة بومباي وتذهب لتعيش في قريتها مع أهلها الأصليين «الناير»، حيث الثقافة الهندية الأصيلة وحيث تحترم المرأة ولها السيادة داخل البيت وخارجه كالإلهات القديمات. أمها كانت تكتب الشعر وهي راقدة على بطنها في سرير من أربعة عمدان. أما هي فكانت تنام ناحية قدمي زوجها، تركت بيتها وأولادها لزوجها وذهبت إلى البحر والصيادين. كان لها أصدقاء يشاركونها رؤية الجاموس والطبيعة. أما زوجها فلم يكن لديه وقت لرؤية جسم جميل ورائحة طيبة في السرير، أحيانا كانت تخلع «الساري» وتنزل في البحر ويضحك أصدقاؤها. كان النهر بغير ضفاف كأنهر الهند التي تفيض وتغرق القرى، عرفت الحب وظنت أن الحب إلى الأبد والشباب إلى الأبد، ولكنها عرفت بعد سنوات طويلة أن الوحدة هي التي إلى الأبد فقط.
النساء يملأن الفراغ داخلهن بالحب والأطفال. حين يملهن الحب وحين يكبر أطفالهن، ويذهبون إلى أذرع أخرى يتجهن إلى الله، واتجهت كاملاداس إلى آلهة الهند، اتجهت إلى شيفا وكريشنا وديرجا، لكن لم يستطع أي إله منهم أن ينفعها بشيء. كانت تكبر في السن وتزداد وحدتها، أصبح من الصعب - بل من المستحيل - أن يحبها أحد أو تحب هي أحدا.
حاولت أن تحتفظ بصدقها وشجاعتها لتشق طريقها نحو الموت دون أن تندم على حياتها الماضية، حين كانت تقارن زوجها بالأزواج الآخرين تشعر بعدم الرضا، لكن زواجها نجح لسبب واحد هو أن زوجها كف أن ينظر إليه كزوج، وملكت هي حريتها، الفرق بين الإله والإنسان هي الحرية، الإله حر والإنسان عبد، كاملاداس فخورة بأصلها من «الناير» الذي كان مجتمعا متعدد الأزواج في «كيرالا» حتى الربع الثاني من هذا القرن، مراسيم الزواج لم تكن تستغرق إلا دقيقة واحدة ثم يدخل الزوج إلى حجرة نوم زوجته. لم يكن ينفق عليها، ولا يعيش معها في بيتها، ولكنه يأتي إليها ليلا في ضوء القمر وينادي عليها قائلا «هو ... هو ...» حينما تسمح له زوجته بالدخول إلى حجرتها يدخل، وإلا فعليه أن ينتظر أو ينصرف إذا كان معها زوجها الآخر. كانت المرأة هي صاحبة النسب وتشعر بكرامتها.
تعرضت كاملاداس لبعض الهجوم لكنها تقول: إن معظم قرائها من الرجال والنساء سعداء بامرأة شجاعة تكتب أفكارها بصدق، طلبت منها إحدى الهيئات أن تقوم ببحث عن القيم الأخلاقية بين الأزواج في مدينة بومباي، وقامت كاملاداس بالبحث ونشرت نتائجه على الناس.
ولم تكن النتائج وحدها هي التي صدمت الناس في مدينة بومباي ولكن تحليل كاملاداس لها. كتبت هذه الأديبة والباحثة الهندية تقول إنها وجدت أن 96٪ من الأزواج يخونون زوجاتهم سرا خلال ساعات العمل، وفي حجرات الفنادق، وفي رحلاتهم إلى بلاد أخرى، وفي الشهور الأخيرة من حمل زوجاتهم أو أثناء الدورة الشهرية، وحينما سألت بعض هؤلاء الأزواج وجدت أنهم يحبون زوجاتهم ولا يفكرون في تركهن، ولكن هناك نوعا من البرود نشأ بسبب طول السنين، ورائحة العرق في الملابس، وتآكل الفكر. أما في حالة النساء فقد وجدت الكاتبة أن من كل مائة زوجة فإن 73 زوجة مارست الجنس مع رجال آخرين غير زوجها، وبحثت كاملاداس عن أسباب إخلاص الزوجات الباقيات - وهن 27٪ - فوجدت أنهن مخلصات ليس بسبب إيمانهن بالإخلاص الزوجي ولكن لأنهن قبيحات. إن القبح هو الذي أنقذ زواجهن أكثر من أي عامل آخر. وتقارن الكاتبة بين النوعين من الزوجات فتقول: يمكن التعرف على الزوجات غير المخلصات بسهولة؛ بسبب رشاقتهن، وحلاوة الابتسامة، والثقة في حركة العينين، وحركة الذراعين والساقين بخفة وسهولة، أما هؤلاء الزوجات المخلصات فلا رشاقة في حركاتهن، وشفاهن مدلاة في غباء وأسى، عصبيات، تؤنب الواحدة منهن زوجها أمام الناس لأي سبب تافه، على عكس الزوجات الخائنات اللائي يفضن جاذبية ورقة وحبا لأزواجهن. وقد دهشت الكاتبة من ملاحظتها، وتساءلت في نهاية البحث عن ماهية الزواج. ولم يستطع أحد أن يهاجم كاملاداس بعد هذا البحث؛ لأنهم أدركوا أنها كشفت النقاب عن حقيقة حياتهم التي يخفونها عن الآخرين بل عن أنفسهم أيضا.
ثالوث المحرمات في معظم المجتمعات في العالم هو الجنس والدين والحكومة. وقد استطاعت الكاتبة الهندية أن تمسك قلمها وتكتب في أي من هذه الموضوعات بغير رهبة ولا حرج. إن الروائية والشاعرة «أمريتا بريتام» إحدى هؤلاء اللائي نقدت بشعرها ونثرها كل ما هو مزيف في السياسة أو الحكم أو الدين أو الجنس . أكلت في بيت «أمريتا بريتام» عسلا بالجبن والشطة، وأهدتني روايتها الأربعين بعنوان «ذلك الرجل»، وقضيت ليلة كاملة أقرأ الرواية الصغيرة التي تكشف كثيرا من الزيف في موضوع الدين، تدور الرواية حول مأساة شاب أصبح يكره أمه ويحتقرها؛ لأنه علم أنه ليس ابن أبيه، وإنما هو ابن ذلك الكاهن الذي يشرف على المعبد الهندي. كانت أمه عاقرا لا تلد فذهبت إلى المعبد ووعدت الإله شيفا بأنه لو رزقها بولد فسوف تهبه لخدمة الإله، وحملت الأم بعد زيارتها للمعبد، وأنجبت ابنها الذي تركته وهو طفل ليخدم الإله في المعبد، وشب هذا الطفل خادما في المعبد تحت إشراف الكاهن الذي عرف منه أنه هو أبوه الحقيقي؛ إذ تقمص دور الإله شيفا وقاد أمه من يدها إلى حجرة مظلمة في المعبد حيث مارس معها الجنس. وصدمت هذه الحقيقة الشاب المخلص للمعبد والآلهة، وأصبح معذبا تؤرقه هذه الكذبة التي عاشتها أمه مع أبيه وخدعته مع ذلك الكاهن. في نهاية القصة ترقد الأم على فراش الموت تطلب رؤية ابنها قبل أن تموت، لكن الابن يرفض مغادرة المعبد ليزور أمه الزيارة الأخيرة، فيأتي إليه زوجها أو «أبوه» غير الحقيقي ويدور بينهما الحوار التالي:
الأب :
لماذا تكره أمك هذه الكراهية؟
الابن :
لأنها خدعتك، أنا لست ابنك، أنا ابن ذلك الكاهن.
الأب :
إنها لم تخدعني. لقد ذهبت إلى الكاهن وأنا كنت أعرف ذلك، لكنك مخطئ حين تقول: إنك لست ابني، أنا أبوك وأنت ابني رغم كل شيء، اتحاد الأجساد لا يهم يا بني، ولكن المهم اتحاد العقول، حين أعطى الكاهن جسده لأمك كان عقله متحدا بالإله شيفا، جسدي لن يصحبني بعد موتي ولكن عقلي سيصحبني، أنا الإله شيفا نفسه، والكاهن لم يكن إلا أداة لإرادتي، جسد الكاهن كان تحت إرادتي، أنت نتاج إرادتي وليس جسدي، ولكن الإنسان إرادة وعقل وليس جسدا؛ لهذا أنت ابني وأنا أبوك.
وتساءل الابن في دهشة: أي إن أمي لم تخدعك؟
وقال الأب: لا، إنها امرأة مثالية. أنا الذي خدعتها في أول زواجنا ، تركتها وهي عروس وسافرت للتجارة في بلد بعيد، وهناك عرفت بعض النساء وأصبت بمرض السيلان وفقدت قدرتي الجنسية. لم يكن من الممكن بعد ذلك أن أنجب أطفالا، لكني أردت أن يكون لي ابن من خلال جسد الكاهن وقد كان.
وقد نجحت رواية أمريتا ليس بسبب أحداث القصة، ولكن بسبب طريقتها العميقة الساخرة في عرض ونقد العقائد الدينية المنتشرة في بلدها، والمجتمع الهندي كأي مجتمع في العالم شديد الغضب حينما يمس أحد قدسية الآلهة. وقد هاجم بعض القائمين على الدين هذه الكاتبة واتهموها بالإلحاد والإساءة إلى صاحب الجلالة الإله شيفا.
وقالت لي أمريتا بريتام وهي تضحك بسخرية: معظم هؤلاء من أمثال ذلك الكاهن الذين يدعون صلتهم بالآلهة ليعالجوا النساء العاقرات، وكم تشتهر بعض المعابد في الهند بقدرتها على شفاء الزوجات اللائي لا يلدن، وبالطبع يكون داخل المعبد أحد الكهنة من ذوي الكفاءة الجنسية العالية.
ذكرتني رواية أمريتا بريتام بقصة سمعتها وأنا طفلة من إحدى قريباتي في قريتنا. قالت لي: إنها ظلت عشر سنوات لا تنجب، وأخيرا نصحتها بعض النسوة بأن تذهب إلى «شيخ» في القرية اشتهر بعلاج عقم النساء بواسطة حجاب من الأحجبة، وتذكرت أنها قالت لي إنها ذهبت إلى ذلك الشيخ الذي أدخلها إلى حجرة مظلمة وجعلها تخلع ملابسها ليعلق لها الحجاب في رقبتها، ودهشت حين سمعت ذلك وقلت لها بسذاجة - طفلة في العاشرة: ولكن ألم يكن من الممكن أن يعلق لك الحجاب في رقبتك دون أن تخلعي ملابسك ودون حاجة إلى الحجرة المظلمة؟ وقالت قريبتي الريفية وهي تتلعثم: لا، ليس ممكنا؛ لقد قال لي: إن الأرواح الشريرة التي تسبب لي العقم لا تغادر جسدي إلا في الظلام وبعد أن يصبح جسدي نظيفا عاريا كما ولدتني أمي.
لم أتذكر هذه القصة التي وقعت في قريتي كفر طلحة منذ أكثر من ثلاثين عاما إلا هذا اليوم وأنا في سريري في مدينة دلهي بالهند بعد أن قرأت رواية أمريتا بريتام. وهذا هو الأدب الجيد؛ إنه الأدب الذي يجعلنا نتذكر حوادث مضت عليها السنون والسنون ، نتذكرها لأول مرة ونفهمها أيضا لأول مرة. وهذا هو الفن الذي يضيء أركانا مظلمة في عقولنا. •••
شوارع المدن الكبيرة في الهند كدلهي وبومباي وكالكاتا تشبه بعضها البعض، في كل شارع تقريبا ترى أعدادا هائلة من راكبي الدراجات أو الموتوسيكل أو نصف الموتوسيكل ونصف الدراجة ونصف السيارة، الرجال والنساء هنا يركبون هذه الدراجات والموتوسيكلات، وأحيانا تركب الأسرة كلها - الأب والأم والأطفال - فوق دراجة واحدة أو موتوسيكل واحد، طريقة مفيدة عملية للتغلب على مشكلة المواصلات. والمرأة كالرجل تركب الدراجة أو الموتوسيكل رغم الساري الطويل الذي يطيره الهواء أو يشبك طرفا من أطرافه في جنزير الدراجة. تناقض غريب لا زال يحيط بالمرأة الهندية العاملة. لقد كسرت الحواجز وأقدمت على كل شيء سوى أن تخلع «الساري» الذي أجمعت نساء الهند على أنه زي غير عملي يعرقل خطواتها وتتعثر فيه وهي تركب الأتوبيس أو الدراجة بل وهي تسير فوق الأرض، بعض النساء يقولون إن «الساري» فيه أنوثة، وترد عليهن أخريات بأن تذهب الأنوثة إلى الجحيم وترتدي النساء زيا عمليا كالسروال مثلا يساعدهن على الحركة السهلة السريعة، بعض النساء يقولون إن الساري يميز المرأة الهندية عن غيرها من النساء في العالم، وترد عليهن أخريات بأن ما يجب أن يميز المرأة الهندية عن غيرها هو طريقة تفكيرها وليس طريقة لبسها، ويحتدم النقاش ويتدخل بعض الرجال الهنود فيقولون إنهم يفضلون «الساري»، لكن بعض النساء يثرن ويقلن: إن المرأة يجب أن ترتدي الملابس التي تريحها وتسهل الحركة لها والعمل، وليست الملابس التي يفضلها الرجال.
لكن المرأة في الهند - بصفة عامة - لا تزال حريصة على إرضاء الرجل، معظم الأسر في الهند أبوية، الرجل هو الذي يسيطر، والأطفال الذكور يحظون برعاية أكثر وطعام أفضل وتعليم أكثر من الأطفال البنات!
والمرأة في الهند هي التي تدفع المهر لزوجها، ويزيد مهر العريس بارتفاع طبقته وبارتفاع منصبه وتعليمه. وهذا بقايا النظام الأموي الذي كان سائدا في الهند، وكانت المرأة لها السيادة داخل البيت وخارجه. كانت هي التي تعمل وهي التي تملك وهي التي ترث وهي رئيسة الأسرة ينسب إليها أطفالها، وبعد أن ثار الرجل على المرأة وانتشرت الأبوية وفقدت المرأة سيادتها لم يتغير نظام دفع المهر كثيرا، وظلت المرأة هي التي تدفع المهر لزوجها.
قالت لي طبيبة هندية اسمها روماتالا (أي رحمة الله بالعربية): كان الناس يفرحون بالبنت حين كان للمرأة السيادة والنسب. أما الآن فيفرح الآباء والأمهات بالأطفال الذكور ولا يفرحون بالأطفال البنات، الابن كبيضة الذهب. أما البنت فهي التي تدفع المهر وتدفع عمرها من أجل الزوج والأطفال دون أن تأخذ شيئا.
لكن هناك جيلا جديدا من البنات الهنديات اللائي يثرن على هذا النظام ويرفضن دفع المهر للعريس، بل يرفضن الزواج كلية ما دامت عقلية الرجل الهندي أصبحت تنظر إلى الزوجة كمخلوق أقل من الرجل.
الغريب أن كثيرا من الرجال الهنود يعتنقون مثل هذه الأفكار المتخلفة عن المرأة، وكأنما قد نسوا تاريخهم. وقد قال أحدهم وهو طبيب متعلم: لقد خلقت المرأة للخدمة بالبيت، إن إمكانياتها الذهنية والفكرية لا تؤهلها إلا لهذا العمل.
وردت عليه إحدى النساء قائلة: ولكن أنديرا غاندي امرأة وقد ساعدتها إمكانياتها الذهنية والفكرية أن تحكمك أنت والرجال والنساء في الهند، فهل هي امرأة أم رجل؟ وسكت لحظة كأنما نسي أن امرأة هي التي تحكم الهند ثم قال: نعم هي امرأة، ولكن المرأة امرأة. وسألت: ماذا تعني أن المرأة امرأة؟ وحاول أن يتحدث مستخدما تلك الكلمات كالأنوثة والرجولة ... إلخ، وأدركت أن الرجال حتى وإن حكمتهم امرأة يظل تفكيرهم ونظرتهم إلى المرأة - وبالذات الزوجة - كما هو؛ وهذا يدل على أن الزواج أو الأسرة الأبوية هي البؤرة الأساسية التي يتربى فيها الرجال بهذه الأفكار، وباستمرار نظام الزواج الأبوي فسوف تظل هذه الأفكار في عقول الرجال (والنساء أيضا) سواء حكمهم رجل أو امرأة.
المرأة العاملة بأجر في الهند تمثل 19٪ من قوة العمل (ضعف الرقم في مصر) وهي تعمل في كل مكان، تعمل في الحقل وتعمل في المصنع وتعمل في المكتب، وفوق كل ذلك تعمل في البيت، تطبخ وتكنس وتخدم الصغار والكبار، فيما عدا القلة من نساء الطبقة المستريحة القادرات على استئجار الخدم والمربيات والطباخين.
النساء العاملات يمثلن 45٪ من جملة عدد النساء في الهند، من هؤلاء 77٪ يعملن بالزراعة فقط، والمرأة التي تعمل بالزراعة هي تلك المرأة الكادحة التي تشقى طول النهار في الحقل ثم تعود إلى بيتها تطبخ وتغسل وتنظف، وهكذا فإن معظم نساء الهند كمعظم النساء في العالم يدفعن كل شيء ولا يحصلن في النهاية إلا على ما يسد الرمق ومعاملة سيئة من الزوج المسيطر، وفي بعض مناطق بالهند لا تجلس الزوجة في حضور زوجها، وإنما تظل واقفة طول الوقت هي وبناتها. أما الزوج والأولاد الذكور فيجلسون، وفي بعض المناطق يحرم على البنات والنساء دخول المعابد التي لا يدخلها إلا الذكور، وتنتشر الكثير من الخزعبلات عن الأنوثة والرجولة والشرف.
ولا زال مفهوم الشرف في كثير من مناطق الهند قاصرا على الحفاظ على الأعضاء الجنسية وبالذات عند البنات والنساء، ولكن هناك مناطق تفرض العذرية على الذكور أيضا، ويحرم على الشاب أن يمارس الجنس قبل الزواج، وفي بعض المناطق يتزوج الرجل امرأة واحدة، أما المرأة فلها عدد من الأزواج.
وقد وجدت أن اختلاف أنظمة الزواج أبوية كانت أو أموية، تعدد زوجات أو تعدد أزواج، كل ذلك يرتبط بالنظام الاجتماعي والاقتصادي لهذه المنطقة أكثر مما يرتبط بالنظام الديني أو الأخلاقي. في بعض مناطق الجنوب وجدت أسرا أموية ومسلمة في الوقت نفسه، ووجدت أن المسلمين والمسلمات في بعض المناطق الهندية يحرمون على الرجال تعدد الزوجات؛ لأنه يضر بالمنطقة اقتصاديا، وهكذا. •••
قرأت اليوم في الجريدة الصباحية الهندية أن آلاف المسلمين الهنود في «مدراس» جنوب الهند صلوا مع الهنود الآخرين لإله المطر؛ ليشفق على الناس ويمنع عنهم ذلك الجفاف الشديد الذي حدث في المنطقة. وقالت الجريدة: إن الأمطار انهمرت من السماء بعد 72 ساعة من الصلاة، واعتقد كثير من الناس أن إله المطر هو الذي أنزل المطر على حين ذكر علماء الأرصاد الجوية أن الأمطار هطلت بسبب تكاثف السحب في المنطقة وهبوط في درجة الحرارة بسبب رياح من المحيط .
تذكرني بعض العادات في الهند بالعصور الوسطى، حين كان الناس يفسرون الأمطار والعواصف والكوارث تفسيرا دينيا، ولا زال بعض الناس في الهند (وفي أماكن كثيرة من العالم) يؤمنون بالخرافات والخزعبلات.
المرأة الأرملة في الهند تعامل أحيانا كالساحرة الشريرة في العصور الوسطى. كانت الزوجة الهندية إلى عهد غير بعيد تحرق نفسها بعد موت زوجها، أو كانت أسرتها تقيدها بالحبال وتلقيها في النار مع جثة زوجها (عادة الهنود حتى الآن هي حرق الموتى). وقد انقرضت هذه العادة تقريبا في معظم مناطق الهند، لكن المرأة الأرملة ظلت مكروهة، وبعضهم يتصور أنها سبب الكوارث التي تحدث أحيانا. بعض الأحزاب السياسية من ذوي الميول الرأسمالية والإقطاعية تستغل هذه العادة القديمة لتهاجم أنديرا غاندي (وهي امرأة أرملة). إنهم يروجون بين عامة الناس أن الكوارث التي تحدث في الهند من حين إلى حين مثل الفيضانات أو موت الآلاف من الجوع أو الأمراض، كل ذلك لأن التي تحكم الهند امرأة أرملة، ويحاول هؤلاء بطبيعة الحال أن يضللوا الناس عن فهم الأسباب الحقيقية للمشاكل وأهمها الاستغلال الاقتصادي للشعب الهندي، والاستعمار القديم والجديد الذي تحاول أنديرا غاندي أن تحاربه.
أشفق على هؤلاء الملايين من الهنود الذين يركعون في معابدهم كل صباح أمام تمثال الإله شيفا ليمنع عنهم المرض أو الجفاف أو الجوع، غير مدركين أن الإله شيفا وغيره من الآلهة لا يمنعون الجوع، وإنما الذي يمنع الجوع هو عدالة توزيع ثروات الهند على أهلها وناسها بدلا من أن تنهبها أقلية في الداخل ومستعمرون في الخارج. •••
براهما، فيشنو، شيفا، هم الآلهة الثلاثة الرئيسية في الهند للقوة والخلق والدمار، وهم يقولون إن الإله القادر على الخلق هو الإله القادر على الدمار؛ ولهذا يرمز شيفا إلى الخلق والقتل معا. تماثيل الإله شيفا متعددة الأشكال، أهمها ذلك التمثال الذي يرقص وله أربعة أذرع تقطر الدم من إحداها وتحت قدميه طفل مقتول. والقصة تقول: إن الإلهة برافاتي زوجة شيفا ولدت ولدا، لكن شيفا ظن أن برافاتي زوجة خائنة وأن هذا الولد ليس ابنه، ومسك شيفا السيف وفصل رأس الطفل عن جسده.
وغضبت الإلهة برافاتي ووضعت رأس فيل لابنها وعاش، وأصبح الإله «جانيش» له رأس فيل وجسد إنسان، ويرمز إلى الحب والخير والحظ السعيد، ويركع أمامه الهنود ليتباركوا به ويشعروا نحوه بالحب والعطف. أما الإله شيفا فهم يرهبونه ويخافون شره وغدره؛ ولهذا يغدقون عليه الأموال والطعام درءا لشره. لا يعرف هؤلاء أن هذه الأموال والطعام لا تذهب إلى شيفا وإنما إلى طبقة من الكهنة والنساك جعلوا المعبد مؤسسات تدر عليهم الخير.
ظاهرة غريبة لاحظتها في معظم المعابد ودور العبادة؛ ذلك أن معظم زوارها الذين يدفعون الهبات هم من الفقراء، رأيت رجالا ونساء يهبون طعام يومهم للمعبد ويصومون اليوم كله بغير طعام، لماذا؟ لأنهم يطلبون من الآلهة مطلبا مثل أن يرزقهم بولد أو يشفي مريضهم أو يحميهم من اضطهاد صاحب الأرض ... إلخ، وتتعدد الأسباب ويتكوم في المعبد الرزق الضئيل لآلاف الهنود الكادحين الأميين.
نسبة الأمية في الهند 60٪ بين الرجال، 80٪ بين النساء، تمر السنون وتظل مشكلة الأمية بغير علاج، كما هو الحال في بلاد كثيرة، ولكن كيف تعيش الأقلية المرفهة في المدن إذا فتح الفلاحون والكادحون عيونهم وأذهانهم؟ من أجل هذا تحافظ هذه الأقلية (التي لا تذهب إلى المعبد أبدا) على المعابد والآلهة والأديان كمؤسسات للتجهيل والتعمية بل والقمع والتخويف أيضا. •••
قرأت اليوم في جريدة الصباح شيئا طريفا؛ إن حاكم ولاية ماهر شترا (عاصمتها بومباي) - واسمه علي يافار يونج، اعترف بالأمس في خطابه وهو يفتتح أحد المعارض الكبيرة، أنه حينما كان سفيرا في فرنسا رغب في سرقة إحدى التحف الجميلة من متحف في باريس. لكنه قاوم هذه الرغبة ولم يسرق التحفة الجميلة، واستطرد هذا الحاكم الهندي يقول: لا بد أن أعترف أن هذا الإغراء بالسرقة كان أشد إغراء تعرضت له في حياتي بالرغم من أنني أميل أحيانا إلى سرقة بعض الأشياء التي تعجبني.
مثل هذا الكلام الصريح يتفق مع طبيعة الهنود البسيطة المباشرة. إنهم يعبرون عن أنفسهم أحيانا بصدق شديد يدهش الغرباء عنهم، بعض الناس يظنون أن ذلك الصدق نوع من البلاهة أو الغباء أو السذاجة. في مصر حينما يريدون التهكم بشخص ساذج صريح يقولون عنه إنه هندي، لكن احترمت صدق الهنود وصراحتهم. لقد احترمت حاكم ماهر أشترا الذي اعترف بأنه يسرق أو يميل إلى السرقة أحيانا. كثير من الحكام يسرقون دون أن يعترفوا بذلك.
والهنود أيضا - بصفة عامة - لا يجيدون المجاملة؛ فالمجاملة نوع من الكذب الاجتماعي الذي انتشر في العالم وأصبح نوعا من الرقي والتهذيب. كما أنهم لا يعرفون النفاق الوظيفي كما نعرفه في مصر، ويتعاملون مع وزرائهم وحكامهم ببساطة وبغير تلك الرعشة التي نراها دائما في اجتماعاتنا الرسمية، حضرت أحد الاجتماعات الكبيرة في دلهي ورأيت الوزير يدخل ويخرج كأنه شخص عادي ودون أن يلتف حوله أحد. وأثناء النقاش سمعت صغار الموظفين ينقدون الوزير بغير هوادة ولا رفق. وكان كل ذلك يبدو عاديا ومألوفا، وعرفت من بعد أن الهنود (وإن كانوا موظفين) تعودوا النقاش والنقد الصريح الذي لا يخشى أي رأس في الدولة. وهذا يرجع إلى تعدد الأحزاب في الهند، وإلى وجود أحزاب معارضة تنقد الحكومة وتشجع الناس على إبداء رأيها بغير خوف. •••
في نيودلهي عاصمة الهند حديقة مشهورة جميلة اسمها «لودي»، سرت فوق أحد ممراتها الحجرية بين مساحات الخضرة وأحواض الزهور، انعكست صورتي فوق سطح البحيرة الصافية، وزهرة الليلى البنفسجية على سطح الماء بدأت تغلق أوراقها مع اقتراب الغروب، كطفل يلف ذراعيه حول جسمه وينام وحيدا في العراء. شمس الغروب دافئة بحرارة الجسم تلون السحب باللون الأحمر والبرتقالي، تسقط فوق جدران المباني المغولية وتنفذ من بين ثقوب الأبواب الصغيرة المقوسة على الطراز الإسلامي. أحد الشباب وقف تحت القبة المغولية وراح يغني، الصوت جميل فيه عذوبة وقوة يتردد بين الجدران العالية والقبة المقوسة المرتفعة. لم أفهم كلمات الأغنية لكن الصوت ووجه الشاب جعلني أقف وأستمع، تجمع بعض الشباب والأطفال ورجل عجوز توقف عن السير وأخذ يستمع، عيون الأطفال تلمع كفصوص العقيق، النني الأسود بارز قوي لامع، لكن بياض العين تشوبه صفرة. معظم العيون في الهند تشوبها صفرة غريبة كعيون المرضى بالصفراء أو داء الكبد المزمن.
أحد السياح الأمريكيين توقف يسمع الغناء، تجمع حوله الأطفال، ملامحهم فيها نداء وأذرعهم ممدودة تنظر، وانكسارة الفقر والحرمان رغم تلك النظرة اللامعة الذكية المتحدية للجوع والقادرة على الانتصار حتى على الموت.
الشاب لا زال يغني تحت القبة المغولية السوداء، الصوت حزين قوي يصرخ بنداء مجهول للسماء، قرص الشمس اختفى تماما ولم يبق إلا اللون الأحمر فوق السحب وقمم الأشجار، نسمة باردة هبت وسقطت ظلال قائمة فوق البناء القديم ذي الرأس السوداء كرأس الغول، تخيلتها وأنا طفلة أسمع قصص الخرافات، وكلمة المغول تذكرني بحصة التاريخ في المدرسة وأنا في العاشرة من عمري، المغول أغاروا على الهند وحكموها ثلاثة قرون من القرن الرابع عشر حتى السابع عشر.
لم تكن مدرسة التاريخ تعرف كيف تثير خيالاتنا، كنا نحفظ عن ظهر قلب بعض الغزوات وبعض الأسماء والتواريخ بغير ترابط وبغير فهم، بقايا أبنية لا تزال هنا قائمة، مهجورة، قبابها السوداء توحي أن داخلها كان يقبع غزاة غلاظ القلوب.
وجود الهنود فيها سلام وهدوء، وشيء من الذلة والانكسار، تشبه وجوه بعض الناس في مصر، ترك المغول والإنجليز بصماتهم على وجوه الناس في البلاد التي استعمروها. كانت بصماتهم هنا في الهند أشد، ستة قرون وهم يمتصون ثروات هذا البلد، أهم ما خلفوه من آثار هو الفقر.
الذي يسمع عن الفقر في الهند ليس كالذي يراه، الفقر هو أن يعيش الموت ملاصقا للحياة، وتمتلئ المدن والشوارع بالأشباح المشوهة، الأمهات كالهياكل العظمية يحملن أطفالا ليسوا إلا عيونا وعظاما، أجساد راقدة على الرصيف مغطاة بملايين الذباب كأنما كتل من القمامة، الأذرع المعروقة ممدودة، واليد متكورة منتظرة أحدا يلقي في كفها شيئا تأكله. لوحة ثابتة تمثل صراع الإنسان الأخير من أجل البقاء، دائما الشحاذون في كل مكان، حتى في المطارات، الأطفال الجوعى، الشباب العميان، المصابون بالدرن الرئوي، معظم الوجوه مليئة بالحفر بسبب الجدري القديم، أعدادهم كثيرة إلى حد أنك تعتبرهم جزءا لا يتجزأ من الحياة، ولا بد أن تعترف بهم كعالم ضخم يتهدد عالما آخر من الناس يركبون السيارات ويتخمهم الأكل.
الجوع يكسح الحياة هنا كالفيضان. إنه لا يأتي. إنه دائما موجود كأحد الظواهر الثابتة في الحياة، والناس تحولوا إلى عيون سوداء جاحظة. لا يعيشون ولا يموتون لكن قلوبهم تستمر وحدها في الدق بطريقة مجهولة لا يعرفها الأطباء. •••
قراءة أساطير الأديان في الهند تكشف أمام العقل كثيرا من الأركان المظلمة، إحدى الأساطير تقول: إن الملك برتيفي ولد من الفخذ الأيمن لأبيه فاني. لكن بعض الهنود قالوا لي: إن طفلا من لحم ودم لا يمكن أن يولد من فخذ رجل، وإنما لا بد أن يولد من رحم امرأة عاشرها رجل. وحقيقة القصة هي أن الإلهة أو الملكة بافتي حملت بغير زواج وولدت فاني، وكان الإله أو الملك برتيفي يحبها ويرغب في إرضائها لتقبله زوجا فخرج إلى الناس وأعلن لهم أن فاني قد ولد من فخذه الأيمن. ولأن الناس يخشون تكذيب الآلهة أو الملوك فقد صدقه الكثيرون، وانتقلت هذه الأسطورة جيلا بعد جيل وأصبحت إحدى قصص الهنود الدينية. قالوا لي إنها تشبه إلى حد كبير قصة آدم وحواء مع اختلاف في الولادة؛ فقد حدثت هذه المرة من ضلع الرجل وليس من فخذه، وقصة مريم وولادة عيسى أو «المسيح» من جسد العذراء التي لم يلمسها رجل وإنما هي «روح» الإله. هذه المرأة التي صنعت في رحمها جنينا من لحم ودم.
أسطورة هندية أخرى من براهما فاقرات بيورانا تقول: إن الإله فيشنو أراد أن يضاجع تولس زوجة كورالسانكي، فتنكر في ملابس زوجها ودخل إلى حجرة نومها وضاجعها، لكن تولسي عرفت بخدعته فلعنته آمرة بتحويله إلى حجر، واستطاع الإله فيشنو أن يرد لها اللعنة آمرا بأن يتحول شعرها إلى نبات تولس ويتحول جسدها إلى نهر جانداك.
هذه الأسطورة يصدقها كثيرون من الهند، وحتى اليوم فإن أية زهرة في حوض نهر جانداك تمثل شاليجرام (عضو الذكر) وهي صورة الإله فيشنو. ويعبد الهنود حتى اليوم نبات تولس في الليلة المظلمة بغير قمر في شهر أغسطس من كل عام، ويحتفلون بازدهار نبات تولس بواسطة الشاليجرام (عضو الذكر) ويتباركون به، وهكذا تحولت اللعنة القديمة إلى بركة. وهذه هي حياة البشر، تعيش فيها اللعنات والبركات معا، مثل الشمس وظلها يحدثان في اللحظة نفسها والمكان نفسه. •••
وجدت الهند كالحياة مليئة بالتناقضات، في الوقت الذي يموت فيه آلاف الهنود من الجوع تضيع كميات هائلة من الطعام على شكل وهبات للمعابد الدينية، يعالج الإنسان هذه التناقضات بأن يفصلها الواحدة عن الأخرى ويتظاهر بأنه لا علاقة بين الواحدة والأخرى. بمعنى آخر: إن الاعتقاد بفكرة دينية يمكن أن يعيش جنبا إلى جنب مع التجربة العلمية؛ الاعتقاد بالفلك والتنجيم يعيش إلى جانب علم الفلك، الاستغراق في المتع الدنيوية والشرب واللذة الجنسية إلى جانب فلسفة روحية زاهدة في الأكل والشرب والجنس. يعالج الإنسان هذا التناقض بأن يفصل بين الدين والعلم، ويجعل الرأس مفصولا عن القلب، والروح مفصولة عن الجسد، والفكر مفصولا عن الواقع الحي.
يعيش الأديب الهندي هذا التناقض ويعبر عن أزمته وتمزقه بلغة غير لغته الأصلية. وهذه أيضا مشكلة أخرى، مشكلة اللغات المتعددة في الهند تعدد الأديان. أحد الأدباء الهنود وصف لي هذه المشكلة قائلا: إن الهندي يولد له لغة، ويتعلم بلغة، ويفكر بلغة، ويحلم بلغة، ويكتب بلغة. ولم أفهم حقيقة هذه المشكلة إلا حينما قابلت إحدى الشاعرات الهنديات واسمها «أكيلا» وسألتها عن مشكلة اللغة فقالت لي: حين ولدت سمعت أمي تتكلم لغة البنجاب، حين دخلت المدرسة تعلمت اللغة الإنجليزية، حين كبرت قرأت الكتب الهندية. أكتب الشعر باللغة الإنجليزية؛ لأني لا أذكر لغتي الأصلية البنجابية كما أنني لا أتقن الهندية، لكن شعري باللغة الإنجليزية لا يعبر تماما عني؛ لأنني أحلم وأبكي بلغتي البنجابية وهي لغتي وأنا طفلة. لست راضية عن شعري لأنه بلغة أخرى غير لغتي. وهذه مشكلة عامة في الأدب الهندي، وأعتقد أنها من أهم الأسباب التي تحول دون ظهور أدب عظيم في الهند.
وقلت للشاعرة («أكيلا» هي كلمة «عقيلة» بالهندية): قد يكون كلامك صحيحا، ولكن اللغة في رأيي ليست إلا الإناء الخارجي الذي يوضع فيه الشيء . كما أننا حين نحلم وحين نبكي لا نفعل ذلك بلغة معينة، أحلامنا وبكاؤنا له لغة واحدة هي عقل الإنسان، لكن هذا لا يعني أنك يمكن أن تكتبي شعرا أو أدبا جيدا بلغة لا تتقنينها. إتقان اللغة ضروري لأي فنان كاتب، وحينما يتقن الإنسان لغة من اللغات فإنه قد يعبر بها عن نفسه من لغة أبيه أو أمه.
وتساءلت «أكيلا»: لماذا إذن لا يوجد في الأدب الهندي شيء عظيم؟ وقلت لها: لقد قرأت شيئا من الأدب الهندي وأعترف أن فيه ما هو عظيم من بلاد كثيرة. قد تكون اللغة الإنجليزية أقل إتقانا، ولكن المعاني تكون أحيانا معاني عظيمة وتحملها الكلمات البسيطة بل الركيكة. لم أكن أجامل «أكيلا» كشاعرة هندية، لكني كنت قد قضيت عدة ليال ممتعة مع بعض كتابات الأديبات والشاعرات الهنديات، بعضها كتب مباشرة بالإنجليزية وبعضها ترجم إلى الإنجليزية، ولم أكن في حقيقة الأمر أجد فارقا بين الاثنين. إن الأفكار الجيدة تظل جيدة بأية لغة وبأي شكل، والأفكار الركيكة تظل ركيكة بأية لغة وبأي شكل.
وقالت أكيلا: هذا صحيح، ولكن اللغة الإنجليزية تذكرنا بالاستعمار الإنجليزي.
قلت: نعم؛ ولهذا بدأتم في الهند بعد الاستقلال تهتمون باللغات الهندية المحلية، ولكن المشكلة عندكم أن اللغات الهندية تزيد على سبع عشرة لغة. ومن المهم توحيد اللغة حتى يمكن للهندي أن يتفاهم مع الهندي (في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب أو الوسط) باللغة الهندية وليس باللغة الإنجليزية.
وقالت أكيلا: إحدى اللغات الهندية - وهي «الهندي»
Hindi - أصبحت هي اللغة الرسمية، وسوف تصبح في المستقبل هي اللغة التي توحد بين اللغات الهندية المتعددة.
قلت لها: حينئذ تستطيع الشاعرات والأديبات والأدباء أن يكتبوا باللغة التي يبكون ويحلمون بها.
وضحكت أكيلا، وكنت في أعماقي أدرك مشكلتها كشاعرة هندية مع اللغة الإنجليزية؛ لقد درست اللغة الإنجليزية مثلما درستها «أكيلا» وكثير من قراءاتي الأدبية والعلمية بالإنجليزية، وقد أكتب في النواحي الطبية والعلمية بالإنجليزية، ولكني حين أكتب الأدب لا أكتب إلا باللغة العربية. وقلت لأكيلا: إن مشكلة اللغة في الهند غير موجودة في مصر؛ لأننا في مصر لنا لغة واحدة هي العربية، نولد بها ونحلم بها ونبكي بها ونتعلمها ونتكلم بها في جميع أنحاء مصر بل في جميع أنحاء البلاد العربية. كما أن الإنجليز لم يعيشوا في مصر كما عاشوا في الهند ثلاثة قرون. وقد لعبت اللغة العربية - لكونها لغة واحدة - دورا في الصمود أمام اللغة الإنجليزية، ولم يستطع الإنجليز أن يفرضوها على المصريين كلغة رسمية كما فعلوا في الهند. لقد ظلت اللغة الإنجليزية في الهند هي اللغة الأولى في المدارس لسنوات طويلة، أما في مصر فقد كانت اللغة الإنجليزية هي اللغة الثانية فقط. أما اللغة الأولى فقد كانت دائما اللغة العربية.
وقالت أكيلا: إن مشكلتي كشاعرة (وهذه هي مشكلة جيل من الشعراء والأدباء في الهند) إنني لا أشعر أنني أملك زمام لغة واحدة، إنني أعرف أربع لغات (الإنجليزية، البنجابية، الهندية، الأردية) ولكني لا أسيطر سيطرة كاملة على أي منها، واللغة هي الأداة أو ريشة الشاعر أو الأديب، وإذا لم يسيطر الفنان على أداته سيطرة كاملة لا ينتج فنا جيدا، وسوف تظل مشكلة تعدد اللغات في الهند قائمة حتى تصبح لنا لغة واحدة هي اللغة التي نولد بها والحروف الأولى التي تطرق آذاننا ونحن أطفال في الهند، نحلم بها ونبكي بها ونكتب بها أيضا.
وأهدتني «أكيلا» ديوانها الأخير الذي كتبته بالإنجليزية، وقرأت أبياتها العميقة الرقيقة وهي تعبر عن مأساة قرية في البنجاب أغرق فيضان النهر بيوتها وحقولها. لم أقرأ في الشعر الإنجليزي الأوروبي أجمل من بعض أبياتها وهي تصف عيون الأطفال المشردين الجوعى، أو تلك الأبيات التي تصف بها النهر المقدس الذي كان يتطهر فيه الهنود من آثامهم الدنيوية ثم إذا به يحدث الدمار للقرية. رغم بساطة اللغة والكلمات إلا أنها تحمل أخطر المعاني؛ فإن أكيلا تسخر بشعرها من بعض الخزعبلات والمقدسات في بلدها، وكتبت تقول: كان النهر المقدس لا يغسل آثام الناس ولكنه كان يغسل عرق الفلاحين وطمث النساء وبراز الأطفال المرضى بالإسهال صيفا وشتاء. تبدو هذه الكلمات فجة غير أدبية شاعرية ، ولكن الفنان الحقيقي يستطيع أن يحول قطع الصخر إلى أحجار كريمة وجواهر.
قالت لي أكيلا إنها بدأت تكتب الشعر بعد أن اشتغلت مدرسة بإحدى المدارس الابتدائية وحين كانت تنادي أسماء أطفال فصلها لتعرف من الغائب تكتشف كل صباح غياب اثنين أو ثلاثة أطفال. وتطوي قائمة الأسماء وهي مطرقة ويظل الفصل صامتا بعض الوقت. كان الجميع يعرفون لماذا غاب زملاؤهم أو زميلاتهم. الموت في الهند كان يحصد الأطفال حصدا ابتداء من أيامهم الأولى حتى سن السادسة أو السابعة أو الثامنة، وعدد وفيات الأطفال الإناث أكثر من الذكور؛ فالطفلة الأنثى في الهند (كغيرها من البلاد) تنال من الإهمال والتجويع أكثر مما يناله الطفل الذكر. «أكيلا» لا تزال شابة في الأربعين، لكن ملامحها الدقيقة البريئة تشبه ملامح فتاة في الخامسة عشرة، وصوتها ناعم رقيق كصوت الأطفال. أما حين تنظر داخل عينيها تدهشك هذه النظرة العميقة الغائرة الموغلة في السن كنظرة رجل عجوز في السبعين من عمره، وكان ذلك سر جاذبيتها وقوتها. إن الألم هو الذي يصنع الإنسان، لكن الفنان الحقيقي هو الذي يحول الألم إلى فن جيد، ويظل الفنان رغم السنين شابا قويا، بل يظل طفلا بريئا رقيقا رغم تراكم الخبرات في قاع عينه.
وقالت أكيلا: ماتت أختي وهي في الخامسة من عمرها، قبل أن أشتري لها «الساري» الأحمر الذي وعدتها بشرائه، وماتت أمي قبل أن أستلم أول مرتب لي وأعوضها عن شقائها، أما حياتي أنا فهي صراع مستمر من أجل البقاء على ظهر الأرض، أنا لا أتزوج ولن أتزوج ولكني أعيش الحب.
شعرت صباح اليوم بقلق غريب نحو طفلي الصغير الذي تركته بالقاهرة مع ابنتي الكبرى، تذكرت أنني حلمت بالأمس حلما مزعجا، نسيت تفاصيله في الصباح. لكنه تركني بذلك الشعور المقلق الذي دفعني إلى أن أمسك التليفون وأطلب بيتي في القاهرة.
