Voyage dans la pensée de Zaki Najib Mahmoud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Genres
25
ثم يقوم بعد ذلك بتحليل مصطلح «التحول العلمي»، ويرى أن حياة الإنسان تحولت في خمسين عاما بالعلم، بما لم تتحوله منذ إنشاء الهرم الأكبر منذ ستة آلاف سنة، فأثار هذا التحول السريع قلق الشباب في العالم كله، فظهرت: «حركات الشباب» المتمردة في العالم، كما ظهر ما يسمى «بالشباب الغاضب» في بريطانيا، وفرنسا، وأمريكا ... إلخ، وكان سبب ثورتهم أن تقدم الأجهزة والأدوات وتزايدها أدى إلى ازدياد التشابه بين الناس، وجعل التمايز بينهم يضيق لدرجة أنه كاد ينعدم: «وهذا هو لب ثورة الشباب الآن لا يريد أن يتجانس كل المجانسة، يريد أن ينتشل ذاته بمفرده من هذا التجانس، وهذه هي الدعوة في صميمها ...»
26
أما شبابنا نحن فالأمل ألا يقع في كثير مما وقع فيه الشباب الغربي؛ لأننا من حسن الحظ متحررون حديثا، ونأمل في المستقبل، هم في السفح المنحدر ونحن ربما يريد لنا الله أن نكون في السفح الصاعد، لأجل ذلك نحن عندنا حياة تشجعنا على أن نتفاءل أكثر مما نتشاءم، لكن ينبغي ألا ننسى أن واجب شبابنا وواجبنا جميعا هو أن ندخل في حياة العصر، لا أن نكتب عنه في الصحف، ونتكلم عنه في الندوات فحسب، يجب أن نعيش هذا العصر: نعيشه بالعلم لا بالكلام؛ أعني أن نتخلص من ثقافة اللفظ لننتقل إلى ثقافة الأداء.
27
وهو موضوع سوف يقف عنده في كتابه تجديد الفكر العربي، لا سيما في القسم الذي جعل عنوانه «من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء» (ص224-242).
وفي محاضرته عن «التكنولوجيا والحريات الأساسية» نراه يبدأ كعادته، بتعريف هذين المصطلحين، وهو يعرف التكنولوجيا بأنها امتداد للجسم البشري وما فيه من أجهزة: فيه بصر، لكن البصر الإنساني محدود، فأمده بأي أداة أستطيع أن أصل إليها بالعلم من ميكروسكوب إلى تلسكوب ... إلخ، فيه سمع، لكن السمع محدود، فأمط هذا الجانب من جسم الإنسان بحيث أستطيع أن أسمع من بعد آلاف الكيلومترات عن طريق الراديو، والتليفون، والتليفزيون ... إلخ، وهي كلها ضروب من التطبيقات الفنية للعلم، وهي تطبيقات لم تبدأ بشكل موسع، تقريبا، إلا بعد الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر، ومن ذلك الوقت أخذت صورة العلم تتغير من حيث أنه لم يعد علما نظريا، وإنما أصبح العلم تطبيقا.
أما الحريات الأساسية فإنه يقول لنا أن تصبح الحرية أساسية عندما تتصل بطبيعة الإنسان اتصالا مباشرا. وطبيعة الإنسان في التراث الغربي منذ اليونان هي «العقل» أو «الفكر النظري» أي الفكر التأملي، ولو صح ذلك لكانت الحرية الأساسية هي حرية التفكير ثم يتفرع عنها بقية الحريات. لكن مفكرنا يرفض أن تقتصر طبيعة الإنسان على «العقل» وحده: بل مدها لتشمل «العقل، والوجدان، والإرادة»، وبذلك تكون الحريات الأساسية هي حرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية الفعل، ثم يضيف إليها حرية العقيدة لتصبح هناك أربع حريات أساسية. أما تأثير التكنولوجيا تقوي القوي وتضعف الضعيف؛ فالإذاعة والتليفزيون ... إلخ ليست دائما حدا من الحريات، وإنما هي تزيد من حرية من يمتلكها، ومن يملك التصرف فيها، وتحد من حرية من يتقبل تأثيرها، وقل مثل ذلك في أدوات الحرب، وأدوات الصناعة، وأدوات السفر، وأدوات السرعة وفي أي أداة تكنولوجية أخرى.
وفي محاضرته عن «الخصائص الحضارية للمجتمع العصري» يبدأ بتحديد معنى «المجتمع العصري»، ويرى أن الأساس الأول المشترك في المجتمع العصري هو الحياة العلمية التكنولوجية؛ فالحياة العلمية بهذا المعنى الجديد لا فرق بين بلاد اشتراكية، وبلاد رأسمالية أو كائنة ما كانت، ولا بد لنا أن نكون نحن أبناء الأمة العربية على وعي بأنفسنا، وأين نحن من عصرنا، فالعلم أصبح لغته هي الأجهزة لا الكلمات والألفاظ، وهذا يعني أن علينا أن ننتقل من حضارة اللفظ إلى حضارة الأجهزة (وهي فكرة يؤكدها مرارا كما سبق أن رأينا، وسوف يعرض لها في «تجديد الفكر الروحي»، ص224 وما بعدها). وينبغي علينا ألا نظن أننا دخلنا عصرنا مهما وضعنا في منازلنا أو معاملنا من أجهزة؛ لأن الأجهزة ليست أجهزتنا، كل ما في الأمر أننا دفعنا فاتورة الحساب عندما اشتريناها، وهذه الفكرة ينبغي ألا تزول من أذهاننا حتى لا ننخدع في أنفسنا، فلكي نعيش الحياة المصرية لا بد أن نشارك في صنع العلم، وأن نشارك في صنع الأجهزة التي تعمل على تقدم العلم، ولكن لا تعب ولا عناء في أن نذهب إلى مصانع أوروبا وأمريكا ونشتري، في جيوبنا المال وعندهم الأجهزة فنشتري. ومن سمات المجتمع العصري أيضا أن تسير أموره على التخطيط المبني على العلم، ومن سماته أيضا الحرية الإيجابية القادرة على الخلق والإبداع.
لا نريد أن نتتبع بالتحليل جميع محاضراته وندواته وأنشطته الثقافية في الكويت، بل يكفي أن نقدم النماذج التي أسلفناها، وإن كنا نريد أن نختتم هذا القسم بتلخيص الأفكار الأساسية في أحاديثه في إذاعة الكويت، لا سيما في برنامج «مع الفكر العربي المعاصر»، الذي شارك مفكرنا في حلقات عديدة منه، حتى أطلق عليه المذيع لقب «الضيف الدائم للبرنامج»، ويكفي أن نعرض لمجموعة من الأفكار الهامة على النحو التالي:
Page inconnue