Voyage dans le temps de la Nubie : Étude sur l'ancienne Nubie et les indicateurs de développement futur
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Genres
ونحن كجغرافيين نعرف أن الشواطئ البحرية التي تنحدر بشدة إلى البحر تقابلها مياه عميقة، والشواطئ المنحدرة في يسر تقابلها مياه ساحلية ضحلة، وقد جازفنا باستخدام هذه المعلومة بالنسبة لضفاف النيل، وحاولنا إثبات ذلك للريس محمد، فكنا نقترب بدرجة ما من الضفاف التي تنزل بانحدار كبير إلى مياه النهر، ونبتعد عن الضفاف المتدرجة الانحدار، وكان الريس محمد يقيس عمق المياه في كل حالة بالمدراة إلى أن لاح اقتناعه، ربما ظاهريا، ونرجو ألا يفهم أننا كنا نقترب من الضفاف الصخرية، بل كنا نبعد عنها قدر الاستطاعة؛ لأن قاع النهر المجاور لمثل تلك الضفاف غالبا ما يكون مليئا بمفتتات الصخر بأحجام مختلفة، بل إن تجربتنا كانت مرتبطة بالضفاف الطينية فقط، فبعضها كان في شكل جرف يعلو مترين أو ثلاثة أمتار نتيجة النحت النهري، وبعضها ينحدر هينا إلى الماء، ولا شك أنه من الأفضل أن يصطدم القارب بنتوء طيني في الليان بدلا من الصخور والأحجار، ولسنا نزعم أننا أصبحنا ملمين بقراءة الماء؛ لأن ذلك يقتضي أضعاف الوقت الذي قضيناه على سطح النيل، وإنما أدركنا بعضا من كل.
وقراءة الماء في الحقيقة ليست إلا مرشدا عاما لضمان الملاحة في سلام، وهي بمثابة الأبجدية النافعة في أحيان كثيرة، ويجب أن يضاف إليها معلومات كثيرة عن اتجاه النهر: أين ينحت وأين يرسب، واتجاه الريح مع التيار أو ضده في قطاعات مختلفة من مسار النهر، وتتبع أحداث غرق مراكب أو صنادل، كل هذه وغيرها من معلومات ضرورية للملاح الماهر، إلى جانب قدرته على قراءة الماء.
وقد سبق أن ذكرنا أن الريس محمد علي شاجة قد صحبنا طوال الرحلة ذهابا وإيابا، وفي البداية كنا نظن أنه خبير بالملاحة في كل أجزاء النوبة، لكنه قال لنا، فيما بعد، إنه لم يطرق النوبة جنوب أمبركاب منذ سنوات طويلة، ومع ذلك قادنا بحكمة واقتدار في ضوء القمر في منطقة بالغة الخطورة؛ هي بوابة كلابشة الصخرية، ونتيجة لتقادم العهد بسفره في بقية النوبة، كان علينا أن نسأل باستمرار رؤساء المراكب التي نمر بها: أين نسير، البر الشرقي أم الغربي؟ وهل هناك دوامات أو حجارة أو جسور غاطسة؟ وأين؟ والحقيقة أن وجود الريس محمد معنا كان في غاية الفائدة، فهو من الكنوز، ومعظم المراكبية من الكنوز؛ ولذا كان سهلا التخاطب والحصول على المعلومات على وجه الدقة، وبناء على المعلومات كان ينبهني إلى المسار الصحيح، ولم يقتصر السؤال على المراكبية، بل كان يسأل الناس على البر إذا وجدنا بعضهم، ومن الطرائف التي يمكن تسجيلها أن محمدا سأل فتاة على البر أين نحن واسم النجع التالي، كل ذلك بالماتوكية لغة الكنوز، فلم تجبه الفتاة مباشرة وردت عليه بعد ذلك بالعربية، وللحظة ظن محمد أنها تكلمه بالماتوكية، وحاول أن يفسر ما تقول فلم يستطع، ولاعتيادنا نحن أن هذه كانت مهمة محمد فلم نكن نصغي كثيرا للكلام المتبادل، لكنا لاحظنا حيرة محمد وانتبهنا، فسمعنا الفتاة تتكلم بالعربية، فأدركنا أننا تركنا منطقة الكنوز ودخلنا منطقة عرب العليقات، وكان ذلك في أحد النجوع الجنوبية من عمدية المضيق التي يختلط فيها الكنوز والعرب.