لم أكن أعلم أنني سأضطر للانتظار أربعة عشر يوما بلياليها، وكل يوم يدق الجرس ويأتيني صوت عاملة التليفون الهندية تقول: ستكون معك القاهرة بعد لحظات، ارفعي السماعة، وأظل رافعة السماعة طويلا ثم يأتيني صوتها مرة أخرى تقول: معذرة، وجدنا خط لندن مشغول، وأتساءل في دهشة: لندن؟ وما شأني أنا بلندن، أنا أريد الاتصال بالقاهرة؟
وتقول العاملة الهندية: ولكن جميع الخطوط عن طريق لندن، وخط لندن مشغول طول الوقت. دهشت أول الأمر لكني تذكرت أن الإنجليز استعمروا الهند ومصر فترة من الزمن، ولكن بعد خروج الإنجليز من الهند ومن مصر لماذا لا يكون هناك خط مباشر بين دلهي والقاهرة؟
بالطبع ظل خط لندن مشغولا، وبعد أربعة عشر يوما جاءني صوت ابنتي من القاهرة، ولم أستطع أن أسمع الكلمات بوضوح وضاعت دقائق المكالمة هباء دون أن أسمعها أو تسمعني. •••
الأدب الهندي أيضا لا يصل إلى القاهرة (كخطوط التليفون) إلا عن طريق لندن، نحن لا نقرأ من الأدب الهندي إلا ما يترجم إلى الإنجليزية في لندن، والهنود أيضا لا يعرفون من الأدب العربي إلا ما يترجم إلى الإنجليزية في لندن، ولندن لا تترجم من الأدب الهندي أو الأدب العربي إلا ما يروقها، وما يتفق مع نظرتها إلى الهند أو العرب؛ ولهذا فإن معظم ما في الأدب الهندي أو العربي لم يترجم في لندن، وظل مغلقا في السوق المحلية ولم يصل السوق العالمية، وبالطبع لم يحصل على جائزة نوبل؛ ولهذا أيضا لم نسمع عن أديب عظيم في الهند كما نسمع عن هؤلاء الأدباء العالميين من أمثال: هيمنجواي وكافكا وشتاينبك وغيرهم، مع أن الذي يذهب إلى الهند ويقرأ بعض إنتاج الأدباء والأديبات في ولايات الهند المختلفة يكتشف أن في الأدب الهندي ما هو عظيم، وما هو أكثر خصوبة وتنوعا من بعض إنتاج الأدباء العالميين الذين درجنا على أنهم هم العظماء وحدهم.
وكما حرمت المستعمرات من خيراتها وثرواتها المادية فقد حرمت أيضا من ثرواتها الفكرية والأدبية والفلسفية. وكما حرمت المستعمرات من كبريائها وكرامتها الوطنية حرمت أيضا من كبريائها وعظمتها في الأدب والفن أو العلم والفلسفة.
إن من يدرس الفلسفة الهندية القديمة يدرك أنها تحتوي على أفكار ومعان أكثر عمقا من بعض فلاسفة الغرب المشهورين، بل إن بعض هؤلاء الفلاسفة العالميين قد أخذوا الكثير من أفكارهم من الفلسفة الهندية القديمة. •••
اعتكفت عدة أيام في البيت وقرأت كتاب «الجيتا» وهو أهم الكتب المقدسة للدين الهندوكي، ويحتوي على فلسفة هذا الدين العريق، وكان الهنود يقرءونه حينما كانت أوروبا غارقة في ظلام الجهل، ودهشت وأنا أقرأ «الجيتا»؛ فقد وجدت فيها كثيرا من الأفكار الحديثة في علم النفس والفلسفة. في أحد فصولها عن النفس البشرية وتقسيماتها خيل إلي أنني أقرأ أفكار «رونالد لينج» أحدث علماء النفس في إنجلترا اليوم.
تقسم «الجيتا» النفس إلى غير حقيقية وتسميها اللا نفس، والنفس الحقيقية وتطلق عليها اسم «النفس».
أما علماء النفس المحدثون فيستخدمون كلمة النفس المزيفة والنفس الحقيقية، وهناك بالطبع اختلافات في التحليل والشرح، ولكن كم يأخذ هؤلاء العلماء الأوروبيون من الفلسفات القديمة! وكم يتجاهلون مصادرها الحقيقية!
وكما طمس الأوروبيون والمستعمرون الحضارات القديمة التي ازدهرت في الشرق مثل الحضارة المصرية القديمة، حضارة الهند، حضارة العرب وغيرهم، فقد طمسوا أيضا أدبهم وثقافتهم الحاضرة.
وتدخل «الجيتا» بعمق في تحليل النفس البشرية وفي الأمور الفلسفية، وتنكر وجود قوى خارج الإنسان مجهولة له. تقول «الجيتا»: إن هذا الشيء الذي داخلنا هو الذي يرصد حركتنا، هو النفس الحقيقية، وهي ساكنة ثابتة؛ حيث لا يمكن لها مراقبة النفس الأخرى إلا من موقع ثابت ساكن. هذه النفس الساكنة الثابتة هي النفس الخالدة في رأي «الجيتا»؛ أي هي «الله»، بمعنى آخر: أن «الله» داخل الإنسان وليس خارجه. وهذا المعنى هو أحد المعاني الحديثة التي عبر عنها بعض الفلاسفة المحدثين من أمثال: إريك فروم ورواد ما سمي بالفلسفات الإنسانية. تقول «الجيتا»: إن أي إنسان يمكن أن يكون إلها إذا ما ابتعد عن نفسه غير الحقيقية واقترب من نفسه الحقيقية الخالدة. إن النفس غير الحقيقية هي النفس النهمة إلى الملذات العادية الدنيوية الزائلة. أما النفس الحقيقية فهي التي تنتصر على تلك الرغبات وتعلو عليها وتصل إلى اكتشاف جوهر السعادة الحقيقية التي لا تزول. وتدعو «الجيتا» الإنسان إلى أن يفكر طويلا وأن يحاول أن يصل إلى نفسه الحقيقية عن طريق الزهد والعزلة والانفصال عن الحياة والتفكير العميق الطويل. لكنها تقول للإنسان في بعض أجزاء منها إنه لا بد أن يعمل في الحياة بغير كلل أو ملل. والسؤال هنا: أليس من حق الذي يعمل أن ينال عن عمله أجرا يساعده على الاستمتاع بما في الحياة من ملذات؟ كيف إذن تدعوه «الجيتا» إلى العمل ثم تدعوه إلى الزهد والانعزال عن الدنيا وما فيها؟! هذا تناقض واضح تحاول «الجيتا» أن تفسره بأن تقول: إن الوصول إلى النفس الخالدة الكلية أمر بالغ الصعوبة، ولا يصل إليه إلا القلة من صفوة الناس.
وهناك عبارة في «الجيتا» تقول فيها للناس ما معناه أن اعملوا وانظروا إلى العمل ذاته ولا تطلعوا إلى ما سيعود عليكم من هذا العمل. وبرغم هذه الفلسفة العميقة الإنسانية القائمة على الفعل والتفكير والتأمل إلا أنني لا أتفق مع هذا الرأي الذي يدعو الناس إلى العمل دون أن يتطلعوا إلى نتائج العمل؛ لأن هذا الاتجاه يسهل لغيرهم أن يستغلهم ويربح من وراء جهودهم وعملهم. وقد وجدت في «الجيتا» رغم ارتفاع قيمتها الفلسفية والفكرية بعض التناقضات التي لا يخلو منها أي دين من الأديان. لكنها في رأيي من أكثر الكتب الدينية اعتمادا على الفعل والتفكير المنطقي الفلسفي وليس على المعجزات والخرافات والأحكام القاطعة التي لا تقبل المناقشة. إن الإنسان هو المعجزة الوحيدة في «الجيتا»، وهي تحثه على أن يكتشف نفسه وقوته العظيمة الداخلية ولا يكون ضحية للظروف الخارجية. إنها تقول: إن الإنسان سيد نفسه وسيد الظروف الخارجية أيضا، ويجب ألا يرضخ لها وأن يغيرها لصالح الناس جميعا.
كنت أتساءل دائما: لماذا لا يخاف الإنسان الهندي الموت كما نخافه نحن؟ ووجدت الإجابة على هذا التساؤل في «الجيتا» إنها تقول إن الموت ليس موتا، وإنما هو انتقال الروح من جسد إلى جسد آخر أفضل من الجسد الأول. كما نفرح نحن بانتهاء الطفولة وانتقالنا إلى مرحلة النضوج، يفرح الهندي بالموت ويرحب به كانتقال إلى حالة أفضل وأكثر نضوجا.
تقول «الجيتا» أيضا: إن التغير هو قانون الحياة الوحيد الذي لا يتغير، وإن الخلود هو الحالة التي يصل إليها عقل الإنسان حين يقبل أن كل لحظة وكل تجربة وكل عقل وكل جسم وكل شيء في الحياة ليس خالدا. كل شيء في العالم يتغير: الحر والبرد، فلماذا يضايقني الحر أو البرد؟ كل موقف يتغير: الحزن أو الفرح، النجاح أو الفشل، فلماذا يضايقني الحزن أو يسعدني الفرح؟ الهندي الحكيم في «الجيتا» هو الذي لا يفرح ولا يحزن ولا يتألم من حر أو برد أو جوع أو عطش. يقول اللورد كريشنا في إحدى فقرات «الجيتا»: «هذا الإنسان الصلب الذي أصبح لديه الفرح والحزن سواء بسواء. إنه أهل لأن يفهم خلود الروح.»
من هذه الفلسفة ظهر في الهند هذا الاتجاه إلى الانتصار على الألم وتحمل كافة أنواع التعذيب، كالنوم فوق المسامير، ورفض الملذات ومنها الطعام والجنس، واستعذاب الحرمان والآلام. وقد أثرت هذه الفلسفة الهندية القديمة في غاندي وأصحابه وفي كثير من زعماء الهند، بل في كثير من أفراد الشعب الهندي العادي. لا أظن أن أحدا في العالم يستطيع أن يتحمل الفقر والجوع كما يتحمله الإنسان الهندي. هذه الفلسفة لها ميزات ولها عيوب. من ميزاتها أنها تقوي الناحية النفسية والروحية في الإنسان. لكنها من ناحية أخرى تضعف رغبته في محاربة أسباب الفقر والجوع، بل تجعله فريسة سهلة للمستغلين والمستعمرين.
وقد حاول الإنجليز طوال استعمارهم للهند أن يزيدوا من فلسفة الزهد هذه كما فعلوا بالأديان في المستعمرات الأخرى.
في بعض فصول «الجيتا» شرح علمي طويل للنفس الإنسانية ومراحل العمر المختلفة. تقول «الجيتا»: إن طفولتنا ليست إلا مرحلة تموت وتولد بعدها مرحلة الشباب، التي تموت بدورها وتولد الشيخوخة، ولكننا نذكر الطفولة والشباب والتجارب التي مرت في حياتنا وانتهت.
هذه الذاكرة التي ترصد حركتنا وتجاربنا التي تبدأ وتنتهي لا بد أن تكون هي ساكنة ثابتة. لا يمكن لنا أن نرصد حركة الشيء ونحن نتحرك داخله. لا نعرف حركة القطار ونحن داخله. وكذلك النفس الإنسانية، لكل إنسان منا نفسان: نفس تتحرك وتعيش التجارب ، ونفس أخرى ساكنة لا تتحرك ترقب النفس الأخرى. تقول «الجيتا»: إن النفس الساكنة الثابتة هي النفس الخالدة غير المتغيرة، وهي الحقيقية، وهي الواعية. أما النفس المتحركة فهي غير حقيقية، وهي زائلة، وهي متغيرة، وهي غير واعية بما يحدث لها؛ لأنها عاجزة عن الرصد والمراقبة؛ وبالتالي عاجزة عن الوعي وإدراك حقيقة الأمور.
تحث «الجيتا» الإنسان على أن يكافح من أجل أن يصل إلى نفسه الحقيقية غير المتغيرة، وبهذا ينتصر على الموت ويظل حيا وإن مات جسده؛ فالجسد ليس إلا جزءا من النفس غير الحقيقية الزائلة.
يقول اللورد كريشنا «لارجونا» في إحدى فقرات «الجيتا»: «حارب لا تخش الموت وأنت تقاتل. حين يقتل جسدك فسوف تظل نفسك الحقيقية خالدة، كما تخلع ملابسك تخلع النفس الجسد عند الموت وترتدي جسدا آخر جديدا أكثر تناسبا لها». رسالة كريشنا للإنسان هي أن يبتسم؛ فالإنسان الحكيم هو الذي لا يحزن أبدا. أما البكاء فليس إلا للبلهاء. إن الحياة ليست إلا سلسلة متصلة لا نهائية من الولادة والموت والولادة والموت. والإنسان لا يموت أبدا وإنما يتخذ جسده من كل موت أشكالا مختلفة. وهذه الفكرة تشبه ما قاله الماديون من أن المادة لا تفنى وإنما تتحول إلى أشكال أخرى من المادة، جسد الإنسان يتحول عند الموت إلى كربون وغازات تدخل في تكوين كائنات أخرى حية وهكذا. وكما قال الفلاسفة: إن قانون الحياة الوحيد الثابت هو قانون التغيير، قالت الجيتا أيضا هذه الحقيقة، لكن «الجيتا» فصلت بين الفلسفة وبين الحياة التي يعيشها الإنسان، وأوقعت الإنسان العادي في تناقض شديد مثلها مثل الأديان الأخرى التي فصلت بين الدين والدنيا. كما أنها أسست فلسفتها على وجود المطلق وهو النفس الخالدة غير المتغيرة، على حين أن الفلسفة المادية تقول: إن كل شيء في الحياة نسبي وليس هناك شيء مطلق.
وتدخل «الجيتا» أيضا في شرح قانون السببية في الحياة وتقول: إن كل شيء له سبب. لكنها تقول إن هناك عالمين، عالم الأسباب، وهو غير مرئي، وعالم المسببات، وهو العالم المرئي، وإن الخروج من العالم اللا مرئي إلى العالم المرئي هو نوع من الخلق ويتبع قانون السببية.
تقول «الجيتا»: إن الذي يخلق هو الإنسان حين يدرك عظمة نفسه. أما الإنسان الضال فهو الذي نسي عظمة نفسه. الله هو الإنسان حين يدرك عظمة نفسه. لورد كرشنا كان إنسانا عرف عظمة نفسه؛ ولهذا استطاع أن يخلق الجيتا. الخلق يحدث مرة واحدة، ويعجز الإنسان عن إعادة ما خلقه مرة ثانية. لورد كريشنا نفسه عجز عن إعادة «الجيتا» حين طلب منه «أرجونا» أن يكتبها مرة أخرى. هذا الخلق العقلي والفني أو الإلهام ليس اتحاد الإنسان بنفسه. وهو يتطلب جهدا وصبرا وقدرة على التركيز على النفس من أجل اكتشافها.
وقد وجدت أن «الجيتا» كانت أكثر من العقل الغربي الحديث إدراكا لماهية الإلهام الفني وضرورة الجهد الإنساني والعمل المتصل للوصول إليه. كثير من المفكرين في الغرب قالوا: إن الإلهام الفني عملية مجهولة وتأتي للإنسان بالصدفة. بعضهم قال: إن الإلهام يهبط من السماء. كان الدين الهندوكي لا يعترف إلا بالجهد الإنساني، وليس في هذا الدين إله سوى الإنسان، وليس فيه معجزات أمام الإنسان الخلاق الذي عرف نفسه واكتشفها.
وتشرح «الجيتا» فلسفة «اليوجا» وتقول: إن اليوجا هي وصول الإنسان إلى النقاء العقلي، أو إلى الارتفاع فوق «الأنا» وفوق العقل العادي والتحرر من الأضداد في الحياة؛ لأن الحياة تقوم على الأضداد، على الخير والشر، على الفرح والحزن، على الألم واللذة ... وهكذا. اليوجا ارتفاع فوق كل هذا. معنى ذلك أن ينتصر الإنسان على الألم وعلى اللذة أيضا ويصبح بغير ألم وبغير لذة.
اليوجا هي فن العمل بغير ألم، هي أن يصبح الإنسان منفصلا عن رغبات «الأنا» جميعا سواء كانت رغبات خير أم شر.
وتقول الجيتا: إن فن الحياة هو أن تعيش هذه اللحظة الحاضرة؛ لأنها اللحظة الحقيقية الوحيدة؛ فالماضي مات، والمستقبل لم يولد بعد. لا تندم ولا تحزن على شيء مضى، ولا تأمل ولا تخف من أي شيء سيحدث في المستقبل. ذكرني هذا بأغنية زوربا اليوناني حين قال: لا أخشى شيئا، لا آمل شيئا، أنا حر. تقول «الجيتا»: عش هذه اللحظة الحاضرة بكل ما عندك، انس نفسك أو أعط نفسك كلية لهذه اللحظة. حينما تقوم بعمل ما أعط نفسك تماما لهذا الشيء الذي تعمله تكتشف أنك قد خلقت شيئا عظيما.
أن تنسى نفسك في اللحظة الحاضرة معناه أن تنسى أحزان وأفراح الماضي، وأن تنسى آمال ومخاوف المستقبل.
بعبارة أخرى: أن تكون حرا، معناه أن تنسى «الأنا» وتعيش ملتصقا «بالنفس» الخالدة فيك أو «الله» داخلك، أن تكون كالجبل أو البحر أو المحيط الذي لا يؤثر فيه شيء. هنا القوة والانتصار على كل شيء في الحياة، والوصول إلى حالة من السمو فوق الخير والشر معا.
بهذا كله لا ينشغل عقلك في القلق أو الخوف أو الترقب أو الندم أو الأمل أو غير ذلك من هذه المشاعر والرغبات، يتفرغ العقل تماما لما هو يعمله في هذه اللحظة.
تقول الجيتا: إن هذا التفرغ الكامل هو سر العبقرية وسر قدرة الإنسان على الخلق، وسر النجاح في العمل والفن وأي شيء آخر.
لكن نسيان النفس أو إغراق النفس في اللحظة يحتاج إلى جهد وتركيز شديدين. إنها حالة إدراك نفسية عالية جدا وعظيمة القوة. هذه القوة التي لا توصف (تسميها الجيتا المايا) مثل قوة الكهرباء التي لا ترى.
هذه القوة لا ترى إلا فيما تحدثه من آثار الكهرباء، لا ترى إلا من خلال تحريكها للآلات الضخمة.
وهذه القوة النفسية العالية مثل الكهرباء. لا ترى ولكنها تجعل الإنسان قادرا على القيام بأعظم الأعمال وتحريك الصعب.
حين يصبح العقل نقيا من خلال الإغراق الكامل في اللحظة الحاضرة والتفاني في الشيء الذي يعمله فإنه يصبح قادرا على أن يخترق «حجاب الجهل» الذي يفصله عن عظمة نفسه الكلية. هذا الحجاب من الجهل تصفه «الجيتا» على أنه يشبه النسيج الرقيق الشفاف من الشك، وتردد الإنسان في فهم نفسه أو ممارسة قوتها، وهذا ما يسمى بالقوة الحاجبة أو المضللة.
ولكن قبل أن يصبح العقل نقيا تماما، وقبل أن يصبح قادرا على الرؤية من خلال ذلك الحجاب، وقبل أن يصل إلى تلك العظمة التي تشع حرارة وضوءا كالشمس، فإنه لا بد أن يعرف العالم الخارجي ولذائذه كنوع من التسخين الصناعي (يشبه مدفأة صغيرة كهربية أو من نار الفحم). ولكن حين يكتشف الشمس فسرعان ما يهجر تلك النار الصغيرة ويخرج إلى الخلاء والرحابة والشمس، ويحصل الإنسان على الحكمة والمعرفة، ويستطيع أن يفرق بين «النفس» و«اللا نفس» أو بين الحقيقي وغير الحقيقي، ويصبح كل شيء في العالم أمامه سواء؛ لا يفرح ولا يحزن ولا يغضب، ولا يأمل ولا يخاف ولا يقلق، يصل عقله إلى حالة الاستقرار الكاملة حيث لا يهزه شيء ولا يغيره شيء. هذا الإنسان تقول عنه «الجيتا» إنه قد حصل على الحكمة أو «الجيتا» أو قيمة الوعي.
مثل هذا الإنسان يصبح أهلا للزعامة أو النبوة أو لقيادة غيره من الناس للوصول إلى الحكمة والمعرفة. ولكنه قد يكون مكروها بسبب قوته العظيمة؛ فالناس يخشون الشخص الذي لا ينفعل مثلهم ولا يتأثر ولا يغضب ولا يفرح ولا يؤثر فيه شيء. إنهم قد يطاردونه وقد يقتلونه كما فعلوا مع بعض الزعماء والأنبياء وأصحاب الرسالات.
ذكرني هذا التحليل في «الجيتا» برواية «فولكنز» بعنوان «ضوء في أغسطس». كان بطل هذه الرواية (كريسماس) لا يغضب ولا يفرح، وكان الناس يندهشون له ولا يرونه إلا مستغرقا في عمله أو مستغرقا في تدخين سيجارة مثلا، وانتهى به الأمر إلى أن قتلوه لأسباب متعددة، أما صديقه الآخر «براون» فكان على عكسه؛ كان كتلة من الانفعالات، يضحك ويغضب في اللحظة الواحدة عدة مرات، وكان الناس يحبونه لكنهم في أعماقهم يحتقرونه. أما «كريسماس» فكان مكروها، لكنهم في أعماقهم كانوا يحترمونه ويعجبون بقوته ويتمنون أن تكون لهم مثل هذه القوة.
تقول «الجيتا» إنه بالوصول إلى الحكمة وهذه الدرجة العليا من الوعي فإن الإنسان يصل أيضا إلى السعادة. هذه السعادة لا يصل إليها الإنسان إلا بعد أن يجتاز ثلاث مراحل: (1)
معرفة لذائذ ورغبات جسمه وعقله عن طريق التجربة. (2)
التخلص من هذه اللذائذ والآلام معا والوصول إلى حالة عدم الرغبة في شيء . (3)
الوصول إلى لذة جديدة هي لذة الوصول إلى «النفس».
إذا توقف الإنسان عند أية مرحلة من هذه المراحل يصبح إنسانا شقيا أو مريضا. لا بد أن يكمل الطريق كله ليصل إلى السعادة الإيجابية الحقيقية. إن المرحلة الأولى - وهي معرفة لذائذ الحياة - ليست إلا سعادة مؤقتة سلبية. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة شقاء وتعاسة ومرض نفسي إذا لم يكملها الإنسان بالمرحلة الثالثة ويكتشف اللذة الجديدة.
ويشبه هذا التحليل ما كتبه «إريك فروم» عن الحرية السلبية الإيجابية، وهي تكاد تكون موازية للسعادة السلبية والسعادة الإيجابية. ويقول إريك فروم: إن الحرية السلبية وحدها تسبب القلق والتعاسة والوحدة وغربة الإنسان عن نفسه، أما السعادة الإيجابية فهي تعيد صلة الإنسان بنفسه الحقيقية والعالم من حوله فلا يشعر بالوحدة ولا الشقاء.
ويشبه أيضا «رونالد لينج» حين كتب «عصفور الجنة». وقد وصف «لينج» رجلا تناول عقارا (من عقارات الهلوسة الحديثة وتسمى عقارات سيكوبليك) وأنه استطاع أن يخترق حجاب الجهل (مع الفارق في التشبيه) وأن يصل إلى درجة أعلى من الوعي إلى حد أنه أحس أنه الله. ووصف «لينج» حالة الخوف التي تصاحب التجربة بأنها حالة أشبه بالجنون وفقدان العقل، لكن ما إن يجتازها الإنسان بشجاعة وقوة حتى يصل إلى تلك الدرجة العالية من الوعي ويكتشف نفسه وقوته.
من خبرتي مع بعض حالات الإدمان بعقارات مختلفة ومنها ل. س. د وصف لي المدمنون حالتهم حين يجتازون بواسطة العقار حاجز الخوف، ويصلون إلى تلك الحالة المدهشة من الرؤية الجديدة التي توحي إليهم بأفكار فنية عالية.
لم تتكلم «الجيتا» بالطبع عن تلك العقارات؛ لأنها لم تكن تعرفها، لكن بعض علماء النفس قارنوا بين الوصول إلى تلك الرؤية الجديدة عن طريق العقارات (أي صناعيا)، وبين الوصول إليها عن طريق اليوجا، وهو الطريق الطبيعي الشاق الطويل. قالوا إن الذي يصل إليها عن طريق العقار كالذي يسرق بسرعة شيئا وقد ينجو وقد يقع وينتهي تماما، أما الذي يصل عن طريق مراحل اليوجا المتدرجة الطويلة فإنه في مأمن من الجنون أو الشقاء إلا إذا توقف في منتصف الطريق؛ ولهذا ينصح هؤلاء العلماء الناس بألا يقدموا على مثل هذه العقارات أو مثل هذه اليوجا إلا إذا كانوا واثقين من قدرتهم على الاستمرار والصمود والتغلب على الصعاب التي تقابلهم أثناء الطريق الوعر الخطر.
إن خطورة هذه التجارب هي أننا البشر قد تعودنا على أن الحقيقة هي ما نراه وما نسمعه وما تعرفه حواسنا. لكن الإنسان الذي يصل إلى درجة أعلى من الوعي يكتشف حقيقة أخرى تسمى «الحقيقة غير العادية»، ويرى أشياء لا يراها الآخرون. هذه الأشياء التي يراها بقوة إبصاره الجديدة هي أشياء حقيقية. لكنها في نظر الآخرين غير حقيقية؛ لأنهم لا يرونها مثله؛ ولهذا يصبح هذا الشخص مجنونا في نظر الناس. وقد يصبح مجنونا أيضا في نظر نفسه وهنا الخطر؛ لأن الإنسان إذا ما فقد الثقة في نفسه وعقله انهار تماما وأصبح مجنونا بالفعل. لكنه إذا حافظ على ثقته بنفسه وفعله فسوف يمر بالتجربة دون خوف ويجتاز حاجز الخوف ويصل إلى المرحلة النهائية من السعادة أو الحرية أو الحكمة أو القوة.
وتختلف قدرات الناس حسب ثقتهم بأنفسهم؛ الإنسان القوي هو الواثق في نفسه الذي يفعل ما يراه صائبا وليس ما يراه الناس صائبا. أما الشخص الفاقد الثقة بنفسه يفعل ما يراه الناس صائبا بصرف النظر عما يراه هو. وبين هذين الاثنين يتدرج الناس أنواعا مختلفة حسب درجات ثقتهم بأنفسهم.
قضيت عدة أيام وليالي أقرأ «الجيتا» وأفكر وأتذكر كثيرا مما قرأته حديثا وقديما، بل أتذكر حوادث في طفولتي نسيتها. كانت «الجيتا» أشبه بعمل فني عظيم يثير أحاسيسي وأفكاري، بل أشبه بعمل علمي عظيم يشرح النفس ويذكرني بقراءاتي في علم النفس والفلسفة والأديان التي قرأتها للديانات المختلفة. وقد فكرت في أن أعمل دراسة عميقة نوعا ما، أقارن فيها بين «الجيتا» وبين الكتب المقدسة الأخرى السماوية منها وغير السماوية. وقد أفعل ذلك يوما.
وقد وجدت في «الجيتا» من أفكار فلسفية عميقة وعلم نفس ومنطق منظم يعتمد على الفكر والعقل أكثر من كثير من الكتب الدينية الأخرى التي تورد بعض الأحكام والمعجزات بغير تحليل وبغير منطق علمي أو فلسفي، وإنما تعتمد فقط على نوع من الإيمان الأعمى بحقائق ثابتة. •••
قالوا لي في دهشة: ألم تذهبي إلى جايبور؟ قلت: ماذا في جايبور؟ قالوا: جميع السياح يذهبون إلى جايبور. قلت: ولكني أذهب إلى حيث لا يذهب السياح؛ فأنا أريد أن أعرف الهند الحقيقية. قالوا: لا بد إذن أن تذهبي إلى جايبور.
أعطتني المضيفة الهندية جريدة الصباح (اليوم 21 فبراير 1975)، قرأت في الصفحة الأولى خبرا يقول إن البوليس ضبط كميات كبيرة من الذهب والمجوهرات ومائة مليون روبية في إحدى الحجرات السرية داخل أحد قصور المهراجا في مدينة جايبور بولاية راجاستان. قام البوليس بحملة تفتيش كبيرة في قصور جايبور، وأغلقت هذه القصور لمدة ستة أيام متصلة ولم تفتح أبوابها مرة أخرى للسياح إلا منذ ثلاثة أيام.
قلت لمضيفة الطائرة: إذن لو حضرت إلى جايبور منذ ثلاثة أيام لما استطعت أن أزور هذه القصور. وابتسمت المضيفة السمراء الجذابة وقالت: نعم، أنت محظوظة.
وسألتها: ما هذه القصور المشهورة في جايبور؟
قالت: هذه القصور كان يملكها حكام راجاستان. لم تكن ولاية واحدة كما هي الآن، ولكنها كانت مقسمة إلى عشرين ولاية، ولكل ولاية منها مهراجا، ولكل مهراجا عدد من القصور الضخمة. وقد عثر البوليس على هذه الأموال والمجوهرات في حجر نوم سرية داخل القصور.
وسألتها: ومن يعيش الآن داخل هذه القصور؟
قالت: بعضها أصبح متاحف يقصدها السياح، وبعضها تحول إلى فنادق درجة أولى، وبعضها لا يزال يسكنه أولاد المهراجات وزوجاتهم.
هبطت الطائرة الصغيرة في مطار جايبور، انطلق نحونا رجل هندي (يقوم بدور المرشد للسياح) وأخذ يعرض علينا خدماته، وأخذنا إلى العربة الهندية الصغيرة وركب إلى جوار السائق بعد أن قال له بالهندية بضع كلمات.
في الطريق إلى المدينة رأيت قصرا قائما فوق ربوة عالية، وقال المرشد الهندي: هذا أحد القصور الخاصة التي لا يدخلها السياح.
قلت: ومن يعيش في هذا القصر الضخم؟
قال: ابن المهراجا الذي كان حاكما لهذه الولاية قبل الاستقلال.
سألت: هل فتشوا قصره ضمن القصور التي فتشها البوليس في الأيام السابقة؟
قال: نعم، وقد وجدوا جواهر وملايين الروبيات.
قلت: وماذا فعل ابن المهراجا؟
قال: لا شيء، ترك القصر مؤقتا وذهب ليعيش في قصر آخر ثم عاد إلى قصره بعد انتهاء التفتيش. إنه بغير قوة وبغير سلطة الآن ولكنه يملك أموالا طائلة.
قلت: هل هو الابن الوحيد للمهراجا؟
قال: لا، إن أبناء هؤلاء المهراجات كثيرون، وهم ينفقون ببذخ، ويعيشون في القصور ويخفون الأموال في حجرات سرية حتى لا يدفعوا عليها أية ضرائب.
قلت: هذا على حين يجوع الملايين في الهند.
قال بأسى: نعم، لكن الحكومة الآن تفتش قصورهم.
قلت: من هو أشهر مهراجا سابق حكم هنا؟
قال: إنهم كثيرون، ومن أشهرهم: المهراجا مادوسبنج، وسوف ترون قصره الآن.
وانطلقت بنا السيارة في شوارع جايبور، تشبه الشوارع في أي مكان بالهند، وحركة الشارع متشابهة والوجوه متشابهة.
وجايبور يحوطها سور ضخم قديم بناه الحكام السابقون يشبه سور مدينة مصر القديمة لكنه أكثر ضخامة، لهذا السور ثماني بوابات ضخمة، إحداها بوابة ملكية لا يدخل منها السياح ولكنها مخصصة حتى الآن لأبناء وبنات المهراجا السابق، هي مغلقة طول العام، ولا تفتح إلا حين يرغب أحدهم في زيارة المتاحف الداخلية.
دارت السيارة حول السور لتصل إلى البوابة الخاصة بدخول السياح، لاحظت أن وجوه الناس في الشوارع والدكاكين أقل إعياء وأكثر صحة من المدن الأخرى، وعرفت أن جايبور من أغنى المدن في الهند (ترتيبها في الثراء رابع مدينة)؛ وذلك بسبب توافر الأحجار الكريمة بها. يعمل في جايبور وحدها أكثر من 50000 عامل في قطع الأحجار الكريمة. لكن معظم الوجوه تعلوها الحفر والبقع؛ مما يدل على أن مرض الجدري كان منتشرا هنا منذ سنوات. الشوارع تعلوها البقع الحمراء، ومن حين إلى حين ألمح رجلا يبصق ذلك البصاق الأحمر بعد مضغ ورقة «البيقل». في الأيام الأولى لزيارتي للهند كنت ألاحظ أن أفواه معظم الرجال حمراء، حين يفتح الواحد منهم فمه ليتكلم أو يتثاءب يظهر فمه من الداخل ملونا باللون الأحمر، وفي بعض الأحيان تكون الشفاه أيضا من الداخل ومن الخارج حمراء كأنها صبغت بصبغة حمراء أو أنها تنزف على الدوام دما أحمر.
ومن أهم الأشياء التي تلفت النظر في الهند تلك العادة الغريبة التي يمارسها الرجال (وبعض النساء) في جميع أنحاء الهند، مهما اتجهت شمالا أو جنوبا أو شرقا أو غربا تدرك أن هذه العادة منتشرة بين معظم الرجال وبين عدد غير قليل من النساء.
ترى الرجل منهم قد جلس، وأخذ يمضغ في فمه شيئا، وبعد قليل ترى لعابا أحمر يسيل عند زاويتي فمه، وبعد مدة قد تطول وقد تقصر تراه يبصق على الأرض لعابا أحمر بلون الدم.
كنت أندهش حين أرى شفاه الرجال حمراء من الداخل أو حين أرى تلك البقع الحمراء المنتشرة فوق شوارع أية مدينة في الهند، وأدركت من بعد أن هذا يرجع إلى تلك العادة، عادة مضغ ذلك الشيء.
ذكرتني هذه العادة برحلتي إلى اليمن، حين رأيت الرجال والنساء في عدن يجلسون ويمضغون القات ويسيل لعابهم من زاويتي الفم، لكن ذلك الشيء الذي يمضغ في الهند ليس هو القات، وإنما هو ورقة شجرة اسمها «البيتل» يلف داخلها قطع صغيرة صلبة من ثمرة تشبه جوزة الهند وقد خلطت بمسحوق أحمر من الجير الحجري على شكل عجينة. يقولون إن هذه التركيبة حين تمضغ على مهل تصيب الإنسان بحالة أشبه بالشبع، وهو شبع مزيف يقاوم به فقراء الهنود الجوع وقلة الطعام، لكنه أصبح من بعد عادة معظم الناس؛ لأنه يحتوي على مادة مخدرة تسبب ذلك الشعور بالشبع، وتسبب أيضا نوعا من الإدمان. وقد مضغت هذا الشيء مرة واحدة كما مضغت القات في اليمن مرة واحدة ولم أشعر بأية لذة. وهذا طبيعي؛ لأن مثل هذه تحتاج إلى تكرار لتنشأ العادة. إن الذي يذوق الخمر لأول مرة يبصق بسبب مرارتها، ولكن بعد التعود يدمنها ويحبها. ولكل شعب مواده الخاصة وإدمانه الخاص حسب مشاكله وحسب المواد التي ينتجها أيضا. لقد اكتشف الشعب في جزيرة سيلان مادة مخدرة في عصير شجرة جوز الهند فأصبح يستخرجها بطرقه وأدمن عليها . وفي الهند يصنعون «العرقي» وهو مسكر مثل النبيذ وقد يكون أشد. •••
دخلنا من البوابة الضخمة إلى قصر يشبه قصور الشاه في شيراز بإيران، أو قصور القيصر في ليننجراد، أو القصور التي لا هي هنا ولا هناك وإنما نراها فقط في الأحلام والخيال، لم أكن أتخيل أن الأباطرة المسلمين الذين حكموا الهند قد عاشوا هذه الحكاية، لعلهم أرادوا أن يصنعوا الجنة فوق الأرض بعد أن تأكدوا - من سوء أفعالهم وظلمهم للشعب الهندي الفقير - أنهم ذاهبون إلى جهنم الحمراء.
على أنهم استطاعوا أن يتغلبوا على جهنم فوق الأرض؛ فالصيف في الهند يلتهب فيه الجو كالنار، وداخل هذه القصور تجد حجرات كاملة بنيت بالرخام الخالص. وهذا الرخام يظل باردا كالثلج رغم حرارة الجو. كما أنهم عرفوا تكييف الهواء ولكن بطريقة أخرى. كانوا يضعون في الجدران أنابيب تجري فيها المياه المكشوفة التي تتبخر وترطب الجو، وداخل القصور تجد البحيرات، والحدائق ذات الزهور والأشجار، وهناك أجنحة كاملة بالرخام المزخرف بالنقوش الذهبية والفضية، وجدران كاملة مصنوعة بالمرايا وماء الذهب، وقصور للصيف وقصور للشتاء، على غرار قصور القيصر في روسيا، وقصور للحريم وقصور للرجال، وهناك قصر عجيب اسمه قصر «الهواء» وقد بني خصيصا لتجلس فيه زوجات وبنات المهراجا ويتفرجن على الاستعراضات العسكرية فوق الفيلة والخيول والجمال، فقد كان «الحريم» من النساء ممنوعات من الظهور أمام الناس؛ لأن ذلك ينافي تقاليد الحكام المسلمين، وبني القصر بشرط أن يدخله الهواء من جميع الجوانب حتى لا تتعرض النساء المرفهات لحرارة الجو أثناء الفرجة على فوق الفيلة والخيول والجمال. كانت المرأة منهن بحجم الفيل (رأينا بعض الملابس الداخلية والخارجية للمهراجا ونسائه في متاحف الملابس بالقصور) وكانوا ينقلونها من قصرها إلى قصر الهواء على عربة ضخمة يجرها عدد من الرجال أو الفيلة؛ ولهذا كان العرق يتصبب بسرعة من جسدها الضخم، ولا بد من تيارات مستمرة من الهواء لترطب هذا اللحم الوفير.
ورأيت جدار قصر الهواء رفيعا جدا مليئا بالنوافذ العديدة الصغيرة كالشقوق. وقال المرشد: إن سمك جدار هذا القصر ليس إلا ثماني بوصات فقط ؛ وذلك من أجل التهوية أيضا، وارتفاعه خمسة أدوار. أما النوافذ على شكل ثقوب فكانت لتنظر منها النساء على الناس دون أن يراهن أحد.
تحول هذا القصر الآن إلى مكاتب حكومية، وامتلأت واجهته العريضة بالحوانيت التجارية الصغيرة، وأمامه رأيت بعض القرود تلعب وتقفز على نوافذه، في جايبو ترى القرود في كل مكان من المدينة، وقالوا: إن هناك غابات على بعد 6 ميل فقط لا تزال تسكنها القرود، واقتربت من أحد القرود فمد يده وسلم علي وقال لي المرشد إنه من نوع القرود السوداء المنتشرة في هذه المنطقة.
تحولت بعض القصور في جايبور إلى جامعات ومعاهد، وبعضها تحول إلى فنادق، والبعض بقي كآثار يتفرج عليها السياح. •••
نزلنا في جايبور في أحد القصور التي تحولت إلى فندق واسمه «رامباج»؛ «رام» معناها إله، «باج» معناها حديقة. هذا القصر عاش فيه المهراجا «مون سنج الثاني» الذي مات في إنجلترا منذ أعوام قليلة (5 أعوام)، وكان من أحسن اللاعبين على الحصان، لكنه سقط من فوق جواده ومات.
جدران الفندق مزخرفة بالنقوش البديعة، تعلوها اللوحات الأثرية وصور المهراجا، حديقة الفندق أشبه بحديقة سحرية كأنما ينتقل فيها الإنسان إلى عالم خيالي من الألوان والعطور وأحواض الزهور، يطل من بين الشجيرات عدد من الطاووس الملون، يسير بخيلاء بين الزهور، ويبسط ذيله الملون بمئات الألوان المختلفة.
حجرة نومنا كانت أيضا سحرية، والسقف مزخرف بالنقوش الذهبية والفضية. قلت لزوجي: من الصعب أن يأتيني النوم في مثل هذه الحجرة، وأصابني الأرق فذهبت آخذ حماما دافئا لكني اكتشفت أن الحمام أيضا سحري، يشبه حمام المهراجا الذي تفرجنا عليه أول النهار، وصنابير المياه فضية وألوان الجدران والسقف تصيب العين بالدوار. لم أستمتع كثيرا بالحمام الدافئ بسبب عدم التعود على مثل هذه الحياة. كان يخيل إلي أن الماء الذي يخرج من الصنابير قد تحول إلى أسلاك فضية أو ذهبية تكهرب الجسم. حين خرجت من الحمام رأيت زوجي قد ارتدى «الشورت» وبدأ يجري في الحجرة، وضحك وهو يقول: لم أمارس رياضة الجري منذ أيام، وهذه الحجرة أكثر اتساعا من الملعب. وارتديت مثله «الشورت» وبدأت أجري أنا الأخرى.
اكتشفت بعد قليل وجود السرير، ويكاد يشبه سرير المهراجا، واقتربت من السرير في وجل، وقال زوجي ضاحكا: من المستحيل أن يأتيني النوم في سرير هكذا، وجلسنا بقية الليل نتفرج على معالج السرير والجدران والنقوش كأننا داخل متحف، ولم ننم إلا ونور الفجر يشقشق الصباح، حملنا حقيبتنا وغادرنا القصر بخطوات سريعة.
من أغرب ما رأيت في جايبور هي «البيجاما» أو المنامة التي كان يرتديها أحد المهراجات واسمه المهراجا «مدوسنج». كانت هذه المنامة ضمن المعروضات في متحف الملابس داخل أحد قصور جايبور. لم تدهشني الحلى الذهبية التي زينت المنامة (كل ملابس المهراجات وزوجاتهم محلاة بالجواهر والحلى الثمينة سواء كانت ملابس خارجية أو داخلية)، لكن الذي أدهشني هو حجم المنامة وقلت للمرشد في تعجب: ما هذا؟!
قال المرشد: منامة المهراجا مدوسنج.
قلت: ولكنها تتسع لعشرة أشخاص معا أو لفيل ضخم.
وقال المرشد: هذا المهراجا كان طوله سبعة أمتار وعرضه متر ونصف. كان يأكل كثيرا ويتحرك قليلا، وحين ينتقل من مكان إلى مكان يحملونه فوق عربة.
وحين دخلت قصر المهراجا مدوسنج رأيت العربة التي كانت تحمله داخل القصر من حجرة إلى حجرة ومن دور إلى دور، وإلى جوار الدرجات العادية التي نصعد عليها من الأدوار السفلى إلى العليا كان هناك مزلقانات لتجري فوقها العربات من تحت إلى فوق حاملة المهراجا (أو زوجته الضخمة أيضا)، وكان يجر هذه العربات خدم بالقصر مخصصون لهذا العمل. وقال المرشد: إن المهراجا (أو زوجته) كان ينتقل من حجرة النوم إلى الحمام على عربة، ومن حجرة الطعام إلى حجرة الاجتماعات على عربة، لم يكن يسير على قدميه إلا نادرا، وإذا ما سار بضع خطوات أصابه الإرهاق وأخذ يلهث.
قصور المهراجات في جايبور كالقلاع الضخمة تحوطها الأسوار، وفوق الأسوار حجرات للحراسة وداخل القصر أيضا مدينة بأكملها تعيش فيها حاشية المهراجا وخدمه وموظفوه، وهناك أيضا درجات سفلية تقود إلى سجن مظلم له باب حديدي وقفل كبير. قال المرشد: هنا كان يسجن المهراجا الذين يتمردون عليه، ورأينا أيضا شيئا شبيها بالمقصلة، وهنا كانوا يقتلون، واقشعر جسمي من رائحة الهواء الراكدة المنبعثة من الباب الحديدي خلف القفل.
إن مثل هذا الثراء الفاحش لا يمكن أن يعيش في أمان إلا بنوع من القمع الرهيب والإرهاب المستمر والتخلص من أي متمرد أولا بأول.
تركنا جناح التعذيب بسرعة وانتقلنا إلى جناح الاجتماعات، وإنه قصر مستقل فيه المكاتب وفيه ساحة كبيرة لها منصة يجلس فوقها المهراجا ويخطب، تتوسطه بحيرة وحديقة ضخمة، وهناك صالة ضخمة تعلوها اللوحات والرسومات وبعض الصور، أشرت إلى صورة أحد القواد وسألت المرشد: من هذا؟
قال إنه مون سنج الأول، وقد عاش في القرن السادس عشر، وكان رئيسا في عهد الحاكم المغولي «أكبر». وقد زوج شقيقته للحاكم «أكبر»، وكان هذا أول حدث في التاريخ أن تتزوج امرأة هندية من رجل مسلم. وقد أنجب «أكبر» منها ولدا سماه «سليم». وهذا السليم أيضا وقع في غرام مطربة هندية. •••
أخذنا المرشد إلى قصور أخرى في طرف المدينة وسألته: من كان يعيش هنا؟
وقال: لا أحد. هذه القصور بنيت ليحرق داخلها أجسام المهراجا بعد الوفاة (وهي إحدى العادات الهندية المستمرة حتى اليوم). كان هناك قصر لحرق أجسام المهراجا الرجال، وقصر آخر لحرق أجسام زوجات المهراجا، وقصر آخر ثالث لحرق أجسام محظيات المهراجا، كأنما بعد الموت أيضا لا بد من وضع فروق بين الذكور والإناث وبين الزوجات الشرعيات وغير الشرعيات.
