Voyage dans le temps de la Nubie : Étude sur l'ancienne Nubie et les indicateurs de développement futur
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Genres
وهكذا تتجمع عدة عوامل معا تأسست عليها أهمية العلاقي: فهناك العوامل الجغرافية الطبيعية المتمثلة في التقاء الوادي بالنيل، وهناك العلاقات المكانية التي تربط العلاقي بالسودان والبحر الأحمر وسكان البادية، وهناك المشروع الزراعي الذي أتى بأبناء الصعيد، وهناك أخيرا دور الأولياء في تجميع مكاني موسمي لسكان النوبة الوسطى مع نشاط اقتصادي مكثف خلال فترة المولد السنوية.
تركنا العلاقي في اتجاه سيالة في الثانية بعد الظهر، وفي خلال هذه المسيرة بدأت فكرة كتابة هذه الرحلة باسم «30 يوم على النيل في النوبة المصرية»، وأخذنا نعدد ما يمكن تدوينه في هذا الكتاب من انطباعات ومشاعر ونوادر؛ مثل قيادة القارب ومباهجها ومتاعبها وأخطارها خلال وقت الفيضان، التحية التقليدية المتبادلة بيننا وبين ما نقابله من صنادل ومراكب على النيل، بيوت النوبة التقليدية واتساعها ومعمارها وكأنها الماضي الحي لتقاليد سوف تندثر تحت مياه بحيرة السد العالي، وتغرق معها هذه البلاد ذات الجمال الطبيعي النادر في وادي النيل، حيث تنسجم ألوان شتى من إطارات الخضرة تفصل أو تصل بين النيل العسجدي والرمال الذهبية والصخور الداكنة البنية، والكل ترصعه نجوع النوبيين البيضاء كالعقد في جيد الحسان، والناس يختلفون بين السكان الأصليين في جلابيبهم وعمائمهم البيض فوق الوجوه السمر، وبين البشاري والعبادي الراعي في سرواله الطويل، يقف على ساق ويستند إلى عصاه التقليدية، ينظر إلى الإبل ترعى ويحدق في لا شيء، بين النظرة الوادعة لكبار السن من النوبة وقد عركتهم الحياة ومنحتهم الحكمة والسكينة، وبين نظرة الراعي الشاب المتوجس المترقب لأي طارئ يداهمه كأنه ما زال في البرية، بين النيل وقت الخزان في اتساع البحيرة ومياهه الساكنة الرائقة شديدة الزرقة، والنيل وقت الفيضان يجري ضيقا في عنف وضراوة في ألوان متعددة بين البياض والحمرة، والمياه وقت الظهيرة تكاد تغلي وتفور، تعكس ومضات من الضوء كأنها آلاف من قطع الزجاج المتكسر! أشياء كثيرة متناقضة في انسجام ووئام هي النوبة التي سنفقدها ...
وانتبهنا من أفكارنا على صوت «سارينة» حادة لصندل قوي مر جوارنا دون أن نأخذ حذرنا، وكان علينا إما أن نتجه إلى البر القريب - وربما نغرس في طين القاع - وإما أن نتقبل الأمواج الشديدة التي أثارها الصندل، وفي الحقيقة لم يكن أمامنا سوى الخيار الثاني لضيق الوقت وشلل المفاجأة، وأخذت «لندا» تصعد وتهبط مع الموج وصوت ارتطامها له في القلب صدى ... لكنها صمدت وتمايلت مع الموج المتباعد إلى أن حفظت توازنها بعد دقائق قليلة خلناها لا تنتهي، وكان ذلك أمام جبل المحرقة في منتصف المسافة بين العلاقي وسيالة، وفي فترات الضعف المصري، وخاصة إبان العصرين البطلمي والروماني، كانت المحرقة هي منطقة الحدود المصرية، بينما كانت المنطقة إلى جنوبها نهبا لصراعات وغزوات قبائل البليمي - أجداد العبابدة والبشارية - ومجموعة النوباتي من قبائل الصحراء الغربية، ودولة مروى المتمصرة في شمال السودان الحالي.
