Voyage dans la pensée de Zaki Najib Mahmoud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Genres
93
وهكذا يعود مفكرنا إلى فكرة الجمع بين «العقل والوجدان»، وإلى تكرار فكرة «الشرق الفنان»، فلئن غلبت ثقافة الوجدان على تراث الشرق الأقصى من هند وصين، وغلبت ثقافة العقل، فلسفة وعلما، في تراث أوروبا، فقد كان في شرقنا العربي ذلك الجمع المتزن بين عقل ووجدان؛ فالثقافة العربية تمثلت منطق أرسطو بكل ما فيه من ركون إلى الحدس والوجدان. وهذه المزاوجة الثقافية بين العقل والوجدان، تلائم المزاج العربي، واللغة العربية، ملائمة كاملة، فبحكم ذلك المزاج يفصل العربي بين السماء والأرض، بين المطلق والنسبي، بين اللانهائي والمحدود، بين خلود الآخرة وفناء الدنيا. يفصل بينهما ذلك الفصل الذي لا يجعل لكل عالم من العالمين أهلا غير أهل العالم الآخر، بل عنده أن أهل هذا هم أنفسهم أهل ذاك، غير أن الواحد تمهيد للثاني.
وإذا تساءلنا الآن كيف يتاح للولي المعاصر أن يتابع السير على طريق العربي القديم، كانت الإجابة: أن يكون ذلك باتخاذ الوقفة نفسها التي وقفها سلفه لينظر إلى الأمور بالعين نفسها، ألا وهي عين «العقل» ومنطقه دون الحاجة إلى إعادة المشكلات القديمة ذاتها؛ أعني أن يأخذ العربي المعاصر موقفا من العربي القديم صورته لا مادته، فيأخذ الوقفة العاقلة المتزنة ليطبقها لا على مسألة «الكبائر ومرتكبيها»، بل فيما يعرض له هو من مشكلات عصره: كمشكلة الفرد والجماعة، ومشكلات الاقتصاد ... وغيرها.
تلك كانت خلاصة سريعة للفلسفة العربية التي يقترحها مفكرنا الكبير، وعلينا قبل أن ننهي هذا البحث أن نقف قليلا لتقييم هذه المحاولة.
خاتمة: نقد وتقدير (1)
إذا أردنا تقييم المشروع الثقافي، والفلسفة المقترحة لزكي نجيب محمود، فلا بد أن نضع ذلك كله في سياقه التاريخي لنحكم عليه حكما سليما. لو أننا تأملنا مسار نهضتنا لوجدنا أنها بدأت قبل خاتمة القرن الماضي بسنتين، وعلى وجه التحديد مع الحملة الفرنسية على مصر وسقوط الإسكندرية عام 1798م، وما زلنا حتى يومنا الراهن نعيش هذه النهضة.
منذ ذلك التاريخ والأفكار تنهمر على تربتنا الثقافية، فقد بذر رفاعة الطهطاوي (1800-1783م) الكثير من البذور في المرحلة الأولى حول الحرية والمساواة، فاهتم في كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين» بما أسماه «بالحرية العمومية والتسوية بين أهل الجمعية»، وهو يقصد الحرية العامة والمساواة بين أبناء المجتمع.
ولقد عمل مفكرونا بعد ذلك، على نمو هذه البذور وإنضاجها، فعند قاسم أمين (1865-1908م) وصلت الدعوة إلى حرية المرأة إلى ذروتها، وكان أحمد لطفي السيد (1872-1963م) أول من بشر بالديمقراطية السياسية، وظهر جمال الدين الأفغاني (1839-1889م) بدعوته إلى الاحتكام إلى العقل. وواصل الإمام محمد عبده (1845-1905م) النضال ليحرر حياتنا الدينية مما علق بها من خرافة، ولينجو بعقول الناس من ظلمة الجهل.
ثم ظهرت أبعاد جديدة للحرية وللمساواة وللعقل، فدعا عباس العقاد (1889-1964م) إلى تحرير الشعر والفن بصفة عامة، ودعا طلعت حرب (1867-1942م) إلى تحرير الاقتصاد، وكتب طه حسين (1889-1973م) يدعو إلى الحرية الفكرية والالتزام بالمنهج العقلي الصرف ... إلخ إلخ.
هذه كلها أفكار تناثرت في طريق نهضتنا التي بدأت منذ نحو قرنين، لكنها ظلت أفكارا مبعثرة لا تسلك في خيط واحد ولا يجمعها عقد، ولا تحتويها فلسفة؛ ومن هنا فقد كان مشروع زكي نجيب الثقافي، والفلسفة الثنائية المقترحة، عملا غير مسبوق، فليس ثمة، فيما أعلم، محاولة لوضع فلسفة عربية قبله سوى «جوانية» عثمان أمين، وتعادلية الحكيم. (2)
Page inconnue