ومررنا على بحيرة كبيرة يتوسطها قصر ضخم، وقال المرشد: هذه بحيرة صناعية أنشأها المهراجا ليمارس هواية صيد السمك. وهذا هو قصر خاص كان يأتي إليه المهراجا من أجل صيد السمك فقط ويسمى قصر الماء؛ لأن الماء يحوطه.
وسألت: ومن يسكن في هذا القصر الآن؟
قال المرشد الهندي: الباعوض فقط إنه مهجور منذ سنوات كثيرة.
ركبنا الفيلة وصعدنا الربوة العالية التي بني عليها قصر «عنبر» الشهير بالقصر البلوري، داخل القصر رأينا السقف والجدران بلورية تعكس الضوء كملايين النجوم والكواكب. لقد صنع «عنبر» داخل قصره سماء صناعية ليستمتع بضوء القمر والنجوم مع زوجاته ومحظياته دون حاجة إلى مغادرة القصر.
تجولت في المدينة بعد ذلك ورأيت تلك الأعداد الهائلة من الرجال والنساء والأطفال الذين يعيشون في بيوت الخيش أو الصفيح يتكدسون فيها وعلى الأرصفة كالذباب أو كأكوام القمامة. كنت أتساءل: كيف يمكن لحاكم من الحكام مهما تبلد عقله وإحساسه كيف يمكنه أن يعيش في كل تلك القصور، وأن ينفق من أموال هؤلاء الفقراء هذا الإنفاق الجنوني؟! كيف يفعل هذا دون أن يرتعش له جفن؟! ولم يكن خافيا علي أن المهراجا لم يكن الحاكم الوحيد الذي فعل هذا. كنت أعلم أن الحكام في كل زمان ومكان يفعلون هذا، وجميعهم أيضا لهم قصور وساحات كبيرة ومنصة عالية يقفون عليها ويخطبون ويتحدثون عن العدالة والمساواة والحق. •••
مدينة «أحماد أباد» في ولاية جوجردا على الساحل الغربي للهند لا توجد في خريطة الهند السياحية، إذا كنت سائحا وذاهبا إلى غرب الهند يقولون لك: اذهب إلى أودايبور وكاجيورا وبومباي وماندومجوا وغيرها. لا أحد يذكر لك أحماد أباد.
أحماد أباد ليس بها قصور مهراجا، ولا قلاع حمراء، ولا قبور من الرخام، ولا حدائق شهيرة، ولا بحيرات ساحرة، ولا أي شيء من تلك المناظر الخلابة، هي مدينة فقيرة متربة، هواؤها الساخن (رغم أنني زرتها في فبراير) محمل بالرمل الذي يتطاير من قاع النهر الضخم الذي يجف تماما في فصل الشتاء، ويصبح منخفضا رمليا واسعا، تنتشر فوقه أكواخ الخيش والصفيح، يعيش فيها العمال الموسميون الذين يشتغلون هذا الموسم في نقل الرمال من قاع النهر إلى لوريات «تاتا» الضخمة.
لكن أحماد أباد هي مهد رسالة غاندي، بدأ منها كفاحه مع الفقراء، وعاش فقيرا ومات فقيرا. دخلت بيته البسيط في أحماد أباد والذي عاش فيه وبدأ منه مسيرته الطويلة ضد الفقر وضد الظلم. لم أر في بيت غاندي إلا حاجياته الشخصية، حيث تركت في البيت (الذي أصبح متحفا) كما تركها غاندي قبل أن يقتل. رأيت المنضدة على شكل طبلية التي كان يجلس أمامها على الأرض يكتب أو يقرأ، إلى جوارها نظارته، وكتابه لا زال مفتوحا ، وقلمه وعصاه وقبقاب خشب وصندل وصحن وملعقة وتمثال صغير جدا لثلاث قطط معا. وهذا هو كل ما كان يملك غاندي في حياته وكل ما تركه من ممتلكات بعد وفاته.
وقفت لحظة أتأمل هذه الممتلكات الضئيلة لواحد من أكبر زعماء التاريخ، وأيقنت أن غاندي كان صادقا في رسالته وكان يستحق الزعامة ويستحق أن يكون قائدا لشعب الهند الكبير. أخذ عقلي يقارن بين ممتلكات غيره من الزعماء في البلاد الأخرى، الذين يدعون في حياتهم أنهم يناضلون من أجل الحق والمساواة والعدل فإذا بهم بعد الوفاة وقد امتلكوا الآلاف والملايين في البنوك داخل البلد وخارجه، وامتلك أبناؤهم وبناتهم وزوجاتهم بالمثل أو ما يزيد.
قلت لنفسي: إن الطريقة الوحيدة الممكنة للحكم على صدق نضال زعيم أو حاكم هو أن يعرف أملاكه وأمواله بعد وفاته، وأن نعرضها على الناس كما نعرض أملاك غاندي، وكنت أعرف بالطبع أن هذا أمر مستحيل وأنها ستكون فضيحة ما بعدها فضيحة.
اكتشفت وجود شيء آخر ضمن ممتلكات غاندي؛ إنه «النول» الصغير الذي كان يغزل عليه ملابسه وكان يصحبه معه في سفره خارج الهند، على الجدار صورة لغاندي وهو يغزل فوق باخرة كبيرة تحمله إلى إنجلترا. لم يكن غاندي يكترث بتلك العيون الزرقاء الأوروبية التي تنظر إليه في دهشة واستعلاء.
كان يسافر إلى بلد الإنجليز بلباسه الأبيض الذي غزله بيده وشاله الذي صنعه على «النول» في بيته، والصندل المفتوح في قدميه. بهذا المنظر وعصاه في يده كان يجلس غاندي وسط الإنجليز ببدلهم الصوفية وأحذيتهم الجلدية وربطات العنق الثمينة، يجلس معهم دون أن يكترث بمظاهرهم البراقة؛ فهو يعلم أن تحت هذه القشرة قطاع طرق ولصوص يستنزفون خيرات بلده، وكان الإنجليز يتفاوضون معه كما يفعلون مع أي زعيم في أية مستعمرة لهم. ولم يكن من الممكن لأية مفاوضات أن تنجح؛ لأن غاندي لا يهتز لمال قارون ولا يطربه مجد ولا يخشى الموت ولا يريد من حياته سوى أن يحقق رسالته.
لم تكن رسالته في أول الأمر سوى أن يحارب الظلم والفقر بالحب والتفاني في العمل. كان وحده في البداية، ثم انضم إليه فقراء الهنود الذين ثاروا ضد ضريبة الملح واسمها «ساتايا جراها»، والتي أصبحت من بعد رمزا لكل حركة ثورية. لم يكن الإنجليز يكتفون بسلب أموال الهند بل كانوا أيضا يحملون الشعب الهندي ضرائب باهظة على كل شيء وأي شيء حتى الملح، وأصبح على ملايين الفقراء أن يدفعوا ضريبة على الملح الذي كان يشكل طعامهم الرئيسي بل الوحيد، وحينما عجز هؤلاء الفقراء عن دفع ضريبة الملح وأصبحوا مهددين بالموت جوعا فوق الرصيف تجمعوا على شكل حركة وسميت حركة ضريبة الملح.
كان غاندي صادقا في رسالته، وكان مناضلا حقيقيا يسعى ضد الظلم، لكنه مات مقتولا. وقال لي أحد شباب الهنود الذين تحدثت معه وأنا أتجول في بيت غاندي: كان غاندي صادقا، لكن الصدق وحده لا ينفع في عالم تقوم فيه السيادة على الغش والكذب والخداع، وكان مبدأ غاندي الحب، ولكن سلاح الحب كسلاح الصدق لا يصلح ضد خصوم يحملون أسلحة مسممة. كان غاندي إنسانا عظيما لكنه كان سياسيا فاشلا، وانتهى به الأمر إلى أن وافق على تقسيم الهند، هذا القرار الخاطئ والذي كان سببا في مقتله.
سألني هذا الشاب: هل زرت أشرم غاندي؟
قلت: ما هو أشرم غاندي؟
قال: هذه المباني الصغيرة المواجهة لبيت غاندي.
قلت: ومن يعيش فيها؟
قال: يعيش فيها حوالي ألف شخص من الرجال والنساء والأطفال، يعيشون على شكل «كوميون»، يتقاسمون كل شيء، ويطبقون جميع مبادئ غاندي في حياتهم داخل الأشرم. إنهم يعملون ويتعاونون معا ويقرءون ويزهدون في الحياة ولا يمارسون الجنس.
قلت: ومن أين جاءت الأطفال داخل الأشرم؟
وقال الشاب: جاءت قبل التحاق الأب أو الأم بالأشرم، لكن بعد الانضمام إلى الأشرم فليس هناك أي اتصال جسدي بين الرجال والنساء حتى وإن كانوا أزواجا قبل انضمامهم إلى الأشرم. إنهم مجموعة من الناس اختاروا أن يعيشوا معا هذه الحياة الروحية والفكرية، واستطاعوا أن يتغلبوا على شهوات الجسد.
قلت: وما الهدف من هذا الكوميون؟
قال الشاب: أن يعيش الناس كما عاش غاندي ، وأن تقوى فيهم القدرات الروحية والفكرية.
وسألت الشاب: هل أنت عضو في هذا الأشرم؟
قال: لا.
قلت: لماذا؟
قال: أنا لا أومن ببعض مبادئ غاندي، وأعتقد أن بعض أفكاره تعزل الإنسان عن الدنيا وتفصل بين الجسد والروح. وهذه فلسفة لا تساعد الإنسان على الكفاح ضد الظلم. لا بد للمكافح أن يكون متصلا بالحياة لا منعزلا عنها، ولا بد للمكافح أن يعيش بجسده وعقله؛ لأن الإنسان وحدة لا تتجزأ. إنني أحترم مقدرة غاندي وتلاميذه من أعضاء هذا الأشرم على كفاح شهوات الجسد الجنسية، ولكني أفضل أن يتجه كفاحهم إلى العالم الخارجي حيث يستغل الملايين ويموتون جوعا.
وقلت للشاب: أنا أوافقك على رأيك. •••
في تلك الليلة دعيت إلى منزل أحد فلاسفة أحماد أباد ممن يؤمنون «بالجيتا» وفلسفة الزهد في الحياة والتصوف واليوجا، في حديقة بيته متحف من تماثيل آلهة الهند بجميع أنواعها، صنعها له أحد أصدقائه النحاتين. بعض التماثيل جمعها بنفسه من أطراف الهند أو المعابد المهجورة. أكلنا الطعام الهندي الحراق في الحديقة ومن حولنا الآلهة والإلهات، وبدأ النقاش بين عدد من المفكرين والأدباء والشاعرات. كنت صامتة أستمع وأتأمل ملامح الآلهة الحجرية، وكانت تجلس إلى جواري امرأة هندية صغيرة الجسم صافية العينين، على وجهها ابتسامة هادئة.
وسألتها: هل أنت شاعرة أيضا؟
قالت: لا، أنا مدرسة روحية.
قلت: ماذا؟
قالت: مدرسة روحية.
سألت: يعني تدرسين علم الروح؟
قالت: نعم.
سألتها: وأين تدرسين علم الروح؟ في المدارس؟ ضحكت وقالت: لا، أنا مدرسة روحية في أشرم في جنوب الهند، وقد جئت في إجازة لأزور أسرتي في أحماد أباد.
سألتها: هل في جنوب الهند أشرم على غرار أشرم غاندي هنا؟
قالت: نعم، في كل مكان في الهند يوجد هذه الكوميونات حيث يعيش الناس معا حياة روحية.
قلت: وماذا تدرسين في الأشرم؟
قالت: أعلم أعضاء الأشرم من الرجال والنساء كيف يفكرون، كيف يتأملون بعمق، كيف يخترقون حجاب الجهل في عقولهم ويصلون إلى الرؤية الواضحة والمعرفة، وأعلمهم أيضا كيف يقاومون شهوات الجسد.
سألتها: هل في كل أشرم مدرسة روحية مثلك؟
قالت: نعم.
قلت: هل من الضروري أن تكون المدرسة الروحية امرأة؟
قالت: لا، أحيانا تكون امرأة وأحيانا يكون رجلا، المهم القدرة على تدريس هذه المادة الصعبة؛ لأن الدراسة ليست نظرية فحسب ولكنها عملية أيضا؛ هناك تمرينات اليوجا بجميع أنواعها، وهناك القدرة على التركيز والتأمل لساعات طويلة، وهناك القدرة على الزهد والتغلب على رغبات الجسد، وهناك القدرة على صفاء الذهن والوصول إلى الدرجات العليا من الوعي.
جلست أستمع إليها طويلا، أتأمل كلامها وأتأمل ملامحها، ذكرتني بقراءتي «للجيتا» لكني كنت كلما نظرت في أعماق عينيها شعرت (بإحساس الطبيبة النفسية). إن في قاع هاتين العينين مأساة قديمة دفنت منذ سنوات وأصبحت ذكرى بل ضاعت أيضا من الذكرى. •••
من يتأمل معتقدات الناس في بلاد العالم المختلفة يدرك أنها متشابهة وتكاد تكون واحدة من حيث معناها ودوافعها وأهدافها. بعض الناس الذين يؤمنون بإله واحد يظنون أن الذين يؤمنون بعدد من الآلهة ليسوا بشرا مثلهم، أو أنهم بشر من نوع آخر، أو أنهم - على الأقل - جاهلون ومتخلفون، لكن الذي يزور الهند ويدخل معابدهم المختلفة ويتعرف على أديانهم المتعددة يدرك أن الفروق بين البشر قليلة جدا، وأنها فروق سطحية فحسب، أو فروق في الحركات الخارجية وطريقة العبادة أو طريقة الطقوس، ويبقى جوهر الإنسان واحدا.
في مدينة بومباي دخلت في يوم واحد خمسة معابد مختلفة لأديان مختلفة، دخلت معبدا «هندوكيا» ثم معبدا «جينيا» ثم معبدا «بوذيا» ثم كنيسة ثم مسجدا. وقد دهشت حين وجدت تشابها كبيرا بين الخمسة معابد في المعمار من الداخل والخارج من حيث وجود القبة أو القباب، وعمدان، ومكان مخصص للعبادة، ورجال داخل المعبد لهم زي معين، ولهم تحركات معينة، وطريقة معينة في التعامل مع الناس، أو تناول الهبات منهم. كما أن الناس الذين يزورون المعبد (يصلون للإله أو للآلهة) تبدو حركاتهم متشابهة بالرغم من أن بعضهم يصلي وهو واقف، وبعضهم يصلي وهو راكع على ركبتيه، والبعض يجثو منكفئا على وجهه. وجميعهم يدفعون شيئا للرجال القائمين على هذا المعبد أو الدين ، شيئا من مال أو طعام يعطى مباشرة لرجل الدين أو يعطى للفقراء الذين يحوطون المعبد في أكواخ الخيش أو يرقدون على الأرض من حوله أو فوق الدرجات المقدسة التي تصعد إليه والتي يجب أن نخلع أحذيتنا حين ندخله.
كنت قد قرأت شيئا عن تاريخ الأديان في حياة الإنسان، كيف بدأت ولماذا وكيف تطورت من دين إلى دين. لكن الذي يقرأ ليس كالذي يرى. وقد وجدت أن من ميزات الهند أنها تحتوي في جوفها حتى اليوم على تاريخ الأديان من مختلف الأزمنة منذ أن عبد الإنسان الشمس والأفلاك والنار والهواء والحيوانات إلى أن رمز إلى القوى المجهولة من حوله برموز مختلفة، منها آلهة على شكل تماثيل حجرية يراها ويلمسها، ومنها آلهة غير منظورة وغير مرئية، إلى أن رمز إلى كل تلك القوى بإله واحد غير منظور وغير مرئي.
كنت قد قرأت عن حاجة الإنسان في كل الأزمنة إلى شيء يؤمن به، شيء يفسر له الظواهر المجهولة من حوله، شيء يعزو إليه القدرة على فعل أشياء يعجز عنها الإنسان، لكن الذي يتأمل منظر الناس وهم يتعبدون داخل المعابد يدرك أن هذه الحاجة تتغير بتغير طبقة الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من أهم ما لفت نظري أن معظم الذين يذهبون إلى المعابد من الفقراء الذين لم ينالوا شيئا من التعليم. وقد لاحظت أن هؤلاء حين يصلون يغمضون أعينهم تماما وتتخذ ملامحهم وأجسادهم وضع الاستسلام الكامل ونوع من الرهبة والخوف والانكسار بل وشيء من المذلة أيضا، وحين يقدمون هباتهم لرجال الدين فهم يطلبون شيئا دائما؛ إما أن يشفي الإله مريضهم، أو يرفق بهم ويمنع عنهم كارثة معينة، أو يرزقهم بولد أو ينصر أحدهم على مكايد أعدائه.
وبعض هؤلاء يقضون الساعات في مثل هذه الصلوات. أما المتعلمون من الناس فهم أقلية قليلة داخل المعبد، وهم دائما على عجل، يصلون بسرعة وحركاتهم لا تنم على الانكسار والمذلة بقدر ما تنم عن الرغبة في إنهاء الصلاة بأسرع ما يمكن والذهاب إلى أعمال أخرى هامة، وهم لا يغمضون عيونهم تماما أثناء الصلاة، بل تظل عين الواحد منهم مفتوحة أو نصف مفتوحة، وهم لا يدفعون شيئا للفقراء حول المعبد، ولا يقدمون الهبات إلا ما كان منها واجبا دينيا مفروضا، وهم لا يطلبون من الإله علاج مريض؛ لأنهم عرفوا الأطباء والأدوية. لكنهم يطلبون من الإله مطالب أخرى مختلفة باختلاف مطالبهم في الحياة وباختلاف قدرتهم أو عجزهم عن تحقيق هذه المطالب.
وفي الهند قطاع من الناس لا يذهبون إلى المعابد، إنهم يصلون في منازلهم ويقولون إن الإله يوجد داخل المعبد وخارجه وليس له مكان محدد، وبعض الناس في الهند لا يصلون ويقولون إن العبادة هي الحياة، وإن الله هو الإنسان الذي يعمل لخير الناس والذي وصل إلى درجة عالية من الوعي والحكمة؛ لأنه أخضعها لإرادته القوية وكشف عن أسبابها بالعقل والمعرفة. وهذا الاتجاه الأخير ينتشر في الدين البوذي أكثر من الدين الهندوكي؛ لأن بوذا أعلن ثورته ضد الدين الهندوكي وضد الطبقات وضد التفرقة بين الناس. وفي الدين البوذي ليس هناك آلهة وبوذا ليس إلا إنسانا وصل إلى تلك الدرجة العليا من الوعي والمعرفة، لكني رأيت الناس داخل المعبد البوذي يركعون لتمثال بوذا وينبطحون أرضا أمامه داعين أن يحقق لهم مطلبا من المطالب كغيرهم في المعابد الأخرى، وسألت أحد المفكرين البوذيين عن ذلك فقال: إن هؤلاء الناس لم يقرءوا الدين البوذي وهم جاهلون بتعاليم بوذا، وهم يقلدون غيرهم من الناس بغير وعي.
ولكن أغلبية البشر - وبالذات في الشرق حيث تنتشر الأديان - لا يقرءون لأنهم أميون، ومعنى ذلك أن أغلبية البشر لا يعرفون عن فلسفة دينهم الحقيقي وعن التعاليم الأصلية في ذلك الدين؛ ولهذا كم يستغل الدين في تلك البلاد ويصبح سلاحا خطيرا في يد رجال الدين أو رجال الحكم أو رجال الاستعمار!
إن معرفة حقيقة دين من الأديان تحتاج إلى قراءة الإنسان لهذا الدين ويفهمه ليؤمن به إيمانا صادقا، ولكن أن يقلد الإنسان غيره تقليدا أعمى فليس هذا من الدين في شيء.
وقال لي هذا المفكر البوذي: قبل أن أقرأ ما قاله بوذا كنت أذهب إلى المعبد وأركع لبوذا مثل هؤلاء الناس، لكني بعد أن قرأت وفهمت لم أعد أعبد أحدا.
سألته: ولكنك تؤمن ببوذا؟
قال: لا، أنا أومن بنفسي، وأومن بأي إنسان يكتشف نفسه وقوته الداخلية، ويحاول بهذه القوة الداخلية أن يغير العالم الخارجي إلى الأفضل والأحسن لنفسه ولغيره من البشر.
هذه هي فلسفة بوذا، وهذه هي مبادئ الدين البوذي، لكن القليلين هم الذين يقرءون، وقليل القليل من يقرأ ويفهم. •••
في الهند أيضا مجموعات أخرى من الناس لهم أديان أخرى، منهم «السيخ»، وهم يجمعون بين بعض مبادئ الدين الهندوكي وبين مبادئ الدين الإسلامي؛ إنهم لا يعبدون التماثيل الحجرية ولكنهم يعبدون إلها واحدا غير منظور. لكنهم لا يقصون شعورهم أو لحيتهم طوال حياتهم، ترى الرجل منهم قد لف شعره الطويل تحت عمامة كبيرة ولف شعر لحيته بطريقة معينة. وهناك مجموعة «الفارسيين» وهم الذين يعبدون النار، ويعلقون جثث موتاهم في شجرة لتأكلها طيور معينة، اسمها «قالتشرز».
في بومباي أخذنا أحد هؤلاء الفارسيين لنرى كيف تأكل الطيور الجثث. لم نر إلا الطيور الجائعة المفزعة تهبط فوق «برج الصمت». إنه برج عال بني خصيصا في وسط المدينة لتوضع فوق قمته جثث الموتى وتترك الطيور لتأكلها. داخل البرج بئر عميق تسقط فيه العظام بعد أن تتركها الطيور، وتذوب هذه العظام في حامض معين داخل البئر لتتلاشى تماما.
دعانا هذ الفارسي وزوجته إلى العشاء وجلسنا نأكل العدس باللحم (طبق خاص في الهند يقدم يوم الأربعاء فقط؛ لأن الأرز ممنوع في ذلك اليوم). وقال الزوج مداعبا زوجته (الفارسية أيضا): «سوف تأكلك القالتشرز أكلا يا حبيبتي.» وضحكت الزوجة وهي تقول: هذه الطيور تأكل العينين أولا ثم تأكل بقية الجسم. إنها تحب العينين أكثر من أي شيء، وكاد الأكل أن يقف في حلقي، وتوقفت قليلا وسألت هذه الزوجة: إن هذه عادة بشعة.
وقالت الزوجة: بعد الموت لا نحس شيئا. الهندوكيون يحرقون جثثهم، والحرق لا يختلف كثيرا عما نفعل نحن الفارسيين، بل إننا أكثر إنسانية؛ لأننا نطعم هذه الطيور الجائعة بدلا من حرق الجثث بغير فائدة. وهذه هي الحكمة من هذه العبادة.
وقال الزوج: لكنها فعلا عادة بشعة، وبعض الناس الآن يثورون عليها ويطالبون بتغييرها. وقالت الزوجة: بعضهم يطلبون في وصيتهم ألا تأكلهم الطيور، ويحرقون أو يدفنون، لكن هؤلاء يتعرضون لغضب الآلهة وغضب رجال الدين الفارسي الذين يرفضون الصلاة على أجسادهم، وتدفن بغير بركة رجال الدين.
وضحك الزوج قائلا: رجال الدين يحافظون دائما على أية عادات دينية من أجل أن يعيشوا وتكون لهم وظيفة وأجر، أنا شخصيا أفضل أن تدفن جثتي دون بركة هؤلاء الرجال. •••
في بلدة صغيرة شمال بومباي واسمها «بارودا» ركبنا العربة «الجيب» لنزور بعض القبائل الهندية التي تعمل في ضرب الطوب أو تحويل الرمال من قاع الأنهار الجافة إلى اللوريات، رافقنا في الرحلة شاب هندي اسمه سامانتا، عمره 33 عاما ودرس الكيمياء في بولندة ثم عاد إلى الهند واشتغل في أحد المصانع الكيماوية في بارودا.
سارت بنا العربة «الجيب» ساعات طويلة فوق شوارع رملية أو صخرية مليئة بالحفر والمطبات، كان الحر شديدا، وكدت أطلب العودة من حيث أتيت، لولا أن حديثا بدأ بين الشاب الهندي وبيني أنساني طول الطريق ووعورته.
لاحظت أن الشاب يرتدي حول عنقه شيئا أشبه «بالدوبارة» فسألته عنها فقال: هذه «الدوبارة» يلبسها الرجل قبل الزواج ليصبح مقدسا، قبل أن يلبس هذه الدوبارة يمكنه أن يفعل ما يشاء ويتصل بأية امرأة، ولكن بعد أن يلبسها يصبح مقدسا ولا يقرب أية امرأة إلا زوجته، وهو لا يخلع هذه الدوبارة عن عنقه طوال حياته.
وسألته: وهل تلبس النساء مثل هذه الدوبارة أيضا؟
وقال الشاب: لا، النساء لا يصبحن قديسات أبدا.
وسألته: لماذا؟
قال: لأنهن نساء.
قلت: وما هي الميزات التي يحصل عليها الرجل ذو الدوبارة؟
قال: إنه يصبح مقدسا.
سألت: ما معنى ذلك؟ هل في ذلك ميزة معينة؟
قال: نعم، الرجل المقدس له الحق في أن ينادي أرواح الموتى، أنا أستطيع الآن أن أنادي أرواح أجدادي لأبي وأجدادي لأمي، لكن الشخص الواحد لا يستطيع أن ينادي لأكثر من الجد السابع لكل من الأب والأم.
قلت: وماذا تفعل بعد أن تنادي أرواح أجدادك؟
قال: أكلمهم ويكلمونني ويعرفونني بأشياء كثيرة في حياتي.
قلت: المرأة إذن لا تنادي أرواح أجدادها.
قال بحماس: لا، إن زوجها يفعل ذلك نيابة عنها.
كتمت الضحكة وقلت: لو كنت زوجة هنا لناديت بنفسي أرواح أجدادي.
وقال الشباب: الأرواح لا ترد على النساء.
دهشت من منطق شاب مثل هذا درس وتعلم. لكني لم أندهش كثيرا؛ فقد رأيت كثيرا من المتعلمين يؤمنون بعقائد غريبة.
وسألت الشاب: ألم تسأل نفسك يوما: لماذا ترد الأرواح على الرجال ولا ترد على النساء؟
قال: لا، هذه هي طبيعة الحياة.
قلت: من قال لك إنها طبيعة الحياة؟
قال: أهلي، أبي وأمي وكل الناس من حولي.
قلت: ولكن هل ترث معتقدات أهلك بغير أن تعيد تفكيرك فيها على ضوء دراساتك الجديدة؟
قال: أنا درست الكيمياء، وليس هناك علاقة بين الكيمياء وبين الدين أو العقائد، أليس كذلك؟
قلت: توجد علاقة، ولا بد أن تكون هناك علاقة بين أي شيء ندرسه وبين ما نرث من أفكار وعقائد. إن هذا الفصل بين ما نسميه العلم والعقيدة يوقعنا في الكثير من التناقض. والآن هل أنت متزوج؟
قال: نعم.
سألته: وهل أنت الذي اخترت زوجتك؟
قال: لا، إننا هنا لا نختار زوجاتنا. إن أهلنا هم الذين يزوجوننا.
قلت: وهل تعملون حفلا للزواج؟
قال: نعم، وقد عملوا حفل زواجي الساعة الرابعة صباحا.
قلت في دهشة: الرابعة صباحا؟ لماذا؟
قال: موعد حفل الزواج يتحدد حسب نجم العريس وقد حدد نجمي الساعة الرابعة صباحا.
وهكذا كلما كنت أتحدث مع هذا الشاب الهندي أكتشف عادة هندية غريبة. وقد حكى حكايات غريبة عن مسألة تناسخ الأرواح التي يؤمن بها إيمانا عميقا مثل غيره من الهنود الذين يدينون بالدين الهندوكي، وفكرة التناسخ هي أن روح الإنسان بعد الوفاة تتجسد في جسد آخر قد يكون إنسانا وقد يكون حيوانا. وقد ظل هذا الشاب يحكي لي الحكايات الغريبة حتى وصلنا إلى قرية «قالود» حيث التقيت بإحدى القبائل الهندية.
ذكرتني هذه القبيلة بقراءاتي في التاريخ القديم للإنسان منذ العصر الحجري، رأيت تحت شجرة قطعة طوب يرقصون حولها، وعرفت أن قطعة الطوب هذه هي الإله، يرتدون قطعة قماش بيضاء حول نصفهم الأسفل ويحملون الحراب والأسهم وأحيانا البنادق. إنهم لا يتبعون أي نظام ولا أي حاكم، ولا يؤمنون بالغد ولا الاستقرار ويقدسون شيئا اسمه الحرية، كل واحد منهم يعتقد أنه الملك وليس لأحد سلطان عليه، إذا وثقوا فيك أكرموك وأعطوك كل ما عندهم، إذا لم يثقوا فالويل لك.
كان من حسن حظي أنهم حين نظروا في وجهي وثقوا في ورأيتهم يقدمون لي طعامهم (طعاما نباتيا من الخضروات لأنهم لا يأكلون اللحوم)، وأكلت معهم، وشربت الماء من بئر يشربون منه، وغمس أحدهم أصبعه في سائل أحمر مقدس ورسم فوق جبهتي النقطة الحمراء، وهمس الشاب في أذني حتى لا يسمعه أحد من القبيلة: لو رأى المسلمون هذه النقطة الحمراء فوق جبهتك لغضبوا جدا؛ إنها ضد تقاليد المسلمين هنا.
أفراد هذه القبيلة من الرجال والنساء يعملون في قطع الأشجار، بيوتهم من طين وسقفها من فروع الشجر، يرتدون فوق رءوسهم عمامة ضخمة ليست إلا حبلا طويلا ملفوفا فوق الرأس عدة مرات، يفكه الواحد منهم أمام البئر ليربط فيه الجردل ويدليه في البئر. تقاليدهم تختلف عن تقاليد الناس في المدن، الرجل والمرأة هنا متساويان في الحرية الجنسية قبل الزواج، والبنت تشجع الولد تماما لعمل علاقات قبل الزواج. ولكن بعد الزواج تتزوج المرأة رجلا واحدا ويتزوج الرجل امرأة واحدة. والرجال والنساء يتزينون بحلقات الحديد فوق جباههم وأنوفهم وآذانهم وأرجلهم، لهم دقة مميزة على الطبول تنقلب إلى عالم آخر، كأنما مت وعاد التاريخ وبعثت في أحد العصور البدائية. رغم فقرهم وجهلهم أحسست الشهامة والصدق والطبيعة في وجوههم المباشرة وعيونهم الصريحة، شعرت بينهم براحة رغم أنني كنت أجلس فوق قطعة من الطوب وأشرب الماء من بئر. إنها الراحة التي تشعر بها مع هؤلاء الناس النادرين الذين لا يزيفون ولا يكذبون. •••
عربة الجيب تعود بنا إلى المدينة، الشمس تهبط في الغرب من وراء الأشجار، على جانبي الطريق أرى أشجار الموز وحقول المسطردة ذات الزهور الصفراء، وحقول قصب السكر، والقمح وزيت الخروع، في السماء تحلق الغربان والحمام والعصافير، بين الأشجار الكثيفة ألمح السحالي والثعالب الصغيرة والقرود بعضها يجري ويلعب والبعض جالس فوق الشجر يرمق الطريق بعيون شاردة متأملة كعيون البشر.
الأم القردة، من حولها أطفالها يلعبون وهي تسير بخطوات بطيئة كالرجل العجوز الوقور، القردة الصغار يضربون بعضهم البعض ويلعبون معا تماما كأطفالنا، نظرت إلى القردة الأم واكتشفت أنها تراقبني، حركاتها إنسانية وصوتها أيضا إنساني، نشأ بيني وبينها ترابط، وأوقفت العربة، أردت أن أكلمها وهي جالسة تضع مرفقها فوق ركبتها، عيناها إنسانيتان لولا تلك النظرة المفاجئة الوحشية والمجنونة، كأنما لم تعد تثق في وتريد الانقضاض علي بسرعة. حينما رأت أنني لن أسبب لها أذى وأنني أقترب منها لمجرد الفرجة استرخى جسدها وتلاشت النظرة المتحفزة، ثم أعطتني ظهرها وسارت بخطواتها البطيئة نحو أطفالها.
أدركت أن الحيوان كالإنسان يحتاج إلى أن يثق فيك ويطمئن إليك، وإلا فالويل لك. •••
تناولنا عشاءنا مع بعض الهنود المشرفين على المصنع الكيماوي، وأحد الخبراء الاقتصاديين الذي يعمل في الهند واسمه «فيشمان»، وهو أمريكي الجنسية.
كنت صامتة أستمع إلى الحوار الدائر بين فيشمان وأحد الرجال الهنود. بدأت المناقشة بينهما حول قضية ووترجيت ونيكسون ومشكلة التجسس، وسمعت فيشمان يقول للهندي: أنا لا أفهم في السياسة ولا أحاول فهمها، أنا رجل متخصص في الاقتصاد فقط.
وقال الهندي: هل يمكن أن تفصل بين السياسة والاقتصاد؟
قال فيشمان: لكل علم المتخصصون فيه.
قال الهندي: إن الذي يحرك السياسة هو الاقتصاد، ولا يمكن فصل هذا عن ذلك.
قال فيشمان: ولكني لا أستطيع أن أقرأ قضية ووترجيت ومشاكل التجسس ثم أقرأ في الاقتصاد. إن ساعات اليوم لا تكفي إلا لشيء واحد، ومن المهم أن أتقن الفرع الذي تخصصت فيه بدلا من أن أشتت جهدي في فروع كثيرة، وعندنا مثل إنجليزي يقول: الذي يفهم في كل شيء لا يجيد شيئا.
ورد الهندي قائلا: ولهذا السبب أصبح السياسيون يسيطرون على العالم . إنهم من النوع الذي يفهم في كل شيء ولا يجيد شيئا؛ ولهذا هم يحكمون ويسيطرون على الاقتصاد ويوجهونه كما يشاءون حسب مصالح طبقتهم الصغيرة المحدودة وضد مصالح الأغلبية من الناس.
وقال فيشمان: أنا أكره السياسيين وأتفادى الحديث في السياسة.
وقال الهندي بعناد وإصرار الهنود: ولكنك لا تستطيع أن تتفاداهم طالما أنت تعمل في مجال الاقتصاد؛ لأنك في الواقع تنفذ سياستهم في مجال الاقتصاد.
وقال فيشمان: أنا كالطبيب الذي يعالج المريض سواء كان صديقا أو عدوا.
قال الهندي: لا، هناك فارق بين الطب والاقتصاد، الاقتصاد جزء لا ينفصل عن السياسة، بل هو الركيزة التي تقف عليها السياسة. أما الطب فهو علم منفصل عن السياسة، أليس كذلك يا دكتورة؟
ووجه الرجل الهندي سؤاله إلي، فقلت: بل إن الطب أيضا لا ينفصل عن السياسة؛ هناك طب يعالج المريض دون أن يستغله وهناك طب يعالج المريض ويستغله. لا يمكن فصل أي شيء عن السياسة حتى الحب.
وضحك فيشمان محولا المناقشة إلى نوع من المرح والفكاهة، لكني قلت بجدية وحزم: نعم، هناك حب ينشأ على أساس من التساوي والتبادل، وهناك حب يقوم على عدم التساوي والاستغلال.
ولم يحاول فيشمان أن يقتنع، وذكرني بالشاب الهندي الذي درس الكيمياء في بولندة والذي يفصل بين دراسته العملية وبين حياته اليومية من حيث الزواج والدوبارة المقدسة التي يعلقها في عنقه، وإيمانه بأن أرواح الموتى تخاطب الذكور وترفض مخاطبة النساء.
إن الإنسان المثقف في نظري هو الذي استطاع أن يربط بين العلوم المختلفة، وينظر إلى الحياة والإنسان نظرة كلية شاملة، والإنسان الجاهل في رأيي هو الذي يقسم عقله إلى حجرات منفصلة، يضع في حجرة علم الكيمياء أو الاقتصاد أو الطب، ويضع في حجرة أخرى الدين أو المعتقدات والأفكار الموروثة، ويضع في حجرة أخرى الحب أو الجنس، ويضع في حجرة أخرى السياسة ... وهكذا يفقد نظرته الشاملة للحياة والإنسان، ويعجز عن فهم مظاهر الاستغلال المحيطة به. إنه قد يكون أخصائيا ماهرا في عمله. لكنه يصبح كالثور الذي يجر الساقية دون أن يعرف إلى أين يذهب ماء الساقية، أيذهب إلى حقول الفلاحين الكادحين الذين يحتاجون إلى الماء لزراعة المحاصيل؟ أم يذهب إلى حوض السباحة في بيت الحاكم لتسبح فيه كل صباح زوجته السمينة العاطلة؟ وحينما تسأل الثور: هل تعرف إلى أين يذهب الماء الذي تخرجه من الساقية؟
يرد الثور قائلا: لا أعرف، ليس هذا تخصصي. إن تخصصي الوحيد هو أن أجر الساقية.
ويساعد كثير من الأديان (وبالذات الدين الهندوكي) على هذا الفصل بين العمل ونتيجة العمل.
حين تدخل المعابد الهندوكية تقرأ هذه اللوحة معلقة على الجدران: «اعمل بكل طاقتك ولا تفكر في نتيجة العمل». وقد أخذت هذه العبارة من كتاب الهندوكيين المقدس وهو «الجيتا»، وكان غاندي أيضا يتبع هذه الفلسفة ويفصل بين العمل ونتيجته؛ ولهذا فشلت حركته سياسيا وانتهت بتقسيم الهند.
لو أن كل إنسان عرف لماذا يعمل وإلى أين تذهب نتيجة عمله لما استطاع أن يستغل جهد أحد (أو علم أحد)، ولانقرض الاستعمار والاستغلال من الهند ومن البلاد الأخرى.
عرفت أن العاملة أو العامل الهندي في مزارع الشاي يعمل تسع ساعات في اليوم نظير «4 أو 5» روبيات، وينتج في اليوم الواحد كمية من الشاي تعادل «خمسين» روبية؛ أي عشرة أضعاف الأجر الذي يحصل عليه، معنى ذلك أنه ينتج في الساعة الواحدة ما يعادل أجره ويعمل بقية الساعات الأخرى الثماني بغير أجر، بعبارة أخرى إنه ينتج في الساعة الواحدة كمية من الشاي ثمنها 5 روبيات تقريبا؛ أي تعادل أجره اليومي كله؛ لأنه يتقاضى 5 روبيات فقط عن عمل متواصل لمدة 9 ساعات، إلى أين يذهب جهد هذه العاملة أو هذا العامل؟ إنه يذهب إلى أصحاب الشركات التي تصنع الشاي وتوزعه؛ أي إنه يذهب إلى جيوب حفنة من الأثرياء يستغلون جهد ملايين العمال والعاملات.
إن الربح الضخم الذي يحصل عليه هؤلاء والذي ينفقونه ببذخ على كماليات زوجاتهم وأولادهم يتبخر في الهواء لو أن العاملة أو العامل الهندي فكر لحظة في نتيجة عمله اليومي طوال تسع ساعات متصلة تحت قرص الشمس الملتهب، ولكنهم لا يفكرون، وأسباب ذلك : (1)
استنفاد جهدهم طوال اليوم في العمل، فلا يجدون متسعا من الوقت والجهد للتفكير. (2)
عدم إلمامهم بالقراءة والكتابة والحساب؛ ولذلك لا يعرفون العملية الحسابية البسيطة السابقة التي تشرح لهم أنهم يعملون 8 ساعات بغير أجر. (3)
ترويج السياسيين والاقتصاديين للفلسفة الهندوكية القائمة على الزهد والفصل بين العمل ونتيجة العمل. (4)
وقوع بعض المصلحين من أمثال غاندي في هذا الخطأ، والاستغراق في المسائل الروحية والفصل بين الروح والجسد، وترك ماديات الحياة للآخرين ينهبونها على حين يجوع الملايين من الشعب الهندي.
ركبنا الطيارة إلى كاجيورا. إنها إحدى المدن الصغيرة في ولاية ماديابراديش في وسط الهند، ولكنها أحد الأماكن الشهيرة في الهند. قالوا: إن بها اثنين وعشرين معبدا، وآثارا قديمة تدل على عظمة فن النحت الهندي منذ القرن العاشر حين كان يحكم الهند ملوك تشانديلا.
وكنت قد زرت عددا من المعابد القديمة الشهيرة في مادورا جنوب الهند ومعظمها تماثيل للآلهة والإلهات وهم يرقصون.
لكن الآلهة والإلهات في كاجيورا لا يرقصون فحسب، ولكنهم أيضا يمارسون الجنس بشتى أنواعه وأوضاعه. كان ملوك تشانديلا يمثلون نوعا من الثورة على التقاليد القديمة المتزمتة التي تفصل بين الإنسان وجسده وتنظر إلى الرغبات الجنسية كنوع من الإثم والدنس والضعف.
وقد صور هؤلاء الملوك حياتهم وحياة الآلهة على أنها حياة بشرية عادية: بعضها حرب وبعضها أكل وبعضها علم وبعضها جنس وبعضها مرح ولعب.
من أكبر المعابد في كاجيورا معبد «لاكشانا» و«كانداري»، على الجدران الخارجية رأيت التماثيل تصور الحياة بكافة نواحيها، جيوش من راكبي الفيلة يحاربون أعداءهم، مواكب الاحتفالات والرقص والغناء، مجالس الحكام، أنواع من العمل، حجرات الطعام، ثم في أحد الأركان هناك تماثيل عارية لرجال ونساء يمارسون الجنس الثنائي أو الجنس الجماعي، هناك لوحة كبيرة لمجموعة من الرجال والنساء يداعبون بعضهم البعض جنسيا، ولوحة أخرى لنوع آخر من المداعبات، ولوحة أخرى لرجل وامرأة أثناء عملية جنسية كاملة.
لم يكن هذا الركن الجنسي يمثل إلا مساحة صغيرة فوق الجدران، فقد امتلأت الجدران بصور أخرى تمثل الحرب والعمل والحكم والطعام والاحتفالات وغيرها، لكني لاحظت أن معظم المتفرجين (أكثرهم سياح أجانب وبعضهم هنود) قد جاءوا من أجل مشاهدة هذا الركن الجنسي فحسب، وسمعت ضحكاتهم وهم يتفرجون، ووصل إلى أذني بعض تعليقاتهم. وقد أدركت أن ملوك تشانديلا في العصور الوسطى المظلمة كانوا أكثر من رجال ونساء العصر الحديث فهما للجنس، إنهم بصورهم وتماثيلهم لا يقولون إن الجنس هو كل شيء في الحياة ولكنهم يضعون الجنس في مكانه الصحيح ويقولون إن الجنس جزء من الحياة، وهم يرفضون أيضا الكبت وإنكار الجنس ويقولون إن الحياة الخالية من الجنس حياة ناقصة أو مشوهة.
لكن الناس في عصرنا الحديث لا زالوا مرضى بشيء اسمه الجنس (بسبب الكبت والتربية الخاطئة والاستغلال التجاري للجنس)، ولا زال كثير من السياح في العالم يدفعون أموالا كثيرة من أجل مشاهدة حوانيت الجنس في السويد والدانمارك أو تماثيل الجنس في كاجيورا والهند. هذا في الوقت الذي يضربون فيه على يد أطفالهم إذا نطق أحدهم بكلمة الجنس. •••
أخذنا الطائرة إلى مدينة صغيرة اسمها «أناند» في ولاية جوجارات على الساحل الغربي للهند، وهي مدينة صغيرة لكنها شهيرة، كل علبة جبن في الهند طبعت عليها كلمة «أناند»، مصنع الجبن في أناند تملكه شركة هندية كبيرة اسمها «آمول» تصنع الجبن والزبد وألبان الأطفال المجففة.
