Voyage dans le temps de la Nubie : Étude sur l'ancienne Nubie et les indicateurs de développement futur
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Genres
صحبتني فاطمة والأطفال إلى النهر فلم أجد أحدا، وكذلك القارب لم يكن موجودا، ووجدت اثنين من العبابدة الذين ينتقلون بإبلهم عبر النهر للرعي خلال هذا الموسم، ثم يعودون إلى الضفة الشرقية بقية السنة، وهؤلاء يرعون بقايا النجيل بعد أن تجتثه نساء النجع، وأية أعشاب طبيعية أخرى، وذلك بموافقة أهل النجع، وكثيرا ما يعهد إليهم أهل النجع بما لديهم من حيوان - غالبا أغنام وماعز - لرعيهم طوال الموسم.
ويمكن تمييز العبادي عن النوبي بسرواله الواسع ورأسه العاري ذي الشعر الأشعث - وبعضهم يلبس عمامة كبيرة مثل أهل النوبة - ويضعون أحجبه ضد الذئب - وربما الوحوش الأخرى التي أشيعها الضباع في النوبة - وكان واحد منهم يربط الحجاب إلى ذراعه، والثاني يعلقه في صدره.
والعبابدة من الرعاة عادة ما ينفرون من الغرباء، لذلك دهشت عندما اقترب أحدهما مشيرا إلى النيل قائلا: إن الرجال استقلوا القارب بعد أن دار الموتور بضع دقائق ثم توقف، لكن الماء جرف القارب بعيدا ولم نعد نراهم.
أصابني خوف شديد أخفيته بصعوبة بالغة، وبعد فترة تماسكت وقلت: لا بأس سوف ننتظر على الشاطئ إلى أن يصلحوا الموتور ويعودوا، وربما يأتي أيضا الريس محمد فيتمكن من جر القارب «لندا» إذا لم ينصلح حال الموتور، ووجدت الفرصة جيدة للتعرف على العبادي وزميله، ودون أن أشعر، وكما تعودت في الدراسات الميدانية، امتدت يدي إلى الكاميرا لأسجل لهم صورا مع حيواناتهم، لكن العبادي كان أسرع من يدي واختفى في سرعة البرق خلف جمل كبير، بينما أخفى الآخر وجهه وأدار ظهره وهو جالس على الأرض وفي يده عصاه الطويلة، ورغم ذلك فقد أخذت صورة على هذا الوضع، وتركت الكاميرا وحاولت محادثتهما، لكنهما ازدادا نفورا وأسرعا بالحيوانات بعيدا.
وألحت علي فاطمة أن أرجع إلى النجع ثانية، لكن الأمل في رجوع القارب كان أقوى، فرفضت تماما العودة معها إلى النجع، وكان على الشاطئ قارب قديم جلست فوقه أنظر إلى التيار الجارف أرهف السمع لعلني أسمع شيئا، لكن دون جدوى، وأسرح في أفكار تقطعها فاطمة الجالسة إلى جواري وأرد عليها باقتضاب وأنا شاردة الفكر.
ويمر الوقت والجفاف شديد لم أتعوده بعد، وجف فمي وتحجر حلقي وكنت أجد صعوبة في الكلام، ورجوت فاطمة أن تتركني لترعى أطفالها، ورجوتها أن ترسل لي بعض الشاي أروي به ظمئي، وبعد ذهابها استرخيت على القارب أنظر إلى السماء أرقب تغير الألوان قبيل الغروب، والهدوء شامل عدا صوت ارتطام مياه النهر الرقيقة بالشاطئ، أصبحت أنا الشيء الوحيد الحي في مساحة كبيرة من الأرض والماء، وتطاردني أفكار سوداء، وأتفقد القارب القديم فربما أقضي به الليل، فماذا لو هاجمني وحش؟ وأحاول أن أطرد الأفكار بالتطلع إلى ألوان الغسق وانعكاساتها على سطح النيل، وأجد المنظر أخاذا لو أنني في موقف غير موقفي هذا.
وخيم الظلام الخفيف الذي يعقب الغروب وتمنيت أن ترجع فاطمة؛ فقد أخذني الخوف وتملكتني الرهبة في هذا المكان الموحش، وقد لا أستطيع الصعود إلى النجع بمفردي، ومهما ناديت فالأغلب ألا يسمعني أحد على هذا البعد، وبغروب الشمس تنخفض درجات الحرارة بسرعة ويصبح الجو رطبا محتملا، ومن حسن حظي أنها كانت ليلة مقمرة، فسرعان ما بدا القمر في رحلته الليلية متسلقا السماء حتى بدا قمرا مستديرا جميلا يشع بعض الضوء، فأعطى المكان لونا أبيض باهتا، كأن لمسة سحرية قد حولت كل شيء إلى عالم تتمازج فيه الأطياف والأبعاد كالقطن المندوف!
وبينما أنا في هذا العالم العجيب سمعت شيئا يدب وشبحا يقترب؛ فتجمدت رعبا، لكن صوت فاطمة أجرى الدم في العروق، فقد نزلت لتخبرني أن شخصا من النجع البحري جاء وأبلغها أن قارب زوجي قد رسى على البر الشرقي بمعونة قارب شراعي، الآن انتهى هاجس مخيف، وبقي الأمل أن يرجع الريس محمد عما قريب، جلست فاطمة بجانبي ترقب هي الأخرى رجوع زوجها.
ومرت أمامنا قوارب شراعية سراعا، فقد ملأ الريح أشرعتها، وتطلب مني فاطمة أن أزعق لأسأل عن قارب زوجها، فالتقاليد تمنعها من أن ترفع صوتها، كنت أنادي: يا ريس، الريس محمد فين؟ وكان الجواب دائما هو «جاي ورانا.» وبرغم التقاليد كانت هي الأخرى ترفع صوتها بالسؤال ويمتلئ الجو بحديث قصير متبادل باللغة الماتوكية، ورويدا ضعف الأمل في عودته بعد أن زادت عتمة السماء، وقل عدد القوارب التي تمر بين الحين والآخر، وأصبحت مجرد أشباح باهتة.
ووجدت أنه لا مناص من الصعود إلى النجع والانتظار هناك، وفي النجع تجمع كل السكان للترحيب بي وإعداد مكان أقضي فيه الليل، والحقيقة أن سكان النجع لم يكونوا سوى السيدة شقيقة الريس محمد وزوجته وأطفاله، وسيدتين في مقتبل العمر هن بنات عمومته؛ إذن الريس محمد هو الرجل الوحيد في النجع! وليس هذا بغريب عن النوبة الشمالية.
Page inconnue