293

الاستحسان ، وقد (1) كنت تجهزت للمقام بها حتى أشفي غليلا ، واتصفحها بالتأمل جملة وتفصيلا ، فأزعجت الأقدار المانعة ، وزحزحت عن توطنها الأحداث الواقعة ، فلم يمكن من وصفها إلا ما اختلس الطرف منتهبا ، وما اختطف اللحظ الذي غادر [91 / ب] القلب ملتهبا. وعلى ما كان من حال ، فلا يسع الإهمال والإغفال ، فليكن اقتصار (2) إن لم يكن احتفال ، وقد قيل في المثل الذي غبرت به الأعصار «ألجحش لما بذك الأعيار» (3). وها أنا أصف على قدر الإمكان ، فأقول والله المستعان : إن مكة شرفها الله من عظيم آيات الله (4) في الأرض (5) الدالة على عظيم قدرته ، فإنها بلد يسبي عقول الخلق ، ويستولي على قلوبهم ويتملك رقها من غير سبب ظاهر ، فالنفوس إليه نزاعة من كل أرض ، ولا يدخله أحد إلا أخذ بمجامع قلبه مع عدم الدواعي إلى ذلك ، ولا يفارقه إلا وله إليه حنين ، ولو أقام به على الضنك سنين ، لا يمل سكناه ، ولا تضيق النفس بلزوم مغناه. على أنه بواد كما قال الله عز وجل : ( غير ذي زرع ) (6) وأرضه (7) جدبة كلها حجر ، لا ماء ولا شجر ، وفي أصحابها بعض جفاء وقلة ارتباط للشرع. وهم في الغالب يؤذون الحجاج

Page 362