تتبعنا الخطوات التي يمر بها اللبن منذ أن يحلب من ضرع الجاموسة أو البقرة إلى أن يصبح علبة جبن تباع في السوق، نظام محكم دقيق، والآلات في المصانع تسير بنظام محكم دقيق، والمهندس المختص يشرح لنا كيف بدءوا يستخدمون الآلات الإلكترونية في التصنيع.
لكن عقلي يشرد بعيدا، وعيناي تتأملان الصف الطويل من الفلاحات اللائي وقفن بجوار اللبن ويبعن اللبن المصنع. إن الواحدة منهن تحمل فوق كتفها طفلا جائعا هزيلا هو أحوج ما يكون إلى هذه الزجاجة من اللبن التي تبيعها. وبعملية حسابية بسيطة وجدت أن كمية اللبن التي تبيعها الفلاحة نظير روبية واحدة تنتج من جبن آمون ما قيمته خمسة عشر روبية، وإذا حذفنا مصاريف المصنع كلها وجدنا أن الفلاحة التي تبيع عشرة أرطال من اللبن تأخذ ثمن رطل وتعطي تسعة أرطال بالمجان.
وهذه الفلاحة لا تختلف كثيرا عن العاملة في مزارع الشاي التي تعمل ساعة واحدة بأجر وبقية الثماني ساعات بغير أجر.
قلت أفكاري للمهندس المختص فضحك وقال: هذه هي الصناعة في كل أنحاء العالم، إذا لم يربح هذا المصنع كل هذا الربح فلماذا يشغله أصحابه؟
قلت: ولكن أصحابه يربحون الآلاف، وهؤلاء الفلاحات يحرمن أنفسهن وأطفالهن من اللبن ويعشن على الكفاف.
قال المهندس: إن جاموسهن أيضا كان يعيش على الكفاف بسبب الفقر الشديد. وقد وجدنا أن العناية بالجاموس ضرورية ليدر لبنا دسما وبكميات وفيرة؛ ولهذا أنشأنا في المصنع جزءا خاصا لإنتاج علف خاص بالجاموس يغذيه ويزيد من دسامة لبنه، هذا العلف نبيعه للفلاحين والفلاحات. وعندنا قسم للتلقيح الصناعي للجاموس، نحن ننقل الحيوانات المنوية من ذكور الجاموس الجيد إلى رحم الجاموسة، وتحمل الجاموسة ثم تلد السلالة الجيدة. وقد دربنا الفلاحين والفلاحات على كيفية وضع أنبوبة الحيوانات المنوية في رحم الجاموسة، نحن أيضا نربي ونستخرج بعض سلالات ممتازة من ذكور الجاموس.
وأخذنا المهندس إلى مزرعة تربية الجاموس، ورأيت مجموعة من ذكور الجاموس تدور حول نفسها، وظننت أنها تجر ساقية لكني لم أر الساقية، وقال المهندس: هذه تمرينات رياضية لذكور الجاموس حتى لا يترهلوا بسبب عدم الحركة وتضعف حيواناتهم المنوية، إننا نطعمهم طعاما جيدا مخصوصا، والرياضة اليومية ضرورية لهم. كما أن عندنا نظاما طبيا عالي الكفاءة لرعاية صحة الجاموسة سواء هنا في مزرعة المصنع أم في القرية. إن رعاية صحة الجاموسة من أهم ما يمكن للمصنع؛ لأن الجاموس هو الذي يعطي اللبن.
وأخذنا المهندس إلى القسم الطبي في المصنع ورأيت أمام المبنى عددا كبيرا من عربات جيب وإلى جوار كل عربة سائقها.
سألت: ما هذه السيارات؟
وقال المهندس: إنها سيارات إسعاف الجاموس.
عندنا خدمة إسعاف عالية الكفاءة، وعندنا عدد من الأطباء البيطريين الذين دربوا في أعلى الجامعات والمعاهد.
ودخلت إلى القسم الطبي، ورأيت عدة أجهزة التليفون وعاملا خاصا يتلقى الإشارات التليفونية التي تعلن عن مرض جاموس في أي مكان في المنطقة ، وبعض أطباء بيطريين في وضع الاستعداد دائما للإسراع بسيارة الإسعاف إلى الجاموسة المريضة، وحقائب إسعاف وأدوية حديثة وكل شيء.
إن مركز إسعاف الجاموس هذا أكثر كفاءة من كثير من مراكز إسعاف المرضى من البشر في بلاد كثيرة، بل في هذه المنطقة بالذات ترتفع نسبة وفيات الأطفال والكبار؛ بسبب سوء الرعاية الصحية وانتشار الأمراض.
ورعاية الجاموس الصحية تشمل أيضا الرعاية النفسية. قالوا لي إنهم يدرسون الأسباب النفسية التي تجعل الجاموسة تحزن ويقل إدرارها للبن؛ أحد هذه الأسباب هو حرمانها من أولادها الصغار، وقالي أحد الأطباء البيطريين مزهوا وهو ينظر في بعض الإحصاءات الأخيرة: لم تظهر حالة مرض معدية واحدة بين الجاموس في المنطقة كلها منذ عشر سنوات، وقد تحسنت صحة الجاموس تحسنا كبيرا، وزاد إدرار لبن الجاموسة الواحدة عشرة أضعاف في السنوات الخمس الأخيرة، كل ذلك بفضل نشاط القسم الطبي في «أناند».
وبينما نحن نغادر المصنع رأينا من خلال السور وجوه الجاموس المتوردة ذات الصحة الجيدة، ولم نكن قد نسينا منظر وجوه الأطفال والأمهات الضامرة الشاحبة، فقال زوجي للمهندس الهندي ضاحكا: إذا كانت مسألة تناسخ الأرواح حقيقية - كما تقول «الجيتا» - فإني أود أن تلبس روحي بعد وفاتي جسد جاموسة في «أناند».
وضحكنا حتى دمعت عيوننا من شدة الضحك وشدة الأسى معا. •••
في شرفة فندق «التاج محل» انحنى الجرسون الهندي واضعا أمامنا صينية الشاي، وجه أسمر من تحت عمامة ضخمة بيضاء، أسنان تلمع كالفضة، وإبريق الشاي من الفضة أيضا مزين بنقوش إسلامية مغولية.
هواء البحر يملؤني برائحة اليود وحنين لبحر الإسكندرية وأحلام الطفولة، أصوات الغناء والرقص والموسيقى تتصاعد مع رائحة البخور الهندية والصندل المحروق والند، وفي أعماقي تستيقظ مشاعر أو غرائز قديمة نامت مع الزمن أو ربما ماتت منذ عصور مصر القديمة، أنهض واقفة وأحرك ساقي وذراعي في الهواء وأندهش، فهي الحركة نفسها التي يؤديها الإله شيفا مع اختلاف واحد، هو له أربع أذرع وأنا ليس لي إلا ذراعان.
ضحك صديقي الهندي «شاندري» بصوت خافت أو بلا صوت، شهقة أشبه بالشهيق العميق أو الزفير الطويل، وهزة رأس لم أعرف منها أيقول نعم أم لا، لكن أسنانه البيضاء أضاءت وجهه الأسمر بابتسامة ورشف الشاي بصوت عال، وقال بصوت خافت: قدماء المصريين كانوا يرقصون مثلنا؛ وذلك لأننا الهنود ...
وقاطعته قبل أن يدخل في حديث طويل عن الهنود وحضارتهم التي يؤمن أنها أقدم من حضارة المصريين، وقلت ضاحكة: ربما اكتشف الإله «شيفا» الرقص، لكن الإلهة «إيزيس» اكتشفت الحكمة والعقل.
هو أستاذ للتاريخ في جامعة بومباي، ولا يمكن أن يكف عن الحديث إلا إذا قاطعه أحد.
وقال وهو يرشق «البايب» في زاوية فمه وفوهتها ناحيتي: أرجوك دعيني أشرح لك الموضوع منذ بدايته؛ لأن ...
وقلت وأنا أطرد الدخان المتصاعد من أنفه وفمه: أرجوك لا أستطيع أن أتابع حديثك وأصوات الموسيقى والرقص تملأ الكون، انظر هؤلاء الناس الذين تجمعوا بالآلاف!
وقال: إنه عيد الإله جانيش.
وقلت: هيا نشترك معهم في الرقص؛ فأنا لا أستطيع أن أقاوم عدوى الفرح والبهجة بالحياة خاصة إذا كانت جماعية.
هبطنا إلى الشارع، مهرجان من الألوان والألحان والرقصات، رجال ونساء وأطفال يملئون الشارع ويمتدون على الشاطئ حتى البوابة الضخمة المفتوحة على المحيط، بوابة بومباي الشهيرة تشبه قوس النصر على رأس «الشانزليزيه» في باريس. لكنها هنا لا ترمز إلى النصر، لقد بنيت هذه البوابة من أجل أن يمر من تحتها ملك بريطانيا (جورج الخامس) في أول زيارة له للهند سنة 1911، بوابة بنيت كالكوبري الحجري الضخم ليمر الملك الإنجليزي من تحتها.
وهز شاندري رأسه وهو يشير بأصبعه إلى البوابة: الملوك في الهند كالكوارث وفيضانات الأنهار لا بد أن تبنى الكباري ليمروا من تحتها، وقلت: نعم، في عالم السياسة يمكن بناء كوبري يمر تحته نهر.
سرنا وسط الجموع حتى الشاطئ، وقف شاندري تحت البوابة وحملق في مياه المحيط: السياسة كالتاريخ كالدين علم يحتاج إلى خيال، وليس كل شيء في السياسة أو الدين ندركه بالحواس أو حتى بالعقل، وإلا ما أصبح «جانيش» إلها رغم أن له رأس فيل.
مجموعة من الرجال يرقصون ويقتربون من الشاطئ، يحملون بين ذراعهم تمثال الإله «جانيش»، له جسم طفل منتفخ البطن ورأس فيل، يلمسون الرأس والبطن ويتباركون، أيادي النساء تمتد من وراء الرجال تحاول الحصول على لمسة من الإله وبركة، الأجسام تتزاحم حول الإله الخشبي، وأيادي الرجال ترتفع عاليا بالإله ثم تهوي به إلى قلب المحيط، ودهشت: أغرقوا الإله جانيش؟!
وقال شاندري: لأنه ثمرة الخطيئة.
قلت: أي خطيئة؟
قال: خطيئة الإلهة «برافاتي» مع رجل آخر غير زوجها «شيفا»، وقطع «شيفا» رأس طفلها، لكنها أعادت الحياة إليه بعد أن ركبت له رأس فيل، وأصبح الإله «جانيش»، ونحن الهنود نعبده ونحبه ونحتفل به.
قلت: تعبدونه وتقتلونه غرقا؟
قال: إغراقه يعني إغراق الخطيئة؛ ولهذا نحتفل بهذا اليوم.
قلت: لكنه يموت غرقا.
قال: لا يموت أبدا؛ الآلهة لا يموتون، الخطيئة وحدها هي التي تموت. أما الإله «جانيش» فهو ينقذ نفسه.
قلت: معقول جدا، إذا لم يستطع الإله أن ينقذ نفسه من الموت أو الغرق فهل يمكن أن يكون إلها؟
وثبت عينيه السوداوين الواسعتين من تحت النظارة البيضاء على وجهي وقال بشيء من الاحتجاج: أتتهكمين على آلهتنا؟
قلت: أنا أحترم آلهة كل البشر على اختلاف أنواعهم، وعلى الأخص الإله «جانيش»؛ فهو طفل بريء ولا يستحق الموت غرقا. لماذا تحاسبون الطفل على فعل قام به أبوه أو أمه؟! لماذا لا تحتفلون مثلا بإغراق «شيفا» أو برافاتي؟! هذا هو العدل في رأيي.
وقال شاندري: هذا هو العدل الإنساني المنطقي، لكن في عالم الأديان والآلهة هناك عدل آخر غير منطقي. لا يمكن أن نحاسب الإله «شيفا» على أخطائه؛ لأنه يملك قوة الدمار والموت.
لا يمكن أن نحاسب الآلهة الذين يملكون هذه القوة؛ فالمنطق هنا منطق القوة وليس منطق العدل.
ورأيت امرأة ترقص على حافة الشاطئ وتلقي زهورا حمراء في مياه المحيط حيث ألقي الإله جانيش وتردد بصوت كالغناء: أيها الإله الطيب «جانيش»، يا نصير الضعفاء والأطفال المرضى والجياع، أتوسل إليك أن تتوسط لي عند الإله الجبار «شيفا» ليحمي طفلي من الموت. إنه مريض منذ ثلاثة شهور ولا ينهض من الفراش!
ترجم لي شاندري هذه الكلمات وقال: أترين؟ نحن نعبد «جانيش»؛ لأنه إله طيب. لكنه إله ضعيف لا يملك الضرر أو المرض أو الموت، وكل ما يملكه هو أن يتوسط بيننا وبين آلهة الموت والدمار أمثال شيفا وبراهما وفيشنو.
بدأت عدوى الرقص تنتقل إلينا، غمس شاندري إصبعه في المسحوق الأحمر المقدس وطبع على جبهتي دائرة حمراء. في حركة يده وفي تلامس الذرات المقدسة بجسدي تحولت إلى امرأة هندية تعبد الإله شيفا، أو ربما أصبحت الإلهة برافاتي نفسها زوجة شيفا التي خانته وأنجبت جانيش. وأحببت الإله «جانيش» كأنه ابني من صلبي، ولدته في مكان وزمان لا أدري عنهما شيئا.
حركت ذراعي في الهواء كالمروحة وأصبح لي أربعة أذرع، ثم تضاعف العدد بسرعة وأصبح ثمانية أذرع، بسرعة حركتي في الهواء يتضاعف عدد أذرعتي، توقفت لحظة عن الرقص وأنا ألهث.
وقال شاندري: أتؤمنين بتناسخ الأرواح؟
وتساءلت: لماذا؟
وقال: لأن روحك الآن لبست جسد بارفاتي وأذرعتها، وكأنما كنت على وشك التصديق وقلت: أجل، ربما، على أي حال عقلي لا زال غير مقتنع، لكني أحس في هذه اللحظة أنني الإلهة برافاتي أو ربما الإلهة إيزيس، على أي حال كلهن إلهات!
وضحك شاندري ضحكته الصامتة كالشهيق أو الزفير، ولمعت أسنانه في المساحة السمراء وقال: وكلهن خائنات! في كل تاريخ الإلهات ليس هناك إلهة واحدة مخلصة لزوجها، وكلهن مثل الإلهة برافاتي، ولكل واحدة منهن طفل مثل «جانيش».
وقلت: ألهذا السبب لم تتزوج يا شاندري؟ وشحب وجهه الأسمر: لا، ولكني حين أتزوج سأختار امرأة من وسط العبيد وليس من وسط الإلهات؛ فالعبودية تعلم المرأة الإخلاص لزوجها حتى بعد موته؛ فهي تلقي نفسها في المقبرة معه ولا تتركه يدفن وحده.
قلت: وأنت زوجها هل تلقي نفسك في المقبرة إذا ماتت هي قبلك؟ حك شاندري رأسه بطرف أصبعه وأطرق إلى الأرض صامتا كأنما يستجمع أفكاره أو ذاكرته من زمن سحيق، ثم قال: المرأة هي سبب الخطيئة وسبب الموت، وهي المسئولة عن موت زوجها إذا مات قبلها؛ ولهذا أمرنا الآلهة بأن تدفن الأرملة مع زوجها في المقبرة نفسها، وإذا عاشت الأرملة بعد زوجها فهي تسبب الفساد والكوارث.
انظري ماذا فعلت بنا أنديرا غاندي! منذ أن تولت السلطة هذه الأرملة وجميع الآلهة غاضبون علينا.
وتساءلت: جميع الآلهة في الهند؟ أم في بلاد أخرى؟ وانفرجت شفتاه عن شهقة سريعة: ماذا تقصدين؟
وضحكت: لا أقصد شيئا، مجرد محاولة لمعرفة إذا ما كان الآلهة في الهند يتفقون في هذا الرأي مع الآلهة في بلاد أخرى من العالم.
بدأ اللون الأحمر يتصاعد إلى بشرته السمراء وهز رأسه: ربما تؤمنين بآلهة أخرى وهذا حقك، لكن آلهة الهند لا يحبون الأرملة؛ لأنها سبب موت زوجها، لكن الرجل ليس سبب موت زوجته؛ فهي تموت بسبب أخطائها وتكفيرا عن ذنبها، ومن حق زوجها أن يتزوج امرأة أخرى بعد موتها، هذا هو قانون الحياة، ألديك اعتراض على قانون الحياة؟
وقلت: أتقصد أن قانون الحياة هو أن تدفن الأرملة مع زوجها الميت في مقبرة واحدة؟ قال: أتعترضين على دفنهما في مقبرة واحدة؟ بعض الأديان تعترض على دفن النساء مع الرجال في مقابر واحدة، ولا بد من دفن النساء في مقابر خاصة بهن.
كنت لا أزال واقفة على الشاطئ، تحت بوابة بومباي الضخمة، رائحة البحر واليود تملؤني بالحنين لبحر الإسكندرية وأحلام الطفولة، خيالات في رأسي تشبه خيالات الطفولة، وصوت جدتي في أذني يحكي عن الجان والعفاريت ولكل عفريت ثمانية أذرع طويلة، و«جنية» البحر لها رأس امرأة وجسد سمكة. صوت شاندري يشبه صوت جدتي: الآلهة لا يحبون الأرامل.
وقلت بصوت طفولي: لعلهم يفضلون العذراوات.
وصاح بدهشة: هذا صحيح! كيف عرفت هذا؟
وقلت: لأنني طبيبة نفسية، وأفهم نفسية الآلهة.
وقال شاندري: لكن الآلهة عندنا يختلفون، وليس شيفا مثل فيشنو أو «برهما». قلت: قد يختلفون سياسيا، ربما يفضل «شيفا» الرأسمالية، وفيشنو ربما له ميول اشتراكية، لكني أعتقد أنهم يتفقون جميعا في نظرتهم للمرأة.
وظل شاندري يحملق في وجهي بعينيه السوداوين، أصبحت عيناه ضيقتين كعيني جدتي وبلا رموش، صوته أيضا هو صوتها، وأطفال بومباي ينظرون إلي بعيون سوداء واسعة يملؤها الجوع والدهشة معا كعيون الأطفال في قريتي البعيدة على شط النيل، وعيوني في الصورة وأنا طفلة أقف في الصف الأول إلى جوار زميلاتي في المدرسة الابتدائية.
أصبح شاندري هو الذي يرقص الآن، على جبهته الدائرة الحمراء المقدسة، رأسه يشبه رأس الإله «جانيش» بدون زلومة الفيل، ذراعاه يتحركان في الهواء وقد تضاعف عددها وأصبح له أربعة أذرع طويلة كالمخالب، وصوته كصوت الإله الراقص «شيفا»: نحن أفضل من غيرنا وأكثر تقدما، فنحن لا نعترض على اختلاط النساء والرجال في المقابر بعد الموت. أما الأرملة! هل هناك أحد يحب الأرامل؟! وقد نشفق على الأرملة الضعيفة المستكينة المطيعة لأوامرنا، لكن هذه الأنديرا غاندي! إنها تمتلك قوة تنافس بها الآلهة، واستطاعت أن تتخلص من خصوم أبيها، وكان نهرو يسميهم «الثعابين»، وعجز عن مقاومتهم، واستطاعت أن تنجح فيما فشل فيه «نهرو»، لكن نجاحها معناه سقوط الآلهة، وخاصة الإله «براهما» وجميع البراهميين؛ أي رجال الدين والفكر عندنا، وهم الطبقة العليا. فنحن لا نفصل بين أملاك الإله «براهما» وأملاك البراهميين.
كان أحد الرجال قد اقترب من شاندري وهو يرقص، جلباب ممزق تفوح منه رائحة قمامة، ووجه شاحب تشتعل فيه عينان سوداوان بوهج الجوع، وسقط «ظله» وهو يرقص على سترة شاندري السوداء من الصوف الإنجليزي الثمين، توقف شاندري عن الرقص فجأة، ونفض عن سترته «الظل» كأنه ينفض شيئا له قوام مادي، كالحشرة تماما ينفضها عن ملابسه.
وقلت بدهشة: إنه لم يلمسك.
وقال: ظله لمسني وهذا يكفي. كان أبي يستحم إذا سقط عليه ظل واحد من هؤلاء المنبوذين.
ابتعدت أنا الأخرى عن الرجل، رائحة تملأ الدنيا بالقمامة والفقر، تذكرت برنارد شو: «أنا لا أحب الفقراء، ولا أحب رائحتهم»، وهل هناك أحد يحب رائحة القمامة؟ حتى الآلهة في الهند لا يحبون الفقراء والمنبوذين، خاصة الآلهة براهما وشيفا، مع أن الفقراء هم أكثر الناس حبا للآلهة، ما من معبد دخلته في الهند إلا وكان مكتظا بالفقراء. لا يكفون عن العبادات وتقديم الهدايا للآلهة وخاصة الإله «براهما»، لكن الإله «براهما» يأخذ منهم ولا يعطيهم شيئا، إنه لا يعطي إلا طبقة البراهميين، يغدق عليهم من ماله وأملاكه، مع أنهم لا يزورون المعابد أبدا، ولا يقدمون شيئا للآلهة، مثل غيرهم من طبقة رجال الحرب (التشاتريا) والتجار (الفيشيا) والتشودار أيضا أصحاب الأعمال اليدوية.
وقال شاندري: هذا حال الدنيا، والدنيا ظالمة، لكن الآلهة عادلون؛ فهم يعطون الأشرار الأموال ويعطون الفقراء الإيمان، والإيمان أفضل من المال، والفقراء منبوذون في الدنيا؛ لأنها ظالمة وزائلة. لكنهم بعد الموت سينالون رضا الآلهة ولذلك سماهم غاندي «الهاريجان» يعني أطفال الإله: نعم، نعم، وهز شاندري رأسه، نعم لن ينسى «شيفا» «الهاريجان» بعد الموت. أما الأرامل فلا مكان لهم في قلب «شيفا».
وكان لا بد أن تدفن أنديرا غاندي في مقبرة واحدة مع زوجها منذ سنين. كانت ستنعم برفقة زوجها بدلا من حياتها كامرأة وحيدة بلا رجل، تعيش في بيتها وحيدة، وتموت وتدفن في مقبرتها وحيدة. هذه الأنديرا غاندي قد حرمت نفسها من أهم الحقوق التي تحظى بها أبسط امرأة هندية، وهو أن تدفن في مقبرة واحدة مع زوجها.
صوت «شاندري» لا زال في رأسي، البحر أمامي والشاطئ. لكنه ليس شاطئ بومباي. إنه شاطئ الإسكندرية، وأنا أجلس في شرفة فندق «البوريفاج»، أمامي الورق والقلم أحاول أن أكتب، الجرسون النوبي الأسمر ترك لي صينية الشاي وجرائد الصباح، لمحت عنوانا في جريدة الأهرام (12 ديسمبر 1982):
لا يجوز دفن رجل مع امرأة في قبر واحد.
هل يجوز دفن رجل مع امرأة في قبر واحد؟
جرى عمل السلف على دفن كل ميت في قبر خاص، فإن دفن فيه أكثر من واحد كره أو حرم إلا لضرورة، ككثرة الموتى وضيق المقبرة، وروى عبد الرزاق بسند حسن عن وائلة بن الأسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد، فيقدم الرجل وتجعل المرأة خلفه، وكأنه يجعل بينهما حاجزا، لا سيما إذا كان أجنبيين، وذلك عند الضرورة، أما في غيرها فلا يجوز دفن رجل مع امرأة في قبر واحد عند الشافعية. كما قيل: لا يجمع بين رجل وامرأة في قبر إلا لضرورة، فيحرم عند عدمها. قال ابن الصلاح: ومحله إذا لم يكن بينهما محرمية أو زوجية، والذي في (المجموع) أن الجمع حرام حتى في الأم مع ولدها.
كتبت بضع كلمات سريعة على ورقة، طويتها وأرسلتها عن طريق البرق كأنما هي وصيتي الأخيرة.
فتح البرقية وهو جالس في بيتنا بالجيزة ودهش. كانت كلمات البرقية متكررة الحروف ثأثأة مصاب بداء في اللسان:
أأ أريد يا يا يا حبيبي أن ن ن ن ت تضمني أنا أنا وأنت وأنت، مقبرة واواواواوا واو ا وا واحدة.
زوجتك المخلصة
لم أكن أطلب في رحلاتي لقاء أصحاب أو صاحبات السلطة؛ بيني وبين الآلهة فوق الأرض عداء، أما الآلهة من ذوي الأجنحة أو من ذوي الأذرع المتعددة فقد كان من السهل أن ألتقي بهم في معابد الهند، حيث يلتقي كل الفقراء والمنبوذين والمنبوذات.
كنت أندهش: كيف يمكن للآلهة الحقيقيين أمثال شيفا أن يكونوا أكثر تواضعا من الآلهة المزيفين فوق الأرض؟
روبية واحدة أو كسرة خبز تكفي لأن ألتقي بالإله الجبار شيفا، أو إله الموت والدمار. وهو - رغم ألوهيته وجبروته - لا يعبأ بأن أرتدي له زي التشريفات، وليس له مدير مكتب ولا سكرتير خاص ولا حاجب ولا أحد يمكن أن يعترض طريقي إليه.
لكن هؤلاء الآلهة الآخرين الذي يمشون فوق الأرض على قدمين وليس لأي منهم أجنحة أو أربعة أذرع، وإنما مجرد ذراعين مثلي تماما، هؤلاء الآلهة لم أكن أفكر في اللقاء بهم، بل إنني كنت أسعى إلى الابتعاد عنهم، حتى صورهم في الصحف اليومية الصباحية لم أكن أنظر إليها؛ لسبب واحد بسيط: هو رغبتي الصادقة في استقبال اليوم الجديد بنفس منشرحة متفائلة.
تعودت خلال السنين الأخيرة ألا أقرأ الصحف أول النهار. أخبئها تحت المكتب حتى آخر الليل ثم أنساها وأنام، لكني في صباح اليوم التالي أراها تحت عيني تطل علي من تحت عقب الباب.
ذلك الصباح استيقظت مبكرا وبحكم العادة اتجهت عيني نحو الباب وهبطتا حتى العقب، ولدهشتي لم أجد الصحف، رأيت الأرض لامعة نظيفة لا يعلوها شيء، نهضت من الفراش بحركة سريعة نشطة أشبه بالسعادة المفاجئة، واكتشفت في لحظة خاطفة كضوء الكشاف، لماذا أصبحت أحب السفر: كنت أريد أن أفتح عيني في الصباح فلا أرى الصحف.
والصباح في نيودلهي كان مشرقا، وقد أحببت شمس الهند في الشتاء؛ فهي شمس قوية أقوى من أي ريح باردة، لكنها ليست قوة غاشمة مستبدة وإنما قوة الكواكب العظيمة الواثقة في نفسها، قوة الآلهة الحقيقيين من ذوي الأذرع المتعددة والقلوب الرحيمة المتواضعة تحتضن الكل بالتساوي، لا فرق بين منبوذ أو مهراجا.
أغرقتني شمس الصباح وأنا جالسة في الشرفة أطل على القباب المغولية وأنصت إلى زقزقة العصافير وسمعته يقول: لقد زرت الهند عدة مرات وعشت فيها شهورا، وتجولت فيها شمالا وجنوبا، ولا يمكن لك أن تتركي الهند دون أن تقابلي أنديرا غاندي! •••
لم يمض على ذلك الصباح بضعة أيام ووجدت نفسي داخل السيارة الصغيرة التي اجتازت البوابة الحمراء الكبيرة التي تقود إلى «راشترابا هي بافان» وهو مقر الحكومة في العاصمة دلهي، لم أر إلا حارسا واحدا على الباب الخارجي، ولم أجد إلا سكرتيرا واحدا صافحني بابتسامة الهندي المتواضعة، ثم إذا بي في مكتب رئيسة الوزراء: أنديرا غاندي.
كانت واقفة مرتدية «الساري» الذي يزيد من قوامها الممشوق، وعلى وجهها ابتسامة تنسجم مع إشراقة الخصلة البيضاء فوق جبهتها المستقيمة الواضحة، أدركت لأول وهلة أن وجهها يعبر عن شخصية أقوى وأكثر تميزا من الوجه الذي رأيته لها في الصحف والمجلات والكتب، هي إذن من هذا النوع من الناس الذين تعجز آلة التصوير عن نقل شخصيتهم وروحهم الحقيقية للناس.
شعرت وأنا أصافحها براحة، تغلبت على الضيق الذي أحسه دائما وأنا داخل مكاتب أصحاب السلطة من أي نوع. لا بد أنني ابتسمت في هذه اللحظة واتخذ جسمي وضعا طبيعيا مريحا في المقعد المواجه لمقعدها.
وجها لوجه وعينا في عين زاد شعوري بأنني أمام امرأة قوية. كنت قد قرأت بعض الكتب عن طفولتها وحياتها وكفاحها قبل وبعد وفاة أبيها نهرو. شاركت مع زعماء الهند ومع جيلها من الرجال والنساء في الكفاح ضد الاستعمار، وحين أحبت رجلا من غير دينها ومن غير طبقتها (كان من الفارسيين الذين يعبدون النار ومن طبقة فقيرة) صممت على أن تتزوجه، رغم أن زواجها يجب أن يبنى على الحب والتفاهم، وكان هذا الفعل من جانبها ثورة في المجتمع الهندي الذي يقوم على التفرقة الشديدة بين الطبقات والأديان. في فترة ما من حياتها كادت أن تترك السياسة والكفاح العام وتتفرغ لحياتها كزوجة وأم، لكنها لم تستطع. إن الكفاح السياسي في دمها، رضعته وهي طفلة وشاركت فيه طوال صباها وشبابها. لم تكن حياتها سهلة، ولم يكن لامرأة بغير قوتها أن تنجح في قيادة المجتمع الهندي الكبير الذي لا زال في معظمه مجتمعا رجاليا يسود فيه الرجل داخل الأسرة وخارجها، ذلك المجتمع المترامي الأطراف، المليء بالمشاكل والثروات معا، والذي خرج من قبضة الاستعمار لكنه لا زال يعاني آثاره في الهند الآن حوالي 300 مليون شخص يعيشون دون الكفاف، وفي كل مكان نرى هؤلاء البشر الجالسين أو الراقدين على الأرض، أو الذين يعيشون داخل أكواخ من الصفيح أو القش أو الخيش، ملايين من الناس رجالا ونساء وأطفالا اتخذوا من الرصيف بيوتا، يأكلون وينامون ويستحمون ويموتون فوق الرصيف.
كانت أنديرا غاندي محاطة بالأوراق العديدة فوق مكتبها، عيناها مليئتان بحيوية غريبة، وابتسامة تكاد تكون مرحة، وربما نسيت في بعض اللحظات أنني أمام المرأة التي لقبها الغرب بأقوى امرأة في العالم، لكنني سرعان ما كنت أدرك أنها هي أنديرا غاندي بتلك النظرة العميقة في عينيها والانقباضة في عضلات فمها حين تتكلم ويتخذ وجهها الصرامة والجدية اللازمة لأصحاب السلطة.
وبدأت أنديرا غاندي تقول:
صداقة العرب والهند صداقة قديمة، وعلينا أن نقوي هذه الصداقة ونجددها دائما. وبالرغم من أن بعض زعمائنا - ومنهم المهاتما غاندي - قد عطفوا على اليهود بسبب اعتداء هتلر عليهم، إلا أننا لم نؤمن أبدا بالطريقة التي خلقت بها إسرائيل. إن مشكلة الشرق الأوسط (نسميها هنا منطقة غرب آسيا) لم تكن إلا مشكلة أوروبية حاولت أوروبا أن تحلها على حساب الشعب الفلسطيني ، نحن هنا في الهند نساند الشعوب العربية؛ لأنهم ظلموا وعانوا الاستعمار والاستغلال كما حدث لنا سنين طويلة. لقد عانينا في الهند من أزمة البترول مثل غيرنا من البلاد، لكننا نرى أن مشكلة الشرق الأوسط لا بد أن ينظر إليها نظرة عادلة شاملة. من حق جميع البلاد النامية أن تفعل ذلك. ونحن في الهند نحب السلام، وهدفنا دائما هو الصداقة وإزالة سوء التفاهم والقضاء على الكراهية، رغم كل شيء ساندنا الصين وأيدنا انضمامها إلى هيئة الأمم، وكان السوفييت أول من ساعدنا في إنشاء صناعة ثقيلة في الهند، ونحن نحاول أن نقضي على الفقر في بلادنا، لكن استمرار بقاء مشكلة الفقر لا يعني فشلنا في الهند كمجتمع، ولكنه يعني فشل نظام العالم الحديث في تحقيق العدالة. إن البلاد المتقدمة تحظى بكل خيرات العالم رغم قلة سكانهم. إنهم يستهلكون أكبر كميات من القمح والبروتين والفواكه والبترول وكل شيء، ولا يتركون لشعوب العالم الثالث إلا القليل رغم كثرة السكان، ولا ترجع مشكلة الفقر في بلادنا إلى كثرة السكان كما يقولون في الغرب، ولكنها ترجع إلى خطأ في النظام العالمي. وقد غضبوا مني في الغرب بسبب رأيي هذا، لكننا في الهند نعرف مشاكلنا ونعرف أسبابها الحقيقية، ونحن ندرك أن التصنيع والتنمية الشاملة وخروج النساء إلى العمل أهم العوامل التي تؤدي إلى إنجاح برامج تنظيم الأسرة. وقد تقدمت الهند في هذه المجالات وانخفض معدل المواليد عن ذي قبل.
والمرأة الهندية تعمل في كل مكان، وأنا لم أصادف في عملي كرئيسة للوزراء مشكلة واحدة بسبب كوني امرأة، ولكني بالطبع واجهت في حياتي العديد من الصراعات التي استطعت التغلب عليها. إن الإنسان لا يقوى إلا من خلال انتصاره على الآلام والصراعات التي تواجهه في حياته، والنساء في الهند تشارك في جميع المجالات، عندنا ولايتان ترأس الوزراء في كل منهما امرأة، وفي كل ولاية في الهند تشترك في الحكومة وزيرة امرأة على الأقل، وعندنا عديد من عضوات البرلمان وممثلات الأحزاب المختلفة، عندنا قاضيات في مختلف الولايات، وفي القرى هناك نساء منتخبات في المجالس القروية، ونسبة الجامعيات والمتعلمات والعاملات في كل المجالات أعلى من البلاد المتقدمة، ولنا في الهند تاريخ فلسفي عميق يساوي بين الرجال والنساء، ثم إن زعماءنا السابقين من أمثال ماهاتما غاندي وأبي نهرو وغيرهم كانوا يدعون دائما إلى مساواة المرأة والرجل، وخروج المرأة إلى الحياة السياسية والإنتاج. وقد شاركت النساء في الكفاح قبل الاستقلال ودخلن السجون مع الرجال. أثبتت النساء أنهن قادرات على العمل والتضحية؛ ولهذا كان من الطبيعي بعد الاستقلال أن تستمر النساء في عملهن السياسي وفي الإنتاج. كان والدي نهرو متمردا مؤمنا بأن المرأة كالرجل؛ لذلك لم أشعر في أي يوم بأي تفرقة أو اضطهاد لأني امرأة، وأخذت كل فرصتي في التعليم والعمل السياسي، لكن أمي حرمت من هذا وكانت آسفة على ذلك دائما، لست أوافق على الرأي القائل بأن الأم يجب أن تتفرغ لبيتها وأطفالها، المرأة تستطيع أن تكون أما وعاملة في الوقت نفسه. إن رعاية الطفل وإعطاءه الحب لا يعني أن تتواجد المرأة في البيت طول النهار، ما هو مهم في تربية الطفل ليس هو كمية الحب ولكن نوع هذا الحب، هناك نساء متفرغات في البيوت ولا يعطين حبا لأطفالهن، وهناك نساء عاملات يعطين الحب الحقيقي لأطفالهن في الفترة القصيرة التي يعدن فيها إلى البيت، وهن أيضا قادرات على منح أطفالهن الاستقلال الذي يساعدهم على النضوج واستقلال التفكير عن الآخرين؛ لذلك أنا لا أوافق على الطريقة المتخلفة التي تظهر بها المرأة الهندية في أفلامنا؛ فالمرأة الهندية في الحياة الحقيقية أكثر احتراما وأكثر إيجابية وكفاحا وتقدما منها في الأفلام الهندية، لكن السينما حرة في الهند والحكومة لا تتدخل في شئونها، نشجع الآن مجموعات من الشباب لعمل أفلام جديدة متقدمة، ولكن الدور الأساسي لتطوير الفيلم الهندي يجب أن تلعبه الجمعيات النسائية والتنظيمات الشعبية. إن واجب هؤلاء هو تنوير الرأي العام وجعل المساواة بين الجنسين حقيقة في الحياة اليومية للناس لتنعكس في الأفلام، ويعبر الفن الهندي تعبيرا حقيقيا عن حياة الرجال والنساء في الهند . إن جميع القوانين تساوي المرأة بالرجل، ولكن تطبيق ذلك في الحياة والفن يقع على عاتق التنظيمات النسائية والنساء أنفسهن. لقد زرت في الفترة الأخيرة هذه الجمعيات ووجدت أنها تقوم بنشاط كبير فعلا، ولكن وجدت ازدواجا في بعض الأنشطة، وأن كل جمعية منعزلة عن الأخرى وليس هناك تنسيق بين الجمعيات المختلفة. كما أن معظم الأنشطة مركزة في المدن والطبقة المتوسطة، ولا تتوغل بالقدر الكافي في الريف وبين الطبقات الفقيرة. إن جهودي موجهة لتقوية الإنسان الهندي والقضاء على التفرقة بين الطبقات وحماية الإنسان الهندي من أن يتحول إلى ترس في آلة. إن تحويل الإنسان إلى ترس في آلة مشكلة في البلاد الصناعية المتقدمة. لكنها ليست مشكلة الآن في الهند، وأحاول أن أبذل جهودا وقائية لحماية الإنسان الهندي، خاصة وأننا نسير بخطوات سريعة نحو التقدم الصناعي. نحن نهيئ الظروف للتلميذ والتلميذة والعامل والعاملة للقراءة خارج المنهج المقرر وخارج العمل وخارج المصنع، بحيث تنمو قدرات الشخص الفكرية ومواهبه الخاصة. بمعنى آخر: لا يحبس عقل العامل داخل المصنع، ولا يحبس عقل التلميذ أو التلميذة داخل المدرسة، ولا بد من الاطلاع على الثقافات الأخرى. إن الهند ومصر لهما تاريخ عريق ولهما ثقافة متقاربة. ولكنا لا نعرف عن الأدب العربي إلا القليل، وكذلك لا يعرف العرب عن الأدب الهندي إلا القليل، والسبب في ذلك هو مشكلة الترجمة. إن الأدب الهندي مترجم إلى اللغة الإنجليزية بكميات هائلة، ولكنه لا يترجم إلى العربية إلا نادرا، والحال نفسه أيضا بالنسبة للأدب العربي، فلماذا يحدث ذلك رغم أن الإنجليز قد خرجوا من مصر ومن الهند، ورغم أن اللغة الهندية - وبالذات اللغة الأردية - حتوي 10٪ منها على كلمات عربية؟ نحن في حاجة إلى جهود كثيرة في مجال الترجمة. لا بد أن يقرأ الإنسان العربي دون أن تكون اللغة الإنجليزية هي الوسيط بينهما، إني أثق في المستقبل وأعتقد أن صلتنا بالعرب وبمصر سوف تزيد على الدوام.
وانتهى كلام أنديرا غاندي. وخرجت من مكتبها متفائلة قرب الظهر. وفي المساء لبيت دعوة عشاء مع كاتب هندي عجوز، تربطه بأنديرا غاندي صلة قرابة، لكنه من المعارضين لسياستها. لم يعترف بأي صفة حسنة لأنديرا وقال: كله كلام في كلام، وماذا يمكن أن ننتظر منها؟ والأرملة في تاريخنا شؤم وخراب.
وفرغت صحونه من الطعام، وامتلأ صدري بالتشاؤم، وخرجت لكن وجهه ظل أمامي مليئا بالتجاعيد، وصوته يذكرني بصوت جدتي.
كنت طفلة في السادسة، وهي تحكي كل ليلة قبل أن أنام حكاية الغولة، تهز رأسها الملفوف بالمنديل الأسود وتردد كأنها تغني وعيناها نصف مغمضتين: هائلة مخيفة.
كل أصبع من أصابعها ثلاثة أذرع في عرض ذراعين.
وفي رأس كل أصبع منها ظفران حديديان مثل المنجلين.
وكان موضع جلوسها قريبا من الأرض.
وهي أول من بغى على وجه الأرض.
وعمل البخور والسحر.
وجاهر بالمعاصي.
ولذا أرسل الله عليها أسودا كالفيلة.
وذئابا كالإبل.
ونسورا كالحمير.
فقتلوها وأراحوا الأرض من شرها ...
وأخفي وجهي تحت الغطاء وأنا أسأل جدتي بصوت خافت: هل هي جنية البحر؟
وترد جدتي: لا، إنها امرأة من لحم ودم، مثلي ومثل أمك، ومثلك حين تكبرين وتصبحين امرأة مثلنا.
وأهمس من تحت الغطاء: وما اسمها يا جدتي؟
وتهمس جدتي بصوت كفحيح الثعبان: اسمها عناق أم عوج، إحدى بنات آدم لصلبه، لعنها الله هي وأمها حواء.
أدركت بعد التنقل في أنحاء الهند الشاسعة أن هذا البلد العريق الضخم ينطوي في أحشائه على تاريخ البشرية، منذ بدء ظهور الإنسان البدائي حتى عصرنا هذا في الثلث الأخير من القرن العشرين.
في ساعات قليلة بالطائرة كنت أنتقل فجأة من المجتمع الأبوي الشديد التزمت الشديد الاستغلال للمرأة، إلى المجتمع الأموي حيث لا يزال ينسب الأطفال إلى أمهاتهم، وترث البنات الأرض عن الأم، وترتفع مكانة النساء في هذا المجتمع الأموي ارتفاعا كبيرا في مختلف نواحي الحياة والعلوم والفنون.
وبعد ساعات قليلة بالطائرة أهبط على أرض تبدو لي كأنها جزء من العصر الحجري القديم وأرى الرجال في البيوت يتزينون بالمساحيق البيضاء والحمراء وفي آذانهم حلق ذهبي أو فضي، وأندهش حين أرى أصابع الرجال ناعمة رقيقة (لأنهم لا يعملون شيئا سوى الإشراف على المعابد والرقص في الحفلات الدينية). أما أصابع النساء فهي قوية خشنة؛ بسبب مسك الفأس طول النهار في الحقل.
وحينما تهبط بي الطائرة في مطارات البلاد الشهيرة بمعبد من المعابد، أو حينما أصل إليها بالقطار، فإن المطار أو المحطة يكتظ دائما بهؤلاء البشر الجالسين أو الراقدين على الأرض، أجساد متلاصقة، الجسد بجوار الجسد. لا تكاد تعرف الذكر من الأنثى، ولا الطفل من العجوز، فكلهم هياكل عظيمة متشابهة تغطيها طبقة سوداء من الجلد الجاف، والوجه ليس إلا جمجمة تلتهب في وسطها عينان سوداوان واسعتان فيهما نداء صامت واحد: نريد أن نأكل.
بعد ساعات من هذا المنظر المفزع تنقلني السيارة في دقائق قليلة إلى شوارع نظيفة، وبيوت أنيقة تشبه فيلات الأثرياء في لندن أو واشنطن أو المعمورة، وأرى الوجوه نضرة ممتلئة باللحم متوردة، وأيضا كلابهم (أخذ أثرياء الهنود عن الإنجليز هواية تربية الكلاب) أرى كلابهم تجري في الحدائق الفيحاء متوردة الملامح سمينة تأكل اللحم بغير عظم.
وفي مدينة بومباي التي تشبه نيويورك في أجزاء منها ألتقي ببعض رجال العلم من ذوي الشهادات العالية والدكتوراه وأعجب بثقافتهم الواسعة، ولكني أراهم بعد دقائق جاثين في خشوع أمام الإله «جانيش» الذي له جسد إنسان ورأس فيل.
