Voyage dans le temps de la Nubie : Étude sur l'ancienne Nubie et les indicateurs de développement futur
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Genres
الأسرة هي المكون الأساسي للمجتمع في كل أرجاء النوبة المصرية، سواء كان ذلك عند الكنوز أو العليقات أو النوبيين، لكن نظام الانتماء إلى شكل من أشكال العشيرة التي تنتسب إلى جد كبير، والتي يغلب سكنها في محلة واحدة، هو نظام شائع بين الكنوز والعليقات، يعلو فوق نظام الأسرة. أما عند النوبيين فإن مثل هذا النظام العشائري غير واضح وضوحه بين الكنوز والعليقات.
ولعل هذا راجع إلى أن منطقة النوبيين تعرضت لاستقرار جماعات وافدة متعددة، أكبرها مجموعة الكشاف وأقدمها مجموعة الغربياب - في توماس وعافية «وقتة؟» - وأحدثها مجموعات الكنوز الشماليين الذين هاجروا إلى منطقة النوبيين بعد إنشاء سد أسوان. وقد اختص الغربياب بإقليم محدود، وربما كانوا منتظمين في تركيب عشائري من قديم، أما الكنوز المهاجرون فقد عاشوا في نجوع خاصة بهم، ولم يمض وقت كاف لاندماجهم مع النوبيين، ولعلهم احتفظوا بتركيبهم العشائري السابق، وإن كان هذا التركيب قد تخلخل بحكم تغير مكان الانتماء الأصلي، وبحكم أن هذه الهجرة كانت اختيارية، فبالتالي لم تشمل عشائر بكاملها، بل خليطا من عدة نجوع وعدة عشائر.
أما الكشاف فقد تغلغلوا لمدة ثلاثة قرون بين النوبيين بكثرة التزواج من النوبيات وبقاء النسل المختلط في قرى ومحلات الأمهات وبين أخوالهم، وهكذا تكونت في معظم القرى النوبية مجموعات نسب «كشافية» بحكم النسب الأبوي، ونوبية بحكم صلات الرحم النوبية. ولأن نظام المواريث الإسلامي يجعل جزءا من الميراث للنساء، فقد صار النسل المختلط مرتبطا بالأرض، وربما ازداد هذا الارتباط في الماضي ببعض بقايا النظام الأموي القديم، الذي كان بمقتضاه أن يرث أبناء الأخت خالهم، وهو النظام الذي كان سائدا في كل النوبة وبين الحاميين الشرقيين بوجه عام، وهو الذي مكن للعروبة والإسلام الانتشار بحكم أن أبناء العرب من أمهات النوبة القديمة يرثون أخوالهم، خاصة إذا كان الخال زعيما لعشيرة أو قبيلة، وبهذا فإن النسل المختلط بين الكشاف والنوبيات قد زاد التصاقا بالقرية، بما لديه من ميراث من الأم والخال معا.
وبهذه الطريقة تلاحم الكشاف مع النوبيين في نسيج اقتصادي مشترك، ولكنهم ظلوا سياسيا واجتماعيا شبه منفصلين، وبالتالي لا يستطيعان الانتماء إلى جد واحد بعيد كما هو الحال عند الكنوز والعليقات، ومن ثم تغلب النسيج الاقتصادي على نقص النظام العشائري، وأصبح ما يسميه النوبيون بالمصطلح «نوج» - أو نج - هو حجر زاوية البنية الاجتماعية بين النوبيين، ومن الصعب إدراك معنى «نوج» على وجه الدقة، فهو في تفسير يساوي معنى «البيت» بمدلول الأسرة وممتلكاتها، من البيت إلى أي شكل عقاري آخر كالمحل التجاري أو الأرض الزراعية، سواء داخل النجع الواحد أو منتشرا في عدة نجوع؛ وبعبارة أخرى كل ما يعول العائلة ويؤويها، وإذا تصادف أن رب الأسرة في «نوج» ما متزوج بزوجة أو زوجات أخر، فإننا نرى عدة «نوجات» منفصلة، بحكم ما لكل زوجة من ميراث أملاك، لكنها كلها مترابطة بواسطة الزوج متعدد الزوجات وما يمتلكه من مقومات الحياة، وفي تفسير آخر يصبح «النوج» أكبر من التفسير السابق، فربما يتكون من أسر عدد من الأشقاء أو الشقيقات، لكل منهم أو منهن دوائرهم من الممتلكات، وفي هذه الحالة نجد أنفسنا أمام تنظيم قرابة متشابك الملكيات، ومن ثم لا بد من نشأة شكل من التحكيم من كبار السن، لفض المنازعات التي تطرأ بالضرورة من هذا التشابك.
