Voyage dans la pensée de Zaki Najib Mahmoud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Genres
وضجت القاعة بالضحك!
على أن أشد ما أثار عجبنا وإعجابنا في هذا «المعلم» هو وضوحه الفكري، وقدرته الفائقة والمدهشة معا، والتي لا تخطئها العين العابرة، على طحن «جلاميد» الفلسفة من أفكار معقدة أو تصورات مجردة أو مفاهيم عقلية جافة، وتقديمها إلى الطلاب على شكل «مسحوق» لا يرهق الذهن كثيرا، وإن كان يدفعه إلى التأمل والتفكير!
ويرتبط بذلك خاصية أخرى ملفتة للنظر؛ وهو أنه حاضر البديهة للغاية، قادر على أن يذكر لك الأمثلة العينية الحسية لأكثر الأفكار الفلسفية تجريدا، بقدر ما يستطيع الواقع الحسي أن يصور التجريد العقلي، وبسرعة مذهلة! أذكر أننا، في السنوات الأولى من دراستنا الجامعية، كنا نطالع كتابا في الفلسفة عند صديق، واعترضتنا لأول مرة فكرة الفيلسوف الألماني «فشته» عن العلاقة بين «الأنا واللاأنا»، وكان التعبير غامضا علينا، فقال قائل منهم: «ما رأيكم في الاتصال بالدكتور زكي نجيب هاتفيا نرجوه أن يوضح لنا العلاقة بمثال؟! فقلنا: لكنه، من ناحية، أستاذ للمنطق، ولا يدرس الفلسفة الحديثة، وهذه من ناحية ثانية فلسفة ألمانية «ميتافيزيقية»، لا يطيق أن يسأله عنها أحد، ونحن من ناحية ثالثة قد بلغنا العاشرة مساء ولم نعتد محادثته في مثل هذا الوقت المتأخر ... إلخ، لكن الصديق قام إلى الهاتف وهو يقول: لا أظنه يمانع رغم ذلك كله! وطلب الرجل في منزله وسأله، وكانت إجابة «المعلم» بالبديهة الحاضرة سريعة كالعادة: «أنت الآن حين تتحدث في الهاتف خير مثال لهذه العلاقة التي تسال عنها: فشخصك هو «الأنا» والهاتف هو «اللاأنا»! فشكره الصديق وجلس، وشعرنا جميعا بالحرج الشديد؛ لأن الفكرة لم تكن غامضة ولا معقدة كما تخيلنا، ففيم كل هذا الإزعاج، ولم ندرك أن الوضوح جاء نتيجة لشرح «المعلم»!»
ولقد علمني أنا شخصيا أن أحترم الرأي الآخر، وألا أسخر أبدا من الفكرة المعارضة، وعندما رفض جماعة «فينا الجديدة»، لم أكن أعرف بوضوح أنه هو نفسه يرفض المذهبية، وأنه ظل طوال حياته يحارب التمذهب والجمود والتقوقع في مذهب معين، وأنه يطلق على الذين يحصرون أنفسهم في مذاهب خاصة اسم «عبيد المذاهب». ولم أتبين ذلك بوضوح إلا بعد أن قرأت مؤلفاته في مرحلة متقدمة من حياتي الثقافية، ووقفت طويلا عند ذلك المقال الرائع «عبيد المذاهب». ويا ليت أصحاب «الكليشيهات» الذين يريدون أن يدمغوا الرجل بخاتم معين، وأن يحصروا كل فكره في إطار «الوضعية المنطقية»، أن يقرءوا هذا المقال قبل أن يخوضوا في شرح فكره وتحليله، وقبل أن يتطوعوا بالإفتاء! والحق أنني عندما قرأت هذا المقال شعرت كأنما قد سقطت الفترة الزمنية التي انقضت بين اللحظتين، اللحظة الأولى في مسكنه ونحن نعرض عليه تأليف جماعة الوضعية المنطقية، واللحظة الثانية التي أقرأ فيها هذا المقال، وتخيلته وهو ينصحنا بعدم الانتماء إلى مذهب. وليسمح لي القارئ أن أقتبس فقط افتتاحية المقال التي يقول فيها: «علمتني خبرة السنين، بين ما علمتني، أن من أخطر مزالق الفكر أن أقيد نفسي في حدود إطار مذهبي، تقييدا يجعلني أرجع في كل أموري إلى مبادئ مذهب معين، فما وجدته متفقا مع تلك المبادئ قبلته، وما لم يتفق معها رفضته؛ وذلك لأن الخبرة علمتني بأن تيار الحياة أغزر جدا من أن يلم به مذهب واحد محدد بعدد قليل من المبادئ والقواعد ... إلخ.»
6
بل إنه ليرفض المذهبية، في السياسة؛
7
ولهذا تراه يقول في مقال آخر: «إننا نبالغ في المذهبية حتى لنجاوز بها في كثير من الأحيان حدود السياسة إلى ميادين ما كان ينبغي لها قط أن تتورط في المذهبية كميادين التعليم والأدب والفن ...»
8
وهو يردد مع الإمام الغزالي أنه: «لا خلاق لنا إلا في الاستقلال»، وهو يقصد هنا استقلال الرأي، وأن نطالب بمكان مشروع في أي نظام سياسي نختاره لصاحب الرأي المستقل، إذا دل تاريخه الفكري على أنه قادر على الاستقلال.»
Page inconnue