Voyage dans la pensée de Zaki Najib Mahmoud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Genres
وإنما أود أن يتخذ شكل الحديث الخاص مع القارئ، أروي له فيه مجموعة من الانطباعات الشخصية، التي خبرتها بنفسي خلال علاقتي الطويلة بهذا المفكر العملاق. وإذا كانت مؤلفات الدكتور زكي نجيب تشتمل، بصفة عامة، على معرفة فلسفة يجدر بنا تحصيلها؛ فإن هناك جوانب أخرى في شخصيته تخفى على كثيرين ممن لم تتح لهم فرصة الاتصال به على نحو مباشر، وهي أيضا تعطينا مجموعة من القيم الأخلاقية، والاجتماعية، والأكاديمية، التي يجمع بنا الإلمام بها، حتى تكتمل لدى القارئ صورة الدكتور زكي نجيب محمود المفكر، والأستاذ، والمعلم، والإنسان، وسوف أقصر حديثي على هذه الجوانب الثلاثة الأخيرة، كما لمستها خلال تجربتي الشخصية، بحيث أتحدث عنها فرادى، رغم أنها في الواقع تعبر عن جوانب متعددة لشخصية واحدة؛ ولهذا فسوف يبدو واضحا ما بين هذه الجوانب الثلاثة من تداخل.
زكي نجيب محمود ... الأستاذ
عندما صدر كتابي «المنهج الجدلي عند هيجل» عام 1968م كان يحمل على صدره الإهداء التالي:
إلى من كان لتلاميذه أبا قبل أن يكون أستاذا...
إلى الفيلسوف ... والمعلم ... والإنسان ...
إلى الرجل الذي قلبه جميع ... وروحه حر ...
إلى أستاذي الدكتور زكي نجيب محمود ...
وكنت في الواقع أعبر عن شعوري نحو الرجل بلا أدنى مبالغة، وسوف يتضح خلال هذا الحديث كيف كان أثره في تكويني قويا وعارما، بحيث تجاوز حدود العلم والمعرفة إلى مجالات الأخلاق والسلوك، وأذكر أنني ذهبت ذات صباح إلى كاتب من كتابنا أهديه نسخة من الكتاب، وكان يعمل وقتها في دار «أخبار اليوم»، وهو نفسه واحد من خريجي قسم الفلسفة القدامى، وأخذ الرجل يقلب صفحات الكتاب ثم قرأ الإهداء وابتسم وهو يقول مداعبا: «ألست ترى شيئا من التناقض في إهداء كتاب عن هيجل، الميتافيزيقي الأكبر، إلى الدكتور زكي نجيب محمود عدو الميتافيزيقا الأول؟» وكان الكاتب يشير، كما هو واضح، إلى المفارقة التي قد يجدها القارئ عندما يجد اسم الدكتور نجيب محمود، صاحب «خرافة الميتافيزيقا»، يتصدر الصفحة الأولى من كتاب يعالج منطق هيجل الذي هو نفسه ميتافيزيقاه، وأجبته بأنني قصدت ذلك عامدا، فأنا هنا أبرز، بهذا الإهداء، خاصية هامة عند الدكتور زكي نجيب محمود، «الأستاذ»؛ وهي أنه أفادني فائدة كبرى في «منهج البحث» دون أن يلزمني باتباع مذهبه، وهذا هو «الأستاذ على الأصالة»: يوجه، ويرشد، لكنه لا يفرض فكرا، أنه يفيد طلابه في طريقة البحث، في كيفية جمع المادة العلمية، وتقييمها، وعرضها عرضا واضحا ... إلخ؛ أعني أنه يفيد في «المنهج» دون المذهب، وتلك حقيقة خبرتها بنفسي في الدكتور زكي نجيب محمود «الأستاذ» لسنوات طويلة، عملت فيها تحت إشرافه، وبتوجيه منه، وكتبت في النهاية أفكارا «وعبارات» تعد من منظور الوضعية المنطقية كلاما فارغا لا معنى له، ولو أن الدكتور زكي نجيب قد حكم على بحثي «المنهج الجدلي عند هيجل» بمعيار الوضعية المنطقية لنسفه من جذوره، ولتحول البحث إلى مجموعة من العبارات الغامضة التي ترادف قولنا: «إن المزاحلة مرتها خمالة أشكار»، والتي وصفها بأنها رموز سوداء تملأ الصفحات بلا دلالة ولا مدلول.
2
لكن الرجل لم يفعل، واستطاع بمقدرة الأستاذ وبراعته، أن يفصل بين المذهب الذي يعتنقه هو وبين أفكار البحث الذي يكتبه تلميذه، أو قل إنه قدم للتلميذ «المنهج» وأمسك عن تقديم «المذهب».
Page inconnue