Voyage dans la pensée de Zaki Najib Mahmoud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Genres
كما أننا نرفض في مجال الأخلاق أن يكون مدار الفعل الأخلاقي السليم منفعة تعود على الناس؛ لأننا نرى أن الفضيلة هي جزاء نفسها؛ ومن ثم نقيم الأخلاق على أساس الواجب لا على أساس الفائدة، ولا ينفي ذلك أن يجيء الواجب مصحوبا بنتائج نافعة، فوق كونه واجبا، لكنه واجب يؤدى من قبل نفكر فيما يترتب عليه من نفع، وهذه الوقفة الخلقية نتيجة مباشرة للصورة الكونية التي تصورناها، إله خالق وعالم مخلوق، وفي هذا العالم إنسان متميز دون سائر المخلوقات بالإرادة الحرة المسئولة، التي تتصرف في إطار التشريع الإلهي، لكنه مع ذلك تصرف فيه حرية الاختيار، التي من شأنها أن تجعل تبعة الفعل واقعة على فاعله. (3)
ويترتب على هذه الصورة الكونية أيضا موقف خاص بمعايير الجمال في الفنون والآداب، فالفن عندنا هو في هندسة تشكيلاته، هندسة يطرب لها الذهن من وراء الحاسة المدركة؛ فالفن العربي في زخارفه ورسوماته تتماثل فيه المربعات والدوائر والمثلثات وغيرها من أشكال الهندسة، بحيث يراعى أنه إذا امتدت عينا الرائي في أحد أطرافه، أحس أنه يستطيع أن يمد تلك التشكيلات الهندسية إلى غير نهاية، وفي هذه الانطلاقة من المحسوس إلى المعقول، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن الطبيعة إلى ما وراءها، يكمن جوهر الروح العربية.
81 (4)
ويترتب على هذه الصورة الكونية أيضا نظرية خاصة في تحليل المعرفة الإنسانية؛ فالفلسفة الثنائية المقترحة تجعل للمعرفة نطاقين: لكل منهما وسيلة خاصة به، فإذا كان الأمر أمر الطبيعة وكائناتها، جاءتنا المعرفة عن طريق آخر، ولا يجوز لأي من النطاقين أن يزاحم الآخر في وسائله، وبعبارة أخرى علينا أن نجعل للعلوم الطبيعية منهجا، ولما يتصل بالحقيقة المطلقة منهج آخر. أما منهج العلوم الطبيعية فقائم على مشاهدة الحواس وإجراء التجارب، وعلى سلامة التطبيق. أما منهج ما وراء الوقائع الصماء من حقائق كالقيم الخلقية، مثلا، فقد نلجأ إلى شهادة الحواس والتجارب العابرة، بقدر ما نلجأ فيه إلى إدراك البصيرة، أو إلى إملاء الوحي أو إلى ما يسري بين الناس من عرف تقليد.
82
ومن الواضح أن قسمة الوضعية المنطقية تعود فتطل برأسها من جديد مع قدر طفيف جدا من التعديل. (6-2) ثنائية الطبيعة والفن
الثنائية الإبستمولوجية التي عانى منها مفكرنا في صدر شبابه، ولخصها في «الشرق الفنان»، والتي تجمع بين نظرة الصوفي ونظرة العالم، أدت الآن إلى ثنائية أنطولوجية، وهو يرى أنها غالبة على الذهن العربي، تشطر الوجود شطرين، فتظهر ثنائية بين الأرض والسماء، وبين الخالق والمخلوق، بين الواقع والمثال، بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول ... إلخ، لكن لا بد أن نكون على وعي بأن هذين الشطرين ليسا من مرتبة واحدة ولا وجه للمساواة بينهما؛ ذلك لأن نظرة العربي، في صميمها، هي أن السماء قد أمرت وعلى الأرض أن تطيع، وأن الخالق قد خط وخطط وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب، وأن المثال سرمدي ثابت، وعلى الواقع أن يفسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا تعارضت الآخرة والدنيا، كانت الآخرة أحق بالاختيار، وأن المنقول إذا ما تناقض مع المعقول، ضحينا بالمعقول ليسلم المنقول.
83
وعلينا أن نلاحظ هنا عدة أمور هامة:
أولا:
Page inconnue