وفي شوارع نيودلهي العاصمة أرى الحدائق الجميلة النظيفة والشوارع الواسعة اللامعة، ولكن هناك أيضا أسراب البقر تسرح جماعات ووحدانا في جميع الشوارع، وهؤلاء الذين يحرمون لحم البقر، وهؤلاء الذين يعبدون النار أو الشمس أو أي كائن حي، وهؤلاء الذين يعلقون موتاهم في الشجر لتأكلها النسور المسماة «قالتشرز».
كل شيء وأي شيء يمكن أن تراه في الهند، حتى أحلامي المزعجة وأنا طفلة رأيتها في الهند، حتى أغرب الخزعبلات البعيدة عن أي عقل بشري وجدتها في الهند. هذا كله إلى جوار أحدث المعاهد العلمية وأرقى الصناعات وأعلى نسب في العالم من الحاصلين على أعلى الشهادات، سواء كانوا رجالا أو نساء.
من الصعب على العين الغريبة عن الهند أن تلمس قوة المرأة الهندية، كثير من الصحفيين يذهبون إلى أنديرا غاندي رئيسة الوزراء ويسألونها كيف تقود هذا البلد الضخم وهي امرأة، في مجتمع رجالي ينظر إلى المرأة كمخلوق أقل من الرجل؟ هؤلاء الصحفيون لم يروا من المرأة الهندية إلا هؤلاء القلة ممن تعلمن في المعاهد والجامعات في أوروبا وأمريكا وأثرت فيهن ثقافة الطبقة المتوسطة في هذه البلاد الغربية.
لكن المتعمق قليلا في حياة المرأة الهندية يدرك أن النساء الهنديات بصفة عامة يتمتعن بقدر أكبر من الاحترام والمساواة من النساء في بلاد أخرى كثيرة.
وقد تحيرت في أسباب ذلك الارتفاع لمكانة المرأة الهندية وبالذات في جنوب الهند في تلك الولايات، مثل ولاية كيرالا التي كانت بمنأى عن هجمات المستعمرين ولم تغزها ثقافة الغرب الرأسمالية الأبوية القائمة على استغلال المرأة. إن ولاية «كيرالا» تتميز بارتفاع في نسبة المتعلمين وتطور الصناعة ورقي الثقافة وارتفاع مكانة المرأة وانتشار الأسر الأموية.
وقد وجدت أيضا أن أحد أسباب ارتفاع مكانة المرأة الهندية سياسيا واجتماعيا هو أن الديانة الهندوكية في أصلها لا تفرق كثيرا بين الرجل والمرأة، وأن الآلهة في هذه الديانة ليسوا ذكورا فحسب، ولكن هناك الإلهات الإناث، وكم من هنود يركعون أمام الإلهة «برافاتي» أو الإلهة «لاكشمي» وغيرها الكثيرات.
عشت في الهند بضعة شهور أتجول بين ولاياتها الشاسعة المتباينة، أزور المعابد والمزارع والمصانع والجامعات، وألتقي في كل ولاية بعدد من الأدباء والأديبات وقيادات مختلفة لأحزاب متعددة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ودفعتني هذه الجولات وهذه اللقاءات إلى أن أقرأ عن تاريخ الهند وأديانها، وبعض الروايات الهندية والقصص والشعر. كنت كلما ازددت معرفة بالهند كلما أدركت صعوبة الإلمام بما فيها من تراث متشعب وثقافات متعدة وتيارات وتناقضات لا حد لها، هناك أشياء كثيرة مشتركة بين مصر والهند، وكم من أحيان نسيت فيها أنني في بلد غريب خاصة في تجولاتي بين الآثار الإسلامية التي تشكل أهم وأبرز حضارة في تاريخ الهند (حكم المسلمون الهند ثلاثة قرون ونصفا من 1500-1850)، لكن الاستعمار الإنجليزي للهند الذي استمر حوالي القرنين ترك بعض بصماته على الشخصية الهندية أكثر مما تركها على الشخصية المصرية . كثيرا ما يصادفك ذلك الرجل الهندي الذي يعيش على الطريقة الإنجليزية، فإذا به يضع «البايب» في زاوية فمه، ويتكلم الإنجليزية من أنفه، ويرتدي البالطو الإنجليزي في عز الحر، ويشرب شاي الساعة الخامسة والدنيا ملتهبة كجهنم، وأيضا هناك كلبه الذي يأخذه كل صباح للتريض.
لكن هناك أيضا الشخصية الهندية التي وعت فلسفة غاندي ونهرو ناضلت من أجل الاستقلال وعايشت استقلال الهند منذ سبعة وعشرين عاما. إن متابعة الجرائد اليومية في الهند متعة. يشعر المرء أنه في بلد ديمقراطي رغم المشاكل العديدة التي لا تزال تواجهها حكومة أنديرا غاندي، إلا أن ما حدث في الهند من تقدم منذ استقلالها حتى اليوم ينبئ بأن هذا العملاق الآسيوي قد هب من رقاده، وأن قوته الجديدة المتزايدة مع قوة العملاق الآسيوي الآخر «الصين» قد أصبحتا مثار قلق شديد في العالم الأوروبي والأمريكي. هذا العالم الذي أطلق على نفسه «العالم الأول» إيمانا بسيادته، وأطلق على بلاد آسيا وأفريقيا اسم «العالم الثالث».
لكن التاريخ يتغير على الدوام، وكم من إمبراطوريات عظيمة تهاوت وحلت مكانها بلاد أخرى، هل يعيد التاريخ نفسه ويصعد العالم الثالث إلى فوق وتتهاوى إمبراطورية العالم الأول؟ هناك من يتنبأ بذلك من علماء الغرب، ولعل هذا هو سبب ذلك الذعر الذي أصبح يعم بلاد العالم الأول، وهو السبب أيضا في أن بلاد العالم الثالث أصبحت تتجمع وتتآزر معا في مواجهة أطماع العالم الأول. •••
في ليلة مظلمة بغير قمر وقفت في خشوع أمام الإله «فيشنو» في حوض نهر «جانداك»، صورته ليست صورة إنسان مثل الإله «شيفا»، أو نصف إنسان ونصف فيل كالإله «جانيش»، ولكنه تجسد على شكل ثمرة تشبه الموز والرأس كعضو الذكر يشبه الزهرة المتفتحة المتأهبة للإخصاب.
وتقول الأسطورة الهندية: إن الإله «فيشنو» أراد أن يضاجع «تولس» زوجة «كسور السافكي»، وفكر طويلا في الأمر ثم تنكر في ملابس زوجها واستطاع أن يحقق أمنيته، لكن «تولس» اكتشفت خدعته بعد فوات الأوان، واستطاعت بقوتها الإلهية أن تصب عليه اللعنة بأن يتحول إلى حجر، وكان الإله «فيشنو» أيضا قادرا على أن يرد لها اللعنة بأن يتحول شعرها إلى نبات تولس وجسدها يتحول إلى نهر جانداك. وحتى هذا اليوم في الهند فإن أي زهرة في حوض جانداك تنمو على شكل «شاليجرام»، وهو صورة الإله «فيشنو» بعد أن تحول إلى عضو ذكري، ويؤكد الهنود على أن علاقة «فيشنو» و«تولس» تعيش حتى اليوم وإلى ما بعد الموت، وفي شهر أغسطس من كل عام في الليلة المظلمة تماما بغير قمر يحتفل الهنود بعبادة نبات تولس وإخصابه بواسطة «الشاليجرام». لقد تحولت اللعنة في الأسطورة إلى بركة، وتسعى النساء والرجال المصابون بالعقم إلى حوض نهر جانداك في تلك الليلة المباركة بغير قمر، من أجل أن تحل بهم بركات «فيشنو» إله الإخصاب.
وقال الفيلسوف الهندي الفقير الجالس على حافة النهر داخل معبد هندوكي صغير طلي بالجير الأبيض: عندنا في الهند آلهة كثيرة ولدوا بغير آباء، أو من ضلوع الرجال أو رءوسهم. أما الإله «برتيفي» فقد ولد من الفخذ الأيمن لأبيه «فاني»، والأساطير بعد تحريفها، كل الآلهة الذين ولدوا من أجساد الذكور ليسوا إلا أبناء العلاقات الآثمة، لكنها في ذلك الوقت لم تكن آثمة. كانت مقدسة لأن الأم كانت إلهة مباركة، ثم تحولت البركات إلى لعنات، أو على الأصح: أصبحت البركة هي اللعنة، مثل الشمس وظلها يمكن أن يحدثا في اللحظة نفسها والمكان نفسه. وهذا هو سر الحياة، وجود الشيء ونقيضه في وقت واحد وفي جسد واحد.
كانت الدنيا ليلا، والظلمة شديدة بغير قمر، مياه النهر سوداء، زهور الشاليجرام والتولس تتمايل وتتعانق خلسة دون أن يراها أحد، النهر يمتلئ فجأة بالزهور الوليدة تلمع تحت ضوء النجوم كآلاف من السمك الصغير.
وفي الضوء الخافت رأيت امرأة فارعة الطول تخرج من النهر، لها ذيل سمكة مثل جنية البحر، ملامحها حادة قوية تشبه ملامح الآلهة، وعيناها سوداوان ثاقبتان كعيني حتشبثوت أو الإلهة إيزيس.
ومياه النهر تلونت بالطمي الأحمر الداكن مثل نهر النيل، وعلى سطح الماء رأيتها تمشي بخطوات سريعة كأنها تمشي على الأرض، ومن حين إلى حين تنثني وتلتقط شيئا تدسه في فتحة ثوبها، ودققت النظر كان الإله فيشنو أو «الشاليجرام» قد تبعثرت أجزاؤه كالأشلاء الصغيرة، وهي تحاول أن تلم الشتات قطعة قطعة تضعها بعناية داخل جلبابها، وتكومت أجزاء الإله كلها تحت الجلباب فوق صدرها وبطنها، وحين رفعت رأسها إلى أعلى وسارت فوق الماء بدت كالمرأة الحامل. لكنها لم تكن تحمل إلا الإله الذي أخذ اسما جديدا: «أزوويس». وكشف الفيلسوف الهندي عن أسنان بيضاء في وجه شديد السمرة وقال وهو يهز رأسه على طريقة الهنود: نعم، نعم، «الشاليجرام» و«تولس» هما الأب والأم، لكن الأم تحولت إلى لعنة والأب أصبح الإله، والإله عندنا معصوم من الخطأ وإن تنكر في ملابس الزوج. أما المرأة فهي مخطئة دائما سواء فعلت أم لم تفعل؛ ويرجع ذلك إلى أن الإله خصها باللعنة.
وهمست في الليل وأنا لا أزال أحملق في الزهور الآثمة: بدأت الأديان الفكرية بالظلم العظيم. •••
وأعظم ظلم في تاريخ الهند وقع على مائة ألف امرأة هندية حملن سفاحا إثر معركة اغتصاب مسلحة. وقد تنكر الآلهة في زي الجنود وحملوا أسلحة إنجليزية وملامح هندية واقتحموا المدينة في ليلة مظلمة بغير قمر، والمدينة هندية لكنها بعد التقسيم أصبحت في الباكستان الشرقية، دخل الجنود المسلحون إلى المدينة الجامعية وذبحوا الذكور ثم اغتصبوا الإناث.
والمرأة آثمة (حسب التعاليم المقدسة) سواء فعلت أم لم تفعل، سواء رغبت أم لم ترغب، سواء اغتصبها الرجال بالقوة المسلحة الإنجليزية أو بأي قوة ذات جنسية أجنبية أو متعددة الجنسيات.
لم يكن الآلهة في ذلك الوقت يعرفون شيئا عن القوى المتعددة الجنسيات. لكنهم كانوا يعرفون شيئا واحدا محددا: إذا حملت المرأة دون أن يعرف الأب فهي آثمة.
وفي المحكمة ارتدى الإله «فيشنو» زي القاضي الباكستاني وحملق في بطون مائة ألف امرأة حامل بغير أب معلوم، وأصبح بياض عينه أحمر كأنما ينظر إلى الجحيم، وضرب المطرقة الحديدية على رأس المنضدة الخشبية وصاح بذعر: مائة ألف بطن تحمل مائة ألف من أجنة الأعداء؟! لا بد من إعدامها جميعا!
وثار ضمير العالم البشري : ما ذنب النساء؟ ما ذنب الجنين البريء؟
وتحركت ضمائر الكهنة في المعابد ورجال الأديان في بقاع العالم، ثم تذكروا فجأة أن هناك شيئا اسمه «المغفرة»، والآلهة يغفرون الإثم أحيانا لمن يشاءون. وهز أحدهم لحيته الطويلة البيضاء وقال: نعم، أحيانا، فلماذا لا تكون هذه المرة من تلك الأحيان؟ فالأجنة بريئة لا شك ولا يجوز قتلها، والنساء أيضا قد يكون فيهن البريئة التي قاومت الاغتصاب حتى الموت، وبذلك أنقذها الموت من الحمل سفاحا بواسطة العدو، وعلينا أن نطلب المغفرة لهؤلاء البريئات اللائي متن دفاعا عن شرفهن. أما هؤلاء اللائي يقفن أمامنا الآن ببطونهن المنتفخة بالإثم فلا مغفرة ولا رحمة بهن، ولا بد من تنفيذ قرار الإعدام عليهن فورا!
وصاح رجل آخر: ولكنك قلت سيادتك: إن الأجنة بريئة ولا يجوز قتلها، وإذا أعدمت الأمهات فسوف تقتل الأجنة في بطونهن أيضا، وهذا ظلم للأرواح البريئة!
وهرش الرجل شعر لحيته الطويلة وطرقع أصابعه وتمطى ثم قال: نعم نعم، لك حق فيما تقول ويمكن تأجيل قرار الإعدام حتى بعد الولادة.
وزمجر رجل من الجالسين فوق المنصة: لا، وهذا أيضا أمر غير مقبول، بل خطير، سيصبح في بلادنا مائة ألف طفل غير شرعي، ويا ليتهم غير شرعيين فحسب، ولكنهم جميعا جاءوا من صلب رجال من الأعداء، وسوف يبحثون إن عاجلا أو آجلا عن آبائهم ويصبحون بالطبيعة مثل آبائهم أعداء لنا!
ودب الصمت في قاعة المحكمة، ثم نهض القضاة وساروا يتعثرون في أذيال جلاليبهم ولحاهم الطويلة تهتز فوق صدورهم، اختفوا واجمين في غرفة المداولة، ثم عادوا مستبشرين وقد عثروا على الحل، وصاح كبيرهم وهو يخبط بالمطرقة الحديدية: تؤجل الجلسة إلى الأسبوع القادم للدراسة واستشارة الخبير الأمريكي.
حملق الرجال الهنود في ذهول: ما دخل الخبير الأمريكي في أمورنا الخاصة شديدة الخصوصية مثل هذا الأمر المتعلق بشرف مائة ألف امرأة من نسائنا؟
إلا أن الصحف بدأت ترد على تساؤلات الرجال، ونشرت مقالات عن الخبرة الأمريكية في عمليات الإجهاض الحديثة، وأن الإجهاض وإن كان محرما في جميع الأديان إلا أنه جائز في بعض الأحيان.
وصدر القرار الاستثنائي بإجراء عمليات إجهاض جماعية لقتل مائة ألف جنين، وتساءل أحد الرجال من ذوي الضمير الحي: ولماذا نقتل الأجنة البريئة؟! لكن أحدا لم يرد عليه. وتم تنفيذ القرار في جنح الليل.
إحدى الأمهات رفضت أن تقتل جنينها، حكموا عليها بالإعدام الأخلاقي، وقالوا في أسباب الحكم: لأنها عصت الآلهة وأحبت طفلها الآثم ابن العدو، ولا يمكن للأم أن تحب طفلها وتكره أباه.
وهكذا أسدل الستار على مأساة عام 1971 في تاريخ الهند إثر قرار التقسيم، ومآسي أخرى راح ضحيتها آلاف الهنود قبل أن يؤدي الاستعمار الإنجليزي طقوس الوداع الأخير لأهم المستعمرات في الإمبراطورية البريطانية المتهاوية شيئا فشيئا. •••
وها هو صوت أمريتا بريتام شاعرة البنجاب والبنغال وبيننا صينية الشاي في بيتها الصغير في نيودلهي: تآمر إنجليزي تحت ستار التوحيد الديني، شطروا وطني وأهلي شطرين: شطر في الهند وآخر في باكستان، وحدثت أكبر هجرة وأكبر مذبحة في التاريخ، فرض على الهنود المسلمين أن يهاجروا إلى باكستان، وعلى الهنود غير المسلمين أن يهاجروا من باكستان إلى الهند، وفي الطريق ذبح الآلاف من الفريقين وكل فريق يدافع عن آلهته، لو لم يكن هناك لخلقها الاستعمار الإنجليزي ليمزق الشعب الهندي.
ولاحت لي بيروت والمذابح الطائفية، وتذكرت كلمات «ماريون» صديقتي الأمريكية: عندنا في الجامعات وأجهزة المخابرات أقسام تبحث وسائل استخدام الأديان والأقليات لخلق الفتن الطائفية وتقسيم البلاد على أساس اختلاف الدين والآلهة.
تصاعد الدم في وجه الرجل الإنجليزي العجوز صاحب شركة شاي هندي وصاح مدافعا عن قدسية الآلهة وهو يرشف الخمر المعتق من كأس بلوري، وينفث دخان سيجارة الهافاني في وجوه الآخرين، وانتقل من الدفاع عن الإله شيفا وفيشنو إلى اتهام أنديرا غاندي التي عصت الآلهة وظلت تعيش بعد موت زوجها، ويا ليتها تعيش فحسب، ولكنها تحتكر السلطة، وتصادر حرية الشعب الهندي.
وظهرت علي علامات الدهشة، وحملقت في عينيه الزرقاوين الضيقتين كالمأخوذة وتساءلت: يبدو أنك شديد التدين وشديد الحرص على حرية الشعب الهندي!
وحملق بدوره في وجهي ثم قال بصوت الآلهة: نعم، نحن في إنجلترا متدينون ونحترم كل الأديان ونحرص على الديمقراطية لكل الشعوب، وخاصة الشعب الهندي الذي يربطنا به تاريخ عريق وصداقة قديمة.
وقالت أمريتا بهدوء: نعم، صداقة قديمة وتاريخ عريق مقدس بدماء الشهداء الطاهرة، ورفع صاحب شركة الشاي الهندي صوته الإنجليزي قائلا: نعم، فنصلي جميعا على روح الشهداء المجهولين وندعو لهم بالرحمة والغفران ودخول الجنة آمين، ثم قذف في جوفه ببقية «الويسكي».
مدينة العبادة والدعارة
الطائرة تحلق في سماء تايلاند، أنوار بانجوك تبدو تحت الجناح الفولاذي الضخم كآلاف الفصوص في عناقيد من اللؤلؤ، صوت المضيفة ينبه إلى ربط الأحزمة وإطفاء السجائر استعدادا للهبوط، عجلات تلامس الأرض بخفة كأنما تنزلق فوق الماء، موسيقى راقصة تنبعث من سقف الطائرة.
أهز رأسي مع اللحن، رجل عجوز يرمقني بعينين رماديتين من تحت النظارة.
السلم الآلي يقترب ببطء من باب الطائرة، أمد قدمي وأهبط إلى الأرض بخطوات سريعة، مطار بانجوك فسيح حديث، يشبه أي مطار في أوروبا أو أمريكا، سيارة بيضاء عليها لافتة الأمم المتحدة تنتظر زوجي، سائق تايلاندي قصير مربع الجسم عيناه شريطان رفيعان كعيون الصينيين، يفتح لنا باب السيارة بانحناءة ظهر وانكسارة قلب.
هذه الانحناءة رأيتها منتشرة في البلاد الآسيوية، ما إن تقترب من رجل أو امرأة حتى ينثني الظهر بتلك الحركة المنكسرة. هل عانت البلاد الآسيوية من قهر أشد مما عانته البلاد الأخرى في أفريقيا أو أمريكا الجنوبية أو المنطقة العربية؟ حتى في جزيرة زنجبار - مهد العبودية والعبيد - لم أر الظهور تنحني بهذا الشكل، بل العكس، رأيت ظهر الرجل الأفريقي الأسود مشدودا ممدودا إلى أعلى، ورأسه أيضا شامخ إلى أعلى وإن كان أنفه أفطس، والمرأة الأفريقية أيضا رأيتها فارعة القامة مفرودة الظهر، ممدودة الرأس إلى أعلى.
ألمح وجه السائق من الجانب، ملامحه تنفرني من بانجوك قبل أن أراها منكسرة كظهره، وانكسارة الجفون فوق العيون الضيقة الشريطية، عيناه زجاجيتان شاخصتان إلى الأمام، ومن حين إلى حين تختلسان نظرة من خلال المرآة الصغيرة إلينا ونحن جالسون على الأريكة الخلفية.
شفتاه المطبقتان انفرجتا فجأة وقال بالإنجليزي بلهجة أمريكية : بانجوك أصبحت قطعة من أمريكا، وعندنا خبراء أمريكيون في كل مكان.
وأشار بأصبعه خارج نافذة السيارة نحو طائرات ضخمة راقدة على أرض المطار من بعيد: طائرات حربية أمريكية عظيمة!
وهز رأسه بزهو متسائلا: أنتما من أمريكا؟
وقلت: لا.
وتدلت شفته السفلى فوق ذقنه بحركة تنم عن خيبة الظن، لكنه رفعها بسرعة وأطبقها على الشفة العليا ثم تساءل بصوت خرج من فتحتي أنفه: ومن أين أنتما؟
ورد زوجي: نحن من مصر.
وهنا تحول نصف وجهه الأسفل إلى شفتين ممطوطتين وانشغل فجأة بشيء أهم من وجودنا، ثم تساءل دون أن ينظر إلينا من خلال المرآة: هل عندكم أمريكيون كثيرون مثلنا؟
وقلت: لا.
وقال: وماذا عندكم؟
قلت: عندنا مصريون.
وارتفع حاجباه في اندهاش ثم هبطا بسرعة كأنما اكتشف فجأة أن الأمر لا يدعو إلى الاندهاش، وأطبق شفتيه في صمت، لكنه عاد يرمقنا من حين إلى حين في المرآة أمامه وكأنما هبطنا عليه من كوكب آخر أو من فصيلة غريبة من البشر.
أوقف السيارة أمام الفندق، يشبه الهيلتون أو الشيراتون في أي عاصمة في العالم، فندق بلا هوية وبلا شخصية وبلا ملامح كالقرش الممسوح، ووجوه الناس داخله ممسوحة، والغرف والممرات ممسوحة. وقررنا أن نغادر الفندق في الصباح الباكر، وما إن أشرقت الشمس حتى غادرنا الفندق بعد أن أصبحت جيوبنا أيضا ممسوحة.
على الباب الخارجي للفندق اقترب من زوجي رجل قصير مربع الرأس مشروط العينين يشبه سائق الأمس، همس في أذن زوجي بشيء لم أسمعه، لكني رأيت زوجي يطرده بيده قائلا: لا، أشكرك.
ولم ينطرد الرجل، ظل يلاحق زوجي.
وسألت: ماذا يقول لك هذا الرجل؟
قال: يقول: إن عنده امرأة جميلة هذه الليلة!
وحين اقترب الرجل مرة أخرى قلت له: وأليس عندك لي رجل جميل الليلة؟
جحظت عيناه الشريطيتان في اندهاش أشبه بالذعر ثم أطلق ساقيه للريح. ••• «بوذا» معبود الناس هنا يتربع على تمثال من البرونز ومن فوق رأسه ثعبان، والثعبان في البوذية يرمز إلى الحماية والماء (أي الخير). «الإله شيفا» معبود الهنود لا يؤمن به هنا إلا القليل (7٪ فقط من السكان)، يتربع هو الآخر على تمثال حجري على شكل عضو الذكر الضخم، تحوطه النساء العقيمات هندوكيات وبوذيات؛ فالمرأة البوذية العقيم تؤمن بأي إله قادر على إخصابها، ولا يهمها أن يكون «بوذا» أو «شيفا» أو حتى الإله الطفل «جانيش» ذو رأس الفيل.
ويهز الكاهن البوذي رأسه قائلا: نعم، الرأس لا يهم في عملية الإخصاب.
وجوه النساء العاقرات شاحبة رمادية بلون القماش الدمور، العيون مسحوبة إلى أعلى نحو الإله، والأيادي المشققة مرفوعة مفتوحة تلهب بكلمات لا أفهمها.
وحملق الكاهن في وجهي بعينين ضيقتين وقال: أي إله؟ ليس عندنا إله كالهندوكيين. «بوذا» ليس إلها، إنه إنسان مقدس ووصاياه مقدسة لكنه لم يقل عن نفسه أنه إله. •••
اليوم الأحد، يوم السوق في بانجوك، الدكاكين الصغيرة كآلاف العلب المربعة على جانبي الطريق، آلاف السياح الأجانب يتزاحمون على شراء الحرير التايلاندي، أجود حرير وأرخص حرير، الأيدي العاملة في مصانع الحرير لا تزال رخيصة، آلاف الفتيات الفقيرات يقفن أمام الآلات ست عشرة ساعة في اليوم (من 6 صباحا إلى 10 مساء) وأجر الفتاة في اليوم دولاران ونصف، وفي الشهر خمسة وسبعون دولارا، وفي السنة تسعمائة دولار.
ما تحصل عليه فتاة المصنع يساوي ما تحصل عليه فتاة الليل في الأسبوع أو نصف الأسبوع وأحيانا في الليلة الواحدة.
لكن فتاة الليل هنا لا تسمى فتاة ليل، وبيوت البغاء هنا لا تسمى بيوت بغاء.
يسمونها بيوت «التدليك»، وهي بيوت محترمة لا تقل احتراما عن معاهد العلاج الطبيعي وعيادات الأطباء، بل إنها أكثر أهمية من كل هذه المعاهد أو العيادات، وأكثر منها عددا.
ولا شيء في بانجوك يساوي بيوت الدعارة في الأهمية والعدد إلا بيوت العبادة، وإلى جوار كل معبد لا بد وأن تقرأ تلك اللافتة المكتوبة بالخط العريض: بيت التدليك.
وتتنافس بيوت التدليك على جذب السياح الأجانب إليها، وتشجعها الدولة؛ فهي تسعى إلى إنعاش الثروة القومية بالعملات الصعبة، وهذا واجب وطني. وهز الخبير الاقتصادي رأسه: نعم، الفضيلة أيضا تعيش هناك.
لكن المشكلة (كما قال لي أحد خبراء التدليك) أن بيوت التدليك يزداد عددها بمعدل أكبر من زيادة عدد السياح الأجانب، حتى أصبح عددها أكثر من عدد السياح، وزادت حدة التنافس بينها على نحو عجيب؛ إذ يستأجر كل بيت من هذه البيوت عددا من الرجال يطلق عليهم اسم «المرشدين السياحيين»، ومهمتهم بالتحديد هي: اصطياد الرجال السياح في الفنادق أو خطفهم من الشوارع!
كنت أراهم واقفين أمام أبواب الفنادق، وعند نواصي الشوارع، عيونهم الشريطية تتحرك بسرعة في كل اتجاه، وما إن يظهر سائح أجنبي حتى ينقضوا عليه: عندي لك امرأة جميلة الليلة، أسعارنا أرخص الأسعار، الخدمة تشمل كل شيء، تدليك عضلات البطن والفخذين والساقين وما بين الساقين وطرقعة مفاصل الأصابع.
الرغبة في المعرفة أو الرغبة في الاستطلاع سيطرت علي، أريد أن أرى بيتا من هذه البيوت من الداخل، لكن المرأة ممنوعة من الدخول إلا إذا كانت عاملة داخل البيت، دورها هو تقديم الخدمة أو الإنتاج فحسب، أما الاستهلاك فهو حق الرجل وحده.
وارتديت زي رجل ودخلت، إصرار على المعرفة وهتك ستار المجهول.
الظهور تنحني أمامي في خشوع، والعيون الشريطية ترمقني باحترام بالغ، لأول مرة أدرك معنى أن يكون الإنسان رجلا. إن أي حركة يمكن أن تتحول إلى شرف عظيم وإن كانت حركة الساقين في الطريق إلى وكر دعارة.
ورفعت رأسي في زهو وتصورت أنني رجل.
ثم وجدتني أقف بين صفوف الرجال ذوي الوجوه البيضاء المشربة بالحمرة، أكتافنا العريضة متلاصقة، أقدامنا متلامسة، عيوننا شاخصة إلى الأمام.
صفوف من الفتيات الجالسات أمامنا خلف لوح من الزجاج كأنما الحيوانات الصغيرة الحبيسة داخل قفص من الزجاج كالسلع المعروضة وراء نوافذ المحلات، نراهم دون أن يروننا، السيقان عارية بيضاء والنهود نافرة يعلوها رقم كأرقام المساجين داخل القفص، عيون الرجال تتسع بالحملقة، تثبت فوق النهد أو الساق أو الفخذ ثم تجري كقطع الزجاج فوق البشرة الناعمة البيضاء بلون الطباشير، كوجوه العرائس من الجبس الأبيض، وعلى كل خد دائرة حمراء كاللطعة، يرتفع الجفن لحظة وتطل النظرة خلسة، نظرة مملوءة بالفراغ يشبه الحزن، أو بالحزن يشبه الفراغ، ثم تختفي النظرة بسرعة، ينكسر الجفن وتتكسر العين وتطرق الرأس حتى تلامس الذقن طرف النهد، وتنغلق العينان تماما بما يشبه النوم أو الملل أو الإرهاق.
أجسامهن نحيلة صغيرة كأجسام الأطفال، وأحجام الرجال كبيرة ضخمة كالخراتيت أو الديناصورات، وعيونهم مفتوحة محملقة أو مبحلقة، مملوءة باليقظة والانتباه والدقة، تفحص الرأس والأنف والشفتين، ثم تهبط إلى العنق والنهدين، ثم البطن والفخذين، ثم الساقين والقدمين.
أقدامهن صغيرة دقيقة كأقدام العصافير، هل وضعوا القدم منذ الطفولة في الحذاء الحديدي مثل أهل الصين؟
رأيت رجلا طويلا يرفع يده فجأة ويشير بأصبعه إلى الرقم المثبت فوق صدر الفتيات، الرقم كان مثبتا إلى جوار السعر أيضا، انتفضت كالفراشة يلمسها الضوء وسارت على أطراف أصابعها نحو ممر طويل في نهايته باب مغلق، فتحت الباب ودخلت ودخل وراءها، ثم أغلق الباب.
وقفت حائرة مترددة، هل أرفع يدي وأشير أم لا أرفع يدي، وربما تحركت يدي (بسبب التردد) بإشارة لفتت الأنظار، فاقترب مني أحد الرجال منحنيا وفي عينيه نظرة احترام بالغة: أي خدمة؟ هل تريد شيئا يا سيدي؟
وقلت: لا، شكرا.
ونسيت أن صوتي لم يكن صوت رجل، وجحظت عينا الرجل بدهشة، وتسربت منهما بسرعة نظرة الاحترام، وأخذني إلى مدير إدارة البيت.
جسمه النحيل الصغير يطل من خلف مكتب ضخم، عيناه مثل أهل تايلاند شريطان رفيعان مسحوبان إلى أعلى.
ورمقني بدهشة وقال: ربما أخطأت الطريق ودخلت إلى هنا بسبب الخطأ ليس إلا؟ وقلت: لا، جئت لإشباع رغبة الاستطلاع.
وصعد الدم إلى وجهه وخبط بقبضة يده على مكتبه غاضبا: إشباع رغبة الاستطلاع؟! ألا تعرفين أن رغبة الاستطلاع لا تساور شخصا محترما؟ وهذا المكان محترم (وخبط بيده على المكتب) نعم محترم وليس فيه مكان لإشباع الرغبات غير المحترمة.
وقلت: ربما تكون الرغبة الجنسية عند الرجل أكثر احتراما من رغبة الاستطلاع عند المرأة، لكن الإله «شيفا» خلق الرغبات جميعا ومنها رغبة الاستطلاع!
وصاح الرجل: أنا لا أومن بالإله «شيفا».
وتساءلت: وبأي إله تؤمن؟ بوذا أيضا احترم رغبة الاستطلاع، بل إنه لم يفرق بين رغبة الاستطلاع ورغبة المعرفة.
ورد الرجل بغضب: أنا لست بوذيا! أنا يهودي وأومن بالتوراة.
حملقت في عينيه الضيقتين بدهشة. كنت أظن أن الديانة هنا إما بوذية أو هندوكية فقط، وقال الرجل: من حقي أن أطلب البوليس.
وابتسمت بسخرية: بالطبع، هذا حقك؛ فقد ضبطتني متلبسة بجريمة الرغبة الآثمة، «الرغبة في المعرفة». وقد لعن الرب في التوراة حواء؛ لأنها أكلت من شجرة المعرفة.
وتظاهر بأنه لم يسمع ما قلت وفكر لحظة. رأيت «النني» الصغير في عينيه الشريطية الضيقة يدور حول نفسه عدة دورات كعين زجاجية في آلة إلكترونية حاسبة، ثم توقف «النني» عن الدوران ورأيته ينظر في ساعته ثم يسجل على ورقة بضعة أرقام جمعها ثم كتب الرقم الكلي: سبعة عشر ونصف، وقال: يمكن أن تدفعي غرامة قدرها سبعة عشر دولارا ونصفا ونطلق سراحك.
وقلت بغضب: هذا ابتزاز!
وقال بهدوء عجيب: هذا حقنا. لقد دخلت هنا لتحصلي على المعرفة. وهذه السبعة عشر ونصف دولار مقابل المعرفة التي حصلت عليها، أنا لم أفتح هذا البيت ليدخل إليه الناس ويحصلون على ما يريدون بالمجان، لا شيء بالمجان في هذا البيت. ثم إن وقتي أيضا له ثمن، وقد أخذت من وقتي حتى الآن تسع دقائق ونصف.
فكرت لحظة، منطق هذا الرجل اليهودي سليم بلغة السوق والتجارة، وهو رجل سوق، يبيع للرجال المحرومين الإشباع الجنسي بالدقيقة حسب اللوحة المعلقة أمامي، تشبه اللوحة التي تعلق في عيادات الأطباء ومعاهد العلاج الطبيعي والتدليك، وإذا كان ثمن إشباع الرغبة في طرقعة أصابع القدم دولارا ونصفا في الدقيقة فما بال إشباع الرغبة في المعرفة؟ وإذا كان يريد مني سبعة عشر دولارا ونصفا نظير تسع دقائق ونصف، فإنه قد حسب الدقيقة بحوالي دولار ونصف، أي بثمن طرقعة أصابع القدم.
وقلت لنفسي: على أي حال، من صالحي الآن أن يكون ثمن «المعرفة» بخسا.
وكنت على وشك أن أدفع المبلغ بشعور المنتصر لولا أنني تذكرت أن هذا البيت يدار للبغاء تحت اسم التدليك، وأن هذا الرجل يشغل الفتيات الفقيرات ليربح أموالا من ورائهم ، ووجدتني أقول بغضب: لن أدفع مليما واحدا، وأنا التي سآخذك الآن إلى البوليس؛ فهذا بيت للدعارة وليس للتدليك!
لم يكن القانون في بانجوك يضع حدا فاصلا بين تدليك بطن الرجل وإشباع رغبته الجنسية. إلا أن الرجل بدأ يتراجع، وقال: نحن لا نفعل شيئا ضد القانون، وبدأ صوته ينخفض وظهره ينثني، وبانحناءة مؤدبة ودعني حتى الباب. •••
وكان دخول المعبد أسهل بالنسبة لي من دخول بيت التدليك، والكهنة لا يمنعون أحدا من الدخول بشرط أن يدفع شيئا للآلهة، طعام أو ملابس أو نقود؛ فالآلهة هنا شأنها شأن البشر تحتاج إلى نقود وطعام وملابس، صحيح أن كل هذه الأشياء تذهب في النهاية إلى الكهنة في المعبد، لكن الكهنة هم المندوبون عن الآلهة، وليس هناك حد فاصل بين أملاك الكاهن وأملاك الإله.
رأيت أمام المعبد كاهنا بوذيا حليق الرأس، يرتدي ثوبا طويلا أصفر، ويرش الماء على الأرض، ثم يمد يده للناس قائلا: تبرعوا للآلهة.
يده وهي ممدودة تشبه يد الشحاذين، وفي صباح باكر يخرج هؤلاء الكهنة البوذيون بأروابهم الصفراء ورءوسهم الحليقة وأيديهم الممدودة يشحذون طعامهم من الناس.
لا بد وأن تقابل كاهنا منهم إذا سرت في أي شارع، يغيب الكاهن عن المعبد ثلاثة أيام أو أكثر في رحلة للشحاذة، ثم يعود إلى المعبد ومعه خزين يكفيه أسبوعا أو شهرا، فإذا ما نفد الخزين يخرج مرة أخرى في رحلة جديدة لجلب الطعام.
ناولني الكاهن ثمرة فاكهة يسمونها «دوريان»، وهي فاكهة تايلاند الشعبية، قضمت عليها بأسناني، طعمها لذيذ كالتفاح، لكن رائحتها منفرة، وضعت المنديل على أنفي وأنا آكلها.
وقال الكاهن: دعي الرائحة تدخل إلى صدرك؛ إنها مفيدة للصحة.
وقلت: أنت كاهن تفهم في الدين، أما «الصحة» فهذا اختصاصي لأني طبيبة.
ورد الكاهن: وأنا أيضا طبيب.
واكتشفت أن هناك مدرسة طبية داخل المعبد، يتدرب فيها الكهنة على العلاج بالإبر الصينية وبعض العلاجات الأخرى الشعبية، ويسمونهم الأطباء الحفاة.
في ركن المعبد رأيت فجوة في الأرض على شكل حوض لحفظ الماء المقدس، ماء غسل قدم بوذا، وقدمه أيضا مطبوع على قطعة حجر، بعض النسوة يقبلن الحجر، والكاهن يرش عليهن الماء المقدس وهو يتمتم: لتطهرن من الإثم!
حاول الكاهن أن يطهرني أيضا من الإثم، ويرش علي الماء المقدس لكني رفضت؛ خشيت أن أصاب بأحد الأمراض الجلدية، وقلت للكاهن: لم أدخل إلى المعبد لأجل التطهير.
وسألني بغضب: من أجل ماذا دخلت؟
وقلت: مجرد الاستطلاع.
وصاح بغضب: هذا بيت عبادة محترم وليس فيه مكان للرغبات الآثمة.
وقلت بهدوء: «بوذا» لم يحرم الاستطلاع أو الرغبة في المعرفة.
وقال: إذن ادفعي لبوذا شيئا؛ لأنه أباح لنا المعرفة.
وأخرجت من جيبي بعض النقود وخرجت.
الفصل الثامن
رحلة أفريقيا
رحلتي لأفريقيا جاءت متأخرة، رأيت أوروبا وأمريكا وآسيا قبل أن أرى أفريقيا، مع أن قارتنا هي أفريقيا، ونحن نعيش عليها، وجذورنا ومنابع نيلنا تمتد من قلبها.
لكن عيوننا ووجوهنا كانت دائما تتجه نحو البحر الأبيض وأوروبا وأمريكا، وظهورنا ناحية أفريقيا، ناحية أنفسنا. حينما يدير الإنسان ظهره ناحية نفسه، حينما يخجل الإنسان من بشرته السمراء أو السوداء ويحاول أن يخفيها بمسحوق أبيض، كيف يعرف نفسه؟! كم أساء الاستعمار الأوروبي للإنسان الأفريقي حين استنزف موارده وثرواته، لكن الإساءة الكبرى كانت ذلك السهم الذي صوبه الرجل الأبيض إلى شخصية الإنسان الأفريقي، فأصبحت أفريقية وصمة عار وبشرته السوداء صك عبودية. وقد استغرقت رحلتي لأفريقيا ثلاثة شهور في صيف عام 1977، وهي مدة قصيرة للدخول في قلب الإنسان الأفريقي. لكنها كانت كافية على الأقل لأن أدخل في قلبي، وأتعرف على نفسي وعلى كوني أفريقية.
إن أول مظاهر أفريقيتي هو لون بشرتي السمراء التي تتحول سريعا إلى السواد بعد بضعة أيام تحت الشمس، فإذا بي أسير في شوارع الحبشة أو أوغندة فلا يكاد يلحظ أحد أنني غريبة. وأعترف بأن ذلك لم يكن يبهجني دائما؛ ففي أعماقي منذ الطفولة حنين لأن أكون بيضاء مثل القشطة، ما زلت أذكر مرور السنين أنني منذ ولدت أدركت حقيقتين اثنتين لا شك فيهما: أولهما أنني بنت ولست ولدا مثل أخي، وثانيهما أن بشرتي سمراء وليست بيضاء مثل أمي، ومع هاتين الحقيقتين أدركت شيئا آخر أكثر أهمية، ذلك أن هاتين الصفتين وحدهما وبدون أي عيوب أخرى كافيتان للحكم على مستقبلي بالفشل. كان المؤهل الوحيد الذي يرشح البنت (في ذلك الوقت) لمستقبل مضمون هو أن تكون جميلة، أو على الأقل بيضاء البشرة مثل الأتراك، جدتي لأمي ذات الأصل التركي كانت حين تدللني تناديني «جارية ورور ...»، ومنذ تلك اللحظة رسخ في ذهني أن الجواري والعبيد لهم بشرة من لون بشرتي، وأصبحت أخفيها بمسحوق أبيض، وأتصور أن إخفاء بشرتي إنما هو حركة نحو شيء أفضل، لكني ومع ذلك كنت أدرك بجزء آخر عميق من عقلي أن لون بشرتي هو حقيقتي، مثل كوني بنتا، وأنني أحب حقيقتي، بل إن الحب الحقيقي الوحيد في حياتي هو حبي لنفسي الحقيقية، ورغم ذلك لم أتخلص من مساحيق وجهي تخلصا كاملا بعد أن أدركت قيمة عقلي، فإذا بي أملك الشجاعة لمواجهة العالم بوجه مغسول نظيف.
كنت أجلس وسط النساء والرجال الأفريقيين في «دار السلام» بشرتهم السوداء كالبن المحروق أو الكاكاو، قامتهم طويلة ممشوقة، حركتهم في السير الطبيعي تشبه الرقص، عيونهم وهم يتحدثون تشبه الغناء، وغناؤهم للحب كغنائهم للثورة، وكلمة الحرية بلغة شرق أفريقيا «السواهيلي» تشبه كلمتنا العربية «الحرية»، مع اختلاف بسيط في النطق «أهرية»، أعجبني نطقهم وغنيت معهم «أهرية»، وقالوا لي: أنت أفريقية مثلنا، لكنهم مزقوا أفريقيا، وفصلوا بين الشمال والجنوب؛ فهذه أفريقيا السوداء، وهذا حوض البحر الأبيض أو الشرق الأوسط، كأنما شمال أفريقيا ليس من أفريقيا، وكأنما هناك أفريقيا سوداء وأفريقيا بيضاء.
شعرت بالراحة معهم والتآلف مع نفسي ومع بشرتي السمراء. إن أجزاء نفسي الحقيقية تظهر وتملؤني بالثقة والفخر؛ فالرحلة إلى أفريقيا أشبه ما تكون برحلة إلى النفس، إلى أعماق النفس بقدر ما هي رحلة إلى جذورنا ومنابع النيل.
إحساس لم أدركه في رحلاتي إلى أوروبا وأمريكا أو آسيا، إحساس بعد أن عرفته ندمت؛ لأن رحلتي إلى أفريقيا جاءت متأخرة، لكني كنت كالآخرين أحلم بالسفر إلى أوروبا أو أمريكا، ولا أذكر أنني حلمت مرة واحدة بالسفر إلى أفريقيا، تماما مثل القناع الذي كنت أرتديه فوق وجهي على شكل مسحوق أبيض.