عقبات ملاحية صنع الإنسان
وإلى جانب العقبات الطبيعية سالفة الذكر كانت هناك عقبات أخرى من صنع الإنسان في الماضي؛ هذه هي البيوت القديمة التي هجرها عند إنشاء سد أسوان وتعليته، وكذلك السواقي التي كانت تنتشر في النوبة منذ أكثر من ألف عام، والسواقي بنايات محكمة أكثر من البيوت، باعتبار أن مواقعها من الأرض التي ترويها ثابتة، بينما البيوت يمكن أن تهدم وتقام محلها بيوت أخرى على مر الزمن؛ لهذا فإن مخاطر السواقي أكثر على الملاحة من جدران بيت إنهار سقفه وتآكلت أسسه، والساقية عبارة عن برج متين لتثبيت التروس والعجلات الخشبية وأرضية دائرية لمسار الأبقار مدكوكة بفعل أقدام الحيوان، ويرتفع البرج بقدر يتناسب مع ارتفاع الأرض التي ترويها الساقية بواسطة قناة مبنية فوق حائط مقوى بمداميك، وتنتهي القناة عند أعلى منسوب للحقول ثم تنساب منها المياه في مساق إلى الحقول العليا ثم السفلى، والغالب أن ارتفاع برج الساقية في حدود تتراوح بين ثلاثة وخمسة أمتار فوق مستوى النهر، ويجتهد الناس في إصلاح وتقوية بناء الساقية بصفة مستمرة؛ لأنها مصدر الحياة للأراضي الزراعية في المناطق ذات التضاريس الوعرة المرتفعة، مثل أراضي عمدية قرشة التي اشتهرت من زمن بعيد بسواقيها العديدة ؛ ولهذا يخشى الملاحون من قباطنة بواخر البوستة إلى ملاحي المراكب والصنادل مياه «بحر قرشة» كما يسمونه، والذي يمتد نحو ستة كيلومترات أو أكثر، وليست الخشية طول السنة، بل هي أكثر ما تكون خلال بحيرة الخزان؛ لأن أبنية السواقي تكون غاطسة تحت المياه، بينما تكون ظاهرة خلال أشهر الصيف الثلاثة، حينما تكون مياه الخزان قد أفرغت وهبط منسوب الماء بمقدار نحو 12 مترا؛ ولهذا أمكننا التغلغل في مياه بحر قرشة دون التعرض لمخاطر غير مرئية خلال رحلتنا الصيفية.
وهنا يجب أن نضيف عقبات بشرية أخرى ناجمة عن غرق المراكب والسفن: أين بالضبط، وحجم المركب الغارق وحمولته، وما إذا كان غطس تماما أم شحط على جزر طينية غاطسة، فمثل هذه المراكب سرعان ما يتراكم عليها أرساب الطمي، وتكون عائقا ملاحيا وقت نزول النيل، وأخبار هذه الحوادث تنتقل شفاهة عند حدوثها بسرعة كبيرة إلى أسماع القباطنة، فيدرجون المكان في القائمة السوداء التي في أذهانهم ليتجنبوها.
الرياح العاصفة وأمواج عالية
وأخطر عقبات الملاحة في النوبة هي الرياح الشمالية الشديدة، لكنها لحسن الحظ ليست متكررة الحدوث، وحين تهب تزداد قوتها إذا كانت الحافات الجبلية قريبة من مسار النهر، فتصطدم بتيار النهر الذي يجري في اتجاه شمالي، وتحدث هياجا وأمواجا لا يمكن تصورها على أنها أمواج نهر، ولقد صادفنا مثل هذا الجو العاصف أثناء عودتنا عند الحافة الصخرية في منطقة أبوهور، كانت الأمواج تضرب الزجاج أمام عجلة القيادة ضربا شديدا، وتترك رقائق من الطمي الذي يحجب الرؤية؛ مما دفعنا إلى فتح الزجاج كي نرى أين نسير، وتدفق بعض الماء إلى داخل القارب، وأعطانا رشاش الموج حماما طينيا لا ننساه! وبطبيعة الحال كان القارب يتأرجح بشدة، وتصعد المقدمة عشرات السنتيمترات مع الموجات الثقيلة، ثم يسقط القارب بصوت خلنا معه أن بطن القارب سينشق، وترتفع المؤخرة بما فيها مراوح المحركات لحظات قصيرة نفقد فيها قوة الدفع والتوجيه، ثم هكذا دواليك، وزاد من حدة المشكلة أن النظارة الطبية كانت تغطى بالطين ونحتاج إلى تنظيفها باستمرار، والخلاصة كان القارب أشبه بحصان فقد راكبه، أو كقطعة فلين تائهة وسط خضم هائل، واستمر هذا الحال قرابة نصف ساعة من الخوف والقلق إلى أن نجحنا في العبور من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي، حيث الريح والموج أخف وطأة، ونزلنا البر نريح المحركات الباسلة وأعصابنا المشدودة.