وقد نظن أن الملكيات في النوبة واضحة واسعة، لكن الأغلب أنها مشتتة ومشتركة مع عدد كبير من الورثة، فملكية أرض ساقية في الجنوب - النوبيون - هي في الأصل ملك لكل الذين ساهموا بالعمل أو المال في بناء الساقية، وتتجزأ الملكية وتتفتت مع تعدد الورثة جيل بعد جيل، أما في الشمال - الكنوز - فالأغلب أن منشئ الساقية هو شخص يشتري جهود العاملين في إنشاء الساقية، وبذلك تصبح الأرض ملكا للشخص وورثته، ثم تتفتت الملكية جيلا بعد جيل، ومثل هذا في ملكية الأشجار وملكية الحيوان، وبعبارة أخرى فإن الشركة هي سمة أشكال الملكية بين أهالي بلاد النوبة على الإطلاق؛ فهناك من يملك وهناك من لا يملك، ولكنه يزرع أو ينمي الأشجار أو يربي الحيوان، وله من جراء ذلك حقوق ملكية متعارف عليها، ومثل هذا النظام شائع بين سكان الواحات في ملكياتهم الأصلية، التي لم تتأثر بعد بالأشكال القانونية الجديدة للأرض المستصلحة، وخاصة في الفرافرة المنعزلة لفترة طويلة بالقياس إلى غيرها من الواحات الأقرب لوادي النيل، وهذه الظاهرة كثيرة الوجود بين النوبيين في جنوب النوبة المصرية، وأقل ظهورا بين الكنوز، وباختصار فإن وجود نظام التداخل في الملكية بين النوبيين كان يعني وجود آلية لاندماج الغرباء في المجتمع بواسطة الضوابط الاقتصادية.
وإذا كانت الروابط الاقتصادية ذات تأثير كبير في ترتيبات الحياة بين النوبيين، فإننا نلاحظ عند الكنوز بصفة خاصة أشكالا من الروابط عدا رابطة الانتساب للعشيرة، ولعل من أهم هذه الروابط الاحتفالية الكبيرة بأولياء الله الصالحين، وبخاصة موالد هؤلاء الأولياء، سواء كان تاريخ الولي معروفا أو غير ذلك، ومن الأمثلة على ذلك ما سبق ذكره في القسم الأول من هذا الكتاب في فصل
العلاقي ، فالشيخ يوسف تاريخه يعتريه الكثير من الضباب، ولم يعرف عنه ولايته إلا بحادثة عند الانتقال إلى المساكن الأعلى عام 1933، حين أقيمت له القبة الكبيرة. وأصبح مولد الشيخ يوسف وسيلة من وسائل ربط الكنوز ببعض الذين يفدون إلى العلاقي للبركة - وربما للتعارف أو رؤية الغائبين - لمدة الأسبوعين الأخر من شهر شعبان، وهي فسحة كافية من الوقت ليأتي إليه القادرون من مسافات بعيدة، ويعطون ما يستطيعون من النذور التي يصرفها نقيب الشيخ على إعالة الزوار مجانا كل أيام المولد، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن المولد وغيره من الموالد - كأم رايد في سيالة، والفاوي وعويس في كورسكو - فرصة للتجار أن يبيعوا أشكالا من الهدايا للنساء والأطفال، مما يجعل الموالد مصدرا للفرح والسرور البسيط في مجتمع أغلب حياته تتسم بالجفاف، وفي كثير من العمديات أضرحة بسيطة البناء لأولياء محليين، يتبرك بهم الناس في سفراتهم وزيجاتهم، والنذور القليلة التي تترك عند نقيب أو شيخة الضريح تساعده أو تساعدها على الحياة، وقد تساعد أيضا بعض العجائز ممن لم يعد لهن عائل، وبعبارة أخرى يمكن تطبيق المثل الشعبي «اللي مالوش كبير يشتريلو كبير.» فنقول إن الكنوز في بلادهم كانوا يبحثون عن ولي أو شيخة للتبرك بها، والكثير من الكنوز ينضوون في إحدى الطرق الصوفية ويتلون أوردتها في أحيان بصورة جماعية.
وليس الاهتمام الديني والعصبية العشائرية هي كل مميزات البنية الاجتماعية لدى الكنوز، فهناك أيضا التشارك الشديد في ملكية الأرض الزراعية والأشجار على النحو الذي رأيناه عند النوبيين، مما يساعد على التلاحم بين أبناء النجع والعشيرة، كما أن كثرة العمل المهاجر بين الكنوز من فترة طويلة قد أدى إلى نشأة آلية خاصة في المدن التي تستقبل المهاجرين؛ هي النوادي التي ينشئها أبناء قرية ما لاستقبال العاملين الجدد، وإيجاد مأوى مؤقت لحين إيجاد عمل لهم، ومع طول إقامة بعض المهاجرين، زادت وظائف النوادي إلى مكان لعقد الزيجات، أو التكفل بجنازة المتوفين وإقامة مقبرة لهم في المدينة، فلا طاقة لهم بتكلفة شحن الجثة إلى القرية الأصلية.
بعض المعتقدات
تدور معظم المعتقدات بالقوى الخارجية حول محاولة توظيفها لأغراض حياتية، وبالذات موضوعات الحمل والمشاهرة والحسد، وغالب هذه القوى مرتبطة بالمشايخ والأولياء، وإن كان بعضها مرتبطا بكائنات كالثعبان والتمساح، أو أرواح الخير والشر في النهر والصحراء، وهم يرون أن أرواح النهر خيرة، بينما أرواح الصحراء والجبل شريرة، وهذا أمر يبرره واقع حياة الناس؛ فالصحراء والجبل مليئة بالمخاطرة، سواء كان ذلك الوحوش الضارية أو بعض البادية الذين كانوا يغيرون على النوبيين في الماضي البعيد، ومن ثم كان وصف أرواح الصحراء بالشر. بينما يعيش النوبيون على كرم وعطاء النيل: ماء وزرع وانتقال هين واتصال بالعالم الخارجي. والتفاؤل بالنيل يبلغ مداه في بعض مناطق النوبة؛ حيث يخرج العريس والعروس صبيحة زفافهما إلى شاطئ النيل، يغسلان وجههما بماء النيل، ويرشهم بالماء من تصادف حضوره في مثل هذه الباكورة.
Page inconnue