إحساس مريح بالتآلف مع نفسي ولون بشرتي السمراء، تآلف لم أعرفه من قبل بهذا الوضوح، لا أنسى في أول رحلة لي لأمريكا سنة 1965 أنني توقفت أمام المرآة (في مدينة «رالي» بنورث كارولينا) قبل أن أدخل دورة المياه، فقد قرأت على الباب لافتة كتب عليها: «خاص بذوي البشرة البيضاء»، وعلى الباب الآخر كانت هناك لافتة أخرى كتب عليها: «خاص بذوي البشرة السوداء». ذلك اليوم وقفت أمام المرآة متحيرة، أي باب أدخل؟ فلم يكن لون بشرتي أبيض أو أسود وإنما لون متوسط بين البياض والسواد، ولم أعرف إلى أي عالم أنا أنتمي؛ إلى عالم البيض أم عالم السود؟
وضحكت صديقتي التنزانية واسمها «باريز» وهي أستاذة اقتصاد بجامعة «دار السلام»، ولها أربعة أطفال؛ اثنان منهما حصلا على اسم الأب، والاثنان الآخران حصلا على اسم الأم؛ فالمرأة تعمل مثل الرجل وتنسب أطفالها إليها، وقالت لي «باريز»: «درست في إنجلترا سنة 1959 وكانوا يشعرونني بالنقص؛ لأنني سوداء، ولأنني امرأة، إلى حد أنني أصبحت أخجل من نفسي، ولكني تغيرت كثيرا بعد أن درست الاقتصاد وعرفت كيف استعمرونا وخربوا اقتصادنا وخربوا نفوسنا. إني أعيش وأرى الاشتراكية تتحقق تدريجيا في بلدي تنزانيا، وأدرك بمرور السنين الارتباط الوثيق بين العدالة الاقتصادية وبين حرية الرجال والنساء، في تراثنا الأفريقي الأصيل نحن لا نفرق بين الرجل والمرأة، هل تعرفين أن وزيرة العدل عندنا اسمها «مانينج»؟ هل هناك وزيرة للعدل في أي بلد من تلك البلاد التي تسمي نفسها بالبلاد المتقدمة؟»
وأعطتني رقم تليفون وزيرة العدل في بيتها ومكتبها، وقلت الأفضل أن أكلمها في المكتب لا البيت، فقالت في دهشة: وما الفرق؟ وأدركت أن الناس في أفريقيا يتعاملون مع الوزراء والحكام كما يتعاملون مع الناس العاديين، فلا أبواب ولا حجاب ولا تشنجات. وتحدثت مع وزيرة العدل في بيتها وسألتها: «هل أنت وزيرة العدل حقا؟ وضحكت مس «مانينج» وهي تقول: عندنا النساء في كل مجال وعندنا وزيرات غيري.» قلت لها: نحن عندنا وزيرة واحدة للشئون الاجتماعية. أما العدل فهذا لا زال في بلدنا حكرا على الرجل وحده. تذكرت وأنا أحادث وزيرة العدل الأفريقية مقالا كنت قرأته في إحدى الصحف المصرية العام الماضي يقول فيه كاتبه: إن هناك شروطا يجب أن تتوافر في الشخص الذي يتولى منصب القاضي، وأول هذه الشروط هو «الذكورة».
كنت أتلفت حولي وأنا أتجول على شواطئ المحيط الهندي على ساحل شرق أفريقيا في كينيا وتنزانيا وزنجبار وجزر القمر الكبرى ومدغشقر، وأدهش لهذا السحر الذي لم أره من قبل، جبال كينيا وقمة كلمنجارو الشاهقة في تنزانيا لا تقل روعة عن جبال الهيمالايا التي رأيتها في نيبال، وجبال الحبشة الكثيفة الخضراء، وأوغندة تشبه الجنة الخضراء حول بحيرة فيكتوريا، هذا الجمال الذي رأيته في شرق أفريقيا لم أره في سويسرا، كثيرا ما سمعتهم يشيدون بجمالها، ويتفاخرون بالسفر للمصيف في ربوع وشطآن أوروبا، مع أن شواطئ وجبال أفريقيا أكثر جمالا وخضرة، امتزاج الجبل بالماء بالخضرة الاستوائية الداكنة، وأشجار المانجو وجوز الهند، ورائحة الزهور الاستوائية القوية، وتلك البرودة المنعشة في الجو، أكثر إنعاشا من برودة صيف أوروبا.
كنت أظن أنني سأصطلي نارا في أغسطس وأنا أتجول في أفريقيا تحت خط الاستواء، لكني وجدت أن الارتفاع عن سطح البحر آلاف الأقدام يحمي معظم هذه البلاد من الحرارة، ويصبح الجو معتدلا أشبه ما يكون بجو الربيع في بلادنا مع بعض البرودة الخفيفة أحيانا إذا اشتد الارتفاع كما هو الحال في أديس أبابا أو نيروبي.
السخونة في شرق أفريقيا في الجو السياسي، وهي سخونة طبيعية؛ فالاستعباد الطويل يؤدي في النهاية إلى ثورة ساخنة لها إيجابياتها ولها أيضا مخاطرها، حين قلت في القاهرة: إنني ذاهبة إلى أوغندة والحبشة وشرق أفريقيا اتسعت العيون دهشة وحذرني الجميع؛ فالثورة كانت مندلعة في كل مكان، لكني صممت على الذهاب، فأنا أحب أن أكون حيث يكون الإنسان ثائرا وغاضبا. إن الغضب في رأيي هو الحالة النفسية المتلائمة مع هذا العصر. لا شيء يؤلمني أكثر من ابتسامة إنسان مستعبد أو استكانة شعب مستعمر محكوم بأقلية جشعة. كما أنني منذ المدرسة الابتدائية وأنا أسمع عن بحيرة فيكتوريا ومنابع النيل، وعندي رغبة ملحة في البحث عن منابعي وجذوري. كان جدي لأبي اسمه «حبش»، وبعضهم قال لي إنه كان أسمر وفيه دماء حبشية، وكانت أمي حين تغضب مني تقول: إنني ورثت بشرة أهل أبي. أليس من حقي بعد كل هذا أن أعرف جذوري ومنابعي؟ أما منابع النيل فقد وقفت في أوغندة مشدوهة أمام روعة الضفاف العالية الخضراء في «جنجا» بالقرب من «كمالا»، نقطة الالتحام بين النيل الأبيض وبحيرة فيكتوريا، وحيث أنشئ حديثا شلال «أون» الذي يعترض المياه المتدفقة بغزارة نحو النيل.
وقفت أتأمل عنق النهر الضيق عند نقطة الالتحام من منبعه، وارتفعت يدي دون وعي أتحسس عنقي، وإحساس له رهبة غريبة ورجفة؛ ذلك أن هذا العنق الصغير الضيق هو شريان الدم في أرض جسدي. إنه عنقي، ومع ذلك فهو ليس في جسدي، وإنما هو في جسد آخر، أوغندة تموج بأعنف الهزات السياسية في عهد عيدي أمين.
وعلى هضبة الحبشة العالية وفي أديس أبابا التي ترتفع عن سطح البحر بحوالي سبعة آلاف قدم كانت الأمطار تهطل طول النهار والليل، وأدرك بحكم معلومات الابتدائية أن هذه الأمطار تحمل الري والطمي إلينا فأغتبط لصوت الرعد وأقول لنفسي: هذه المياه الغزيرة ستتدفق على أرض الفلاحين. وسمرة أهل الحبشة كسمرة أقاربي في قريتي «كفر طلحة»، وفيهم أيضا تلك الوداعة والهدوء رغم التقاطيع الحادة التي تنقلب بسرعة عند الغضب كما ينقلب الجو فجأة من شمس ساطعة إلى برق ورعد ومطر، وفي أوغندة أيضا ترى الملامح فيها رقة وهدوء لكنها سرعان ما تتغير عند الغضب وتصبح كالسيف أو كطلقة الرصاص.
وفي مطار «عنتيبي» حين هبطنا من الطائرة أدركنا أننا الوحيدون زوار أوغندة، كنا أربعة فقط (زوجي وابنتي وابني وأنا)، ونظر إلينا عمال المطار في دهشة واستطلاع، فمن هؤلاء المغامرون القادمون إلى أوغندة في مثل هذه الفترة المتوترة؟! ونصحنا المشرفون على فندق بحيرة فيكتوريا في «عنتيبي» ألا نغادر الفندق بعد غروب الشمس .
وفي دار السلام أيضا، وفي نيروبي وجهوا إلينا النصيحة نفسها: لا تسيروا في الشارع بعد غروب الشمس، إحساس دائم بالخطر لم أشعر به من قبل إلا في مدينة نيويورك، وبقدر ما يكون النهار صاخبا مليئا بالشمس والحركة والحيوية بقدر ما يصبح الليل مظلما موحشا صامتا يوحي بالخطر، وفي مدينة «نيروبي» في كينيا التي بنيت على أحدث طراز تبدو المدينة نشطة سابحة في جو من المدنية الحديثة، ولكن ما إن يجيء الليل حتى تخلو الشوارع إلا من قراصنة الليل، وفي «دار السلام» وقبل أن تغرب الشمس ترى شبان تنزانيا وشاباتها يتنزهون على شاطئ المحيط الهندي، والصبية بأقدامهم السوداء الحافية يبيعون البيض المسلوق أو المانجو الخضراء، يجلس الصبية أمام المشتري ويقشر البيضة ثم يشقها بمعلقة صغيرة ويحشوها بالشطة، وكذلك المانجو الخضراء تقطع بالسكين وترش بالشطة، وفي المقاهي ترى النساء كالرجال جالسات فرادى أو مجموعات يشربن البيرة ويدخن ويتحدثن في السياسة، لكن ما إن تغرب الشمس حتى تخلو الشوارع من الناس، ويخيم على «دار السلام» الظلام والصمت، إلا تلك الأضواء الصغيرة المنبعثة من السفن الراسية في الميناء. وقد تصحو في منتصف الليل على صوت استغاثة مكتوم فتدرك أن أحد قراصنة الليل قد انقض على فريسة. إن الخطر هنا كأي خطر في أي عاصمة أخرى مبعثه اللصوص وقطاع الطرق.
ويقولون عن «نيروبي» عاصمة كينيا أنها عروس أفريقيا، فهي مدينة بنيت على أحدث طراز إلا أنها بدت كالعروس التي ترتدي فستانا جميلا من الخارج، وملابسها الداخلية قبيحة. هذه الازدواجية رأيتها في عواصم البلاد غير المتحررة، أو التي تحررت ظاهريا فقط، والعواصم التي تشبه «نيروبي» في عالمنا الثالث كثيرة، وتذكرت «بانجوك» عاصمة تايلاند وأنا أسير في شوارع نيروبي؛ فالعمارات الحديثة هي العمارات، والسيارات الأمريكية هي السيارات، والشوارع الأسفلت العريضة هي الشوارع، والنواصي التي تقف عليها المومسات هي النواصي، وأفلام الجريمة والجنس الأمريكية المعروضة في دور السينما هي الأفلام، ومعظمها كتب عليها: «ممنوع لأقل من 16 عاما»، والإعلانات عن سجائر «كنت» وسيارات كاديلاك وسفن أب وكوكولا.
وتوقفت لحظة أمام إحدى دور السينما أتأمل طوابير الشباب الأفريقي، شباب أعزل تماما في مواجهة الخطر الزاحف، هذا الطوفان من الفن الرخيص. هذا الغسيل المخي الرديء، يتكرر كل يوم وكل ليلة، ليس في بلاد أفريقيا وآسيا فحسب ولكن في بلادهم أيضا في أمريكا وأوروبا، وقد رأيت طوابير الشباب أمام مثل هذه الأفلام في نيويورك ولندن وباريس، لكن الشباب الغربي اكتسب نوعا من المناعة ضد هذا الخطر، ربما هو الارتفاع النسبي في مستوى الحياة الثقافية والاقتصادية، أما شبابنا الأفريقي فهم عزل، وما من سلاح يحميهم من هذا الوباء.
شاب أفريقي طويل يرتدي سلسلة حول عنقه، وقميص ملون رسم عليه قلب وكلمة: «أحب نيويورك» بالإنجليزية، يدخن سيجارة «كنت» ويمضع لبانة، وإليتاه البارزتان تهتزان داخل بنطلون «جينز ضيق».
رأيته قبيحا، وأقبح منه مدينة «نيروبي»، وأدركت السبب الحقيقي وراء ما نسميه قبحا، إنه التناقض بين التأنق الخارجي والفساد الداخلي، سواء في الإنسان أو في المدينة. •••
ولم تكن رحلتي لأفريقيا سياحية؛ فالسياحة كالتكنولوجيا حكر على ذوي البشرة البيضاء من سكان «العالم الأول» الذين استطاعوا بثرواتنا أن يجدوا من المال والفراغ ما يساعدهم على التريض والمتعة والسياحة. أما نحن الذين أطلقوا علينا اسم «البلاد المتخلفة» فلم يخلفوا لنا إلا الفقر أو الإرهاق الجسدي سعيا وراء سد الرمق، ولم يعد لنا من السياحة نصيب إلا أن نكون «المناطق السياحية» التي يأتي إليها هؤلاء البيض ذوو الوجوه المتوردة والعيون الزرقاء اللامعة، يأتون في إجازاتهم للفرجة علينا بمثل ما يتفرجون على المتاحف وحدائق الحيوانات، ويندهشون الدهشة نفسها لمنظر فقرائنا وشحاذينا.
لمحتني امرأة عجوز (من هؤلاء الأمريكيات السائحات المنتشرات في أفريقيا) وأنا أتابع حركات وجهها وهي تحملق بدهشة في وجه امرأة شحاذة يحوطها عدد من الأطفال كالهياكل، ويبدو أنني حملقت طويلا إليها؛ لأنني سمعتها تقول لزميلها أو زوجها: «الناس هنا غير متمدينين؛ فهم يحملقون في الناس بطريقة غريبة»، وكانت تظن أنني لم أفهم ما قالت، فرددت بلغتها قائلة: «السياح هنا غير متمدينين؛ فهم يحملقون في الناس بطريقة غريبة، إلا إذا كانت هذه المرأة الشحاذة ليست من الناس في نظرك!»
هؤلاء السياح كنت أراهم بالطوابير، وعلى الأخص في كينيا حيث لا تزال المنطقة مفتوحة للمستعمرين والسياح معا، وكلهم من ذوي البشرة البيضاء، نادرا ما كنت ألمح بينهم رجلا أسمر أو أسود، فإذا به يسير بينهم كالغريب، يخجل من غربته مع أنه فوق أرضه، ويتحرج من لون بشرته، ويتعثر في مشيته وكأنه في مكان لا يحق له أن يوجد فيه، كأنما المتعة أو السياحة محرمة عليه، أو كأن مكانه الطبيعي ليس سائرا أو جالسا بين السياح، وإنما واقف بطرطوره الأبيض وهم جالسون إلى موائدهم ينتظر الإشارة منهم ليتقدم بانحناءة مؤدبة.
أكثر ما آلمني في رحلتي إلى آسيا كانت انحناءة الرجل الهندي، لكن انحناءة الرجل الأفريقي آلمتني أكثر؛ فأنا أفريقية بحكم الجغرافيا والتاريخ، ويحزنني أن أرى واحدا من أهلي ينحني لأحد. كما أن الرجل الأفريقي طويل القامة قوي الجسد يكاد يكون عملاقا في أحيان كثيرة. وقد أغفر للقزم انحناءته لكن انحناءة العملاق تصيبني في الصميم.
لا زلت أذكر التمثال الذي رأيته في معرض نيويورك الدولي سنة 1965. وقد رأيت في هذا المعرض الضخم مئات الأشياء العجيبة التي استوقفتني، لكن الشيء الذي بقي في ذاكرتي من هذا المعرض حتى اليوم هو تمثال برونزي لرجل أفريقي عريض الكتفين عملاق الجسد رأسه منحن، ووقفت أمام هذه الانحناءة طويلا كأنما أرى لأول مرة انحناءة رجل، وبدت القوة والذل في الجسد الواحد، تناقض عميق مؤلم.
وعرفت وأنا أتأمل هذا التمثال لماذا كنت أحزن حين أزور حديقة الحيوانات وعلى الأخص بيت الأسد؛ كنت كلما أرى الأسد داخل القفص وتلتقي عيناه بعيني أشعر برجفة، ليس انبهارا بقوته وجبروته، وإنما بسبب الحزن الذي كنت أراه في عينيه، الحزن العميق، الحزن الحقيقي الذي لا نراه في عيون الضعفاء وإنما نراه في عيون الأقوياء حين يضعفون.
ولم أعرف حقيقة الحزن في عيني الأسد المحبوس حتى رأيت أسدا حرا طليقا لأول مرة. كان ذلك في غابة «ميكومي» في تنزانيا، وقد خرجت مع المرشد إلى الغابة لأشاهد الحيوانات المتوحشة على الطبيعة، ذلك اليوم رأيت جميع الحيوانات إلا الأسد، وبدأت الشمس تغرب وبدأنا نعود وقد خاب أملي في رؤية الأسد، وفجأة سمعت المرشد يهتف: انظري! وتجمد الدم في قلبي. كانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها الأسد وجها لوجه دون قضبان حديدية، وهمس المرشد في أذني: لا تخافي؛ فالأسد دائما هادئ لا يهاجم إلا من يهاجمه، وهدأت بعد أن وجدت أن الأسد هادئ فعلا، واستجمعت كل قوتي لأنظر في عينيه، وشملني فرح غريب وانبهار يشبه فرح الأطفال حين يرون شيئا جديدا لأول مرة، والجديد الذي اكتشفته في لقائي مع الأسد الحر هو عيناه المليئتان بالقوة والثقة بالنفس إلى حد الهدوء، هدوء يشبه الرقة، هدوء القوي الذي يعرف أنه يستطيع أن يضرب من يضربه.
والإنسان الحر كالأسد الحر، شديد الهدوء إلى حد الرقة؛ لأنه يعلم أنه يستطيع أن يضرب من يضربه. •••
ركبت الطائرة الصغيرة «فوكر فرنشيت» الألمانية، تشبه الأتوبيس القديم، مقاعد ممزقة، وصوت محركاتها كموتور عربة عتيقة، خيل إلي أنها ستسقط من الجو، أنوار دار السلام تحت عيني، والسفن في الميناء تتألق كالعرائس، هبطت الطائرة في جزيرة زنجبار بعد 25 دقيقة فقط، الجزيرة مظلمة راقدة فيما يشبه السر المغلق المجهول، في المطار أعطوني 4 أقراص كينين وقاية من الملاريا. قالوا: إن الجزيرة موبوءة بالملاريا والفيلاريا والدرن، أما مرضى الجذام فهم يعزلون في جزيرة أخرى قريبة اسمها جزيرة الموت.
حملقت في الظلمة وأنا جالسة في التاكسي من المطار إلى فندق «بوانا»، رائحة الهواء ثقيلة كالموت، فكرت في العودة إلى المطار لكن الرغبة في المعرفة كانت أقوى، زنجبار جزيرة العبيد، أدوس على أرضها، وأشم رائحة الاستعباد كالموت، لكني أسير. في الفندق الضخم على الشاطئ، انحنى الجرسون وحمل عني حقيبتي، انحناءة تشبه انحناءة الجرسون في فندق أوبروي، وعرفت أن هذا الفندق هو أحد فنادق أوبروي في أفريقيا، في الصباح تمددت بجوار حمام السباحة. لم أجرؤ على النزول إلى الماء، رائحة الموت تفوح من قاع الحمام ومن كل أنحاء الحديقة، همس الجرسون في أذني: حين حفرنا الأرض لنقيم حمام السباحة عثرنا على آلاف الجماجم والهياكل البشرية، كانوا يقتلون الثوار ويدفنون جثثهم في هذا المكان قبل بناء الفندق.
نهضت فورا وحزمت حقيبتي، قررت الانتقال إلى فندق آخر. قال الجرسون: لا يوجد بالجزيرة إلا هذا الفندق، بقية الفنادق قديمة ومن الدرجة الثالثة، ولا أحد يذهب إليها خشية ناموس الملاريا والفيلاريا، وقلت: الملاريا والفيلاريا أفضل من البقاء في هذا الفندق.
انتقلت إلى فندق صغير في زقاق ضيق، اسمه فندق «أفريقيا هاوس» يطل على المحيط، البيت من الطراز الأفريقي الإسلامي، أعمدة ضخمة قوية كسواعد الأفارقة، الغرفة نظيفة والسرير تغطيه ملاءة بيضاء، رائحة القرنفل تنبعث من كل مكان وتملؤني بالانتعاش، وأصوات الغناء والطبول تملأ الجو بما يشبه الفرح، أطفال يحملون الفوانيس الصغيرة ويسيرون في الشوارع يغنون لشهر رمضان، تذكرت أطفال قريتي على ضفاف النيل، المحلات الصغيرة على جانبي الشارع كمحلات الموسكي في القاهرة، ناولني طفل فرعا من شجرة القرنفل وصافحني وهو يقول: قريبو واجيني بانجو. ولم أفهم ماذا يقول، فتاة صغيرة تعرف العربية قالت لي: يقول لك: مرحبا. الفتاة اسمها «هدى»، وهي ابنة أحد المصريين الذين يعملون مع القنصل المصري، خرجت أمها من محل القرنفل وصافحتني، اسمها «أم علاء»، ليس لها ابن اسمه علاء، لكن الجزيرة كلها من المسلمين ولهم عادات قديمة، لا ينادون الأم باسمها وإنما باسم ابنها، وإذا لم يكن لها ابن خلقوا لها ابنا وهميا لمجرد أن تحمل اسمه.
أخذتني في سيارتها الصغيرة الصفراء إلى بيتها، على الجدار صورة أهرامات الجيزة وأبو الهول، وسجادة صلاة عليها صورة الكعبة. ملامحها مصرية صميمة ورأسها يشبه كليوباترا، عينان سوداوان واسعتان تمتزج فيهما القوة بالحزن، قدمت لي صينية الشاي وكعك العيد الصغير وقالت: قرأت كتبك وكنت أنوي الحضور إلى عيادتك بالقاهرة.
وقلت: أغلقت عيادتي منذ سنين.
وهتفت: لماذا؟
وقلت: لم أسترح لفكرة أن أبيع الصحة للناس مقابل ثمن محدد.
وتنهدت: أنفقت كل ما معي على أطباء النفس في القاهرة، أعاني يا دكتورة من حالة «اكتئاب»، وامتلأت أدراجي بالأقراص والحبوب المهدئة والمنومة ، تركت عملي في القاهرة لأصحب زوجي في حياته الدبلوماسية، عشرون عاما ونحن نسافر في جميع أنحاء العالم من نيويورك إلى زنجبار، «هدى» ابنتي تعيش وحدها في القاهرة طوال السنة، ولا نراها إلا في الإجازة الصيفية، أبي مات وأنا في نيويورك ولم أره، وأمي ماتت العام الماضي وأنا هنا في زنجبار، زوجي يعاني من الاكتئاب أيضا؛ فهو يكره السادات، ويعرف أنه لا يعمل لصالح مصر، لكنه يقول العكس كل يوم حسب وظيفته الدبلوماسية.
دخلت ابنتها «هدى» في هذه اللحظة فسكتت «أم علاء» ثم غيرت الحديث.
وقالت: ماذا رأيت في زنجبار؟
وقلت: لا شيء حتى الآن إلا فندق «بوانا» ومن تحته الجماجم البشرية، وضحكت أم علاء: سآخذك بسيارتي لتري متحف زنجبار، وكان بيت العبيد.
ركبت إلى جوارها في السيارة الصغيرة، أصابعها الرفيعة حول عجلة القيادة هادئة مملوءة بالثقة، وسمعتها تقول: قيادة السيارة تعيد إلي الثقة بنفسي وأشعر أنني إنسانة مستقلة، عشت حياتي ظلا لرجل هو زوجي، وأما لابن وهمي يعيش في الظل، وخلقت لنفسي عالما آخر أحلم فيه بالحرية كالعبيد.
تجمع بعض الأطفال حول السيارة وجروا خلفنا كما يفعل أطفال القرى في مصر، وجوه الأطفال ناحلة شاحبة كأطفال قريتي، يغطيها الذباب. وقالت «أم علاء»: جزيرة زنجبار فيها ثراء كثير؛ لإنتاجها الوفير من القرنفل، لكن الناس هنا لا يجدون اللحم ولا الخضروات ولا حتى الماء، كل شيء يستورد من دار السلام، ضرورات الحياة غير موجودة فوق الجزيرة، لكن التليفزيون الملون موجود، وكماليات أخرى مستوردة من أوروبا وأمريكا.
الأطفال البنات يرتدين جلاليب طويلة ويغطين رءوسهن، البنت التي تسير في الشارع بجلباب قصير وإن كان عمرها عشر سنين فهي تعرض نفسها للحبس من ثلاثة أيام إلى ستة شهور، صوت المؤذنين يرتفع من فوق المآذن وميكروفونات الإذاعة والتليفزيون الملون.
وصلنا إلى ميدان صغير مربع اسمه ميدان العبيد، تتوسطه كنيسة ضخمة تشبه كنائس العصور الوسطى، ونوافذها ذات القضبان تذكرني بمحاكم التفتيش. من خلف الكنيسة مبنى آخر كالقصر بني على أعمدة، تحوطه الأشجار، جدران القصر مسودة كآثار حريق قديم. كان السلطان يعيش في هذا القصر عام 1899 وسط مائة من نسائه «حريم السلطان»، وتآمرت النساء ضد السلطان وحرقن القصر ثم هربن في الزوارق إلى المحيط، إلى جوار القصر المسمى بيت العجائب رائحة القرنفل تعبئ الجو، والساحل يتمدد حتى الأفق، أشجار جوز الهند طويلة رفيعة ممتدة من السماء، وشجر المانجو أوراقه كثيفة خضراء، يهزها الهواء القادم من المحيط، الصخور ترتفع في المياه سوداء كرءوس العبيد تتكسر عليها الأمواج، بيت العبيد كالصخرة المطلة على الزمن البعيد، والكهف الصخري في قاع البيت كان مخزنا للعبيد يخزنون فيه كما تخزن البضاعة، ويعيشون شهورا داخل الكهف مع الثعابين، في الميدان كانوا يسوقون الرجال والنساء بالسلاسل، وفي المتحف الصغير رأينا السلاسل الحديدية من وراء الزجاج، فوق الحديد بقع سوداء كالدم القديم.
عدنا إلى البيت بقلب ثقيل، وفي بيتها على مائدة الغداء التقيت بزوجها المصري، ورجلين آخرين أحدهما موظف اسمه «محمود» يعمل في السفارة المصرية في دار السلام، والثاني أحد الزعماء الوطنيين في زنجبار اسمه الشيخ علي محسن، وجه قوي وحزين كالأسد الحبيس، تمتزج فيه الملامح العربية والأفريقية كما امتزج العرب والأفارقة في زنجبار منذ مئات السنين، فلا تكاد تعرف الدم العربي من الدم الأفريقي.
حارب الشيخ «علي محسن» مع زملائه ضد الاستعمار الإنجليزي، ثم نالت زنجبار استقلالها السياسي وبدأت تسعى نحو الاستقلال الاقتصادي، وهنا ضرب الاستعمار ضربته متعاونا مع السلطة في دار السلام؛ فالاستعمار لا يرى ضررا كبيرا في أن تستقل البلاد الأفريقية سياسيا ما دام اقتصادها لا زال يرتبط بالسوق الرأسمالية، ولا يطيق أن يخرج بلد من قبضته الاقتصادية.
وكان في استطاعة الشيخ «علي محسن» والوطنيين في زنجبار أن يواجهوا الضربة لو أنها حدثت في النور، ولكن مذبحة زنجبار حدثت في الظلام، قتل فيها آلاف الرجال والنساء ودفنوا تحت الأرض، وحبس علي محسن وغيره من زملائه في سجون دار السلام، ومات منهم في السجون من مات واستطاع «علي محسن» أن يهرب وينجو بحياته.
أما دماء القتلى المدفونين تحت الأرض فلا تزال تفوح وتملأ الجزيرة الحزينة برائحة خانقة غريبة تشبه رائحة جريمة لم يكشف النقاب عنها بعد، وقال الشيخ علي محسن: الإنجليز يخشون زنجبار؛ لأن الثورة كامنة. وقد تنتقل إلى تنزانيا وبلاد أفريقية أخرى، الاستعمار الإنجليزي لا زال يعمل في الخفاء في أفريقيا ومعه أمريكا.
كانت «هدى» تحرك مفتاح «الراديو» الصغير بأصابعها الرفيعة حين رن في الجو فجأة صوت مذيع يتحدث اللغة العربية ويقول: صرح الرئيس المصري أنور السادات في واشنطن بأنه سيرسل جنوده لتحارب في الصومال ضد الحبشة؛ من أجل الدفاع عن منابع النيل، وضحك «محمود» المصري وقال: وحين أرسل جنوده إلى زائير كان يدافع عن ماذا؟
ورد «أبو علاء» المصري: يقول إنه رجل سلام ويرسل جنوده لتحارب في أرض الغير، وأرضه لا تزال محتلة بإسرائيل، أصبح مندوبا لأمريكا للدفاع عن مصالحها في أفريقيا، ويعارض قرار 49 دولة أفريقية في منظمة الوحدة الأفريقية، ويقف مع الحكومات المعادية لحركات التحرير، بعد أن كانت حجة الدفاع عن البحر الأحمر أصبح الآن يدافع عن منابع النيل.
وخيم على الجميع الصمت والوجوم، وانقطع صوت المذيع في الراديو، وبدأت موسيقى أمريكية وأغنية باللغة الإنجليزية تقول: دعني يا حبيبي أقرر مصيري.
وضحك الشيخ علي محسن: دعونا يا إنجليز نقرر مصيرنا.
وقال محمود: لم أكره في حياتي مثل الإنجليز، بريطانيا هي التي أنشأت إسرائيل بوعد بلفور؛ لأن فلسطين هي خط الدفاع الاستراتيجي لمصر، ولكي تؤمن مصالحها في قناة السويس، وأعلنت بريطانيا حمايتها لأوغندة عام 1903، وعرضت على الحركة الصهيونية إنشاء دولتهم هناك، أوغندة تسيطر على منطقة البحيرات في أعالي النيل، وبها مصب بحيرة فيكتوريا، تمد البحيرات في أعالي النيل، تمد البحيرات مصر بجزء من المياه (حوالي 7 / 1 المياه الواردة إليها)، لكن هذه المياه ترد إلى مصر في فترة التحاريق أو فترة الجفاف التي كانت تسبق الفيضان السنوي حيث لا يكون مورد آخر للمياه، وفي عام 1893 ذكر المهندس الفرنسي مسيو برنت أن إقامة خزان للمياه على مجرى النيل في سد على فوهة بحيرة تينانزا. أما إذا أنشئ خزان على بحيرة فيكتوريا فيمكن إغراق مصر أو منع المياه عنها تماما، وفي عام 1902 جاءت إلى مصر بعثة إنجليزية صهيونية لتدرس مشروعا آخر هو إقامة الوطن الصهيوني في سيناء، وبحثت البعثة إمكانية توصيل مياه النيل إلى سيناء عبر مواسير تمر تحت قناة السويس. كان يرأس حكومة مصر مصطفى فهمي باشا، وكان متعاونا مع الإنجليز، وبطرس غالي وزير خارجيته الذي رأس المحكمة التي أعدمت فلاحي دنشواي عام 1906. وقد دافع عن الإنجليز والصهيونيين رغم معارضة الشعب المصري، واغتاله أحد المصريين الوطنيين لهذا السبب عام 1910، وفشل الإنجليز في إقامة الوطن الصهيوني في سيناء.
وقال أبو علاء: وها هو السادات يحاول توصيل مياه نهر النيل إلى إسرائيل عبر مواسير تحت قناة السويس.
ورد محمود: ولن تختلف نهايته عن بطرس غالي عام 1910.
وخيم الوجوم والصمت الثقيل، والهواء أيضا أصبح راكدا، سرت نحو النافذة المطلة على المحيط، جزيرة الموت تلوح من بعيد، حيث يلقون عليها بمرضى الجذام لتأكلهم الضباع والثعابين، ومن بين الأشجار الكثيفة تلوح أعمدة القصر المحروق وفندق «بوانا» حيث دفن آلاف الثوار تحت حمام السباحة، ثم ميدان العبيد حيث السلاسل والكهف داخل الصخور.
وفي الصباح الباكر حملت حقيبتي واتجهت إلى المطار، ركبت الطائرة الصغيرة العتيقة، تشبه عربة نقل الموتى السوداء، صوت محركاتها يتحشرج وتنتفض في الجو كالدجاجة المذبوحة، وفي الجو يرن صوت المذيع في الراديو مرة أخرى ويقول: إن السادات سيوصل مياه نهر النيل إلى إسرائيل، ثم يرسل جنوده إلى أفريقيا من أجل حصول مصر على مياه النيل. •••
من جزيرة الحزن والعبيد ركبت الطائرة إلى دار السلام، ومن دار السلام طرت إلى جزيرة مدغشقر، يسمونها جزيرة الابتسام، هبطت الطائرة في منتصف الطريق في جزيرة في عرض المحيط اسمها جزيرة القمر الكبرى، قطعة من الأرض الخضراء وسط المياه والأمواج والصخور، الملامح مزيج من الدم العربي والأفريقي، اللهجة غير مفهومة، مزيج من السواهيلي والعربية، ضوء القمر الأبيض ينعكس على الجلاليب البيض، شيء من السحر يلف الجزيرة، ومن وراء هذا الجمال غموض له رائحة مريبة كالتهريب.
ومن جزيرة القمر حملتني الطائرة إلى «تناناريف» عاصمة مدغشقر ، يسمونها مدينة الألف محارب والألف بيت، بيوتها صغيرة بيضاء ذات أسقف حمراء مقوسة، بنيت على التلال وبدت متدرجة تغطي السفوح المنخفضة والتلال العالية، ملامح الناس آسيوية تشبه الأندونسيين، القامة القصيرة والأنف المنخفض، حاربوا البرتغال والعرب والإنجليز والفرنسيين، ثم نالوا الاستقلال في يونيو 1960، والمرأة حاربت إلى جوار الرجل، وتعمل النساء في كل مكان، ولهن ما للرجال من حقوق.
النصب التذكاري ينتصب في وسط البحيرة الكبيرة «أنوسي» تحوط البحيرة الأشجار والبيوت الصغيرة البيضاء، شاب وشابة يسيران متعانقين على شاطئ البحيرة، يقود الشاطئ إلى شارع كبير وسط المدينة اسمه شارع الاستقلال، في نهاية الشارع سوق «الزوما» وكلمة «الزوما» مأخوذة من الكلمة العربية «الجمعة» دكاكين صغيرة، وشماسي بيضاء من الزهور والفواكه والأناناس، جوز الهند، الموز، البرتقال، مهرجان من الألوان، والناس يرتدون قبعات كبيرة من الخوص والقش، يبتسمون ويتبادلون التحيات، منتجات من الفن المتقن الجميل، مزيج من الثقافات الأوروبية والآسيوية والعربية.
فوق قمة الجبل العالي القلعة، والنصب التذكاري «الروفا»، و«القصر الفضي» وقصر الملكة «رازوهيرنيا» وشجرة ضخمة اسمها «بيوباب» تأكل الأشجار من حولها، ولها جذع ضخم سميك، وليس لها أوراق. كانوا يعبدون هذه الشجرة؛ لأنها تأكل غيرها، ويقولون إن الإله هو الذي يأكل الآخرين، أي يسبب الموت للآخرين. وعبدوا حيوانا اسمه «ليمور» على شكل سلحفاة تزحف وتأكل غيرها، والبقرة أيضا عبدوها مثل الهنود، وحين أدركوا أنها ليست إلها ذبحوها في العيد، وأصبحت هي الضحية «زينو»، كخروف العيد عندنا، والبقرة هنا لها سنام كالجمل، وفي زنجبار أيضا رأيت هذا النوع من البقر، لكن الناس في جزيرة زنجبار يعيشون الفقر والحزن، وهنا يبدو الناس أكثر مرحا، والطبيعة أكثر جمالا، والمرأة كالرجل، والفتيات يرقصن حول البحيرة رقصة الزهور، يبتسمن وأثوابهن ملونة بألوان الطيف. إذا كانت مدغشقر هي جزيرة الابتسام والمرح فإن زنجبار جزيرة الحزن والعبيد. •••
في متحف دار السلام رأيت أقدم جمجمة إنسان في التاريخ، اكتشفت الجمجمة في منطقة «أولدوبي جورج» في شمال تنزانيا، اكتشفها الدكتور «ليكي»، وقدر عمر الجمجمة بحوالي مليون سنة وسبعمائة وخمسين ألف عام، منذ عاش الإنسان «زنجا تروبوس بواسي».
في الصباح زارتني بالفندق صديقتي التانزانية «زين كامل»، أمها أفريقية وأبوها من الهند، يعيشان في نيروبي حيث يملك أبوها ثلاث شركات تجارية كبيرة، هي تعيش في دار السلام وتعمل في وزارة الخارجية، ورثت عن أبيها الشعر الأسود الناعم، وأخذت من أمها القوام الفارع الممشوق.
ذهبنا إلى شاطئ «باهوري» على المحيط الهندي، يشبه شواطئ أوروبا، سبحنا في المحيط وأكلنا السمك المشوي. قالت لي وهي راقدة فوق الرمل إنها لا تحب الحياة مع أبيها؛ لأنه رأسمالي يتعاون مع الأمريكيين، وهي تؤمن بالاشتراكية ونيريري.
وجلست فجأة وهي تقول بحماس: نيريري يسعى لاستقلال تنزانيا الاقتصادي ويعارض سياسة أمريكا وإسرائيل وتعاونهما مع حكومة جنوب أفريقيا العنصرية.
واشترت الجريدة من صبي يبيع الصحف على الشاطئ، مشكلة اللحم في الصفحة الأولى، رأي يؤيد عودة اللحم إلى تجار القطاع الخاص، والرأي الآخر يعتبر ذلك عودة إلى الرأسمالية، وينادي بأن يظل بيع اللحوم في نطاق القطاع العام؛ منعا لزيادة أسعارها أو اختفائها من السوق.
وتناقش الصحف أيضا مشكلة المعاش؛ فالموظف يحال إلى المعاش في سن 45 سنة كحد أدنى، لكن متوسط العمر أقل من 45 سنة، أي إن معظم الناس يموتون قبل أن يستمتعوا بالمعاش، ويسقط حق الموظف في المعاش إذا حكم عليه في قضية أو دخل السجن.
نيريري يصرح في الصحف أن صورة أمريكا أصبحت قبيحة في أفريقيا؛ لأنها تساند الحكومات العنصرية، وتمدهم بالسلاح والأموال، وتشجع الحركات الدينية المتعصبة لإحداث فتن طائفية.
من غرفتي بالفندق كنت أسمع صوت المؤذن، ومن المآذن ينطلق صوت الأذان في شوارع دار السلام، وقالت لي زين: عندنا هنا حرية دينية مثل معظم البلاد في أفريقيا، وبالأمس اعتنق شاب تانزاني المسيحية وحضر تعميده أبوه وأمه، وهما مسلمان، لكن الرجال المسلمين هنا أكثر تخلفا من الرجال الآخرين، والرجل يطلق زوجته بلا سبب، ويتزوج أربع نساء، والمرأة المسلمة يفرضون عليها الحجاب وعدم الخروج من البيت، مع أن النساء هنا يعملن أكثر من الرجال، والمرأة في كثير من الأسر تنفق على أطفالها وتنسبهم إليها ، وعندنا 19 امرأة في البرلمان ووزيرتان: وزيرة للعدل ووزيرة للإسكان، عندنا يوم الفلاحين اسمه «نين نين» ومشاريع للتنمية الزراعية. خلال عامين من 1974 إلى 1976 تم نقل 13 مليون فلاح وفلاحة إلى قرى جديدة، تنزانيا هي إحدى دول المواجهة ضد الاستعمار الجديد، وكانت موطن العبيد، هل زرت ميناء «باجامويو»؟
وأخذتني إلى هذا الميناء، يبعد عن دار السلام 45 ميلا ناحية الشمال، ميناء «باجامويو» كان هو المحط الأخير على الساحل الشرقي لأفريقيا، تقف عنده العربات التي تنقل العبيد من داخل أفريقيا إلى المركب الذي ينقلهم إلى جزيرة زنجبار ومنها إلى بلاد بعيدة مجهولة لا يعرفونها.
على الجدار حفرت كلمات تقول: «هنا أترك قلبي».
قالت زين: كانت هذه الصرخة الأخيرة التي يطلقها العبد قبل أن ينتزع من وطنه إلى بلاد غريبة.
أقبل علينا بعض الصيادين يتكلمون لغة السواهيلي، التقط بعض كلمات تشبه العربية، أحسنت، تفضلي. أما كلمة «سوا سوا» فمعناها «بخير».
بعض المحلات بجوار المحيط، وشباب يعملون بأيديهم تماثيل بديعة من الخشب والعاج، عيونهم تلمع وأسنانهم تلمع وأمواج المحيط تضرب الشاطئ بهدوء، وعلى الجدار لا تزال الحروف محفورة: «هنا أترك قلبي»، يرمقونها فتكسو عيونهم سحابة الذكرى لماض أليم. •••
في الطريق إلى غابة «ميكومي» رأيت جبل كليما نجارو، قمته عالية ترتبط في ذهني بأرنست همنجواي. كان صيادا يسير تحت الشمس ويكتب القصص.
أحلم ببيت صغير فوق الجبل أعيش فيه وحدي وأكتب الرواية، منذ أعوام تؤرقني الفكرة، لكن الأيام تمر والسفر يأكل العمر، لكني منذ رأيت الأسد الحر في الغابة وأنا مشدوهة إلى الغابة، وفي السيارة الجيب ركبت إلى جوار المرشد أبحث عن الأسد، غربت الشمس ولم نعثر على الأسد، رأينا اللبؤة فقط.
وقلت للمرشد: يبدو أن عدد الإناث أكثر من عدد الذكور في الأسود. وضحك قائلا: لا، ولكن اللبؤة هي التي تخرج للاصطياد لإطعام أطفالها. أما الأسد فهو لا يطعم إلا نفسه. الأنانية صفة الذكورة دائما، والأنثى أقوى من الذكر في الحيوان. لا يستطيع الذكر أن يقترب من الأنثى إلا إذا أعطته الإشارة، وهي لا تعطيه الإشارة إلا في أيام معينة في فترة الحرارة، بقية الشهر أو العام تنشغل بإطعام أطفالها، وتضرب الذكور حتى لا يأكلوا صغارها. لم يحدث في تاريخ الغابة كلها أن اغتصب ذكر الأنثى من أي فصيلة. وهذا يعني أن الاغتصاب ليس إلا عمل من صنع الإنسان.
وضحك المرشد مرة أخرى، بشرته سوداء بلون الفحم، وأسنانه بيضاء، يتكلم بلغة إنجليزية، ويبدو أنه ملم بطبائع الحيوانات والبشر، ثم حكى لي قصة الصياد. قال: كان الصياد يسير تحت الشمس، ويرى ظله من ورائه طويلا أسود يتحرك معه، وأحيانا يتحرك وحده، وقال لنفسه: سبحان الله! وبدأ يخاف من ظله حين يتبعه، يتصوره رجلا آخر يقتفي أثره، وينتهز أي فرصة لاغتياله، وأخيرا توقف حين رآه واستدار بسرعة وضربه على رأسه بالبندقية، ثم حملق في الجسد الميت تتدرج منه الدماء، لم يكن يشبه بني آدم، صرخ: شيطان! جره من قوائمه الأربعة إلى بيته، شواه على النار وأكل لحمه بشهية، ثم شعر بقوة سحرية في بدنه. قال لنفسه: سبحان الله! لا بد أنها القوة الإلهية. أطفأ النار، وحوط الجسد بعيدا عن الذرة الجافة، ودار حوله يرقص طربا محتفلا بالعيد الكبير، وحوطه إخوته الذكور، وأكلوا جميعا حتى شبعوا ثم رقصوا على شكل حلقة ينشدون أغنيتهم المقدسة:
قتلنا الشيطان وأكلنا لحمه قبل أن يأكلنا
ونغني له في العيد لننسى أننا ذبحناه
لحمه لذيذ شهي نخفيه عن النساء
وإلا أكلوا منه وعشقوه مثلنا.
الفصل التاسع
الإمبراطور هيلاسلاسي والثورة
منذ أن حكم السادات وأنا أشعر بالغربة في وطني، أحد عشر عاما كالسحابة السوداء، من 1970 حتى 1981 حجبت الشمس والضوء ونسمة الهواء، ولم يبق أمامنا إلا وجهه، ويطل علينا كل يوم فوق الشاشات، وعلى صفحات تدفعها اليد الخفية من تحت عقب الباب، وصوته كالرعد في مكبرات الصوت يدوي في الشوارع وكل الإذاعات.