وإذا كانت الرياح الشديدة قد لعبت بقاربنا الصغير ما شاء لها، فإنها تفعل أكثر من ذلك بالنسبة للبواخر الكبيرة، فأخشى ما يخشاه قباطنة البواخر مثل هذه الرياح العاتية والأمواج التي تحدثها؛ ذلك أن هذه البواخر النيلية ليست ذات غاطس عميق، بل إنها ذات قاع مسطح لكيلا تنغرس في الضفاف الطينية حين ترسو في محطاتها العديدة، وقد حدث لنا ما يوضح هذه المخاطر، فبعد أن أتممنا دراستنا في سيالة في يناير-فبراير 1962، حجزنا على البوستة المتجهة إلى الشلال، والتي تقلع من سيالة قادمة من وادي حلفا يوم سبت العاشرة صباحا، وفي مساء الجمعة كنا قد أعددنا حقائبنا وحاجياتنا؛ استعدادا للسفر صباح اليوم التالي، ونصحنا ناصح أن نبقي أغراضنا بالمنزل، وحين تظهر الباخرة يمكن أن نأتي بالأغراض إلى مكان رسوها قبل أن ترسو - يلاحظ أننا كنا في الشتاء، ومنسوب الماء عال، والمسافة قصيرة بين النجوع والمرسى - وفعلا أخذنا نترقب البوستة منذ التاسعة ومعنا جمع من الناس لوداعنا ولأسباب أخرى، ومضت العاشرة ولا أثر للباخرة، واتصل وكيل البريد بمحطة المضيق فلم تكن الباخرة قد وصلتها، واتصل بمحطة وادي العرب فقيل إنها سافرت متأخرة، وفي الثانية عشرة لم تكن الباخرة قد وصلت المضيق، ولما كانت الرياح قد أخذت تشتد منذ ظهر الأمس، فقد فسر لنا الناس التأخير بأن الباخرة لا بد وأنها رست في السبوع - بين وادي العرب والمضيق - لتجنب الجو السيئ، وتساءلت: هل يوقف الريح مسار هذه الباخرة المستندة إلى صندلين كبيرين عن يمين وعن يسار؟ قيل لي: نعم؛ فالقبطان لا يستطيع تحمل مسئولية جنوح السفينة في هذا الهواء، وفي ذلك الحين تعجبت أن يفعل الهواء بمياه النيل المحدودة مثلما يفعل في البحار - ولكننا بعد تجربتنا في منطقة أبوهور أدركنا هذه الحقيقة تماما - ولم تظهر الباخرة طول السبت، ونمنا نوما متقطعا؛ خوفا من مجيئها ليلا ونضطر إلى الإقامة أسبوعا آخر، وفي الثامنة صباح الأحد صاح وكيل البريد أن الباخرة في الطريق، وخلال رحلة العودة تحدثت مع القبطان الذي قال إنه أرسى الباخرة في منطقة رملية قرب السبوع منذ الثانية ظهر الجمعة، وللأسف فإنه لا يوجد تليفون في السبوع يمكن من إبلاغ المحطات الأخرى أين هو. وذكر لي أن قبطانا جازف بالسفر تحت ريح متوسط القوة في منطقة توماس والدر، فانفصل أحد الصندلين وانقلب وفقدت الباخرة توازنها وأوشكت على الغرق، لولا أنها كانت قريبة من توماس، فأسرع بالرسو فيها، ولكن بعد وقوع خسائر وضحايا كثيرة - الصنادل غالبا محملة بالبضائع وركاب الدرجة الثالثة معا.
ولعلنا بهذه الأسطر القليلة قد أوضحنا للقارئ شيئا عن المصاعب التي تواجه الملاحة في النيل النوبي، في موسم الفيضان وموسم ارتفاع منسوب المياه في الشتاء والربيع، وكل ما كتبناه هنا ليس إلا جزءا يسيرا مما يحتفظ به القبطان أو الريس في ذاكرته، فتصبح المعلومات جزءا لا يتجزأ من الملاح نفسه.
Page inconnue