منظر جبل المحرقة جميل، فوق الجبل سماء زرقاء صافية، وعند أقدامه أشجار السنط ذات الرأس مظلية الشكل، ثم شريط رملي أحمر، ثم شريط من الخضرة؛ الحشائش وعيدان الذرة، ثم النيل «نجاشي» اللون - كما وصفه أحمد بك شوقي وغناه محمد عبد الوهاب - كل ذلك في مسافات ذات سمك قليل، وعلى البر الغربي كانت «بربا» المحرقة - المنطقة الأثرية - ومناطق صغيرة متناثرة من الزراعات، ومنطقة المحرقة كانت من أفقر مناطق النوبة، وربما كانت كذلك لمئات السنين.
وثمة ملاحظات؛ منها أولا: أن الأشجار بأنواعها تأخذ في الظهور بكثرة ابتداء من المحرقة، وثانيا: أن الأعمدة تبدأ في الظهور في بناء المضايف جنوب المحرقة بحيث تميزها عن بقية أبنية السكن، فهل لهذا معنى أو تفسير معين؟
سيالة
كنا قبل ثمانية أشهر - يناير-فبراير 1962 - قد أقمنا في سيالة في دراسة سابقة، فقد كنا نعرف المنطقة جيدا، ولكننا في رحلتنا الصيفية لم نتعرف على سيالة من قاربنا الصغير إلا بالسؤال، وقد وصلنا محطة سيالة النهرية حوالي الخامسة إلا ربعا، وهالنا التغير الذي طرأ على المنظر العام بين الشتاء والصيف، فهناك مساحات كبيرة من السهل خضراء شجرية كما لو كنا في متنزه طبيعي «بارك لاند»؛ لكثرة الشجر الذي كان غارقا تحت مياه بحيرة الخزان في الشتاء إلا من أطرافه العليا فقط، كانت هناك حركة كثيرة من الإنسان والحيوان: ماعز وخراف كثيرة ترعى، وسيدة تجر وراءها بقرة ممتلئة نوعا، وبعض رجال يركبون الحمير كان منهم ناظر مدرسة المحرقة عبد المنعم الشنتوري، نزلنا في بيت أحد العساكر - نظير مقابل بسيط - في تلك الليلة، فقد كنا نزمع عدم المكوث في سيالة طويلا لسابق معرفتنا بها هي والعلاقى، ولن نطيل الكلام عن سيالة وكورسكو، فقد نشرنا دراسات خاصة بكل منهما في حوليات علمية، واستفدنا منها في كتابة بعض المعلومات في كتابنا هذا (
انظر
قائمة المصادر العربية والأجنبية في آخر هذا الكتاب).
وخلاصة القول أن سيالة تتشابه مع بعض عمديات الكنوز في وجود مجموعة مستقرة من العبابدة، لكن عبابدة سيالة والمحرقة هم من قبيلة العبودين والشناطير، وعبابدة سيالة هم أكبر مجموعة مستقرة من العبابدة في النوبة، ويشكلون نحو 20٪ من سكان سيالة، ويسكنون النجوع الشمالية منها، وهم مستقرون تماما ولم يعد لديهم إبل يحتفظون بها؛ أي إنهم أصبحوا قلبا وقالبا من سكان النوبة الدائمين ويمارسون الزراعة في سواقي حسن سنجر والغرفة والحسنابية وكلدون. أما بقية سكان سيالة فهم من الكنوز من عشيرة الموسياب؛ نسبة إلى الحاج موسى، ومجموعتين صغيرتين هم البديراب - ربما لهم صلة بقبيلة البديرية في إقليم دنقلة - وأم ملوكة الذين هم هجرة من كنوز عمدية دابود - في أقصى شمال النوبة - منذ زمن بعيد، وكل هؤلاء يمارسون أنشطة النوبيين من زراعة وأعمال مهاجرة خارج النوبة.
Page inconnue