أحملق في الصورة العالقة في الجو وفوق الجدران، ملامح الوجه فيها حركة غير مباشرة، لا تسير في خط مستقيم، وفي الصوت الممطوط ما يشبه الفهم البطيء أو الشرود والسرحان، وألصق باسمه كلمة المؤمن ليستمد من الله السلطان كما فعل الإمبراطور هيلاسلاسي، وكل أسبوع يصلي في جامع مثلما فعل شاه إيران، وسموه أيضا «أبو العائلة المصرية» على غرار أبو العائلة الإيرانية.
وكلما أراه أو أسمعه أشعر بالغربة، والاغتراب يصاحبه إحساس آخر يشبه الانحدار أو السقوط في بئر مظلم تضيع فيه حقوق الإنسان.
وانتقلت الأشياء في حياتنا، فأصبح الخطر هو الأمن، والحرية هي الدكتاتورية، وتحولت الأحكام العرفية إلى الديمقراطية بفضل العلم والإيمان. أما الغلاء الفاحش والديون والتضخم فقد أصبح لها اسم جديد هو الرخاء، والقواعد العسكرية وقوات الانتشار السريع أصبحت حمائم السلام، والغيرة على الإسلام في أفغانستان لا يوازيها إلا الغيرة على مصالح فرنسا في تشاد، والنضال الطويل ضد الاستعمار والصهيونية انقلب إلى صداقة ومحبة وتعاون.
وبدأنا نرى البيرة والبيض الإسرائيلي في الدكاكين المصرية، وانهمر سيل من الإعلانات الأمريكية عن سجائر «كنت» وسفن أب وشويبس ورموش صناعية للنساء.
واختفت من الأسواق البضائع الوطنية، حتى المكرونة المصرية والأرز والخبز أصابها الاختفاء، وارتفعت نسبة البطالة بين الشباب، والأصوات ارتفعت تنادي بعودة المرأة إلى البيت وارتداء الحجاب.
وأصبح كل شيء أجنبي أعلى قيمة من أي شيء مصري حتى الإنسان، أصبح الأجانب يحظون أكثر من المصريين بالاحترام والاهتمام من جانب جميع المسئولين في الحكومة ابتداء من حرس الأبواب حتى أكبر المديرين والوزراء ورئيس الدولة، ويحصل الأجانب وخاصة الأمريكيون منهم على امتيازات وتسهيلات لإنشاء شركات الاستثمار، أو لإجراء بحوث والحصول على بيانات ومعلومات لا يحصل عليها المصريون.
وكم هو إحساس مرير أن يشعر الإنسان بأنه غريب في وطنه وأن كل من ارتدى زيا أجنبيا أو رطن بلغة غير عربية نال الاحترام.
ولم يكن غريبا في ظل هذا الحكم أن أطرد من عملي، وأن تصادر جميع كتاباتي، وأن أعيش تجربة تشبه المنفى، ثم ينتهي الأمر بي في السجن.
وكلها تجارب مفيدة رغم كل شيء، أتاحت لي السفر والترحال ورؤية العوالم الأخرى، والعمل في جهاز آخر عجيب يشبه الجهاز الحكومي في بلادنا واسمه هيئة الأمم المتحدة.
وأصبح لي لقب جديد هو «الخبيرة»، وفي جيبي جواز سفر أزرق، رسمت عليه الكرة الأرضية، ومن فوقها «الأمم المتحدة»، ومن تحتها: «دعه يمر».
ومن جميع مطارات العالم أمر دون أن يستوقفني أحد، وفي نهاية كل شهر أحصل على ثلاثة آلاف دولار غير نفقات السفر والإقامة؛ أي ما يوازي ثلاثين ضعفا لراتبي من الحكومة المصرية.
وكان مقري الأول هو أديس أبابا، عاصمة إثيوبيا أو الحبشة، بيني وبين كلمة الحبشة قرابة دم، واسم جدي لأبي كان «حبش»، وعلى الجدار العالي في بيت جدي لأمي كانت تتدلى صورة الإمبراطور هيلاسلاسي، وخالتي بأنفها العالي تحكي أن جدها كان صديقا للإمبراطور، وبأصابعها المدببة ذات الأظافر المطلية تشد ورقة من قاع المكتب، ورقة أبلتها السنون وظلت عليها كلمات مطبوعة تثبت أن الخديوي إسماعيل كان يستدين من جدها واستولى منه على قطعة أرض.
كنت لا أزال طفلة ولا أعرف الفرق بين الإمبراطور والخديوي، وحروف اسم هيلاسلاسي تحت صورته تبدو لعيني كالهيروغليفية، عيناه واسعتان في وجه طويل نحيل، وأنف مدبب حاد، ومن فوق صدره أشياء كثيرة مزركشة تقول عنها خالتي إنها نياشين وأوسمة مثل نياشين وأوسمة الملك فاروق. وحين سقط الملك فاروق في يوليو 1952 تصورت أن هيلاسلاسي أيضا سيسقط، ولم أكن أعرف عن الحبشة شيئا إلا أنها الهضبة العالية حيث تسقط الأمطار وفيها منابع النيل، وفي عام 1974 قرأت أن هيلاسلاسي سقط، وتذكرت الملك فاروق، وتصورت أن الحبشة تحررت، لكن السادات أعلن أن الشياطين الحمراء استولت على الحكم في الحبشة، وأن سقوط هيلاسلاسي إنما هو ضد إرادة الله؛ لأن الله هو الذي اختاره، وهو مستعد لأن يمتطي سلاحه ويذهب إلى الحبشة دفاعا عن إرادة الله، وحماية أيضا لمنابع النيل من عبث الشياطين.
ولم أكن أصدق شيئا مما يقوله السادات، وهو نفسه لم يكن يصدق ما يقول، ويدرك أن الناس لن تصدقه؛ ولذلك كان يلجأ إلى الله دائما من أجل أن يصدقه الناس كما فعل هيلاسلاسي.
الطائرة الإثيوبية قطعت المسافة بين القاهرة وأديس أبابا في ثلاث ساعات ونصف، لن نحلق فوق أرض السودان؛ النميري منع هبوط الطائرات الإثيوبية في السودان أو الطيران في سمائها، وأعلن كالسادات الغضب على منجستو عدو الله وعدو هيلاسلاسي.
حلقنا فوق شاطئ البحر الأحمر ثم هبطنا في مطار أديس أبابا.
الشمس مشرقة، برودة منعشة في الهواء، والجبال الخضراء من كل ناحية، السماء زرقاء صافية بلا غبار، ملامح الناس تشبه ملامح قدماء المصريين، الوجوه الطويلة النحيلة، العيون السوداء المسحوبة إلى أعلى، وأنف كليوباترا المرتفع الحاد، وعنق نفرتيتي فوق جسد نحيف طويل كالرمح، سمرة داكنة كتربة الحبشة وجبالها السود، يذوب سوادها تحت سيول المطر كالذهب السائل، يتدحرج من فوق القمة إلى السفح ويجري غزيرا قويا يشق الأرض ويلمع تحت أشعة الشمس كثعبان طويل من الفوسفور، يشبه نهر النيل، حفر الصحراء منذ ملايين السنين وصنع ذلك الوادي الطويل الأخضر.
هل سبح جدي «حبش» مع مياه المطر الهابطة من الجبل إلى الوادي حيث استقر في الدلتا بقرية كفر طلحة؟ وبقية أهله الأحباش بقوا فوق الجبل ولم يستعمرهم أحد واحتفظوا بملامحهم الأصلية؟ ملامح المصريين القدماء على حين فقدناها نحن المصريين؟ هل اختلط الدم المصري بالدم اليوناني والروماني والتركي والعربي والفرنسي والإنجليزي والأمريكي؟ بكل الدماء التي غزت مصر خلال القرون الماضية؟ أم أنه الجبل الشامخ المرتفع يجعل الملامح مرتفعة، والوادي المنخفض الهابط نحو البحر صنع لنا ملامح أقل حدة وأقل عنفا؟
الدماء الحبشية في جسدي تشدني نحو الجبل، وفي أعماقي عشق لقوة الجبل، وانجذاب نحو تلك الملامح الشامخة المنحوتة في صخر، وكلما نظرت في وجه طفل تذكرت طفولتي، كأنما ولدت هنا في زمن لا أدري عنه شيئا.
سرت في شارع تشرشل ثم وجدت نفسي في الميدان الكبير، يسمونه ميدان الثورة، مهرجان شعبي كبير احتفالا بالثورة، آلاف الناس تتجمع، رجال ونساء وأطفال، وجوه سمراء بلون الكاكاو، تقاطيع حادة كالسيف، جلاليب بيض وطرح بيضاء على الرأس، أياد سمراء تمسك بالأعلام الصغيرة، ألوانها ثلاثة: الأحمر والأخضر والأصفر، يغنون ويرقصون ويدقون الطبول، من فوق الرءوس ثلاثة وجوه ضخمة تتدلى كأنها من السماء، ماركس وإنجلز ولينين، صورهم الثلاثة بحجم الأهرامات معلقة في الميدان، عيون الأحباش تتطلع نحوها ولا تعرف من هؤلاء الأجانب الثلاثة، بدأت مواكب الوزراء والسفراء، ثم سيارة منجستو هايل مريام، سيارة لا ينفذ إليها الرصاص، ولا أحد يعرف في أي سيارة هو، منذ ستة شهور ضربت سيارته بالرصاص وأصبحت مخرمة كالمنخل، هكذا سمعتهم يقولون.
بالليل أصحو على صوت طلقات الرصاص. لا نكاد نعرف من يضرب من، وصديقتي الإثيوبية واسمها «ألمظ» تخشى الحديث، تتلفت حولها وتهمس بكلمات مبتورة: عندنا قرارات تفرض علينا ألا نتحدث في السياسة، وألا نزور الأجانب في بيوتهم.
سافرت معها مرة إلى مؤتمر في نيروبي، وما إن حلقت الطائرة في الجو واجتازت حدود الحبشة حتى تنهدت وتنفست ثم قالت: كرهت هيلاسلاسي مثل كل أهل الحبشة، وكنا نأمل في التغيير إلى أحسن، ولكن أصبحنا نخشى حتى الكلام، ويتحدثون عن الماركسية اللينينية بلغة لا يفهمها أحد من الشعب. أليس في تاريخنا أبطال وشخصيات وطنية مثل أحمد عرابي عندكم مثلا يعلقون صورهم في الميدان بدلا من صور ماركس وإنجلز ولينين؟ أنا مع الاشتراكية لكن ضد النقل الأعمى عن الآخرين وتجاهل تاريخنا.
وقلت لها: حدثيني عن تاريخكم، وكيف حدثت الثورة ضد الإمبراطور هيلاسلاسي؟ كل ما أعرفه أنه كان يحكم بقوة الله كالسادات عندنا فكيف نجحت الثورة ضده؟
وحكت ألمظ قصة هيلاسلاسي الإمبراطور، تشبه قصص ألف ليلة وليلة. كان هيلاسلاسي رجلا صغير الجسم نحيفا، يقل وزنه عن خمسين كيلو جراما، ومع ذلك حكم الحبشة أكثر من خمسين عاما من الحكم الديكتاتوري المطلق. كان يعتبر نفسه رئيس الكنيسة وأن الله هو الذي عينه في منصبه. لكنه لم يكن يعتمد في حكمه على الله وإنما على جهاز مخابرات مدرب في أوروبا وأمريكا، وعلى تأييد هذه الدول له، وقد استولى على الحكم عام 1916 حين دبر مؤامرة وأطاح بالإمبراطور السابق «بح ياسو».
كان من الصعب على رجل صغير الحجم أن يكون كبير الهيبة في بلاد أفريقية كالحبشة، يزهو فيها الرجال بقامتهم الفارعة وعضلاتهم القوية وملامحهم الجبلية، ودفع الكثير ليصبح شديد الهيبة ضآلة حجمه، وتقمص شخصية العظماء؛ يرفع رأسه نحو السماء وفي عينيه نظرة باردة للكون والله والناس. والبرود العاطفي صفة العظماء من الحكام، والعواطف في الرجل نقطة ضعف، فما بال الإمبراطور! ويمتد البرود إلى صوته أيضا، ولهجته في الكلام. لا يمكن لأحد أن يستشف درجة انفعاله، وهو يختلف تماما عن السادات في هذه الصفة؛ فالسادات شديد العصبية، لكن هيلاسلاسي يعتبر العصبية نوعا من كشف العواطف، والمفروض أن لا تكون عواطفه واضحة، وكلامه أيضا غير واضح، ولا أحد يعرف تماما ماذا يقول؛ فهو لا يقول شيئا، وإنما يحرك شفتيه فقط كشفتي الإله بلا صوت، وعلى رسوله أن يفهم الإشارة، ثم يبلغ الرسالة إلى الناس على شكل أوامر.
وكان رسوله يطلق عليه: «الوزير ناقل الأوامر».
وحين تدهورت الأمور وانتشر الفساد وعمت المجاعة لم يتصور عامة الشعب بأن الإله هو المسئول؛ فالمفروض أن الإله لا يخطئ، وإنما الخطأ يقع على ناقل الأوامر، وفي كل أزمة يصبح الوزير هو كبش الفداء، يضحي به الإمبراطور ليرضي الشعب، ويعين وزيرا آخر أو وزارة جديدة، وهو هنا لا يختلف عن السادات أو أي حاكم آخر.
وكان هيلاسلاسي يعين جميع الموظفين في الدولة ابتداء من الوزراء حتى مديري المدارس والفنادق وحانات الخمور والبارات، ويصدر قرار التعيين شفهيا بحركة شفتيه؛ فهو كالإله لا يمسك قلما ولا يكتب ولا يحب مثل السادات الجلوس على المكتب، وعلى الرسول أن يحول الأمر الشفهي إلى أمر مكتوب ومقدس.
ولا يصبح قرار التعيين نافذ المفعول إلا بعد حلف اليمين أمام الإمبراطور، وفي القصر قاعة خاصة لحلف اليمين يسمونها قاعة «الاستماع»، حيث يقف الموظف المعين منحنيا أمام الإمبراطور ويستمع إلى قرار تعيينه، ثم يستمع بعد ذلك إلى صوت الموظف أو الوزير يعلن الطاعة والولاء ويؤدي القسم أو حلف اليمين.
ولا يختلف حلف اليمين في الحبشة كثيرا عن حلف اليمين في بلادنا.
ومن قاعة الاستماع ينتقل الموظف إلى قاعة أخرى تسمى «غرفة الألقاب»، حيث تصدر المنح الإلهية بالألقاب والنياشين أو العكس، أي تسقط اللعنات الإلهية وتسحب الألقاب والنياشين.
وكان الوزراء يخافون من دخول «غرفة الألقاب» كما يخاف الأطفال دخول غرفة الفئران، ولم يكن لهم من وظيفة سوى إرضاء الإمبراطور ودراسة سيكلوجيته.
وكان إرضاء هيلاسلاسي يتركز في شيء واحد، إثبات الولاء له بحركات الجسم حين الوقوف أمامه، انحناءة الرأس مع انثناءة الركبة اليمنى، والتمتمة ببعض آيات الحمد، ثم التقهقر إلى الوراء حتى الباب الخارجي دون الاستدارة حتى لا يصبح ظهر الواحد منهم في وجه الإمبراطور.
كان الدخل القومي في الإمبراطورية يعتمد على الرشاوي أساسا، وكل خطوة داخل أي مكتب حكومي لها رشوة معروفة، والإمبراطور يعرف ذلك، ويدرك أن إلغاء نظام الرشوة يعرض الدولة للإفلاس.
ولم يكن في وسع الإمبراطور أن يفعل شيئا تجاه هذا الفساد؛ فهو جزء طبيعي من الحياة البشرية، وإلا كان وجود الشيطان عبثا، والله لم يخلق الشيطان عبثا، بل جعل له وظيفة وهي الإفساد.
رغم هذا الإيمان الشديد بالله إلا أن الإمبراطور كان يخشى دائما من حدوث مؤامرة ضده وهو غائب عن الحبشة، وكان كثير السفر والترحال في العالم الواسع، يعشق أوروبا وأمريكا، وأوروبا وأمريكا تعشقه، لكنه أقسم أمام الشعب أنه يعشق وطنه الحبشة ويدافع عنها ضد أي غزو من الخارج. وحين غزت إيطاليا الحبشة هرب إلى إنجلترا، ثم عاد بعد أن استطاع بعض الضباط البواسل أن يطردوا الإيطاليين، وأطاح هيلاسلاسي هؤلاء الضباط البواسل وسيطر على الحكم.
كان يعشق الرحلات، وفي كل رحلة يأخذ معه جواهره وتاجه خشية أن يسرق في غيابه، ويأخذ معه أيضا رجاله المشكوك فيهم ويترك الموثوق فيهم.
ولم يكن أحد يفهم هذا التناقض؛ فالمفروض أن يصطحب الحاكم هؤلاء الذين يثق فيهم، لكن هيلاسلاسي كان يفعل العكس، يأخذ معه المشكوك فيهم حتى لا يقوموا بمؤامرة ضده في غيابه، وبذلك حرم رجاله المخلصين من رحلاته الكثيرة الممتعة، واستمتع المتآمرون ضده بالسفر والنزهات العالمية.
لكن عدد المتآمرين ضد هيلاسلاسي كان يتزايد على الدوام، ولم يكن في إمكانه أن يأخذهم كلهم معه في رحلاته، وكان الفساد قد عم وانتشر السخط بين معظم طبقات الشعب: الفلاحين والعمال والتجار والطلبة، وامتد السخط أيضا ليشمل رجال الجيش والبوليس، بل الحرس الإمبراطوري ذاته.
وكان هناك رجل جسور اسمه «منجستو جيرمام». كان رئيس الحرس الإمبراطوري. وقد استطاع مع رئيس البوليس الإمبراطوري ورئيس جهاز الأمن بالقصر أن يشكلوا «المجلس الثوري» من أربعة وعشرين ضابطا.
وفي رحلة للإمبراطور إلى البرازيل في ديسمبر عام 1960 قام المجلس الثوري بقيادة منجستو بعزل الإمبراطور هيلاسلاسي، وشكلت حكومة جديدة يرأسها ابن هيلاسلاسي الأمير كاسا، وكان رئيس مجلس التاج وأعضاؤه من الوزراء وأصحاب الأراضي الأثرياء، وكانت هناك إشاعة بأن الإمبراطور كان دائم الشك في نسب هذا الابن إليه، وأن زوجته خانته مع رجل آخر وأنجبت «كاسا».
كاد الانقلاب ينجح لولا أن أسلاك التليفون بين أديس أبابا والخارج لم تقطع، واستطاع أعوان الإمبراطور الاتصال به تليفونيا في البرازيل، فعاد في طائرة، واستطاع أن يجمع حوله بعض رجال الحرس، وكان هناك صراع بين رجال الجيش ورجال الحرس، وذهب منجستو يخطب في الجامعة ضد الإمبراطور وطبقة الأثرياء الأرستقراطيين، لكن جموع الفلاحين كانت لا تزال تؤمن بالإله هيلاسلاسي وأعوانه، وتدافع عنه بالطوب والعصى ضد الشيطان. وانتصر هيلاسلاسي وأعوانه، وهربت الفرق الثائرة إلى الغابات، وانطلق الرصاص في أثرهم، وأقبلت الضباع والأسود الجائعة على صوت الرصاص وأكلت منهم ما أكلت، والثعالب أيضا أكلت، وبلغ عدد الذين أكلوا عشرة آلاف رجل، واعتقل هيلاسلاسي من لم تأكله الضباع، وبلغ عدد المعتقلين خمسة آلاف، شنق منهم هيلاسلاسي من شنق، وعلق رءوسهم على الأبواب. أما «منجستو» فقد تم إعدامه في الميدان العام.
وعاد هيلاسلاسي يحكم الحبشة بأمر الله، وأعلن أن الله نصره على أعدائه، وضاعف من عدد جهاز المخابرات كتدعيم لقوة الله، وضاعف لهم المكافآت والامتيازات، وتضاعف الفساد والرشاوي، وأصبحت الطائرات الإثيوبية تحلق في الجو ما بين باريس وأديس أبابا تحمل زجاجات الشمبانيا والكافيار للإمبراطور وأعوانه، واكتظت شوارع أديس أبابا بالشحاذين العراة، ودفعهم الجوع إلى الهجرة من القرى إلى المدينة بحثا عن الطعام أو مهنة في الحلال أو الحرام، بعضهم لم يجد أمامه إلا الشحاذة، والبعض الآخر الأذكى أصبح نشالا أو قوادا، والبنات الصغيرات يبعن أجسادهن نظير سد الرمق ، والمرأة العجوز تفتح دكانا لبيع الكوكولا والسجائر، وتخصص الغرف الداخلية للدعارة، وعلى كل ناصية شارع ترى دكاكين الدعارة ومن فوقها كتب: كوكولا، ومن تحتها مومس حبشية.
وبدأ الفلاحون يموتون من الجوع، ومواشيهم تموت من الجوع أيضا، ويدفن الفلاح إلى جوار حماره في حفرة واحدة، وامتدت المجاعة إلى الجنود أولاد الفلاحين، وبدأت جثث الجنود تظهر في بعض الشوارع، ولم يكن من حق الجندي في الحبشة أن يدفن حين يموت. كان هذا الحق مقصورا على الضباط فقط.
وفي عام 1973 شوهد الإمبراطور هيلاسلاسي وهو يلعب الجمباز في حديقة القصر ويقدم الكافيار لكلبه في صحن من الفضة، وكانت رائحة الجثث قد بدأت تزكم الأنوف، والسخط امتد ليشمل معظم الرجال والحرس الإمبراطوري والطلبة والعمال والتجار والقوادين والمومسات.
وكان في قصر الإمبراطور خادمة لها ابن ضابط في الجيش اسمه منجستو هايل مريام، وهجم رجال الجيش المتمردون بقيادة منجستو هايل مريام على مقر الحكومة ووضعوا الوزراء في السجون، وارتدى هيلاسلاسي الزي العسكري وحمل عصا المارشال وأعلن أنه مع الضباط المتمردين.
ولم يبق خارج السجون من أعوان الإمبراطور إلا خادمه وكلبه الأمين، وكف الإمبراطور عن لعب الجمباز في الحديقة؛ فقد اختفى الحراس من حول القصر، وأصبح البقر يدخل الحديقة ليأكل العشب.
كان العام هو 1974. وقد استفاد منجستو الجديد من تجربة منجستو القديم عام 1960، وقطع أسلاك التليفون داخل القصر، فلم يعد يسمع الإمبراطور رنين جرس التليفون، ولم يعد يفعل شيئا سوى ارتداء الزي العسكري كل صباح، والجلوس بجوار النافذة أو الباب، وقد يأخذ خادمه إلى الكنيسة حيث يصلي ويقرأ كلام الله.
حتى جاء يوم 11 سبتمبر 1974 حين سمع الإمبراطور أصوات المظاهرات في الشارع تطلب شنقه، ودخل إليه رجال الجيش، وبعد أداء التحية العسكرية قرءوا عليه قرار خلعه عن العرش، ثم أركبوه إحدى السيارات المصفحة، وتساءل الإمبراطور في هلع: إلى أين تأخذونني؟ وقالوا له: نأخذك إلى مكان أمين.
وكان المكان الأمين هو السجن بلغة الأحباش، وأخذ منهم السادات هذا الاصطلاح. وفي السجن عاش هيلاسلاسي اثني عشر شهرا ثم مات .
وقبض منجستو ورجاله على أعوان الإمبراطور، وبعضهم هرب خارج الحبشة، وبعضهم تنكر في زي الرهبان في الأديرة، وبعضهم فر إلى الجبال؛ ليعود من حين إلى حين إلى أديس أبابا، يتخفى في الليل ويطلق الرصاص على رجال الثورة.
وفي الليل نسمع سيارات الجيش وهي تجوب الشوارع في أديس أبابا تبحث عن أعوان هيلاسلاسي ورجال الثورة المضادة، وتدوي طلقات الرصاص في الليل. •••
بيتي نوافذه عريضة من الزجاج، أرى الجبال الخضراء وأنا راقدة في سريري. في الصباح الباكر أخرج إلى حمام السباحة في فندق الهيلتون على الهضبة العالية في مواجهة قصر هيلاسلاسي، مياه حمام السباحة ساخنة يتصاعد منها البخار، رذاذ المطر يتساقط فوق رأسي، أرى الشمس والقمر في السماء، ومدينة أديس أبابا لا تزال نائمة إلا بعض الشباب يتدربون على السلاح، صفوف من الفتيات والفتيان يؤدون التدريبات الساعة السادسة صباحا، دقات كعوبهم فوق الأسفلت وأنفاسهم منتظمة متصلة كالنشيد الصامت، وفي الميدان الكبير ترتفع الصور الثلاث: ماركس وإنجلز ولينين، في صدر كل منهم عدد من الرصاصات، بالأمس سمعت الطلقات وأنا نائمة، وفي الصباح عرفت أن بعض أعوان هيلاسلاسي أطلقوا الرصاص على الصور الثلاث في منتصف الليل.
لا زالت الصور معلقة على الأعمدة، تقاوم الرصاص وسيول المطر ولهيب الشمس، رجل ولد منذ مائتي عام نطق باللغة الألمانية على بعد أربعة آلاف كيلومتر وصوته لا يزال فوق هذه الهضبة التي تنطق باللغة الأمهرية في وسط أفريقيا.
مبنى الأمم المتحدة يواجه الميدان، ومكتبي في اللحظة الاقتصادية الدور الثالث حيث قسم المرأة الأفريقية، رئيس اللجنة له مساعد، والمساعد له سكرتيرة إثيوبية، وهو من شمال أوروبا، أبيض تشوبه حمرة كبشرة البرص، وهي سمراء كالكاكاو أو البن المحروق، شمال يحن إلى جنوب، وتسري الإشاعات في المبنى الضخم عن قصص العشق بين السكرتيرات والمديرين، تبدأ القصة عادة في رحلة إلى مؤتمر، وتنتهي في رحلة أخرى إلى مؤتمر آخر، والتخطيط لعقد المؤتمرات يبدأ مع بداية اللقاء في الربيع، ينعقد المؤتمر في أي مكان من العالم إلا موطن المدير؛ فهناك زوجته وأولاده، ورصيد في البنك بالرقم السري الخطير.
منذ تخرجت واشتغلت وبيني وبين المديرين عداء؛ مفهومهم للإدارة عجيب، وعلاقة الرئيس بالمرءوس كالسيد بالعبد، طاعة مطلقة للأوامر بغير مناقشة، والرؤساء في الحكومة المصرية فراعنة. لكنهم في الأمم المتحدة آلهة مقدسة، والمرءوس في الحكومة إذا تمرد وفصل فلن يخسر إلا الملاليم، لكن الخسارة في الأمم المتحدة بالآلاف والملايين؛ لهذا يسود الهدوء المكاتب، ويسيرون فوق الأرض بخطى خفيفة حذرة. لا يدخلون إلى حجرة الرئيس أو المدير إلا بعد استئذان، وإذا أذن لهم يطرقون الباب برقة بالغة، وإذا فتح الباب فلا يدخلون دفعة واحدة، وإنما على أجزاء، الرأس أولا تطل من الباب بأدب، ويتبعها الكتفان ثم الذراعان وبقية الجسم، والجزء الأخير الذي يدخل هو القدمان، تدلفان من الباب بهدوء شديد داخل حذاء لامع مصقول.
وفي حفلات الكوكتيل تراهم يدورون حول النقطة التي يقف فيها المدير، يلفون حوله من كل النواحي حتى تلتقي عيناه بعيونهم ويدرك وجودهم، فإذا بالشفاه تنفرج عن الابتسامة العريضة، ويبدو الواحد منهم منفرج الأسارير مستريح البال وكأنه وقع باسمه في سجل التشريفات أو في دفتر الحضور والانصراف.
وكان غيابي عن هذه الحفلات يسجل ضدي في التقارير السرية، وفي يوم سألني المدير لماذا لا أحضر الحفلات؛ فالحفلات في الأمم المتحدة جزء من العمل، واندهشت لكن الجميع أيدوا كلام المدير واعتبروا غيابي عن الحفلات نوعا من التقصير.
ولم يكن في مدينة أديس أبابا الكثير، مدينة تحاصرها الجبال، وقوات معادية من الشمال والجنوب، ولا شيء يبدد سكون النهار إلا رذاذ المطر أو انهمار السيول أو صوت العربات الكبيرة تحمل الموظفين من أديس أبابا إلى القرى للاشتراك في جمع المحاصيل، وتعود السيارات محملة بالفلاحين ليجندوا في الحرب، أو يعملوا مع فرق الشعب المسلح لحماية المدينة أو تنظيم طوابير السيارات أمام محطات البنزين كطوابير الناس أمام المخابز في بلادنا ودجاج الجمعيات التعاونية.
وفي الليل لا يقطع الصمت إلا طلقات الرصاص أو دقات الطبول، تذكرني بدقات الطبول في قريتي كفر طحلة، الطريقة نفسها واللحن نفسه، وإيقاع الأقدام الراقصة فوق الأرض الحبشية هو نفسه الإيقاع في وادي النيل، يصل الصوت إلى أذني وأنا نائمة في سريري، ويخيل إلي أنني ولدت هنا منذ زمان بعيد، وأمام بيتي مبنى أبيض صغير له فناء كبير، يتجمع فيه الرجال والنساء والأطفال، يدقون الطبول ويرقصون طول الليل ويغنون وفي الفجر يختفون، إلا إذا كان هناك مسيرة شعبية أو مهرجان، فإذا بالشوارع كلها تمتلئ بالبشر آلاف وآلاف يحملون الرايات والأعلام، ويهتفون باللغة الأمهرية: تحيا العدالة والمساواة، تحيا الحرية وكرامة الإنسان، تسقط أمريكا وإسرائيل، بعض الشباب يحملون لافتة كبيرة كتب عليها: نؤيد القضية الفلسطينية.
وجوه الشباب الحبشي كوجوه المصريين، سمراء دقيقة الملامح، وصوتهم وهم يهتفون بالأمهرية كالأصوات العربية، وحين تلتقط أذني كلمة «فلسطين» أحس الدقات تحت ضلوعي، ودموع أبتلعها في الصدر، والجرح عميق، الحاكم في بلادنا يعادي الواقفين معنا على طول الخط، ويصادق الطاعنين لنا في الصدر وفي الظهر.
أصوات الفتيات الحبشيات كالغناء وهن يهتفن في نفس واحد: فلسطين، يتقدمن على دقات الطبول، والفتيان أيضا يهتفون، تمسك الفتاة بيد الفتى ويتقدمان، الصفوف وراء الصفوف رجال ونساء وأطفال، لا حاجز بينهم ولا حجاب، والفتاة ترفع رأسها إلى أعلى في شموخ.
تذكرت الأمس القريب، حين كنت في إجازة بالقاهرة لمدة أسبوع ونظمت الحكومة مظاهرة من الموظفين تأييدا لزيارة الرئيس لإسرائيل، وصدرت الأوامر من الوزارات بخروج المظاهرة في يومين منفصلين: يوم للنساء ويوم للرجال، ورأيت الموظفات في اليوم المخصص لهن يسرن في الشوارع بكعوب عالية ورءوس منخفضة وعيون مطرقة إلى الأرض وحجاب أسود أو أبيض يغطي بعض الرءوس، وفي يوم الرجال رأيت الموظفين يسيرون في صف منتظم، أيديهم خلف ظهورهم كالمقيدين بالسلاسل، أكتافهم متلاصقة وظهورهم محنية، متشابهون كأنما تسكهم الحكومة كقطع النقود المسكوكة، وكالقرش الممسوح أصبحت ملامحهم باهتة شبه ممسوحة، ومن فوق رءوسهم تطل صورة السادات في يده العصا والصولجان، وعلى أسنانه يضغط الكلام ويمضغه كاللبان.
ميدان الثورة امتلأ بآلاف الأحباش من كل قرية ومدينة، حتى الرجال من القبائل الجبلية جاءوا على ظهور الخيول الجامحة، تطير في الجو كالطيور الجارحة، وشعورهم الطويلة الكثيفة تطير خلف ظهورهم كفرسان العصور القديمة، ملابسهم ملونة والخيول أيضا مزركشة، عيونهم حادة كالصقور، وحركتهم السريعة الخاطفة كالسهم ينطلق أو طلقة رصاص بغير صوت.
بيني وبين الملامح الجبلية قرابة دم، كأنما ولدت فوق جبل، وفي كل بلد جبلي أشعر بالحنين إلى جذوري إلى جدودي البدائيين، والطبيعة والهواء ومياه المطر تجري بحرية تشق السدود، رجل إثيوبي عجوز يستند إلى العكاكيز يتقدم وسط الفتيان والفتيات، يرفع ذراعه في الهواء ويهتف: فلسطين. يسقط العكاز من تحت إبطه، ويقع على الأرض، يرفعه الشباب إلى فوق، يضعون العكاز تحت الإبط، وينطلق الجميع في المسيرة.
منذ الطفولة وأنا أحب المسيرات الشعبية، الأصوات العالية تهتف ضد الإنجليز والملك، وفي المدرسة الابتدائية والثانوية، وفي كلية الطب بالجامعة، وفي كل مظاهرة أحمل العلم وأخرج، ومع الملايين أهتف: الحرية، الاستقلال، العدالة والمساواة.
أبتلع اللعاب المر، الحرية في بلادي غائبة، والعدل أيضا غائب في الوطن الأم وفي الأمم المتحدة. •••
في الأمم المتحدة ترتفع مكانة الرجال البيض من العالم الأول، يليهم في المكانة النساء البيض من أوروبا وأمريكا، ثم يأتي بعد ذلك الرجال الملونون من آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وفي القاع ترقد النساء من العالم الثالث.
نظام هرمي منذ عصور الفراعنة، والعصر اليوناني العبودي، حين فرض على الإنسان قوانين الفلك والنجوم؛ فالعبد يدور في فلك السيد بمثل ما تدور الأرض في فلك الشمس، والمحكوم يدور في فلك الحاكم، والابن يدور في فلك الأب، والمرأة تدور في فلك الرجل، والدولة تدور في فلك الإمبراطورية الكبيرة.
والولايات المتحدة في الأمم المتحدة إمبراطورية كبيرة يدور في فلكها دول صغيرة، وحين تثور بعض الدول على العبودية تهدد الولايات المتحدة بالانسحاب من الأمم المتحدة، ومن منظمة العمل الدولية هددت أمريكا بالانسحاب ذلك العام؛ لأن منظمة العمل الدولية بدأت تراجع قوانين العمل العبودية، وأمام التهديدات بات الموظفون بالمنظمة مؤرقين مهددين بالفصل؛ فالولايات المتحدة تدفع للمنظمة حصة كبيرة، وجزء منها رواتب الموظفين، واعتذرت منظمة العمل الدولية عما بدر من بعض الدول الصغيرة، أو من خبراء العالم الثالث ، وباركت القوانين القديمة الموروثة، وعلى رأسها القانون الفيزيائي العتيد من حيث حركة الأفلاك والأجرام، ودوران الجرم الصغير في فلك الجرم الكبير، كما يدور الإلكترون داخل الذرة حول النواة، ويدور الإنسان حول الإله.
ويدور منشور في الأمم المتحدة يؤكد هذا القانون، وهو ليس مجرد قانون، ولكنه نظام ودين، والأمم المتحدة تؤمن بالدين، وتؤمن بوجود الإله، وإذا اختلفت أسماء الإله من بلد إلى بلد إلا أنه موجود، والولايات المتحدة على رأس الدول في الأمم المتحدة التي تؤكد وجود الإله، وتنفق الأموال الطائلة حتى لا يغيب هذا الوجود.
كانت منشورات الأمم المتحدة تلصق على أبواب المكاتب بالدبابيس، وكل يوم منشور جديد، وجاءنا منشور يحذر الخبراء من نزول الشوارع في أديس أبابا وأن نلصق على بيوتنا ختم الأمم المتحدة.
ولم ألصق على بيتي الختم، وأنزل لأمشي في الشوارع، في كل الشوارع كنت أمشي، وفي الأسواق والأزقة، قامتي طويلة نحيفة كقامة الأحباش، وبشرتي سمراء بلون بشرتهم، لا أشعر بينهم بالغربة، والطفل الشحاذ على ناصية الشارع ملامحه تشبه ملامح طفلي، والفتاة الصغيرة الواقفة أمام الكشك تشبه ابنتي الصغيرة.
أطفال في سن العاشرة يهربون من الآباء والأمهات في القرى، يهربون من الجوع، بقايا الجوع المزمن القديم منذ هيلاسلاسي، والجوع في الحبشة أشد من الجوع في الهند، يقتل في الإنسان الإحساس بالابن أو الابنة، يسحق في قلب الأم الأمومة، ويقتل في الأب الأبوة، ويهرب الأطفال في عتمة الليل من تعذيب الأب والأم، يصبح الطفل الذكر شحاذا أو ماسح أحذية، وتصبح الطفلة البنت مومسا.
وفي قبائل الحبشة تختلف القيم، قد تقتل البنت إذا مارست البغاء، وفي قبائل أخرى يقدسون البغي، وتحصل المومسات الثريات على سلطة سياسية.
في قبيلة جوجوم «أمهارا» تحتل المرأة مكانة اجتماعية عالية، وتملك الأرض وترث كالرجل تماما، وتحتفظ المرأة بعد الزواج باسمها ولا تحمل اسم زوجها، وأملاك الأسرة تقسم على الزوجين بالتساوي لا فرق بين الزوج والزوجة، ولا يجري للبنات في هذه القبائل عملية الختان أو عملية خلع الأظافر، بعكس قبيلة «جوراجي»، وفيها لا تملك المرأة ولا ترث ، والبنت لا بد أن تتزوج قبل أن يدركها الحيض، وإذا أدركها الحيض قبل أن تتزوج يعلقونها من شعرها في شجرة، وقبل الزواج بثلاثة شهور يمسكون البنت الصغيرة وهي مستغرقة في النوم، أربع نساء كل واحدة تمسك يدا أو قدما، وامرأة خامسة تمسك الرأس، يضعون أصابع يديها وقدميها في وعاء به زبدة ثم يخلعون الأظافر العشرين من الجذور، وهي تصرخ وتنزف ومن حولها يرقص الأهل والأقارب، ويأتي الجيران بالهدايا كل يوم حتى تشفى البنت من جروحها بعد أسبوع أو أكثر، قبل الزواج بثلاثة أيام تشرب البنت شربة مثل زيت الخروع لتنظيف الأمعاء، ثم يفرض عليها الصيام عن الأكل أربعة أيام، في يوم الزفاف تغطى البنت تماما من الرأس إلى القدم ثم تحمل على فرس أو حمار إلى بيت العريس، حيث تجلس وحدها في غرفة ويطلقون عليها اسما جديدا، وفي منتصف الليل تماما يدخل عليها العريس ويغتصبها بعنف، على باب الغرفة يقف أهل البنت ينتظرون في قلق علامة العذرية، قطرات الدم الأحمر فوق منديل العريس، وتدق الطبول والمزامير، لكن إذا خرج المنديل نظيفا أبيض كان الله في عون البنت، قد تقتل وقد تعذب حتى الموت، كثير من البنات يهربن قبل الزواج إلى أديس أبابا، وكثيرات يهربن ليلة الزفاف قبل دخول العريس، وإذا اختفت الزوجة يقولون إن الضبع أخذها وأخفاها في ظلمة الليل، ولا بد أن يدفع أهل الزوجة فدية على شكل عجل صغير، يقدم للضبع من أجل أن يرد الزوجة إليهم، وحين يعثرون على البنت الهاربة في الجبال يجدونها فاقدة الوعي، لا تنطق ولا تسمع ولا تتعرف على أحد، يأخذونها إلى بيت شيخ القبيلة لتعيش كشحاذة حتى يأذنوا لها بالعودة إلى بيت أهلها، وتحظى بمعاملة أفضل من البنات، يترددون في ضربها أو تعذيبها خشية عقاب القوى فوق الطبيعة.
أما البنات الأخريات والزوجات اللائي يهربن فإنهن يعشن حياة العبيد، لا ترفع الزوجة عينيها إلى وجه زوجها، وتهرب منه كلما رأته، ولا تناديه باسمه أبدا، وهو يمكن أن يطلقها بلا سبب، أو لأنها طلبت جلبابا جديدا، أو لأنها لم تنجب، أو لأنها أنجبت بنتا فقط ولم تنجب ذكورا، أو لأنها أكلت قطعة لحم.
تعيش الزوجة كالعبيد في هذه القبائل، ولا يحترمها أحد إلا إذا أصابها الصرع أو الجنون، ويقولون حينئذ: إن الروح ركبتها. وفي شهر العسل تركب الأرواح الزوجات بنسبة 20٪ حسب دراسات جامعة أديس أبابا، أي إنه من كل خمس زوجات تركب الروح زوجة واحدة، ويسمونها «سودو»، وتحظى برعاية طيبة واحترام لخوفهم منها، واعتقادهم أن هناك صلة ما بينها وبين القوى الخارقة فوق الطبيعة، وأهلها في هذه الحالة يصيبهم أيضا شيء من الاحترام، وتصبح الفرص أمام ابنتهم أفضل؛ فهي تتلقى الهدايا والقرابين اتقاء لشرها وشر الأرواح التي ركبتها، وتسمى هذه البنت أو المرأة «ميبت»، ويفد إليها المرضى طلبا للبركة والشفاء، ولا تكلف بأي أعمال في البيت، تجلس وفي يدها عصا، وإذا أساء إليها أحد تضربه.
وتتجمع هؤلاء البنات والنساء اللائي ركبتهن الأرواح في بيت شيخ القبيلة، ويتولى بنفسه جمع الهدايا والقرابين التي تقدم إليهن، وهي ثروة طائلة تزيد من ثراء مشايخ القبائل ونفوذهم السياسي.
هذه هي حياة المرأة في قبيلة «جوراجي» في الحبشة، وهي قبيلة كبيرة هرب منها إلى أديس أبابا كثير من البنات والنساء، بعضهن يعشن في الفقر والشحاذة ومهنة البغاء، والبعض منهن قد يحظى بالتعليم. في جامعة أديس أبابا قابلت أستاذة من قبيلة «جوارجي». لكنها أنكرت أنها جاءت من هذه القبيلة، وكثيرات غيرها ينكرن مثلها، لكن الرجال من هذه القبيلة لا ينكرون، وأستاذ إثيوبي بالجامعة قال لي: أنا من قبيلة «جوراجي»، وأعطاني دراسة طويلة قام بها عن تعذيب البنات في قبيلته، ودراسة أخرى عن قبيلة «جالا» وهي من المسلمين، وفيها يجرى للبنات عمليات الختان، وهي استئصال البظر من جسم البنت قبل أن يدركها الحيض، وهي عملية شائعة في بلاد أفريقية متعددة ومنها السودان ومصر.
وفي أديس أبابا أنواع مختلفة من المشردين الأطفال ويطلق عليهم صبية الشارع، أراهم في الشوارع واقفين عند إشارات المرور، وما إن تقف سيارة حتى يهجموا عليها وفي أيديهم الفوط الصفراء يلمعون زجاج النوافذ ويشحذون، يمضغون القات بين أسنانهم، ويشمون البنزين كما يشرب خبراء الأمم المتحدة الويسكي والنبيذ، دوريات البوليس تلمهم مع القمامة حين يأتي زائر كبير، ويودعون في السجون، يموتون بالآلاف في السجون لقلة الطعام، ثم يفرج عنهم حين لا تجد إدارة السجن لهم طعاما.
ومصير البنت في الشارع مثل الولد، إلا إذا حظيت بمؤهلات للدعارة، والبنت قد تمارس البغاء وهي طفلة في العاشرة، والمومسات عدة أنواع، وكلهن يدفعن الضرائب ولهن رخص طبية تضمن خلوهن من الأمراض التناسلية، وتجدد الرخص الطبية مرة كل ستة شهور، ومعظم المومسات من النوع الفقير أو مومس الشارع، وهن البنات الصغيرات، يعشن في الشارع، وفي الليل ينمن في أفنية الكنائس أو أقسام البوليس.
وهناك مومس الكشك أو «الكيوسك»، وتسكن في كوخ صغير من القش أو الصفيح أو الكشك الخشبي، تعلق على الكشك لافتة الكوكولا أو كازوزة، وفي الغرفة الخلفية تمارس البغاء.
وهناك مومسات يملكن دكاكين أكبر كالبارات والحانات أو المقاهي، ويكسبن من التجارة والبغاء معا، ولكل مجموعة منهن قواد أو قوادة تملك الحانة وتعطى لكل مومس أجرا شهريا ثابتا.
وهناك المومسات الراقيات اللائي يعملن في الفنادق الكبيرة، أو الملاهي الليلية الفاخرة، ويأخذها الرجل إلى بيته ثم يعيدها إلى صاحب الملهى. وبين المومسات نساء ثريات، ولهن أحياء وأملاك ونفوذ، ترفع الواحدة منهن رأسها في كبرياء وتقول: المسيح قال إنه سيضع نارا في فم من يأخذ ربحا عن ماله ولكنه سيسامح المومس. ومعظم المومسات متدينات، والناجحات منهن لا يتزوجن، لكن المومس الفاشلة هي التي تتزوج لأنها فقيرة. وتجهض المومس الفقيرة نفسها بأن تشرب الجازولين أو الجاز، لكن المومس الثرية لا تجهض نفسها، وترغب في الطفل ليرث أموالها.
معظم المومسات بنات هاربات من الريف، يعملن خادمات أول الأمر، ثم يكتشفن أن البغاء يضمن لهن حياة أكثر كرامة، أو قد يتعرضن للاغتصاب من رب الأسرة، وتطردهن ربة الأسرة، ولا يجدن وسيلة للعيش إلا البغاء.
وفي قبيلة «جوراجي» ترجم البغي بالحجارة حتى تموت، وفي قبيلة «جالا » وقبيلة «تيجر » تعاقب البغي بالحبس أو الضرب، وفي قبيلة «أمهارا» لا تمارس المرأة البغاء إلا نادرا، وإذا مارسته وكسبت أموالا كثيرة أصبح لها نفوذ مثل رجال القبيلة.
وفي قبيلة «بورانا» تحظى المرأة مثل الرجل بحرية تعدد العلاقات الزوجية، ولا تعرف قبيلة «بورانا» البغاء؛ لأن الرجل لا يدفع للمرأة، والزوجة لا يستعبدها الرجل.
الفصل العاشر
جزيرة العبيد على الساحل الغربي
كان عملي بالأمم المتحدة يقتضي السفر الدائم، مؤتمرات دولية واجتماعات إقليمية ومشروعات للتنمية في بلاد العالم الثالث، وعلى رأسها البلاد الأفريقية، وفي كل رحلة من الرحلات أحلق فوق سماء مصر وأنا متجهة إلى أديس أبابا إلى الشمال أو الشرق أو الغرب أو الجنوب، واكتشفت أن الانتقال من بلد أفريقي إلى بلد أفريقي آخر لا بد وأن يمر بإحدى العواصم الأوروبية، ولكي أصل من أديس أبابا إلى السنغال أو النيجر وساحل العاج لا بد أن أطير شمالا إلى القاهرة، ثم أجتاز البحر الأبيض المتوسط إلى باريس، ومن باريس أركب الطائرة إلى داكار.
ولأول مرة أدرك أن بلادنا الأفريقية لم تستقل بعد، وأن هناك حبلا سريا ما زال يربط بين أفريقيا والاستعمار.
أنتقل من الطائرة الأفريقية فوق الأرض الأفريقية لأركب الطائرة الفرنسية أو الإنجليزية فوق أرض أوروبا التي تنقلني إلى الطائرة الأفريقية فوق الأرض الأفريقية مرة أخرى.
كأنما أدور حول العالم وحول نفسي لأعود إلى النقطة ذاتها التي بدأت منها أو إلى نقطة قريبة منها.
وأشعر بالمهانة؛ لا تزال بلادنا الأفريقية عاجزة عن الاتصال بعضها بالبعض دون وسيط من البلاد الاستعمارية.
وتزداد المهانة حين أرى المضيفة الأفريقية السوداء تنحني باحترام لكل من ارتدى بشرة بيضاء ورطن بلغة أجنبية، وعلى وجهها ابتسامة، وأنا أناديها فلا تسمعني وكأنها صماء.
لكن الإحساس بالمهانة يتبدد وأنا محلقة فوق السحاب، فوق الأرض والجبال، فوق الجغرافيا والتاريخ، وفوق حدود البلاد التي صنعها الاستعمار.
وحين تدخل الطائرة إلى سماء مصر أشعر بالسعادة، وأدرك أن الاستعمار لا يخلو من فائدة؛ فأنا أمر بالقاهرة في كل رحلة داخل أفريقيا طالما أن أفريقيا لا تسافر إلى أفريقيا إلا بعد اجتياز البحر الأبيض المتوسط والهبوط على أرض أوروبية.
أحملق من الجو على أرض الوطن، تحت ضلوعي دقات قلب محسوسة، وعينان تخترقان السحاب، تبحثان عن الأرض الصلبة في مساحة هائلة من الهيولة الذائبة في الكون، وحين ترسو عيناي على الأرض السوداء تشتد تحت ضلوعي الخفقات، وفي الظلمة السوداء تتعلق عيناي بضوء خافت، هذا الضوء هو مصباحي بجوار سريري ورف الكتب، وأوراقي، عينا طفلي من فوق الوسادة الصغيرة تتسعان بالدهشة وتتعلقان بالطائرة.
لحظة العناق تنقطع فجأة، ولحظة الفراق تمتد إلى الأبد، وفي شوارع القاهرة أمشي كالغريبة. لا زالت صورة السادات معلقة فوق كل جدار، تحتل المساحة بين السماء والأرض، ومن حولها الشجر أصابه الشحوب، ونهر النيل يقاوم الامتداد إلى تل أبيب، ووجوه الناس شاحبة كالأرض، وأصواتهم مخنوقة كالعبيد.
حملت حقيبتي وخرجت من بيتي الصغير في الجيزة دون أن أغسل وجهي، شقتي في الدور الخامس، ولم تعد مواسير المياه تحمل الماء، ركبت سيارة الليموزين متجهة إلى المطار، اجتزنا كوبري الجيزة، وفاحت رائحة الجلود الميتة قرب المدافن حيث المدينة الجديدة، يسمونها مدينة النوتي، ومليونان من البشر يعيشون فيها وينامون في القبور.
سيارة الليموزين سوداء أنيقة من النوع المرسيدس، شركات السياحة الجديدة تشتغل بكفاءة عالية لخدمة السياح الأجانب، السائق المصري يرتدي قبعة ويتحدث في جهاز لا سلكي، أخذ مني ضعف الأجر بقشيشا ورمقني بنظرة ازدراء حين نطقت بالعربية.
على باب المطار كان الزحام شديدا، أحد حراس الأبواب يسب امرأة فلاحة تجر ثلاثة أطفال، يلقي بجواز سفرها الأخضر على الأرض ويبصق، النسر ذو الجناحين تغطيه البصقة، مددت يدي بجواز السفر الأزرق وتمتمت ببعض كلمات إنجليزية، انحنى مبتسما وأفسح لي الطريق.
جلست في مطار القاهرة أحملق في الفراغ وفي جوفي مرارة، أصبحت أتكلم الإنجليزية في بلدي ليفسح لي الطريق وأنال الاحترام، أشعر بالغربة في وطني، وخارج الوطن أيضا أشعر بالغربة، لا زلنا نعيش عصر العبيد.
دوى في أذني صوت حاد كالصرخة أو زغرودة طويلة ممدودة، فتاة مصرية ترتدي فستان الزفاف الأبيض ، تتعثر في ذيل فستانها الطويل، وعلى جبهتها حبات عرق، تسير نحو الطائرة السعودية في وجل وفي جيبها صورة عريس جاءتها بالبريد، وشيك على البنك في جيب أبيها، من الطائرة نفسها يهبط جثمان فلاح مصري داخل صندوق خشبي، وفي جيبه الداخلي صورة أمه ورزمة دنانير، الزغاريد الحادة الممطوطة تختلط بأصوات النواح والعويل، وعلى أرض المطار يرقد الفلاحون المصريون صفوفا، تحت الرأس قفة أو حقيبة مربوطة بالحبال، ومن فوقها الاسم والعنوان بحروف عربية متعرجة.
لأول مرة في تاريخ مصر يهاجر الفلاح بحثا عن لقمة العيش، سنوات السادات جلبت للوطن الأجانب والإسرائيليين وطردت الوطنيين، حتى الفلاحون تركوا الأرض في القرى لتبور، وشركات أجنبية حولت الأرض الزراعية إلى مكاتب بالأسمنت المسلح، والموز الإسرائيلي طرد الموز المصري من السوق، والشامبو الأمريكي اكتسح واختفى الصابون النابلسي، وغرق الناس في العرق يجرون بغير استحمام وراء الرغيف.
المقاعد في مطار القاهرة أصبحت من البلاستيك وطليت بلون برتقالي، عمال النظافة في المطار يرتدون بدلا أجنبية، يكنسون الأرض وعلى ظهورهم علقت حروف إنجليزية.
خيل إلي أنني في مطار آخر غير القاهرة، وأن هؤلاء العاملات والعمال ليسوا مصريين وإنما إنجليز أو أمريكيون من ذوي البشرة السمراء، ربما استوردت حكومة السادات رجالا ونساء لعملية كنس الأرض، ولم أكن رأيت من قبل رجلا إنجليزيا أو أمريكيا يأتي ليكنس الأرض في بلد من بلادنا أو ما يسمونها البلاد المتخلفة أو العالم الثالث ... العكس هو الذي كنت أراه، وهو أن يذهب شبابنا لكنس شوارع العالم الأول.
المفروض أن يكنس كل بلد أرضه سواء كان في العالم الأول أو الثالث، والمفروض أن ينظف كل إنسان نفسه وبيته سواء كان حاكما أو محكوما، رجلا أو امرأة، أبيض أو أسود، فليس هناك امتهان للإنسان أكثر من أن يغسل الملابس الداخلية لإنسان آخر وإن كان هذا الإنسان الآخر هو الملك أو الإمبراطور.
وأخذت أتأمل الحروف الإنجليزية فوق ظهور الكناسين في المطار بدهشة، وازدادت دهشتي حين علمت من أحدهم أنه ليس إنجليزيا ولا أمريكيا وإنما مصري صعيدي استأجرته شركة إنجليزية أصبحت هي المتولية تنظيف مطار القاهرة.
ويمكن لعقلي أن يتصور أن الحكومة قد تستعين بالخبرة الأجنبية في مجال علمي عويص أو في حل مشكلة تكنولوجية مستعصية، ولكن أن تستعين بشركة إنجليزية لكنس أرض مطارنا فلم يخطر ببالي أو خيالي.
ولكن هذا هو ما أوصلنا إليه حكم السادات، وبعد أن كنا بصدد التصنيع الثقيل أصبحنا نعجز عن كنس مطارنا بأنفسنا، أو أننا نكنسه بأيدينا تحت إدارة وإشراف إنجليزي، وكأنما نعلن على الملأ أننا لا نملك إلا سواعدنا، ونحتاج دائما إلى عقل آخر غير عقلنا كي يشغلنا ويديرنا.
وتذكرت فقرة قرأتها في إحدى الصحف في نوفمبر 1977 بعد زيارة السادات لإسرائيل، وهي لمناحم بيجين قال فيها: إن العلاقات الطيبة التي يمكن أن تنشأ بين مصر وإسرائيل سوف تساعد على أن يستفيد كل بلد بإمكانيات البلد الآخر، وإسرائيل فيها العقل، ومصر فيها الأيدي العاملة، وبتعاون الاثنين معا: العقل الإسرائيلي والسواعد المصرية، سوف يزدهر الكون.
ولا بد أن بيجين كان يعني بالكون الإسرائيلي!
والغريب أنني رأيت المنظر نفسه في مطار جدة، ورأيت العمال السعوديين يكنسون مطار جدة وقد علق الواحد منهم على ظهره لافتة حروفها إنجليزية أو أمريكية.
والأغرب من هذا أنني لم أر هذه اللافتة على ظهور الكناسين في مطار دار السلام أو عدن أو داكار أو نيودلهي أو كولومبوا أو حتى زنجبار جزيرة العبيد ... •••
الطائرة الفرنسية تنقلني من باريس إلى داكار، أحملق من الجو على مضيق جبل طارق، المضيفة الفرنسية الشقراء تضع أمامي صينية الأكل وزجاجة النبيذ، ودفترا بأنواع الموسيقى، وسماعات صغيرة أضعها في أذني وأحرك بطرف أصابعي «زرا» مثبتا في المقعد، وأسمع بيتهوفن أو شوبان أو موزار، أحرك طرف أصبعي قليلا فوق «الزر» فتتغير القناة، وأسمع موسيقى الجاز، اثنتا عشرة قناة مختلفة تنقل إلي وأنا في الجو اثنا عشر نوعا من الموسيقى، ابتداء من السيمفونيات الكلاسيكية إلى رقصة الكونجو في أفريقيا.
على الشاشة أمامي يعرض فيلم أمريكي «الحب والجريمة»؛ طلقات الرصاص والخيول تقفز فوق جبال واغتصاب جنسي لفتاة زنجية.
أنام ثم أصحو على صوت المضيفة يعلن بالفرنسية أننا نهبط في داكار، شمس حارقة، وتراب ورائحة العرق، وأجساد راقدة على الأرض، حملتني سيارة الأمم المتحدة إلى الفندق الضخم المطل على البحر، وحول أطباق اللحم المشوي وكئوس النبيذ المثلج جلست وسط خبراء الأمم المتحدة وفي جيب كل خبير مشروع جديد للتنمية.
منذ عملت بالأمم المتحدة وأنا أشهد هؤلاء الخبراء الدوليين. لم أكن أعرفهم على حقيقتهم، وكانت كلمة «خبير» حين ترن في أذني تصيبني بالرهبة.
كنت لا أزال أعمل بالحكومة، وما إن يأتي أحد من هؤلاء الخبراء لمقابلة الوزير حتى ترتعد فرائص الوزارة كلها، وتنتقل إلي الرعدة بالعدوى، وأجلس أمام «الخبير الدولي» منكمشة في مقعدي مرهفة الأذنين، أخشى أن تفوتني كلمة أو درة من تلك الدرر التي يمكن أن تتساقط من فمه. وكنت أتهم نفسي بالغباء حين لا أفهم شيئا مما يقوله الخبير الدولي، أو لا أعرف الصلة بين ما يقوله وبين مشكلة الجوع في مصر أو الهند، والتي تخصص فيها وهو يعيش في نيويورك أو باريس ويتغذى غذاء كاملا، وحين يزور مصر أو الهند ينزل في فندق هيلتون أو مينا هاوس. إلى أن أتاح الله لي الفرصة الكاملة لمعرفة هؤلاء الخبراء العالميين في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم الدولية والتي فيها يمرحون ويسرحون ويسيحون بالعالم الثالث، وكل همهم هو أن يحلوا لنا نحن الفقراء مشكلة الجوع، وفي كل مؤتمر أحضره أندهش لهذا الكم الهائل من حفلات العشاء والكوكتيل، وهذا الحماس النادر لمشكلة الجوع من فوق الأطباق المملوءة باللحم والدجاج.
لم أكن أحضر الحفلات، ولا أتزين أو أرتدي الملابس الأنيقة كالخبيرات الدوليات، وهيئتي كانت تتخذ دائما شكل امرأة من فقراء العالم الثالث، فإذا بخبراء الأمم المتحدة يندهشون ويعتبرون وجودي بينهم كالشيء النشاز.
لكن حديثهم يفيض حبا للفقر والفقراء، ولا يكفون عن الحديث عن الجوع في اجتماعاتهم وحفلاتهم وأوراقهم وبحوثهم، وما إن يرون جائعا أو فقيرا حتى يتأففوا.
وكنت أجلس بين هؤلاء الخبراء أتأملهم وأسمعهم كموظفي الحكومة، لهم شكل واحد ولهم طريقة واحدة في النطق، وفي حركة الشفاه والعينين واليدين، بل إن شكل حقائبهم واحد ونوعها واحد (من السامسونايت) والأوراق داخلها أيضا شكلها واحد، وتقاريرهم صيغتها واحدة.
وكنت أقول: إن موظفي الحكومة لهم عذرهم؛ فالحكومة تسك الموظفين كما تسك النقود، أما الخبراء الدوليون فمن الذي يسكهم ليصبح الواحد منهم نسخة من الآخر؟!
في فندق داكار الفخم المطل على المحيط الأطلسي جلست وسط هؤلاء الخبراء الدوليين، عرض أحدهم مشروعا جديدا للتنمية في السنغال، ميزانية المشروع 126 ألف دولار، قسمت كالآتي:
مرحلة أولى: العام الأول
41 ألف دولار، أجر الخبير في السنة.
20 ألف دولار، أجر مساعدة الخبير في السنة.
5 آلاف دولار، لشراء سيارة للخبير.
15 ألف دولار، أجر لسائق الخبير في السنة.
5 آلاف دولار، مصاريف طبع التقارير.
10 آلاف دولار، شراء أجهزة تكنولوجية حديثة.
مرحلة ثانية: العام الثاني
30 ألف دولار، مصاريف عقد مؤتمر في نيويورك لمتابعة المشروع.
المجموع
126 ألف دولار أمريكي.
أخرجت من جيبي تقريرا من تقارير الأمم المتحدة عن النتائج الخمس الأساسية لمشروعات التنمية في العالم الثالث، وضعت التقرير أمامهم، يتلخص التقرير في الآتي:
اتضح من الدراسات التي وردت إلى الأمم المتحدة عن مشروعات التنمية في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية خلال عقد التنمية أن هذه المشروعات باءت كلها بالفشل، وأن نتائجها كانت عكسية كالآتي: (1)
ازدياد الهوة بين بلاد العالم الأول وبلاد العالم الثالث. (2)
ازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء في البلد الواحد. (3)
ارتفاع المستوى الاقتصادي لخبراء الأمم المتحدة. (4)
انخفاض الإنتاج الزراعي والصناعي والثقافي في بلاد العالم الثالث. (5)
تضاعف أرباح مصانع التكنولوجيا في العالم الأول.
تركوا كئوس النبيذ، ووضعوا النظارات فوق عيونهم، يتشككون في صحة التقرير، ويتساءلون: ما هو مصدر هذه المعلومات؟
والمصدر هو الأمم المتحدة ذاتها. يرتفع الحاجب فوق العين باندهاش، يركبون العدسات مرة أخرى فوق العين، يتأكدون أن المصدر هو الأمم المتحدة، والختم ليس مزورا والتوقيع صحيح.
يمسكون كئوس النبيذ مرة أخرى، ويرفعون عيونهم نحو السماء كأنما في انتظار الوحي أو الإلهام، يرشفون على مهل ثم يعترفون بصوت حزين أن مشروعات التنمية فشلت فعلا، ويتساءلون عن السبب.
وفجأة يهب أحدهم واقفا، عيناه تلمعان بالحماس والنبيذ معا ويصيح: الانفجار السكاني! ويردد الجميع بصوت منتش: نعم، الانفجار السكاني!
وبصوت هادئ ورصين يعتلي أحدهم المنصة ويقول: منذ انعقاد أول مؤتمر عالمي للسكان تحت إشراف الأمم المتحدة في بوخارست عام 1974 لم ينخفض معدل نمو سكان العالم إلا 0,3٪ فقط، من 2٪ سنويا إلى 1,7٪ سنويا.
يتنهد الجميع وترتخي عضلاتهم تماما.
ويواصل الخبير كلامه: المشكلة يا سادة أن خصوبة نساء العالم الثالث تزداد على حين تفقد الأرض خصوبتها، وتشير تقديرات البنك الدولي وتقارير الأمم المتحدة أن عدد سكان الأرض زاد في السنين العشر الماضية 770 مليون نسمة، وأصبح عدد البشر اليوم 4,75 مليارات، وسوف يتضاعف هذا العدد عام 2075 ليصبح 8,3 مليارات؛ ليعيش منهم 7 مليارات في بلاد العالم الثالث.
ويلتهم الخبير قطعة من فخذة الدجاجة المشوية ثم يقول: إن الفشل في ضبط معدل نمو السكان في العالم الثالث ستكون له نتائج خطيرة؛ انتشار الجوع والبطالة وتشوهات البيئة والنمو السرطاني في المدن، وازدياد العنف والإرهاب وعدم الاستقرار العالمي. إن استمرار نمو خصوبة النساء في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية سيقودنا إلى عالم بلا أمل، تهدده المجاعة والفوضى وقانون الغاب، عالم يمتلئ بالأسلحة المدمرة على شكل أفواه بشرية جديدة تطلب الطعام، وفي أفريقيا السوداء ارتفعت خصوبة النساء، مثلا في كينيا أصبح متوسط عدد الأطفال الذين تلدهم المرأة الكينية 8 أطفال. كما أن ارتفاع المستوى الصحي أدى إلى انخفاض في معدل وفيات الأطفال؛ وبالتالي يمكن أن يرتفع عدد سكان كينيا من اليوم إلى 83 مليون نسمة عام 2025، وفي بنجلاديش بلغ معدل خصوبة النساء (أي متوسط عدد الأطفال الذين تلدهم المرأة في عمرها كله) 6,3. وهذا يعني أن سكان بنجلاديش سيصل عددهم إلى 266 مليونا عام 2025؛ أي ثلاثة أضعاف العدد الحالي، ومعدل الخصوبة في الهند 4,7 وفي عام 2025 سيصبح عدد سكان الهند 1,5 مليار نسمة. أما المرأة الأمريكية والأوروبية الغربية فإن معدل خصوبتها ليس إلا 1,6 طفل. هكذا نرى أن سوء الأحوال في بلاد العالم الثالث يعود إلى زيادة الخصوبة لدى النساء، وأن الزيادة في معدلات النمو الاقتصادي في هذه البلاد تأكلها الأفواه التي تنتجها أرحام النساء، وتزداد الهوة بين مستوى الدخل في العالم الثالث والعالم الأول، مثلا في الفترة من عام 1955 حتى اليوم ارتفع متوسط دخل الفرد في أمريكا من سبعة آلاف دولار سنويا إلى 11500 دولار. أما في بلاد العالم الثالث فلا يزال دخل الفرد يتراوح ما بين 170 دولارا سنويا إلى 260 دولارا، وهكذا تضاعفت الفجوة بين بلاد العالم الأول وبلاد العالم الثالث، والسبب في ذلك يرجع إلى خصوبة المرأة في هذه البلاد المتخلفة، باستثناء بعض البلاد مثل تايلاند والصين، حيث انخفض معدل النمو في السكان في السنين الأخيرة بسبب تصميم هذه البلاد على تنفيذ برامج صارمة لتنظيم الأسرة.
ويرن في القاعة سؤال: ماذا تقصد ببرامج صارمة؟ ويهمس خبير: عمليات قتل الأطفال البنات في الصين؟
ويعترض خبير: لا، إنه إباحة الإجهاض. ويرد آخر: لا، إنها عمليات التعقيم للرجال والنساء دون تفرقة بين الجنسين. ويقول خبير: لا هذا ولا ذاك، إنه إنشاء وحدات تنظيم الأسرة، في تايلاند وحدها 4 آلاف وحدة لتنظيم الأسرة.
ويعترض آخر: لكن هذه الوحدات تتكلف أموالا كثيرة، عندي تقرير من البنك الدولي يقول: إن العالم الثالث يحتاج إلى 7,6 مليارات دولار من أجل إنشاء وحدات تنظيم الأسرة.
ويصيح خبير من أمريكا: هذا مبلغ ضخم جدا، كيف ندفع 7,6 مليارات دولار لمجرد خفض معدل خصوبة نساء العالم الثالث؟
ويرد خبير من الهند: ولكن العالم ينفق سنويا على التسليح 600 مليار دولار، وأيهما أهم: إنتاج أسلحة لقتل البشر في الحروب، أم إنتاج وسائل لمنع ولادة البشر؟
ويقول خبير من باكستان: كلاهما قتل للروح، وهذا حرام عند الله.
ويرد خبير: الأفضل قتل الجنين قبل أن يتكون في رحم الأم بدلا من قتله في الحرب.
ويقول واحد: الأفضل أن نمنع دخول الحيوان المنوي إلى رحم المرأة من خلال الاتصال الجنسي.
ويقول آخر: هذا صعب، والأسهل استئصال رحم المرأة، أو سد قناة «فالوب» حيث يجتمع الحيوان المنوي بالبيضة. ويرد الخبير من أمريكا: الأفضل منع تعدد الزوجات وتعدد العلاقات الجنسية؛ فالرجل الواحد يخصب عشرات النساء. ويصيح الخبير من باكستان: لقد أباح الله للرجال تعدد الزوجات ومن ملكت اليمين.
ويتساءل خبير من السويد: ما معنى «من ملكت اليمين»؟
ويرد الخبير الباكستاني: يعني الجواري والعبيد من النساء.
ويصيح الخبير السويدي: هل لا يزال عندكم عبيد؟ ألم يتم تحرير العبيد منذ القرن الماضي؟
ويرد خبير من فرنسا: أتعرفون السبب الأساسي للانفجار السكاني في بلاد العالم الثالث؟
ويهتف الجميع: لماذا؟
ويرد الخبير الفرنسي: إنه تعدد الزوجات؛ وتحت يدي تقرير يقول: إن معدل المواليد بين المسلمين أكثر من غيرهم.
ويبتهج الخبير الباكستاني ويقول: ليس الإسلام يا سادة، ولكنه فشل مشروعات التنمية.
ويتساءل الأمريكي: ولماذا تفشل مشروعات التنمية؟
ويرد الهندي: لأن هذه المشروعات لا تلبي احتياجات العالم الثالث، وإنما تلبي احتياجات العالم الأول.
ويتساءل السويدي: ولماذا لا تلبي المشروعات احتياجات العالم الثالث؟
ويرد الهندي: لأن الذي يضع هذه المشروعات هم خبراء العالم الأول وليس خبراء العالم الثالث.
ويتساءل الأمريكي: وأنت؟ ألست خبيرا من خبراء العالم الثالث؟
ويرد الهندي: نعم، ولكني أعيش معك في نيويورك ولا أنتمي إلى العالم الثالث.
ويضحك الجميع، ويدق رئيس الجلسة على المائدة معلنا انتهاء المؤتمر، ويصدر الجميع قرارا بعقد مؤتمر آخر لمناقشة المشكلة ذاتها: خلال الصيف القادم على جبال سويسرا، ويتقرر اعتماد مبلغ 95 ألف دولار لهذا المؤتمر الجديد. •••
التقيت بفتاة اسمها «آن»، رأيتها تركب دراجتها البخارية في الشارع المطل على المحيط، ملامحها دقيقة وبشرتها بلون البن المحروق، عمرها خمسة وعشرون عاما، أمها سنغالية تزوجت رجلا من ساحل العاج، أنجبت منه 7 أطفال ثم تركها، عاشت «آن» مع أمها وأخواتها، ثم جاءت إلى داكار لتعمل بالصحافة، ادخرت من أجرها واشترت الدراجة البخارية، طافت ببلاد غرب أفريقيا، تدرس أوضاع المرأة.
ذهبت معها إلى متحف داكار بجوار المبنى الضخم لمجلس الأمة، قادتني إلى غرفة واسعة بها تماثيل لرجال ونساء أفريقيات، لاحظت أن النساء أكبر حجما من الرجال في قبائل «سنوفو كوروجو» في مالي وساحل العاج، رأيت تمثال امرأة ضخمة الجسم والرأس إلى جوارها زوجها أصغر حجما.
وقالت آن: رأيت هذه القبائل في مالي وساحل العاج، والمرأة هناك أقوى من الرجل، وتشتغل في الحقل والبيت، والرجل كسول لا يكاد يعمل شيئا، وتذكرت القبائل التي رأيتها في جنوب الهند حيث تشتغل المرأة وتعول الأسرة، والرجال يرقصون حول الإله شيفا ويتزينون بالحلي والمساحيق، وقالت آن: أمي هي التي تشتغل وتعولنا.
خرجنا إلى الشارع وسرنا نحو المحيط، ملامح أهل السنغال شديدة الجاذبية، البشرة بلون الكاكاو، والابتسامة المشرقة، والقوام الممشوق، إحساس بالسلام والأمان في أي مكان، بعض الناس يتكلمون العربية، ومجموعة من النساء يصلين في العراء، رجل في جامع يؤذن لصلاة الظهر، طفل صغير يقترب منا ويطلب فرنكا، وصلنا إلى المركب الذي سيأخذنا إلى جزيرة جوريه، تحركت السفينة وابتعدت عن شاطئ داكار، تحرك الهواء وأصبح منعشا باردا، جزيرة جوريه تبدو من بعيد في وسط المحيط الأطلسي كالصخرة. آن إلى جواري، شعرها الأسود الخشن على شكل ضفائر كثيرة ملتصقة بالرأس، أنفها الحاد مرتفع وفي ارتفاعه شموخ وقوة، وقالت آن: سأحكي لك قصة سمعتها من امرأة أفريقية في ساحل العاج:
منذ زمن بعيد أراد الإله العظيم في السماء أحدا يساعده في عمل شيء، فنادى على النساء، لكن النساء كن مشغولات بالعمل في زراعة الأرض وخض اللبن لإطعام الصغار، وتغطية الكوخ بالطين منعا للرياح، ونادى الرب عليهن قائلا: تعالوا هنا، سوف أرسلكن في مهمة كبيرة. لكن النساء أجبن قائلات: نعم، سنحضر، ولكن انتظر لحظة حتى ننتهي من أعمالنا. وبعد فترة نادى عليهن الرب مرة أخرى، وأجابت النساء مرة أخرى قائلات: انتظر لحظة حتى ننتهي من عمل الطعام وسقف الكوخ، وكان الرجال في ذلك الحين لا يحلبون البقر ولا يبنون الأكواخ ولا يبحثون عن وقود ولا ماء مثلما كانت النساء تفعل. كان عملهم الوحيد هو إقامة سور حول البيت. ولأنهم كانوا بلا عمل تقريبا فقد أسرعوا لتلبية نداء الرب قائلين: «أرسلنا يا أبانا بدلا من النساء.» وهكذا اتجه الرب إلى النساء وقال: أيها النساء، سوف لا تنتهي أشغالكن إلى الأبد، فإذا ما انتهى عمل جاءكم آخر، أما الرجال فسوف ينالون الراحة؛ لأنهم سمعوا ندائي حين ناديت، ولكن أنتن يا نساء فسوف تعملن وتشقين بلا راحة حتى نهاية أجلكن، وظلت حياة النساء منذ ذلك الحين عملا وشقاء وكدحا، ومر الزمان وجاء يوم فيه رجال أجانب ومعهم كتب وحبوب وبنادق، ورحب بهم الرجال الذين كانوا في راحة دائمة، وبدأ الرجال ينقسمون إلى قسمين: قيادات لا تعمل، وعبيد يعملون بغير انقطاع، وتدرب العبيد على احترام العمل عن طريق دفع الضرائب، أما النساء فقد واصلن عملهن دون أن يلتفت إليهن أحد، وفي النهاية طلبت النساء من أبنائهن وإخوتهن وأزواجهن أن يعوضوهن عن جهدهن في العمل، لكن الرجال ذكروهن بأن الرب قد كتب عليهن أن يكن خادمات للجنس البشري، وقالوا: إن الكتب التي جلبها الأجانب تؤكد أيضا أن مكانة المرأة تحت الرجل، وزمجرت بعض النساء قائلات: أعظم عقاب هو أن يكون الإنسان فقيرا وامرأة. ونساء أخريات بدأن يبحثن عن طريق للتحرر.
انتهت آن من قصتها وضحكت، أسنانها البيضاء تلمع في وجهها الأسود، عيناها تلمعان كأسنانها، توقفت المركب عند شاطئ الجزيرة، فقفزت آن من المركب إلى الأرض بخطوة واحدة، جسمها طويل نحيف كراقصات الباليه، تمشي رافعة رأسها مملوءة بالثقة والكبرياء.
صعدنا إلى القلعة العالية المطلة على المحيط، وجلسنا على حافة الصخر نطل على أرض السنغال من بعيد، وقالت آن: من هذه الجزيرة قيدوا جدة أمي وأرسلوها إلى أمريكا، ولهذه الجزيرة تاريخ قديم منذ القرن 15، حين بدأت البرتغال وإسبانيا البحث عن طريق جديد عبر البحار. كان العرب يسيطرون على الطريق الذي يؤدي إلى الشرق حيث كانت الثروات، وفي عام 1444 وصلت سفن البرتغال إلى هذه الجزيرة وسموها جزيرة «يالما»، جعلوها مقبرة لدفن موتاهم، ثم حولوها إلى مركز للتجارة مع أفريقيا، وفي نهاية القرن 15 جاء الهولنديون وأطلقوا على الجزيرة اسم جوريه، وبنوا عليها هذه القلعة على التل، وقلعة أخرى على الشاطئ، وبالرغم من هاتين القلعتين غزا البرتغاليون الجزيرة في عام 1659، ثم غزاها الإنجليز في عام 1664، وبعد عشرة شهور طرد الفرنسيون الإنجليز منها، ثم جاء الهولنديون مرة أخرى وطردوا الفرنسيين، وظلت الحروب تدور فوق الجزيرة بين بلاد أوروبا حتى استولى عليها الإنجليز عام 1697، واندلعت الحرب مرة أخرى واحتلتها الشركات الفرنسية التي أفلست بسرعة، وظل الحاكم الفرنسي فوق الجزيرة، وتعاون مع صاحب سفينة حملته إلى أمريكا ومعه ستون عبدا أفريقيا، لكن صاحب السفينة تركه في قارب صغير في عرض البحر وهرب مع العبيد إلى أمريكا. أما جزيرة جوريه فقد ظل يعيش فوقها نسل مختلط من أوروبا وأفريقيا، ونساء الجزيرة كانت لهن قوة وجبروت مثل نساء قبائل السنوفو كوروجو في مالي وساحل العاج، وكان يطلق عليهن اسم «سيجنار»، تزوجهن حكام الجزيرة، ونشطن في التجارة وأصبحن من ذوات الثراء الكبير والنفوذ، وفي عام 1749 كان سكان الجزيرة 66 شخصا فقط ملكوا 131 عبدا، وفي عام 1767 وصل عدد السكان إلى 1000 شخص، تضاعف إلى 2000 شخص في عام 1786، واستولى الإنجليز على الجزيرة بعد حرب السبع سنوات من 1756-1763، ثم عاد الفرنسيون إليها عام 1789، وعين الملك لويس السادس عشر حاكما فرنسيا على السنغال كلها، ثم غزا الإنجليز الجزيرة مرة أخرى خلال حرب سنة 1804 حتى سنة 1817، وسمحوا لأهل الجزيرة أن يبنوا بيوتهم من الحجر على الشاطئ الذي حرمه الفرنسيون عليهم، وأطلقوا عليه اسم «رصيف الملك»، وأسس الإنجليز مع أهل جوريه مدينة بانجول، ثم استولت فرنسا على الجزيرة مرة أخرى عام 1815، وتمتعت جوريه بتسهيلات التجارة كميناء حر، ونشطت التجارة من سنة 1840 بعد اكتشاف زيت الفول السوداني، ووصل عدد السكان إلى 6000 شخص منهم 4000 عبد أفريقي لم يتحرروا إلا في عام 1848.
وانتهت آن من قصة جوريه، وتركنا القلعة وهبطنا إلى بيت العبيد الذي أصبح متحفا الآن.
الدور العلوي من البيت كان مخصصا لتجار العبيد، الدور الأرضي مقسم إلى غرف: غرفة الوزن حيث كانوا يضعون العبد فوق الميزان كما توزن الماشية، إذا كان العبد أقل من 60 كيلو جراما يحبسونه في غرفة أخرى فترة من الزمن ويطعمونه حتى يسمن.
غرفة العبيد من النساء مكتوب عليها عبارة بالفرنسية، معناها أن «قيمة المرأة بثدييها»، كانوا يفحصون ثديي المرأة ليحددوا ثمنها قبل البيع. أما الرجل فكانوا يفحصون أسنانه، وهناك غرفة لفصل الأطفال عن أمهاتهم، في قاع البيت باب يؤدي إلى المحيط، يربطون العبيد بالسلاسل ليسيروا فوق حاجز خشبي إلى السفينة. كان بعض العبيد يلقون بأنفسهم في الماء فيغطس وراءهم الغطاس وينتشلهم ويعيدهم إلى السفينة، عدد العبيد الذين أرسلوا إلى أمريكا 20 مليون عبد، وهناك رأي آخر يقول: إن العدد 200 مليون.
هناك بيت آخر مقابل لبيت العبيد، هو بيت امرأة من ذوات النفوذ والثراء اسمها السيجنار «آن بيبان». كانت عشيقة الحاكم، وبيتها على شكل مركب ضخم، وكانت تسير في الشوارع في موكب يشبه موكب الملك، تحول بيتها إلى متحف، لوحات ضخمة تغطي الجدران، إحدى اللوحات كتب عليها كلمات عربية كالآتي:
سيجتمع سويا جميع القبائل الفلانية في مكة ويكون ذلك علامة لقيام الساعة.
وعلى لوحة أخرى كتب: قبيلة «فلاني» اسمه «باح» البحر الأبيض، بعد الإسلام غيروها إلى كلمة «مكة».
وآيات من القرآن معروضة داخل علب من الزجاج وسلاسل حديدية صدئة كانت تستخدم لربط العبيد، سفينة طويلة رسم عليها العبيد راقدين في القاع كالسردين، لوحة كبيرة لامرأة قوية ضخمة من نساء الأمازون تمسك يدها رأس رجل من الحكام، وقالت «آن»: العبيد من الرجال والنساء هم الذين حرروا أنفسهم ولم يحررهم الأوروبيون كما ذكروا في التاريخ. كان هناك جيش من النساء حارب في القرن 19 ضد الجيش الاستعماري.
خرجنا نتمشى على الشاطئ، وجلسنا إلى مطعم صغير تعزف فيه فرقة موسيقية سنغالية، المغني شاب طويل نحيل يرتدي قميصا ملونا، يعزف على آلة تشبه العود ويغني أغنية شعبية شائعة، لم أفهم كلمات الأغنية، وترجمتها «آن» لي. تقول الأغنية إنه كان هناك فتاة جميلة صغيرة، وفي ليلة زفافها خشيت أن يكشف عريسها أنها ليست عذراء، فجعلت فتاة عذراء ترقد مكانها في سرير العرس، لكن أهل العريس اكتشفوا أمرها، وتنتهي الأغنية بانتحار الفتاة.
وقالت آن: هذه الأغنية لا تغنيها إلا القبائل في أفريقيا، وهي القبائل التي تستعبد المرأة وتجري عملية الختان للبنات، لكن القبائل الأمومية تنظر إلى المرأة كإنسان، ولا تجري للبنت عملية قطع البظر، بالعكس منذ تولد البنت تقوم الأم أو الخالة بتنشيط البظر عن طريق التدليك لينمو ويزداد حجما وطولا . وهذه القبائل تعيش في رواندا وأوراندي ومالاوي وزيمباوي ومالي، وفي أوغندة هناك قبائل «أنكولي» وقبائل «قورو» و«نيكولي»، وفيها تحدث عمليات إطالة البظر، وقبائل أخرى تساعد تنشيط الأعضاء الأخرى للبنت كالشفرتين الداخليتين، ومن هذه القبائل بوجاندا، بوسوجا، وبانيورو في أوغندة أيضا، وإلى جوار هذه القبائل توجد قبائل أخرى تستأصل بظر البنت قبل البلوغ وتستأصل معه الأعضاء الخارجية كلها كما يحدث في السودان والصومال وبعض قبائل كينيا والحبشة، وفي هذه القبائل يصر أهل العريس على رؤية دم العذرية ليلة الزفاف على منديل أبيض، وإذا ظل المنديل أبيض تعرض البنت للموت أو الانتحار كهذه البنت في الأغنية.
كان الشاب السنغالي لا يزال يعزف على آلته ويغني، من حوله التف الناس وأخذوا يغنون معه ويرقصون، بين الراقصين امرأة أمريكية عجوز، تعيش في بيتها على شاطئ الجزيرة منذ عشر سنين، أخذتنا إلى بيتها لنشرب الشاي، في فناء البيت شجرة ضخمة، وفي الغرفة الخلفية آلة كاتبة على منضدة منخفضة وكرسي منخفض مثل كرسي البوذيين، اسمها «سوزي» وعمرها 75 عاما، ولدت في سانتا بربارا على الساحل الغربي لأمريكا الشمالية، لها ثلاثة أحفاد من ابنتها الوحيدة، وزوجها طلقته منذ ثلاثين عاما، وفي بهو البيت رأيت رجلين جالسين على الأرائك المصنوعة من البوص، رجل سنغالي عاش في أمريكا عشرين عاما، ورجل أمريكي عاش في أفريقيا عشرين عاما، السنغالي يتكلم الإنجليزية بطلاقة، والأمريكي يتكلم السنغالية بطلاقة، وعيونهم ترمقني بدقة كأنما يحفظون ملامحي، والمرأة الأمريكية العجوز عيناها تلمعان من حين إلى حين، شيء من الغموض يحيط بهذا البيت، يبدو لي في لحظة كأنه وكر للجاسوسية، وفي لحظة ثانية يبدو كبيت للمرضى النفسانيين، وفي لحظة ثالثة يغلف المكان نوع من الجمال النادر. هذا الجمال الذي يحيط بإنسان عظيم له رسالة إنسانية كبيرة.
وسألت المرأة الأمريكية العجوز: ولماذا تركت وطنك؟ وقالت: جئت إلى هنا في رحلة سياحية، وأحببت هذه الجزيرة، وقررت أن أعيش فيها بقية حياتي.
قد تكون صادقة، في عينيها لا أرى الكذب، لكني لا أصدق كل العيون. •••
بالقرب من مطار داكار جلست في بيت الكاتب السنغالي سمبيني عثمان، رجل متوسط العمر، زحف الشيب إلى شعره، بشرته سوداء، وعظام وجهه أفريقية، بين شفتيه يقبض على «البايب» أو الغليون، جلبابه أبيض وفي قدميه صندل مفتوح، زوجته إلى جواره، طويلة ضخمة سمراء، عيناها واسعتان، تتكلم الإنجليزية بلكنة أمريكية، ولدت في أمريكا وتعمل في أحد البنوك في داكار، سمبيني عثمان يتكلم الفرنسية ولا يعرف الإنجليزية، ابنهما شاب في العشرين، جالس في البهو المقابل مستغرق في مشاهدة التليفزيون الملون، أو فيلم من أفلام الفيديو.
دار الحديث حول الأدب الأفريقي، وقال سمبيني عثمان: لم أتفق يوما مع فكرة سنجور عن «الزنجية»، ليس هناك ثقافة نابعة من الجلد الأسود وثقافة أخرى نابعة من الجلد الأبيض، الثقافة تنبع من المخ، وليس هناك مخ أسود ومخ أبيض، ولكن هناك شعوب في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية عانت الاستعمار بصرف النظر عن لون البشرة، ثم إن سنجور ليس هو مؤسس الزنجية، وأنا لست مع سنجور، وأي شيء يفعله سنجور فاشل، وسياسته هنا كالسادات عندكم، أما عبد الناصر فهو محبوب بين شعوب أفريقيا كلها، وقلت: هذا صحيح.
وقال: هل أنت ناصرية؟
قلت: لا.
قال: هل أنت ماركسية؟
قلت: لا.
وقلت: لا أحب أن أنسب نفسي لشخص مهما كان، وأنا مع العدالة والمساواة والحرية للمرأة والرجل والوطن، عبد الناصر كان عظيما، وأخطاؤه أيضا كانت عظيمة، وماركس كان مفكرا عظيما، لكن أفكاره ناقصة خاصة فيما يتعلق بوضع المرأة.
وقال سمبيني عثمان: هذا طبيعي، وليس هناك كلمة نسائية في أي شيء، وأنا معك أن الاستقلال للأديب أمر هام، لكني اخترت أن أكون عضوا بالحزب الشيوعي السنغالي؛ فالنضال السياسي من خلال الحزب هو الوسيلة الوحيدة لتغيير النظام، ونحن في حاجة إلى تغيير الأنظمة. إن كثيرا من الناس يتصورون أن السنغال بلد مستقل؛ لأن حاكمها رجل سنغالي أسود، لكن هؤلاء الحكام السود أشد خطرا من غيرهم؛ لأن الاستعمار يختبئ وراءهم.
Page inconnue